عربي
Sunday 24th of November 2024
0
نفر 0

أمير المؤمنين إمامته وفضائله

- رسول الله استخلف أمير المؤمنين في حياته ونص عليه بالإمامة بعد وفاته ومن دفع ذلك فقد دفع فرضا من الدين
- أوائل المقالات - الشيخ المفيد ص 40:

واتفقت الإمامية على أن الإمامة بعد النبي صلى الله عليه وآله، في بني هاشم خاصة، ثم في علي والحسن والحسين ومن بعد في ولد الحسين عليه السلام دون ولد الحسن عليه السلام إلى آخر العالم.

وأجمعت المعتزلة ومن ذكرناه من الفرق على خلاف ذلك، وأجاز سائرهم إلا الزيدية خاصة الإمامة في غير بني هاشم، وأجازتها الزيدية في غير ولد الحسين عليه السلام.

واتفقت الإمامية على أن رسول الله صلى الله عليه وآله استخلف أمير المؤمنين عليه السلام في حياته ونص عليه بالإمامة بعد وفاته، وأن من دفع ذلك فقد دفع فرضا من الدين.

وأجمعت المعتزلة والخوارج والمرجئة والبترية والحشوية المنتسبون إلى الحديث على خلاف ذلك، وأنكروا نص النبي صلى الله عليه وآله على أمير المؤمنين عليه السلام ودفعوا أن يكون الإمام بعده بلا فصل على المسلمين.

- رسول الله يشفع يوم القيامة لجماعة من مرتكبي الكبائر من أمته وأمير المؤمنين يشفع في أصحاب الذنوب من شيعته وأئمة آل محمد يشفعون كذلك وينجي الله بشفاعتهم كثيرا من الخاطئين
- أوائل المقالات - الشيخ المفيد ص 47:

12- القول في الشفاعة

واتفقت الإمامية على أن رسول الله صلى الله عليه وآله يشفع يوم القيامة لجماعة من مرتكبي الكبائر من أمته، وأن أمير المؤمنين عليه السلام يشفع في أصحاب الذنوب من شيعته، وأن أئمة آل محمد عليهم السلام يشفعون كذلك وينجي الله بشفاعتهم كثيرا من الخاطئين.

ووافقهم على شفاعة الرسول صلى الله عليه وآله المرجئة سوى ابن شبيب وجماعة من أصحاب الحديث. وأجمعت المعتزلة على خلاف ذلك وزعمت أن شفاعة رسول الله صلى الله عليه وآله للمطيعين دون العاصين وأنه لا يشفع في مستحق العقاب من الخلق أجمعين.

- رؤية المحتضرين رسول الله وأمير المؤمنين عند الوفاة ثابتة وهي العلم بثمرة ولايتهما أو الشك فيهما والعداوة لهما أو التقصير في حقوقهما على اليقين بعلامات يجدها في نفسه وأمارات ومشاهدة أحوال ومعاينة مدركات لا يرتاب معها بما ذكرناه دون رؤية البصر
- أوائل المقالات - الشيخ المفيد ص 73،74:

50 - القول في رؤية المحتضرين رسول الله صلى الله عليه وآله وأمير المؤمنين عليه السلام عند الوفاة

هذا باب قد أجمع عليه أهل الإمامة، وتواتر الخبر به عن الصادقين من الأئمة عليهم السلام، وجاء عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال للحارث الهمداني رحمه الله:

يا حار همدان من يمت يرني  *  من مؤمن أو منافق قبلا

يعرفني طرفه وأعرفه  *  بعينه واسمه وما فعلا

في أبيات مشهورة، وفيه يقول إسماعيل بن محمد السيد رحمه الله:

ويراه المحضور حين تكون  * الروح بين اللهاة والحلقوم

ومتى ما يشاء أخرج للناس  *  فتدمي وجوههم بالكلوم

غير أني أقول فيه إن معنى رؤية المحتضر لهما عليهما السلام هو العلم بثمرة ولايتهما، أو الشك فيهما والعداوة لهما، أو التقصير في حقوقهما على اليقين بعلامات يجدها في نفسه وأمارات ومشاهدة أحوال ومعاينة مدركات لا يرتاب معها بما ذكرناه، دون رؤية البصر لأعيانهما ومشاهدة النواظر لأجسادهما باتصال الشعاع، وقد قال الله: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ}، وإنما أراد جل شانه بالرؤية هيهنا معرفة ثمرة الأعمال على اليقين الذي لا يشوبه ارتياب. وقال سبحانه: {مَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لآتٍ}. ولقاء الله تعالى هو لقاء جزائه على الأعمال وعلى هذا القول محققو النظر من الإمامية، وقد خالفهم فيه جماعة من حشويتهم، وزعموا أن المحتضر يرى نبيه ووليه ببصره كما يشاهد المرئيات وإنهما يحضران مكانه ويجاورانه بأجسامهما في المكان.

- رسول الله يشفع يوم القيامة في مذنبي أمته من الشيعة خاصة فيشفعه الله عز وجل ويشفع أمير المؤمنين في عصاه شيعته فيشفعه الله عز وجل وكذا الأئمة ويشفع المؤمن البر لصديقه المؤمن المذنب ويشفعه الله
- أوائل المقالات - الشيخ المفيد ص 79،80:

57 - القول في الشفاعة

وأقول: إن رسول الله صلى الله عليه وآله يشفع يوم القيامة في مذنبي أمته من الشيعة خاصة فيشفعه الله عز وجل ويشفع أمير المؤمنين عليه السلام في عصاه شيعته فيشفعه الله عز وجل وتشفع الأئمة عليهم السلام في مثل ما ذكرناه من شيعتهم فيشفعهم ويشفع المؤمن البر لصديقه المؤمن المذنب فتنفعه شفاعته ويشفعه الله، وعلى هذا القول إجماع الإمامية إلا من شذ منهم، وقد نطق به القرآن وتظاهرت به الأخبار، قال الله تعالى في الكفار عند إخباره عن حسراتهم على الفائت لهم مما حصل لأهل الإيمان: {فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ * وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ}. وقال رسول الله صلى الله عليه وآله:"إني أشفع يوم القيمة فأشفع فيشفع علي عليه السلام فيشفع، وإن أدنى المؤمنين شفاعة يشفع في أربعين من إخوانه".

- القرآن لم ينقص منه كلمة ولكن حذف ما كان مثبتا في مصحف أمير المؤمنين من تأويله وتفسير معانيه على حقيقة تنزيله وذلك كان ثابتا منزلا وإن لم يكن من جملة كلام الله تعالى الذي هو القرآن المعجز
- أوائل المقالات - الشيخ المفيد ص 80،82:

59 - القول في تأليف القرآن وما ذكر قوم من الزيادة فيه والنقصان

أقول: إن الأخبار قد جاءت مستفيضة عن أئمة الهدى من آل محمد صلى الله عليه وآله، باختلاف القرآن وما أحدثه بعض الظالمين فيه من الحذف والنقصان، فأما القول في التأليف فالموجود يقضي فيه بتقديم المتأخر وتأخير المتقدم ومن عرف الناسخ والمنسوخ والمكي والمدني لم يرتب بما ذكرناه.

وأما النقصان فإن العقول لا تحيله ولا تمنع من وقوعه، وقد امتحنت مقالة من ادعاه، وكلمت عليه المعتزلة وغيرهم طويلا فلم اظفر منهم بحجة اعتمدها في فساده. وقد قال جماعة من أهل الإمامة إنه لم ينقص من كلمة ولا من آية ولا من سورة ولكن حذف ما كان مثبتا في مصحف أمير المؤمنين عليه السلام من تأويله وتفسير معانيه على حقيقة تنزيله وذلك كان ثابتا منزلا وإن لم يكن من جملة كلام الله تعالى الذي هو القرآن المعجز، وقد يسمى تأويل القرآن قرآنا قال الله تعالى: {وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا} فسمى تأويل القرآن قرآنا، وهذا ما ليس فيه بين أهل التفسير اختلاف. وعندي أن هذا القول أشبه من مقال من ادعى نقصان كلم من نفس القرآن على الحقيقة دون التأويل، وإليه أميل والله أسأل توفيقه للصواب.

وأما الزيادة فيه فمقطوع على فسادها من وجه ويجوز صحتها من وجه، فالوجه الذي أقطع على فساده أن يمكن لأحد من الخلق زيادة مقدار سورة فيه على حد يلتبس به عند أحد من الفصحاء، وأما الوجه المجوز فهو أن يزاد فيه الكلمة والكلمتان والحرف والحرفان وما أشبه ذلك مما لا يبلغ حد الإعجاز، ويكون ملتبسا عند أكثر الفصحاء بكلم القرآن، غير أنه لا بد متى وقع ذلك من أن يدل الله عليه، ويوضح لعباده عن الحق فيه، ولست أقطع على كون ذلك بل أميل إلى عدمه وسلامة القرآن عنه، ومعي بذلك حديث عن الصادق جعفر بن محمد عليه السلام، وهذا المذهب بخلاف ما سمعناه عن بني نوبخت رحمهم الله من الزيادة في القرآن والنقصان فيه، وقد ذهب إليه جماعة من متكلمي الإمامية وأهل الفقه منهم والاعتبار.

- الخبر الوارد في أن أمير المؤمنين والأئمة من ذريته هم الموازين المراد أنهم المعدلون بين الأعمال فيما يستحق عليها والحاكمون فيها بالواجب والعدل
- تصحيح اعتقادات الإمامية - الشيخ المفيد  ص 114:

فصل: في الحساب والموازين

قال الشيخ أبو جعفر اعتقادنا في الحساب أنه حق.

قال الشيخ المفيد رحمه الله: الحساب هو المقابلة بين الأعمال والجزاء عليها، والمواقفة للعبد على ما فرط منه، والتوبيخ له على سيئاته، والحمد له على حسناته، ومعاملته في ذلك باستحقاقه. وليس هو كما ذهبت العامة إليه من مقابلة الحسنات بالسيئات والموازنة بينهما على حسب استحقاق الثواب والعقاب عليهما، إذ كان التحابط بين الأعمال غير صحيح، ومذهب المعتزلة فيه باطل غير ثابت، وما اعتمده الحشوية في معناه غير معقول.

