ثانياً: السؤال الثاني: |
|
|
أما السؤال الثاني الذي يمكن أن نستمده من سؤالكم الأصلي المتقدم حول جدوى إقامة الشعائر في عاشوراء الإمام الحسين (عليه السلام) فهو:
أننا لا نشك في أن احياء ذكرى الإمام الحسين (عليه السلام) لها فوائد جمّة للمجتمع ، ولكن ألا يمكن أن نحيي ذكرى عاشوراء بطريقة أخرى غير هذه الطرق المتعارفة؟ إذ إن إقامة الشعائر لا ينحصر في البكاء واللطم ولبس السواد والبقاء إلى منتصف الليالي ، وما يتبع ذلك من إضاعةٍ للأعمال الذي يستتبعه أضراراً اقتصادية في البلد؛ لأن من يسهر الليل سيضعف ـ حتماً ـ عن العمل في النهار ؛ فلماذا لا نقيم بدل كل ذلك جلسات علمية أو نعقد مؤتمرات أو
ندوات وما شابهها ، وفي ذلك تذكير للناس بمصيبة الإمام الحسين (عليه السلام) مع أقل ما يمكن من الأضرار؟!
هنا سكت سعيد عن كلامه.
أما نحن فلم تزل أعيننا متجهة نحو وجهه ، وجالت أفكارنا تبحث عن جواب لمثل هذا السؤال ، مع علمنا مسبقاً أن الجواب حاضر عند سعيد ، لكن لا ندري بم سيجيب.
قطع سعيد سلسله أفكارنا وظنوننا بقوله:
أخوتي الكرام : إنّ الجواب على هكذا سؤال يحتاج قليلاً من الالتفات والانتباه فأرجو أن تصغوا إلي جيداً:
إن الجواب على هذا السؤال يحتاج منا أن نرجع قليلاً إلى علم النفس، لنتعرف من خلاله على جانب بسيط من (النفس الإنسانية) ، ولنرى هل أن العوامل التي تؤثر في السلوك الاختياري للإنسان تنحصر بالمعرفة فقط ، أي بكلام أبسط: هل العلم والمعرفة وحدهما هما المؤثران في سلوك الإنسان ، أم أن السلوك يحتاج إلى عامل آخر غير العلم؟
فنحن ـ يا أخوتي ـ عندما نقوم بعمل ما نلاحظ أن هناك أمرين دفعانا إلى هذا العمل أو السلوك:
الأمر الأول: |
هو المعرفة أو العلم ، أي بعد أن علمنا الفائدة من هذا العمل وأدركناها عقلاً باستدلال عقلي أو تجربة أو ما شاكل ذلك من الطرق الأخرى ، لكن ـ يا أخوتي ـ المعرفة وحدها ليست كافية لتحريكنا نحو أداء العمل المعين ، بل هناك عامل آخر وهو:
الأمر الثاني: |
يعبر عنه بـ (العواطف) أو (الميول) أو (الأحاسيس) أو (الدوافع)، فهذه تساهم في تحريكنا نحو هذا الفعل أو السلوك المعين سواء كان هذا العمل سياسياً أم اجتماعياً أم...
فهذان العاملان أشبه ما يكونا بسيارة تتحرك في الظلام الدامس ، فهي تحتاج إلى ضوء يسترشد سائقها به في طريقه ، لئلا يقع في الحفر أو في سفح جبل مثلاً ، إلا أن الضوء وحده لا يكفي لتحريك السيارة فهي بحاجة إلى محرك
(طاقة ميكانيكية ) لتحريكها ، ونفس الأمر موجود في الإنسان ، فهو بحاجة إلى العلم والمعرفة في سلوكه ؛ ليتعرف على الضار ويميزه عن النافع ، لكن المعرفة وحدها لا تكفي إذ يفتقر الإنسان ـ مع معرفته ـ إلى محرك يدفعه للقيام بالأعمال. والمحرك هو العامل النفسي أو العاطفة ، فمثلاً لو علم شخصٌ أن طعاماً ما مفيد له جداً لكن لا توجد عنده الشهية الكاملة لأكله ، حينئذ لن يستطيع أكله مع علمه بفائدته لبدنه .
إذن لابدّ من توفر الدافع والميل كي يحصل الأكل .