والموازين هي التعديل بين الأعمال والجزاء عليها، ووضع كل جزاء في موضعه، وإيصال كل ذي حق إلى حقه. فليس الأمر في معنى ذلك على ما ذهب إليه أهل الحشو، من أن في القيامة موازين كموازين الدنيا، لكل ميزان كفتان توضع الأعمال فيها، إذ الأعمال أعراض، والأعراض لا يصح وزنها، وإنما توصف بالثقل والخفة على وجه المجاز، والمراد بذلك أن ما ثقل منها هو ما كثر واستحق عليه عظيم الثواب، وما خف منها ما قل قدره ولم يستحق عليه جزيل الثواب.

والخبر الوارد في أن أمير المؤمنين والأئمة من ذريته عليهم السلام هم الموازين، فالمراد أنهم المعدلون بين الأعمال فيما يستحق عليها، والحاكمون فيها بالواجب والعدل. ويقال فلان عندي في ميزان فلان، ويراد به نظيره. ويقال: كلام فلان عندي أوزن من كلام فلان، والمراد به أن كلامه أعظم وأفضل قدرا، والذي ذكره الله تعالى في الحساب والخوف منه إنما هو المواقفة على الأعمال، لأن من وقف على أعماله لم يتخلص من تبعاتها، ومن عفى الله تعالى عنه في ذلك فاز بالنجاة: {فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ -بكثرة استحقاقه الثواب- فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ -بقلة أعمال الطاعات- فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} والقرآن إنما أنزل بلغة العرب وحقيقة كلامها ومجازه، ولم ينزل على ألفاظ العامة وما سبق إلى قلوبها من الأباطيل.

- الإمام بعد الرسول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب
- الإفصاح - الشيخ المفيد  ص 29:

فإن قال: فخبروني الآن من كان الإمام بعد الرسول صلى الله عليه وآله، والقائم في رئاسة الدين مقامه، لأعرفه فأؤدي بمعرفته ما افترض له علي من الولاء؟

قيل له: من أجمع المسلمون على اختلافهم في الآراء والأهواء على إمامته بعد النبي صلى الله عليه وآله، ولم يختلفوا من بعد وفاته فيما أوجب له ذلك من اجتماع خصال الفضل له والأقوال فيه والأفعال: أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلى الله عليه وآله.

- الشيعة تقطع بإمامة أمير المؤمنين بعد رسول الله بلا فصل وتقضي له بذلك إلى وقت وفاته وتخطئ من شك في هذا المقال على كل حال
- الإفصاح - الشيخ المفيد  ص 30، 31:

فإن قال: أبينوا لي عن صحة هذا المقال، فإني أراكم مدعين الاجماع فيما ظاهره الاختلاف، ولست أقنع منكم فيه إلا بالشرح لوجهه والبيان.

قيل له: ليس فيما حكيناه من الإجماع اختلاف ظاهر ولا باطن، فإن ظننت ذلك لبعدك عن الصواب، أفلا ترى أن الشيعة من فرق الأمة تقطع بإمامته عليه السلام بعد النبي صلى الله عليه وآله بلا فصل، وتقضي له بذلك إلى وقت وفاته، وتخطئ من شك في هذا المقال على كل حال...

والحشوية والمرجئة والمعتزلة متفقون على إمامته صلى الله عليه وآله بعد عثمان، وأنه لم يخرج عنها حتى توفاه الله تعالى راضيا عنه، سليما من الضلال؟

والخوارج وهم أخبث أعدائه وأشدهم عنادا يعترفون له بالإمامة، كاعتراف الفرق الثلاث، وإن فارقوهم بالشبهة في انتهاء الحال؟ ولا سادس في الأمة لمن ذكرناه يخرج بمذهبه عما شرحناه، فيعلم بذلك وضوح ما حكمنا به من الإجماع على إمامته بعد النبي صلى الله عليه وآله كما وصفناه.

- أمير المؤمنين مشارك لرسول الله في النسب ومساهم له في كريم الحسب ومتصل به في وكيد السبب
- أمير المؤمنين سبق كافة الأمة إلى الإقرار وأفضلهم في جهاد الكفار وأبرزهم في المعرفة والعلم بالأحكام ولم يختلف اثنان في شجاعته وظاهر زهده وحكمته في التدبير وسياسة الأنام وغناه بكماله في التأديب المحوج إليه المنقص عن الكمال
- أمير المؤمنين يستحق الإمامة ببعض الخصال التي عرف بها فضلا عن جميعها
- الإفصاح - الشيخ المفيد  ص31:

فأما الإجماع على ما يوجب له الإمامة من الخلال: فهو إجماعهم على مشاركته صلى الله عليه وآله لرسول الله صلى الله عليه وآله في النسب، ومساهمته له في كريم الحسب، واتصاله به في وكيد السبب، وسبقه كافة الأمة إلى الإقرار، وفضله على جماعتهم في جهاد الكفار، وتبريزه عليهم في المعرفة والعلم بالأحكام، وشجاعته وظاهر زهده اللذين لم يختلف فيهما اثنان، وحكمته في التدبير وسياسة الأنام، وغناه بكماله في التأديب المحوج إليه المنقص عن الكمال، وببعض هذه الخصال يستحق الإمامة فضلا عن جميعها على ما قدمناه.

- رسول الله قدم أمير المؤمنين في حيات وأمره على جماعة من وجوه أصحابه واستخلفه في أهله واستكفاه أمرهم عند خروجه إلى تبوك قبل وفاته واختصه لإيداع أسراره وكتب عهوده وقيامه مقامه في نبذها إلى أعدائه
- الإفصاح - الشيخ المفيد  ص31، 32:

وأما الإجماع على الأفعال الدالة على وجوب الإمامة والأقوال: فإن الأمة متفقة على أن رسول الله صلى الله عليه وآله قدمه في حياته، وأمره على جماعة من وجوه أصحابه، واستخلفه في أهله واستكفاه أمرهم عند خروجه إلى تبوك قبل وفاته، واختصه لإيداع أسراره، وكتب عهوده، وقيامه مقامه في نبذها إلى أعدائه، وقد كان ندب ليعرض ذلك من تقدم عليه، فعلم الله سبحانه أنه لا يصلح له، فعزله بالوحي من سمائه. ولم يزل يصلح به إفساد من كان على الظاهر من خلصائه، ويسد به خلل أفعالهم المتفاوتة بحكمه وقضائه، وليس يمكن أحد ادعاء هذه الأفعال من الرسول صلى الله عليه وآله لغير أمير المؤمنين عليه السلام، على اجتماع ولا اختلاف، فيقدح بذلك في أس ما أصلناه وبيناه.

- بعض ما روي في فضل أمير المؤمنين والقول فيها
- رسول الله بعد أن قرر أمته على المفترض له من الولاء الموجب لإمامته عليهم بغدير خم قال من كنت مولاه فعلي مولاه
- قال رسول الله لأمير المؤمنين أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي
- الإفصاح - الشيخ المفيد  ص32، 35:

وأما الأقوال المضارعة لهذه الأفعال في الدلالة: فهي أكثر من أن تحصى على ما شرطناه في الاختصار، وإن كنا سنورد منها ما فيه كفاية، إن شاء الله تعالى: فمنها: ما سلم لروايته الجميع من قول الرسول صلى الله عليه وآله بغدير خم، بعد أن قرر أمته على المفترض له من الولاء الموجب لإمامته عليهم، والتقدم لسائرهم في الأمر والنهي والتدبير، فلم ينكره أحد منهم، وأذعنوا بالإقرار له طائعين: "من كنت مولاه فعلي مولاه" فأعطاه بذلك حقيقة الولاية، وكشف به عن مماثلته له في فرض الطاعة والأمر لهم، والنهي والتدبير والسياسة والرئاسة، وهذا نص لا يرتاب بمعناه من فهم اللغة بالإمامة.

ومنها أيضا: قوله صلى الله عليه وآله بلا اختلاف بين الأمة: "أنت مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي" فحكم له بالفضل على الجماعة، والنصرة والوزارة والخلافة، في حياته وبعد وفاته، والإمامة له، بدلالة أن هذه المنازل كلها كانت لهارون من موسى صلى الله عليه وآله في حياته، وإيجاب جميعها لأمير المؤمنين صلى الله عليه وآله إلا ما أخرجه الاستثناء منها ظاهرا، وأوجبه بلفظ يعدله من بعد وفاته، وبتقدير ما كان يجب لهارون من موسى لو بقي بعد أخيه، فلم يستثنه النبي صلى الله عليه وآله، فبقي لأمير المؤمنين صلى الله عليه وآله عموم ما حكم له من المنازل، وهذا نص على إمامته، لا خفاء به على من تأمله، وعرف وجوه القول فيه، وتبينه.

ومنها: قوله صلى الله عليه وآله على الاتفاق: "اللهم ائتني بأحب خلقك إليك، يأكل معي من هذا الطائر" فجاءه بأمير المؤمنين عليه السلام، فأكل معه، وقد ثبت أن أحب الخلق إلى الله تعالى أفضلهم عنده، إذ كانت محبته منبئة عن الثواب دون الهوى وميل الطباع، وإذا صح أنه أفضل خلق الله تعالى ثبت أنه كان الإمام، لفساد تقدم المفضول على الفاضل في النبوة وخلافتها العامة في الأنام.

ومنها: قوله صلى الله عليه وآله يوم خيبر: "لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، كرارا غير فرار، لا يرجع حتى يفتح الله على يديه" فأعطاها من بين أمته جميعا عليا عليه السلام، ثم بين له من الفضيلة بما بان به من الكافة، ولولا ذلك لاقتضى الكلام خروج الجماعة من هذه الصفات على كل حال، وذلك محال، أو كان التخصيص بها ضربا من الهذيان، وذلك أيضا فاسد محال، وإذا وجب أنه أفضل الخلق بما شرحناه، ثبت أنه كان الإمام دون من سواه، على ما رتبناه.

وأمثال ما ذكرناه مما يطول به التقصاص من تفضيله له عليه السلام على كافة أصحابه وأهل بيته، بأفعاله به وظواهر الأقوال فيه ومعانيها المعقولة، لمن فهم الخطاب والشهادة له بالصواب، ومقتضى العصمة من الذنوب والآفات، مما يدل على غناه عن الأمة، ويكشف بذلك عن كونه إماما بالتنزيل الذي رسمناه، وقد استقصينا القول في أعيان هذه المسائل على التفصيل والشرح والبيان في غير هذا المكان، فلا حاجة بنا إلى ذكره هاهنا مع الغرض الذي أخبرنا به عنه ووصفناه...

- الإفصاح - الشيخ المفيد  ص 37، 38:

والجواب عن السؤال الرابع: أنا لا نعلم بكريا ولا عثمانيا ولا خارجيا دفع إجماع المختلفين على تسليم ما رويناه من فضائل أمير المؤمنين عليه السلام وعددناه، وكيف ينكرون رواية ذلك وهم أنفسهم قد رووه، ونقوله عن أسلافهم وتقبلوه، وأعملوا أفكارهم في الاستخراج بوجوهه وتأولوه؟! وليس خلافهم للشيعة فيما تعلقوا به من معانيه خلافا في صحة سنده والتسليم لرواته، كما أن اختلاف المسلمين في تأويل القرآن لا يوجب إنكارهم للتنزيل.

ومن دفع ما وصفناه من هذه الحال وجب رده إلى أصحاب الحديث ممن سميناه، وإن كان الموجود في أصولهم من نقلهم شاهدا عليهم بما ذكرناه، على أننا لا ننكر أن يدفع المتفق عليه واحد من أهل النظر أو اثنان، أو ألف من العامة أو ألفان، لكنه لا يكون ذلك باتفاق الحجة قادحا فيما انعقد به الإجماع، لوجود أمثاله فيما نعتناه. وإنما مدار الأمر على اصطلاح معظم العلماء، واجتماع المختلفين على التسليم عند السلامة من العصبية، وحال السكون عن المماراة والمجادلة، ونقل المتضادين في الآراء والاعتقادات مع العداوة في أصل الديانات والمناصبة، ولولا أن الأمر كذلك لما ثبت إجماع على شيء من شريعة الإسلام، لوجود المختلفين فيها على كل حال.

- وجود إمام بعد رسول الله بلا فصل واجب وثبو إمامته على الفور
- الإفصاح - الشيخ المفيد  ص 35، 36:

واعلم أرشدك الله تعالى أن فيما رسمناه من هذه الأصول أربع مسائل، يجب ذكرها والجواب عنها، لتزول به شبهة أهل الخلاف:

أولها: السؤال عن وجه الدلالة من الإجماع الذي ذكرناه في إمامة أمير المؤمنين صلى الله عليه وآله بعد النبي صلى الله عليه وآله على إمامته من بعده على الفور، دون من قام ذلك المقام ممن يعتقد الجمهور في فعله الصواب.

ثانيها: عن الدلالة على أن أمير المؤمنين عليه السلام الأفضل عند الله تعالى من الجميع، وإن كان أفضل منهم في ظاهر الحال.

ثالثها: عن الدليل على فساد إمامة المفضول على الفاضل بحسب ما ذكرناه.

رابعها: عن حجة دعوى الإجماع في سائر ما عددناه، مع ما يظن فيه من خلاف البكرية والعثمانية والخوارج، وما يعتقدونه من الدفع لفضائل أمير المؤمنين عليه السلام.

الجواب عن السؤال الأول: أنه إذا ثبت بالحجة القاهرة من الإجماع وجود إمام بعد النبي صلى الله عليه وآله بلا فصل، وثبوت إمامته على الفور، ولم يكن على من ادعي ذلك له سوى أمير المؤمنين عليه السلام إجماع على حال من الأحوال، لما يعرف من مذاهب شيعة علي بن أبي طالب عليه السلام، في العباس وأبي بكر، وتقدمه في ذلك المقام، ونفي الإمامة عنه على كل حال، ومذهب شيعة أمير المؤمنين عليه السلام في ما تدعيه الراوندية من إمامة العباس وأنها لم تصح له في حال، ولم يكن دليل من كتاب ولا سنة، ولا اعتبار على إمامة المتقدم فينوب ذلك مناب الإجماع، ثبت أن أمير المؤمنين عليه السلام كان إماما في تلك الحال ومستقبلها إلى أن قبضه الله تعالى إلى جنته على ما وصفناه، وإلا خرج الحق عن الإجماع، وبطل قول كافة الأمة فيما شهدوا به من وجود الإمام وثبوت الإمامة له على القطع والثبات، وذلك فاسد بالنظر الصحيح والإجماع.

- أمير المؤمنين عند الله ورسوله أفضل  من الجميع
- رسول الله لم ينطق عن الهوى ولا فعل في شرعة شيئا ولا قال إلا بوحي يوحى
- الإفصاح - الشيخ المفيد  ص 36:

والجواب عن السؤال الثاني: أن الدلائل قد قامت على أن رسول الله صلى الله عليه وآله لم ينطق عن الهوى، ولا فعل في شرعة شيئا ولا قال إلا بوحي يوحى، وقد علمنا أن الوحي من الله جل اسمه العالم بالسر وأخفى، وأنه جل اسمه لا يحابي خلقه، ولا يبخس أحدا منهم حقه.

فلولا أن أمير المؤمنين عليه السلام كان الأفضل عنده جل اسمه لما فرض على نبيه صلى الله عليه وآلهالتفضيل له على الكافة، والتنويه بفضله من بين الجماعة، والإقرار له من التعظيم بما لم يشركه فيه غيره، لأنه لو لم يكن ذلك كذلك لكان محابيا له وباخسا لغيره حقه، أو غير عالم بحقيقة الأمر في مستحقه، وذلك كله محال، فثبت أن الفضل الذي بان به أمير المؤمنين عليه السلام في الظاهر من الجماعة بأفعال الرسول صلى الله عليه وآله وأقواله، أدل دليل على فضله في الحقيقة، وعند الله سبحانه على ما ذكرناه.

- تقدم أبي بكر وعمر وعثمان على أمير المؤمنين في خلافة النبي كان على وجه  الدفع له عن حقه والخلاف عليه في مستحقه وليس ذلك بمستحيل ممن ارتفعت عنه العصمة وإن كان في ظاهر الأمر على أحسن الصفات
- الإفصاح - الشيخ المفيد  ص 38، 39:

فإن قال قائل: فإذا كان أمير المؤمنين عليه السلام هو الإمام بعد النبي صلى الله عليه وآله دون سائر الناس، فعلى أي وجه تقدم عليه أبو بكر وعمر وعثمان، وادعوا الإمامة دونه، وأظهروا أنهم أحق بها على كل حال؟.

قيل له: لقد كان ذلك على وجه الدفع له عليه السلام عن حقه، والخلاف عليه في مستحقه، وليس ذلك بمستحيل ممن ارتفعت عنه العصمة، وإن كان في ظاهر الأمر على أحسن الصفات.

- وجوه الصحابة ورؤساء المهاجرين وأعيان السابقين إلى الإيمان هم أمير المؤمنين وحمزة بن عبد المطلب وجعفر بن أبي طالب وعبيدة بن الحارث بن عبد المطلب ثم الطبقة التي تليهم كخباب وعمار وأبي ذر والمقداد وزيد بن حارثة ونظرائهم
- الإفصاح - الشيخ المفيد  ص 39، 41:

فإن قال: فكيف يجوز ذلك ممن سميناه، وهم وجوه أصحاب النبي صلى الله عليه وآله والمهاجرين والسابقين إلى الإسلام؟

قيل له: أما وجوه الصحابة ورؤساء المهاجرين وأعيان السابقين إلى الإيمان بواضح الدليل وبين البرهان فهو أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب أخو رسول الله صلى الله عليه وآله ووزيره وناصره ووصيه وسيد الأوصياء، وعم رسول الله صلى الله عليه وآله حمزة بن عبد المطلب أسد الله وأسد رسوله سيد الشهداء رضوان الله عليهم، وابن عم رسول الله صلى الله عليه وآله جعفر بن أبي طالب الطيار مع الملائكة في الجنان رضي الله عنه، وابن عم رسول الله صلى الله عليه وآله أيضا عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب رضي الله عنه، الذين سبقوا من سميت إلى الإيمان، وخرجوا في مواساة النبي صلى الله عليه وآله عن الديار والأوطان، وأثنى الله عليهم في محكم القرآن، وأبلوا دون أصحابه في الجهاد وبارزوا الأقران، وكافحوا الشجعان، وقتلوا الأبطال، وأقاموا عمود الدين وشيدوا الإسلام. ثم الطبقة التي تليهم، كخباب وعمار وأبي ذر والمقداد وزيد بن حارثة، ونظرائهم في الاجتهاد وحسن الأثر والبلاء والإخلاص لله ولرسوله صلى الله عليه وآله في السر والإعلان.

وبعد: فلو سلمنا لك دعواك لمن ادعيت الفضل لهم على ما تمنيت، لم يمنع مما ذكرناه، لأنه لا يوجب لهم العصمة من الضلال، ولا يرفع عنهم جواز الغلط والسهو والنسيان، ولا يحيل منهم تعمد العناد.

وقد رأيت ما صنع شركاؤهم في الصحبة والهجرة والسبق إلى الإسلام حين رجع الأمر إلى أمير المؤمنين عليه السلام باختيار الجمهور منهم والاجتماع، فنكث بيعته طلحة والزبير، وقد كانا بايعاه على الطوع والإيثار، وطلحة نظير أبي بكر، والزبير أجل منهما على كل حال، وفارقه سعد بن أبي وقاص وهو أقدم إسلاما من أبي بكر، وأشرف منه في النسب، وأكرم منه في الحسب، وأحسن آثارا من الثلاثة في الجهاد. وتبعه على فراقه وخذلانه محمد بن مسلمة وهو من رؤساء الأنصار، واقتفى آثارهم في ذلك وزاد عليها بإظهار سبه والبراءة منه حسان، فلو كانت الصحبة مانعة من الضلال لمنعت من ذكرناه ومعاوية ابن أبي سفيان وأبا موسى الأشعري، وله من الصحبة والسبق ما لا يجهل، وقد علمتم عداوتهم لأمير المؤمنين عليه السلام، وإظهارهم البراءة منه، والقنوت عليه، وهو ابن عم رسول الله صلى الله عليه وآله وأميره على أبي بكر وعمر وعثمان.