فتعالوا معي - يا أعزائي - نطبق ما توصلنا إليه على قضيتنا التي هي محور الكلام ، وهي : قضية عاشوراء ، فبعد أن عرفنا الدور المهم الذي أدته حركة سيد الشهداء الإمام الحسين (عليه السلام) في سعادة البشرية ، وانها ميزت بين الحق والباطل ، وكشفت زيغ الباطل وتجرده عن كل القيم الإنسانية ؛ فإنّ معرفتنا هذه لوحدها لا تحفزنا لأداء أعمال
مشابهة للأعمال التي قام بها سيد الشهداء (عليه السلام) ، بل إن هذه المعرفة تكون مؤثرة متى ما كان معها دافع يدفعنا نحو ذاك العمل ، فالمؤتمرات والندوات والجلسات العلمية ممكن أن توفر لنا عنصر المعرفة فقط، لكننا نحتاج إلى عامل آخر كي تثمر تلك المعرفة.
والجواب سيتضح أكثر فيما لو عملنا مقارنة بين حادثة رأيناها رأي العين وأخرى سمعنا بها فقط ، كما لو سمعنا أن في مدينتنا شخصاً معدماً فقيراً فهل سنتأثر كما لو كنا رأينا ذلك الفقير بملابسه الرثه القديمة ، وبجسمه النحيف الشاحب ، وعلامات الانكسار والحياء بادية على قسمات وجهه ، ماداً يده ، سائلاً العون من الناس؟
فالله تعالى خلق الإنسان بشكل تؤثر فيه المشاهدة أكثر من النقل والسماع ، فإذا جسدنا واقعة كربلاء بالطريقة المعروفة - كما نفعل اليوم ـ فإنّ هذا سيترك أثراً أعمق مما تتركه معرفة الواقعة والعلم بها فقط.
أما الأضرار الاقتصادية ـ التي هي في حقيقتها ليست بأضرار ، بل هي منافع اقتصادية فضلاً عن كونها روحية ومعنوية ـ فإنها لا تعادل شيئاً في إقامة هذه الشعائر ، فحفظ الدين وحفظ رسالة الإمام الحسين (عليه السلام) ، ومنهجه في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والذب عن حياض الدين لا يساوي شيئاً مهما غلى ثمنه .
هنا بدت البسمة على شفاهنا جميعاً من هذا الجواب القيم والدقيق ، وتمنينا لو يكمل (سعيد) كلامه ، وأدركنا بغيتنا حينما رأينا سعيداً يستمر بالكلام قائلاً :
أيّها الأحبة: كلّنا نعلم بواقعة كربلاء ونعلم الكثير من تفاصيلها ، ولكن أسألكم: هل يكفي هذا العلم في اجراء دموعنا وبكائنا وظهور حزننا ؟!
فأجبنا كلنا: كلا.. كلا.. لا يكفي ذلك.
قال سعيد: لكن انظروا عندما نحضر مجالس العزاء ويقرأ الخطيب جزءاً من الواقعة ، فإننا وبلا اختيار نبدأ بالبكاء ، كما لو
أن أحدنا فقد أباه أو أخاه ، خصوصاً إذا كان صوت الخطيب شجياً وعليه مسحة حزن ، واستطاع أن يصور الواقعة تصويراً جيداً .
إذن ، فالعلم وحده لا يكفي بل لا بد أن نسمع أو نشاهد مشاهد من تلك الواقعة بشكل ملموس ، كي نستشعر القضية بصورة أعمق ، وهذا سيؤدي إلى معرفة حقيقة عاشوراء وتحريك المشاعر نحوها ، مما يؤدي بالمجتمع إلى الانتهال من نبع ثورة الحسين (عليه السلام) والسير على نهجها .
وبهذا نعرف أن البحث العلمي وحده والندوات وحدها لا يمكن أن تؤدي دور الشعائر ، بل لابدّ من أن توجد بعض المشاهد التي تحرك عواطفنا ، فالواحد منّا إذا خرج صباحاً من داره في اليوم الأول من شهر محرم الحرام ورأى معالم الحزن والأعلام السود قد رفعت على سطوح المنازل ، فإنّ ذلك سيترك أثراً في نفسه لا يشبه الأثر الذي يتركه مجرد العلم بأنه غداً سيكون اليوم الأول من شهر محرم ، وكذا
مواكب اللطم والعزاء.
إلى هنا أصبح واضحاً لكم ـ أيّها الأعزاء ـ أن تخليد ذكرى عاشوراء له دورٌ مهمٌ في إيجاد عامل آخر غير المعرفة والعلم ، وهذا العامل (العاطفة والميل) له تأثير مهم في تحريك الإنسان نحو الحسين (عليه السلام).
فالجواب على السؤال أن نقول: إن الإنسان لا تحركة المعرفة فقط ، بل إن العاطفة لها دورٌ أساسيٌ أيضا في تحريكه ، وهذه العاطفة لابدّ من تقويتها حتى تؤدي دورها ، والذي يقوي العاطفة هو احياء الشعائر الحسينية.