ولو كانت الصحبة أيضا مانعة من الخطأ في الدين والآثام لكانت مانعة لمالك بن نويرة، وهو صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله على الصدقات، ومن تبعه من وجوه المسلمين من الردة عن الإسلام. ولكانت صحبة السامري لموسى بن عمران عليهما السلام وعظم محله منه ومنزلته، تمنعه من الضلال باتخاذ العجل والشرك بالله عز وجل، ولاستحال أيضا على أصحاب موسى نبي الله عليه السلام، وهم ستمائة ألف إنسان، وقد شاهدوا الآيات والمعجزات، وعرفوا الحجج والبينات، أن يجتمعوا على خلاف نبيهم وهو حي بين أظهرهم، وباينوا خليفته وهو يدعوهم ويعظهم ويحذرهم من الخلاف، وينذرهم فلا يصغون إلى شيء من قوله، ويعكفون على عبادة العجل من دون الله عز وجل. ولكان أيضا أصحاب عيسى عليه السلام معصومين من الردة، ولم يكونوا كذلك، بل فارقوا أمره، وغيروا شرعه، وادعوا عليه أنه كان يأمرهم بعبادته، واتخاذه إلها مع الله تعالى تعمدا للكفر والضلال، وإقداما على العناد من غير شبهة ولا سهو ولا نسيان.

- لم يقر جميع المسلمين دفع القوم أمير المؤمنين عن حقه ولا تبعهم عليه سائر الأنصار والمهاجرين
- الإفصاح - الشيخ المفيد  ص 42، 46:

فإن قال: فإذا كان الأمر على ما ذكرتموه، وكان القوم قد دفعوا حقا لأمير المؤمنين عليه السلام كما وصفتموه، فلم أقرهم على ذلك أمير المؤمنين عليه السلام، واتبعهم عليه الأنصار والمهاجرون، وما بال أمير المؤمنين عليه السلام لم يجاهدهم كما جاهد الناكثين والقاسطين والمارقين؟

قيل له: لم يقرهم على ذلك جميع المسلمين، ولا تبعهم عليه سائر الأنصار والمهاجرين، وإن كان الراضي بذلك منهم الجمهور، والمؤثر في العدد هم الأكثرون، وليس ذلك علامة على الصواب، بل هو في الأغلب دليل على الضلال، وقد نطق بذلك القرآن، قال الله تعالى: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ}. وقال تعالى {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ}. وقال تعالى: {وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ}. وقال تعالى: {وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنْ الْخُلَطَاء لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}. وقال تعالى: {وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ} في آيات يطول بإثباتها الكتاب.

على أن هذا القول، وإن كان حجة فيما ذكرناه، فالوجود شاهد به لصحته على ما وصفناه، ألا ترى أن أكثر الخلق على مرور الأيام والأوقات عصاة لله تعالى، والقليل منهم مطيعون له على الإخلاص، والجمهور الأكثر منهم جهال على كل حال، والعلماء قليل يحصرهم العدد بلا ارتياب، وأهل التصون والمروءة من بين الخلق أفراد، وأهل المناقب في الدين والدنيا آحاد، فيعلم بذلك أن الأكثر لا معتبر بهم في صحيح الأحكام.

وبعد: فإنه لم يتمكن قط متملك إلا وكان حال الخلق معه حالهم مع أبي بكر وعمر وعثمان، وهذه عادة جارية إلى وقتنا هذا وإلى آخر الزمان، ألا ترى إلى اجتماع الأمة على متاركة معاوية بن أبي سفيان حين ظهر أمره عند مهادنة الحسن بن علي بن أبي طالب عليه السلام. وسكوت الكافة عنه وهو يلعن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام على المنابر، ويقنت عليه في الصلوات، ويضرب رقاب المسلمين على الولاية له، ويجيز على البراءة منه بالأموال.

وكذلك كانت حالهم مع يزيد لعنه الله، وقد قتل الحسين بن علي عليه السلام ولد رسول الله صلى الله عليه وآله وحبيبه وقرة عينه ظلما وعدوانا، وسبي أهله ونساءه وذراريه، وهتكهم بين الملأ، وسيرهم على الأقتاب في الفلوات، واستباح حرم رسول الله صلى الله عليه وآله في وقعة الحرة، وسفك دماء أهل الإيمان، وأظهر الردة عن الإسلام، فلم يجاهره أحد من الأمة بنكيرة، وأطبقوا على إظهار التسليم له والائتمام به، والاتباع له والانقياد. ولم يزل الأمر يجري في الأمة بعد يزيد لعنه الله مع الجبارين من بني أمية ومروان على ما وصفناه، وكذلك كانت صورتهم على عهد آدم عليه السلام وإلى وقت من سميناه، ومن بعدهم إلى الآن، وإنما ينظر الناس إلى من حصل له الاتفاق في الرئاسة والسلطان، وينقادون له كما ذكرناه، ويجتنبون خلافه على ما بيناه، سواء كان من الله أو من الشيطان، أو كان عادلا في الرعية أو كان ظالما من الفجار. بل قد وجدنا الجمهور في كثير الأحوال يتحيزون عن أولياء الله تعالى، ويخالفون أنبياءه، ويسفكون في العناد لهم الدماء، ويطبقون على طاعة أعداء الله عز وجل، ويسلمون لهم على الطوع والإيثار، وربما اتفق للظالم المتغلب والناقص الغبي الجاهل من الجماعة الرضا به والاتباع، فانقادت الأمور له على منيته فيها والمحاب، واختلفت على العادل المستحق الكامل الحكيم العالم، واضطربت عليه الأمور، وكثرت له المعارضات، وحصلت في ولايته الفتن والمنازعات، والخصومات والمدافعات. وقد عرف أهل العلم ما جرى على كثير من أنبياء الله صلى الله عليه وآله من الأذى والتكذيب، والرد لدعواهم، والاستخفاف بحقوقهم، والانصراف عن إجابتهم، والاجتماع على خلافهم، والاستحلال لدمائهم. فأخبر الله تعالى بذلك فيما قص به من نبأهم في القرآن، فكان من الأتباع للفراعنة والنماردة وملوك الفرس والروم على الضلال، ما لا يحيل على ذي عقل ممن سمع الكتاب، ليعلم بما شرحناه أنه لا معتبر في الحق بالاجتماع، ولا معتمد في الباطل على الاختلاف، وإنما مدار الأمر في هذين البابين على الحجج والبينات، لما وصفناه من وجود الاجتماع على الظلال، والاختلاف والتباين في الهدى، والصواب بما بيناه، ولا سبيل إلى دفعه إلا بالعناد.

- لا نحكم بإجماع أمة الإسلام على الرضا بما صنعه المتقدمون على أمير المؤمنين فقد خالفت الأنصار في عقد الإمامة على المهاجرين وأنكرته بنو هاشم وأتباعهم على الجميع في تفردهم بالأمر دون أمير المؤمنين
- الإفصاح - الشيخ المفيد  ص 47، 48:

فإن قال: أفليس قد روي عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: "ما كان الله ليجمع أمتي على ضلال" فكيف يصح اجتماع الأمة على دفع المستحق عن حقه والرضا بخلاف الصواب، وذلك ضلال بلا اختلاف؟

قيل له: أول ما في هذا الباب أن الرواية لما ذكرت غير معلومة عن النبي صلى الله عليه وآله، وإنما جاءت بها الأخبار على اختلاف من المعاني والألفاظ، وقد دفع صحتها جماعة من رؤساء أهل النظر والاعتبار، وأنكرها إمام المعتزلة وشيخها إبراهيم بن سيار النظام.

وبعد: فلو ثبت ما ضرنا فيما وصفناه، لأنا لا نحكم بإجماع أمة الإسلام على الرضا بما صنعه المتقدمون على أمير المؤمنين عليه السلام فكيف نحكم بذلك ونحن نعلم يقينا كالاضطرار خلاف الأنصار في عقد الإمامة على المهاجرين، وإنكار بني هاشم وأتباعهم على الجميع في تفردهم بالأمر دون أمير المؤمنين عليه السلام، وقد جاءت الأخبار مستفيضة بأقاويل جماعة من وجوه الصحابة في إنكار ما جرى، وتظلم أمير المؤمنين عليه السلام من ذلك برفع الصوت والإجهار؟!

وكان من قول العباس بن عبد المطلب عم رسول الله صلى الله عليه وآله ما قد عرفه الناس، ومن أبي سفيان بن حرب والزبير بن العوام أيضا ما لا يخفى على من سمع الأخبار، وكذلك من عمار بن ياسر وسلمان وأبي ذر والمقداد وبريدة الأسلمي وخالد بن سعيد بن العاص في جماعات يطول بذكرها الكلام.

وهذا يبطل ما ظنه الخصم من اعتقاد الإجماع على إمامة المتقدم على أمير المؤمنين عليه السلام على أنه لا شبهة تعرض في إجماع الأمة على أبي بكر وعمر وعثمان إلا وهي عارضة في قتل عثمان بن عفان، وإمامة معاوية من بعد صلح الحسن عليه السلام، وطاعة يزيد بعد الحرة، وإمامة بني أمية وبني مروان.

فإن وجب لذلك القطع بالإجماع على الثلاثة المذكورين حتى تثبت إمامتهم ويقضى لهم بالصواب ليكون جميع من ذكرناه شركاءهم في الإمامة، وثبوت الرئاسة الدينية والسلطان، إذ العلة واحدة فيما أوجب لهم ذلك، فهو ظاهر التسليم والانقياد على الاجتماع، وترك النكير والخلاف، وهذا ما يأباه أهل العلم كافة، ولا يذهب إليه أحد من أهل التمييز لتناقضه في الاعتقاد.

- السابقون الأولون من المهاجرين هم أمير المؤمنين وجعفر بن أبي طالب وحمزة بن عبد المطلب وخباب وزيد بن حارثة وعمار وطبقتهم ومن الأنصار النقباء المعروفون كأبي أيوب وسعد بن معاذ وأبي الهيثم بن التيهان وخزيمة بن ثابت ذي الشهادتين ومن كان في طبقتهم من الأنصار
- وعد الله المؤمنين والمؤمنات في الجملة مثل وعد به السابقين من المهاجرين والأنصار ولم يوجب ذلك نفي الغلط عن كل من استحق اسم الإيمان ولا إيجاب العصمة له من الضلال ولا القطع له بالجنة
- الإفصاح - الشيخ المفيد  ص 77، 84:

فصل: فإن قال قائل: فإني أترك التعلق بالخبر عن النبي صلى الله عليه وآله بأن القوم في الجنة لما طعنتم به فيه، مما لا أجد منه مخلصا، ولكن خبروني عن قوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}. أليس قد أوجب لأبي بكر وعمر وعثمان وطلحة والزبير وسعد وسعيد جنات عدن، ومنع بذلك من تجويز الخطأ عليهم في الدين والزلل عن الطريق المستقيم، فكيف يصح القول مع ذلك بأن الإمامة كانت دونهم لأمير المؤمنين عليه السلام وأنهم دفعوه بالتقدم عليه عن حق وجب له على اليقين، وهل هذا إلا متناقض؟!.

قيل له: إن الله سبحانه لا يعد أحدا بالثواب إلا على شرط الإخلاص والموافاة بما يتوجه الوعد بالثواب عليه، وأجل من أن يعري ظاهر اللفظ بالوعد عن الشروط، لما في العقل من الدليل على ذلك والبرهان. وإذا كان الأمر على ما وصفناه، فالحاجة ماسة إلى ثبوت أفعال من ذكرت في السبق والطاعة لله تعالى في امتثال أوامره ظاهرا على وجه الإخلاص، ثم الموافاة بها على ما ذكرناه حتى يتحقق لهم الوعد بالرضوان والنعيم المقيم وهذا لم يقم عليه دليل، ولا تثبت لمن ذكرت حجة توجب العلم واليقين، فلا معنى للتعلق بظاهر الآية فيه، مع أن الوعد من الله تعالى بالرضوان إنما توجه إلى السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، دون أن يكون متوجها إلى التالين الأولين. والذين سميتهم من المتقدمين على أمير المؤمنين عليه السلام ومن ضممت إليهم في الذكر، لم يكونوا من الأولين في السبق، وإنما كانوا من التالين للأولين، والتالين للتالين.

والسابقون الأولون من المهاجرين، هم: أمير المؤمنين عليه السلام، وجعفر بن أبي طالب، وحمزة بن عبد المطلب، وخباب، وزيد بن حارثة، وعمار وطبقتهم. ومن الأنصار النقباء المعروفون، كأبي أيوب، وسعد بن معاذ، وأبي الهيثم بن التيهان، وخزيمة بن ثابت ذي الشهادتين، ومن كان في طبقتهم من الأنصار. فأما أصحابك فهم الطبقة الثانية ممن ذكرناه، والوعد إنما حصل للمتقدمين في الإيمان دونهم على ما بيناه، وهذا يسقط ما توهمت.

فصل: ثم يقال له: قد وعد الله المؤمنين والمؤمنات في الجملة مثل وعد به السابقين من المهاجرين والأنصار، ولم يوجب ذلك نفي الغلط عن كل من استحق اسم الإيمان، ولا إيجاب العصمة له من الضلال، ولا القطع له بالجنة على كل حال. قال الله عز وجل: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}. فإن وجب للمتقدمين على أمير المؤمنين عليه السلام الثواب على كل حال، لاستحقاقهم الوصف بأنهم من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار على ما ادعيت لهم في المقال، فإنه يجب مثل ذلك لكل من استحق اسم الإيمان في حال من الأحوال، بما تلوناه، وهذا ما لا يذهب إليه أحد من أهل الإسلام.

ويقال له أيضا: قد وعد الله الصادقين مثل ذلك، فقطع لهم بالمغفرة والرضوان، فقال سبحانه: {هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}. فهل يجب لذلك أن يقطع على كل من صدق في مقاله بالعصمة من الضلال، ويوجب له الثواب المقيم، وإن ضم إلى فعله قبائح الأفعال؟!. فإن قال: نعم. خرج عن ملة الإسلام، وإن قال: لا يجب ذلك لعلة من العلل. قيل له في آية السابقين مثل ما قال، فإنه لا يجد فرقا.

ويقال له أيضا: ما تصنع في قول الله تعالى: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ}؟! أتقول أن كل من صبر على مصاب فاسترجع مقطوع له بالعصمة والأمان من العذاب، وإن كان مخالفا لك في الاعتقاد، بل مخالفا للإسلام؟! فإن قال: نعم ظهر خزيه، وإن قال: لا يجب ذلك. وذهب في الآية إلى الخصوص دون الاشتراط، سقط معتمده من عموم آية السابقين، ولم يبق معه ظاهر فيما اشتبه به الأمر عليه في إمامة أمير المؤمنين عليه السلام، وخطأ المتقدمين عليه حسب ما ذكرناه.

وهذا باب إن بسطنا القول فيه ، واستوفينا الكلام في معانيه، طال به الخطاب، وفيما اختصرناه كفاية لذوي الألباب.

فصل: فإن قال في أصل الجواب أنه لا يجوز تخصيص السابقين الأولين، ولا الاشتراط فيهم، لأنه سبحانه قد اشترط في التابعين، وخصهم بقوله: {وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ}. فلو كان في السابقين الأولين من يقع منه غير الحسن الجميل، لما أطلق الرضا عنهم في الذكر ذلك الإطلاق، واشترط فيمن وصله بهم من التابعين.

قيل له: أول ما في هذا الباب، أنك أوجبت للسابقين بهذا الكلام العصمة من الذنوب، ورفعت عنهم جواز الخطأ وما يلحقهم به من العيوب، والأمة مجمعة على خلاف ذلك لمن زعمت أن الآية فيه صريحة، لأن الشيعة تذهب إلى تخطئة المتقدمين على أمير المؤمنين عليه السلام، والمعتزلة والشيعة وأكثر المرجئة وأصحاب الحديث يضللون طلحة والزبير في قتالهم أمير المؤمنين عليه السلام، والخوارج تخطئ أمير المؤمنين عليه السلام وتبرأ منه ومن عثمان، وطلحة والزبير ومن كان في حيزهما، وتكفرهم بحربهم أمير المؤمنين عليه السلام، وولايتهم عثمان بن عفان، فيعلم أن إيجاب العصمة لمن يزعم أن الله تعالى عناه في الآية بالرضوان باطل، والقول به خروج عن الإجماع.

على أن قوله تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ} ليس هو شرطا في التابعين، وإنما هو وصف للاتباع، وتمييز له من ضروبه التي لا يوجب شيء منها الرحمة والغفران، وهذا مما لا يبطل الخصوص في السابقين، والشرط في أفعالهم على ما ذكرناه.

مع أنا قد بينا أن المراد بالسابقين الأولين، هم الطبقة الأولى من المهاجرين والأنصار، وذكرنا أعيانهم وليس من المتقدمين على أمير المؤمنين عليه السلام والمخالفين عليه من كان من الأولين، وإن كان فيهم جماعة من التالين، ولسنا ندفع ظاهر الأولين من القوم، وأنهم من أهل الثواب وجنات النعيم على عمومهم دون الخصوص، وهذا أيضا يسقط تعلقهم بما ذكروه في التابعين، على أنه لا يمتنع أن يكون الشرط في التابعين شرطا في السابقين، ويكتفى به بذكر السابقين للاختصار، ولأن وروده في الذكر على الاقتران. ويجري ذلك مجرى قوله تعالى: {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ} وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}.

ويقال له أيضا: أليس الله تعالى يقول: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ * إِلاَّ أَصْحَابَ الْيَمِينِ }. وفي الأنفس من لم يرده، ولم يستثنه لفظا، وهم: الأطفال والبله والبهائم والمجانين؟! وإنما يدل استثناؤهم لفظا على استثناء أهل العقول. فبم ينكر أن يكون الشرط في السابقين مثل الشرط في التابعين، وأن اللفظ من ذكر السابقين موجود في التابعين؟ وهذا بين لمن تدبره. على أن الذي ذكرناه في الخبر، وبينا أنه لا يجوز من الحكيم تعالى أن يقطع بالجنة إلا على شرط الإخلاص، لما تحظره الحكمة من الاغراء بالذنوب، يبطل ظنهم في تأويل هذه الآية، وكل ما يتعلقون به من غيرها في القطع على أمان أصحابهم من النار، للإجماع على ارتفاع العصمة عنهم، وأنهم كانوا ممن يجوز عليه اقتراف الآثام، وركوب الخلاف لله تعالى على العمد والنسيان، وقد تقدم ذلك فيما سلف، فلا حاجة بنا إلى الإطالة فيه.

فصل آخر: ويمكن أيضا مما ذكرناه من أمر طلحة والزبير وقتالهما لأمير المؤمنين عليه السلام، وهما عند المخالفين من السابقين الأولين، ويضم إليه ما كان من سعد بن عبادة، وهو سيد الأنصار ومن السابقين الأولين، ونقباء رسول الله صلى الله عليه وآله في السقيفة، ترشح للخلافة، ودعا أصحابه إليه، وما راموه من البيعة له على الإمامة حتى غلبهم المهاجرون على الأمر، فلم يزل مخالفا لأبي بكر وعمر، ممتنعا عن بيعتهما في أهل بيته وولده وأشياعه إلى أن قتل بالشام على خلافهما ومباينتهما. وإذا جاز من بعض السابقين دفع الحق في الإمامة، واعتقاد الباطل فيها، وجاز من بعضهم استحلال الدم على الضلال، والخروج من الدنيا على غير توبة ظاهرة للأنام، فما تنكر من وقوع مثل ذلك من المتقدمين على أمير المؤمنين عليه السلام وإن كانوا من السابقين الأولين وما الذي يعصمهم مما وقع من شركائهم في السبق والهجرة وغير ذلك مما تعدونه لهم في الصفات، وهذا مما لا سبيل إلى دفعه.

- الوعد في قوله تعالى وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ الآية مشترط بالإيمان على التحقيق بالأعمال الصالحات و الاستخلاف إنما هو توريث الأرض والديار والتبقية لأهل الإيمان بعد هلاك الظالمين لهم من الكفار
- قوله تعالى وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ الآية على العموم
- إمامة أمير المؤمنين  باستخلاف الله تعالى له ونصه عليه وأقامه نبيه علما للأمة وإماما لها بصريح المقال
- الإفصاح - الشيخ المفيد  ص 90، 106:

فصل: فإن قال: قد فهمت ما ذكرتموه في هذه وما قبلها من الآي، ولست أرى لأحد حجة في دفعه لوضوحه في البيان، ولكن خبروني عن قوله تعالى في سورة النور: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}. أليس قد ذكر المفسرون أنها في أبي بكر وعمر وعثمان وعلي بن أبي طالب عليه السلام؟! واستدل المتكلمون من مخالفيكم على صحة ذلك، بما حصل لهم من جميع هذه الصفات: فأولها: أنهم كانوا حاضرين لنزولها بدليل كاف المواجهة بلا اختلاف، ثم أنهم كانوا ممن خاف في أول الإسلام، فآمنهم الله تعالى، ومكن لهم في البلاد، وخلفوا النبي صلى الله عليه وآله وأطاعهم العباد، فثبت أنها نزلت فيهم بهذا الضرب من الاعتبار، وإلا فبينوا لنا الوجه في معناها، إن لم يكن الأمر على ما ذكرناه.

قيل له: إن تفسير القرآن لا يؤخذ بالرأي، ولا يحمل على اعتقادات الرجال والأهواء، وما حكيته من ذلك عن المفسرين فليس هو إجماعا منهم، ولا مرجوعا به إلى ثقة ممن تعاطاه ومن ادعاه، ولم يسنده إلى النبي صلى الله عليه وآله، ولا إلى من تجب طاعته على الأنام. وممن فسر القرآن عبد الله بن عباس، والمحكي عنه في تأويل هذه الآية غير ما وصفت بلا تنازع بين حملة الآثار، وكذلك المروي عن محمد بن علي عليهما السلام، وعن عطاء ومجاهد، وإنما ذكر ذلك برأيه وعصبيته مقاتل بن سليمان، وقد عرف نصبه لآل محمد صلى الله عليه وآله وجهله وكثرة تخاليطه في الجبر والتشبيه، وما ضمنته كتبه في معاني القرآن.

على أن المفسرين للقرآن طائفتان: شيعة ، وحشوية، فالشيعة لها في هذه الآية تأويل معروف تسنده إلى أئمة الهدى عليهم السلام، والحشوية مختلفة في أقاويلها على ما ذكرناه، فمن أين يصح إضافة ما ادعوه من التأويل إلى مفسري القرآن جميعا على الإطلاق، لولا عمى العيون وارتكاب العناد؟! فأما ما حكوه في معناها عن المتكلمين منهم، فقد اعتمده جميعهم على ما وصفوه بالاعتبار الذي ذكروه، وهو ضلال عن المراد، وخطأ ظاهر الفساد، من وجوه لا تخفى على من وفق للرشاد: أحدها:

أن الوعد مشترط بالإيمان على التحقيق بالأعمال الصالحات، وليس على ما يذهب إليه مخالفونا من إيمان أصحابهم على الحقيقة، وأنهم كانوا من أصحاب الصالحات بإجماع، ولا دليل يقطع به على الحق عند الله، بل الخلاف في ذلك ظاهر بينهم وبين خصومهم، والمدافعة عن الأدلة على ذلك موجودة كالعيان.

والثاني: أن المراد في الآية بالاستخلاف إنما هو توريث الأرض والديار، والتبقية لأهل الإيمان بعد هلاك الظالمين لهم من الكفار، دون ما ظنه القوم من الاستخلاف في مقام النبوة، وتملك الإمامة وفرض الطاعة على الأنام.

ألا ترى أن الله سبحانه قد جعل ما وعد به من ذلك مماثلا لما فعله بالمؤمنين وبالأنبياء عليهم السلام قبل هذه الأمة في الاستخلاف، وأخبر بكتابه عن حقيقة ذلك وصورته ومعناه، وكان بصريح ما أنزله من القرآن مفيدا لما ذكرناه، من توريث الديار والنعم والأموال عموم المؤمنين دون خصوصهم ومعنى ما بيناه، دون الإمامة التي هي خلافة للنبوة والإمرة والسلطان.

قال الله تعالى في سورة الأعراف: {قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُواْ إِنَّ الأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ * قَالُواْ أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِينَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ}. فبشرهم بصبرهم على أذى الكافرين بميراث أرضهم، والملك لديارهم من بعدهم، والاستخلاف على نعمتهم، ولم يرد بشيء من ذلك تمليكهم مقام النبوة والإمامة على سائر الأمة، بل أراد ما بيناه. ونظير هذا الاستخلاف من الله سبحانه لعباده، ومما هو في معناه، قوله جل اسمه في سورة الأنعام: {وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُم مَّا يَشَاء كَمَآ أَنشَأَكُم مِّن ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ} وليس هذا الاستخلاف من الإمامة وخلافة النبوة في شيء وإنما هو ما قدمنا ذكره ووصفناه. وقوله تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأَرْضِ مِن بَعْدِهِم لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} فإنما أراد بذلك تبقيتهم بعد هلاك الماضين، وتوريثهم ما كانوا فيه من النعم، فجعله من مننه عليهم ولطفه بهم ليطيعوه ولا يكفروا به كما فعل الأولون. ومنه قوله تعالى: {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَأَنفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ} وقد علم كل ذي عقل أن هذا الاستخلاف مباين للعامة في معناه، وقد وفى الله الكريم موعده لأصحاب نبيه صلى الله عليه وآله جميعا في حياته وبعد وفاته، ففتح لهم البلاد، وملكهم رقاب العباد، وأحلهم الديار، وأغنمهم الأموال، فقال عز من قائل: {وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَّمْ تَطَؤُوهَا}.

وإذا كان الأمر على ما وصفناه، ثبت أن المراد بالآية من الاستخلاف ما ذكرناه، ولم يتضمن ذلك الإمامة وخلافة النبوة على ما بيناه، وكان الوعد به عموما لأهل الإيمان بما شرحناه، وبطل ما تعلق به خصومنا في إمامة المتقدمين على أمير المؤمنين عليه السلام ووضح جهلهم في الاعتماد على التأويل الذي حكيناه عنهم للآية لما تلوناه من كتاب الله تعالى وفصلنا وجهه وكشفناه.

وقد حكى هذا المعنى بعينه في تأويل هذه الآية الربيع عن أبي العالية، والحسين بن محمد، عن الحكم، وغيرهما، عن جماعات من التابعين، ومفسري القرآن.

فصل: على أن عموم الوعد بالاستخلاف للمؤمنين الذي عملوا الصالحات من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله، على ما اختصوا به من الصفات في عبادتهم لله تعالى على الخوف والأذى والاستسرار بدين الله جل اسمه، على ما نطق به القرآن، يمنع مما ادعاه أهل الخلاف من تخصيص أربعة منهم دون الجميع، لتناقض اجتماع معاني العموم على الاستيعاب والخصوص، ووجوب دفع أحدهما صاحبه بمقتضى العقول. وإذا ثبت عموم الوعد، وجب صحة ما ذكرناه في معنى الاستخلاف من توريث الديار والأموال، وظهور عموم ذلك لجميعهم في حياة النبي صلى الله عليه وآله وبعده بلا اختلاف، بطل ما ظنه الخصوم في ذلك وتأولوه على المجازفة، والعدول عن النظر الصحيح.

فصل: فإن قال منهم قائل: إن الآية وإن كان ظاهرها العموم، فالمراد بها الخصوص، بدليل وجود الخلافة فيمن عددناه دون الجميع. وعلى هذا يعتمد متكلموهم.

قيل له: أحلت في ذلك من قبيل أنك إنما أوجبت لأصحابك الإمامة، وقضيت لهم بصحة الخلافة بالآية، وجعلتها ملجأ لك في حجاج خصومك، ودفعهم عما وصفوا به من فساد عقلك، فلما لم يتم لك مرادك من الآية، بما أوجبه عليك عمومها بظاهرها، ودليل متضمنها، عدلت إلى تصحيح تأويلك منها، بادعاء ما تورعت فيه من خلافة القوم، وثبوت إمامتهم، الذي أفقرك عدم البرهان عليه إلى تصحيحه عندك بالآية، فصرت دالا على وجوده معنى تنازع فيه بوجود شيء تتعلق صحة وجوده بوجود ما دفعت عن وجوده، وهذا تناقض من القول، وخبط أوجبه لك الضلال، وأوقعك فيه التقليد والعصبية للرجال، نعوذ بالله من الخذلان.

ثم يقال له: خبرنا عما تدعيه من استخلاف الله تعالى لأئمتك على الأنام، وصحة إمامتهم على ما زعمت فيما سلف لك من الكلام، أبظاهر أمرهم ونهيهم وتملكهم علمت ذلك، وحكمت به على القطع والثبات، أم بظاهر الآية ودليلها على ما قدمت من الاعتبار، أم بغير ذلك من ضروب الاستدلال؟.

فإن قال: بظاهر أمرهم ونهيهم في الأمة، ورئاستهم الجماعة، ونفوذ أمرهم وأحكامهم في البلاد، علمت ذلك وقطعت به على أنهم خلفاء الله تعالى: والأئمة بعد رسوله عليه السلام. وجب على وفور هذه العلة القطع بصحة إمامة كل من ادعى خلافة الرسول صلى الله عليه وآله، ونفذت إحكامه وقضاياه في البلاد، وهذا ما لا يذهب إليه أحد من أهل الإيمان.

وإن قال: إنما علمت صحة خلافتهم بالآية ودلائلها على الاعتبار.

قيل له: ما وجه دلالة الآية على ذلك، وأنت دافع لعمومها في جميع أهل الإيمان، وموجب خصوصها بغير معنى في ظاهرها، ولا في باطنها، ولا مقتضاها على الأحوال؟ فلا يجد شيئا يتعلق به فيما ادعاه.

وإن قال: إن دلالتي على ما ادعيت من صحة خلافتهم معنى غير الآية نفسها، بل من الظاهر من أمر القوم ونهيهم، وتأمرهم على الأنام. خرجت الآية عن يده، وبانت فضيحته فيما قدره منها وظنه في تأويلها وتمناه، وهذا ظاهر بحمد الله.

فصل: مع أنا لو سلمنا لهم في معنى الاستخلاف أن المراد في الآية ما ذكروه من إمامة الأنام، لما وجب به ما ذهبوا إليه من صحة خلافة المتقدمين على أمير المؤمنين عليه السلام بل كانت الآية نفسها شاهدة بفساد أمرهم وانتقاضه على البيان، وذلك أن الله جل اسمه وعد المؤمنين من أصحاب نبيه صلى الله عليه وآله بالاستخلاف، ثوابا لهم على الصبر والإيمان، والاستخلاف من الله تعالى للأئمة لا يكون استخلاف من العباد، ولما ثبت أن أبا بكر كان منصوبا باختيار عمر وأبي عبيدة بن الجراح، وعمر باستخلاف أبي بكر دون النبي صلى الله عليه وآله، وعثمان باختيار عبد الرحمن، فسد أن يكونوا داخلين تحت الوعد بالاستخلاف، لتعريهم من النص بالخلافة من الله تعالى، وإقرار مخالفينا إلا من شذ منهم أن إمامتهم كانت باختيار، وثبت أن الآية كانت مختصة بأمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام دونهم، لإجماع شيعته على أن إمامته باستخلاف الله تعالى له، ونصه عليه، وأقامه عليه السلام نبيه صلى الله عليه وآله علما للأمة وإماما لها بصريح المقال.

فصل آخر: ويقال لهم: ما تنكرون أن يكون خروج أبي بكر وعمر وعثمان من الخوف في أيام النبي صلى الله عليه وآله يخرجهم عن الوعد بالاستخلاف، لأنه إنما توجه إلى من كان يلحقه الخوف من أذى المشركين، وليس له مانع منهم، كأمير المؤمنين عليه السلام وما مني به النبي صلى الله عليه وآله وعمار وأمه وأبيه، والمعذبين بمكة، ومن أخرجهم النبي صلى الله عليه وآله، مع جعفر بن أبي طالب إلى بلاد الحبشة لما كان ينالهم من الفتنة والأذى في الدين.

فأما أبو بكر فإن الشيعة تذكر أنه لم يكن خائفا في حياة النبي صلى الله عليه وآله لأسباب نحن أغنياء عن شرحها، وأنتم تزعمون أن الخوف مرتفع عنه لعزته في قريش ومكانه منهم وكثرة ماله واتساع  جاهه، وإعظام القوم له لسنه وتقدمه، حتى أنه كان يجير ولا يجار عليه، ويؤمن ولا يحتاج إلى أمان، وزعمتم إنه اشترى تسعة نفر من العذاب.

وأن عمر بن الخطاب لم يخف قط، ولا هاب أحدا من الأعداء، وأنه جرد سيفه عند إسلامه، وقال: لا يعبد الله اليوم سرا. ثقة بنفسه، وطمأنينة إلى سلامته، وأمنا من الغوائل، وأنه لن يقدم عليه أحد بسوء، لعظم رهبة الناس منه وإجلالهم لمكانه.

وأن عثمان بن عفان كان آمنا ببني أمية، وهم ملاك الأمر إذ ذاك. فكيف يصح لكم مع هذا القول أن تستدلوا بالآية على صحة خلافتهم ودخولهم تحت الوعد بالاستخلاف، وهم من الوصف المنافي لصفات الموعودين بالاستخلاف على ما ذكرناه، لولا أنكم تخبطون فيما تذهبون إليه خبط عشواء؟!.

فصل: ويقال لهم: أليس يمكنكم إضافة ما تلوتموه من هذه الآية في أئمتكم إلى صادق عن الله تعالى فيجب العمل به، وإنما أسندتم قولكم فيه إلى ضرب من الرأي والاعتبار الفاسد بما أوضحناه.

وقد ورد عن تراجمة القرآن من آل محمد صلى الله عليه وآله في تأويلها ما هو أشبه من تأويلكم وأولى بالصواب، فقالوا: إنها نزلت في عترة النبي صلى الله عليه وآله وذريته الأئمة الأطهار عليهم السلام وتضمنت البشارة لهم بالاستخلاف، والتمكن في البلاد، وارتفاع الخوف عنهم عند قيام المهدي منهم، فكانوا عليهم السلام هم المؤمنين العاملين الصالحات، بعصمتهم من الزلات.

وهم أحق بالاستخلاف على الأنام ممن عداهم، لفضلهم على سائر الناس، وهم المدالون على أعدائهم في آخر الزمان، حتى يتمكنوا في البلاد، ويظهر دين الله تعالى بهم ظهورا لا يستخفي على أحد من العباد، ويأمنون بعد طول خوفهم من الظالمين المرتكبين في أذاهم الفساد، وقد دل القرآن على ذلك وجاءت به الأخبار: قال الله عز وجل: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ}. وقال تعالى: {وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ}. وقال تعالى: {وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا}. وكل هذه أمور منتظرة، غير ماضية ولا موجودة في الحال. ومثلهم فيما بشرهم الله تعالى به من ذلك ما تضمنه قوله تعالى: { وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ} وقوله تعالى في بني إسرائيل: {ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا}. ومما أنزله فيهم سوى المثل لهم عليه السلام قوله تعالى: {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ}.

فصار معاني جميع ما تلوناه راجعا إلى الإشارة إليهم عليهم السلام بما ذكرناه. ويحقق ذلك ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله على الاتفاق من قوله: "لن تنقضي الأيام والليالي حتى يبعث الله رجلا من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي، يملأها قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا".

وأما ما تعلقوا به من كاف المواجهة، فإنه لا يخل بما شرحناه في التأويل من آل محمد عليهم السلام لأن القائم من آل محمد والموجود من أهل بيته في حياته هم من المواجهين في الحقيقة والنسب والحسب، وإن لم يكن من أعيانهم، فإذا كان منهم بما وصفناه، فقد دخل تحت الخاطب، وبطل ما توهم أهل الخلاف.

فصل: على أنه يقال لهم: ما الفصل بينكم فيما تأولتم به هذه الآية وبين من تأولها خلاف تأويلكم، فأوجب حكمها في غير من سميتم، ولجأ في صحة مقاله إلى مثل عيوبكم، فقال: إن الله جل اسمه بشر في هذه الآية بالاستخلاف أبا سفيان صخر بن حرب، ومعاوية ويزيد ابني أبي سفيان، وذلك أني قد وجدتهم انتظموا صفات الموعودين بالاستخلاف، وكانوا من الخائفين عند قوة الإسلام لخلافهم على النبي صلى الله عليه وآله، فتوجه إليهم الوعد من الله سبحانه بالأمن من الخوف، بشرط الانتقال إلى الإيمان، واستئناف الأعمال الصالحات، والاستخلاف بعد ذلك، والتمكين لهم في البلاد، ثوابا لهم على طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وآله، وترغيبا لهم في الإيمان، فأجابوا الله تعالى إلى ما دعاهم إليه، وأذعنوا بالإسلام، وعملوا الصالحات، فأمنوا من المخوفات. واستخلفهم النبي صلى الله عليه وآله في حياته، كانوا من بعده خلفاء لخلفائه الراشدين، ألا ترى أن رسول الله صلى الله عليه وآله استخلف أبا سفيان على سبي الطائف، وهم يومئذ ستة آلاف إنسان، واستعمله من بعد ذلك على نجران فلم يزل عامله عليها حتى قبض رسول الله صلى الله عليه وآله، وهو خليفته فيها من غير عزل له ولا استبدال. واستعمل أيضا صلوات الله عليه يزيد بن أبي سفيان على صدقات أخواله بني فراس بن غنم، فجباها وقدم بها إلى رسول الله صلى الله عليه وآله، فلقيه أبوه أبو سفيان فطلب منه مال الصدقات، فأبى أن يعطيه، فقال: إذا صرت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله أخبره بذلك، فأخبره فقال له: "خذ المال فعد به إلى أبيك". فسوغه مال الصدقات كله، صلة لرحمه، وإكراما له، وتمييزا له من كافة أهل الإسلام.

واستعمل رسول الله صلى الله عليه وآله على كتابته معاوية، وكان والي خليفتيه من بعده عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان، وولى أبو بكر يزيد ابن أبي سفيان ربع أجناد الشام، وتوفي وهو خليفته على ذلك، فأقره عمر بن الخطاب إلى أن مات خلافته.

وإذا كان أبو سفيان ومعاوية ويزيد ابناه على ظاهر الإسلام والإيمان والعمل الصالح، وكان لهم من الخلافة في الإسلام ما وصفناه، ثم الذي حصل لمعاوية من الإمرة بعد أمير المؤمنين عليه السلام، وبيعة الحسن بن علي عليه السلام، وتسليم الأمر إليه، حتى سمي عامه (عام الجماعة) للاتفاق، ولم يسم عام أحد من الخلفاء قبله بذلك، ثبت أنهم المعنيون في الآية ببشارة الاستخلاف، دون من ادعيتم له ذلك بمعنى الاستدلال على ما انتظمتموه من الاعتبار. وهذا أشبه من تأويل المعتزلة للآية في أبي بكر وعمر وعثمان، وهو ناقض لمذاهبهم، ومضاد لاعتقاداتهم، ولا فضل لأحد منهم فيه إلا أن يرجع في العبرة إلى ما شرحناه، أو يعتمد في التفسير على الأثر حسبما قدمناه، فيبطل حينئذ توهمه فيما تأوله على ما بيناه، والحمد لله.

فصل: ثم يقال لهم أيضا: ألستم تعلمون أن الوليد بن عقبة بن أبي معيط وعبد الله بن أبي سرح قد كانا واليين على المسلمين من قبل عثمان بن عفان، وهو إمام عدل عندكم مرضي الفعال، وقد كان مروان ابن الحكم كذلك، ثم خطب له على المنابر في الإسلام بإمرة المؤمنين، كما خطب لعمر بن الخطاب وعثمان بن عفان، وكذلك أيضا ابنه عبد الملك، ومن بعده من بني أمية، قد حكموا في العباد وتمكنوا في البلاد، فبأي شيء تدفعون صرف معنى الآية إليهم، والوعد بالاستخلاف لهم، وإدخالهم في جملة من سميتموه، وزعمتم أنهم أئمة عدل خلفاء، واعتمدتم في صحة ذلك على ما ذكرناه في أمر أبي سفيان ومعاوية ويزيد ابنيه حسبما شرحناه؟!. فلا يجدون مهربا من ذلك بما قدمناه على الترتيب الذي رسمناه، وكذلك السؤال عليهم في عمرو بن العاص وأبي موسى الأشعري، فإنهما ممن كان على ظاهر الإسلام، والعمل الصالح عند الجمهور من الناس، وكانا من المواجهين بالخطاب، وممن خاف في صدر الإسلام، وحصلت لهما ولآيات في حياة رسول الله صلى الله عليه وآله، وخلافة له، ولخلفائه على أصولهم بغير إشكال، وليس يمكن لخصومنا دفع التأويل فيهما بما يتعلقون به في أمية وبني مروان من الخروج عن الخوف في صدر الإسلام، وهذا كله تخليط ورطهم الجهل فيه بدين الله تعالى، والعداوة لأوليائه عليهم السلام.

- قوله تعالى قُل لِّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِن تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا دلالته على إمامة أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب أولى من أن يكون دلالة على إمامة من تقدمه
- الإفصاح - الشيخ المفيد  ص 114، 117:

فصل: على أنا لو سلمنا لهم تسليم نظر ما توهموه من تضمن الآية لوجوب طاعة داع للمخلفين من الأعراب إلى القتال بعد النبي صلى الله عليه وآله على ما اقترحوه، واعتبرنا فيما ادعوه من ذلك لأبي بكر وعمر وعثمان بمثل ما اعتبروه، لكان بأن يكون دلالة على إمامة أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب عليه السلام أولى من أن يكون دلالة على إمامة من ذكروه، وذلك أن أمير المؤمنين عليه السلام قد دعا بعد النبي صلى الله عليه وآله إلى قتال الناكثين بالبصرة والقاسطين بالشام والمارقين بالنهروان، واستنفر الكافة إلى قتالهم وحربهم وجهادهم، حتى ينقادوا بذلك إلى دين الله تعالى الذي فارقوه، ويخرجوا به عن الضلال الذي اكتسبوه، وقد علم كل من سمع الأخبار ما كان من شدة أصحاب الجمل وصبرهم عند اللقاء، حتى قتل بين الفريقين على قول المقل عشرة آلاف إنسان. وتقرر عند أهل العلم أنه لم تر حرب في جاهلية ولا إسلام أصعب ولا أشد من حرب صفين، ولا سيما ما جرى من ذلك ليلة الهرير، حتى فات أهل الشام فيها الصلاة، وصلى أهل العراق بالتكبير والتهليل والتسبيح، بدلا من الركوع والسجود والقراءة، لما كانوا عليه من الاضطرار بتواصل اللقاء في القتال، حتى كلت السيوف بينهم لكثرة الضراب، وفنى النبل، وتكسرت الرماح بالطعان، ولجأ كل امرئ منهم عند عدم سلاحه إلى قتال صاحبه بيده وفمه، حتى هلك جمهورهم بما وصفناه، وانكشفت الحرب بينهم عن قتل نيف وعشرين ألف إنسان على قول المقل أيضا، وضعف هذا العدد أو قريب من الضعف على قول آخرين بحسب اختلافهم في الروايات. فأما أهل النهروان، فقد بلغ وظهر من شدتهم وبأسهم وصبرهم على القتال مع أمير المؤمنين عليه السلام بالبصرة والشام، ما لم يرتب فيه من أهل العلم اثنان، وظهر من إقدامهم بعد التحكيم على قتل النفوس والاستسلام للموت والبأس والنجدة ما يغني أهل العلم به عن الاستدلال عليه، والاستخراج لمعناه، ولو لم يدل على عظم بأسهم وشدتهم في القتال إلا أنهم كانوا بالاتفاق أربعة آلاف إنسان، فصبروا على اللقاء حتى قتل سائرهم سوى أربعة أنفس شذوا منهم على ما جاءت به الأخبار. ولم يجر أمر أبي بكر وعمر في الدعوة مجرى أمير المؤمنين عليه السلام لأنهما كانا مكتفيين بطاعة الجمهور لهما، وانقياد الجماعات إلى طاعتهما، وعصبية الرجال لهما، فلم يظهر من دعائهما إلى قتال من سير إليه الجيوش ما ظهر من أمر أمير المؤمنين عليه السلام في الاستنفار والترغيب في الجهاد والترهيب من تركه والاجتهاد في ذلك والتكرير له حالا بعد حال، لتقاعد الجمهور عن نصرته، وخذلان من خذله من أعداء الله الشاكين في أمره والمعاندين له، وما مني به من تمويه خصومه وتعلقهم في استحلال قتاله بالشبهات.

ثم لم يبن من شدة أهل الردة وفارس مثل ما ذكرناه من أهل البصرة والشام والنهروان على ما شرحناه، بل ظهر منهم خلاف ذلك، لسرعة انفضاضهم عمن لقيهم من أهل الإسلام، وتفرقهم وهلاكهم بأهون سعي، وأوحى مدة، وأقرب مؤنة، على ما تواترت به الآثار، وعلمه كافة من سمع الأخبار، فبان بما وصفناه أننا مع التسليم للخصوم بما ادعوه في معنى الآية، وباعتبارهم الذي اعتمدوه، أولى بالحجة منهم في صرف تأويلها إلى إمامة أمير المؤمنين عليه السلام، دون من سموه على ما قدمناه.

ولو تكافأ القولان، ولم يكن لأحدهما رجحان على صاحبه في البرهان، لكانت المكافأة مسقطه لما حكموا به من تخصيص أبي بكر وعمر ، بدلالة الآية على الترتيب الذي أصلوا الكلام عليه في الاستدلال، وهذا ظاهر جلي ولله الحمد.

- الآية فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ الآية خاصة لأمير المؤمنين
- الإفصاح - الشيخ المفيد  ص 131، 137:

فصل: فإن قال : قد قطعتم عذري في الجواب عما تعلق به خصماؤكم من تأويل هذه الآية، وأزلتم بحمد الله ما اشتبه علي من مقالهم فيها، ولكن كيف يمكنكم تأويل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}.

وقد علمتم أنه لم يقاتل المرتدين بعد النبي صلى الله عليه وآله إلا أبو بكر، فوجب أن يكون إماما وليا لله تعالى بما ضمنه التنزيل، وهذا ما لا نرى لكم عنه محيصا؟!.

قيل له: قد بينا فيما سلف وجه التأويل لهذه الآية، وذكرنا عن خيار الصحابة أنها نزلت في أهل البصرة، بما رويناه عن حذيفة بن اليمان وعمار بن ياسر، وقد جاءت الأخبار بمثل ذلك عن أمير المؤمنين عليه السلام، ووردت بمعناه عن عبد الله بن مسعود، ودللنا أيضا على كفر محاربي أمير المؤمنين عليه السلام بما لا يخفى الصواب فيه على ذوي الإنصاف، وذلك موجب لردتهم عن الدين الذي دعا الله تعالى إليه العباد، فبطل صرف تأويلها عن هذا الوجه إلى ما سواه.

فصل: مع أن متضمن الآية وفوائدها وما يتصل بها مما بعدها يقضي بتوجهها إلى أمير المؤمنين عليه السلام، فإنه المعني بالمدحة فيها، والمشار إليه في جهاد المرتدين دون من ظنوه بغير بصيرة وتوهموه. وذلك أن الله سبحانه توعد المرتدين عن دينه بالانتقام منهم بذي صفات مخصوصة بينها في كتابه، وعرفها كافة عباده، بما يوجب لهم العلم بحقائقها، وكانت بالاعتبار الصحيح خاصة لأمير المؤمنين عليه السلام دون المدعى له ذلك بما لا يمكن دفعه إلا بالعناد:

فأولها: وصفهم بأنهم يحبون الله تعالى ويحبهم الله. وقد علم كل من سمع الأخبار اختصاص أمير المؤمنين عليه السلام بهذا الوصف من الرسول صلى الله عليه وآله، وشهادته له به يوم خيبر حيث يقول: "لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، كرارا غير فرار، لا يرجع حتى يفتح الله على يديه"  فأعطاها عليا عليه السلام، ولم يرد خبر ولا جاء أثر بأنه صلى الله عليه وآله وصف أبا بكر ولا عمر ولا عثمان بمثل ذلك في حال من الأحوال، بل مجيء هذا الخبر بوصف أمير المؤمنين عليه السلام بذلك عقيب ما كان من أبي بكر وعمر في ذلك اليوم من الانهزام، وإتباعه بوصف الكرار دون الفرار، موجب لسلب الرجلين معنى هذه المدحة كما سلبهما مدحة الكر، وألزمهما ذم الفرار.

وثانيها: وصف المشار إليه في الآية باللين على المؤمنين والشدة على الكافرين، حيث يقول جل اسمه: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ}. وهذا وصف لا يمكن أحدا دفع أمير المؤمنين عليه السلام عن استحقاقه بظاهر ما كان عليه من شدته على الكافرين، ونكايته في المشركين، وغلظته على الفاسقين، ومقاماته المشهورة في تشييد الملة ونصرة الدين، ورأفته بالمؤمنين، ورحمته للصالحين. ولا يمكن أحدا ادعاؤه لأبي بكر إلا بالعصبية، أو الظن دون اليقين، لأنه لم يعرف له قتيل في الإسلام، ولا بارز قرنا، ولم ير له موقف عني فيه بين يدي النبي صلى الله عليه وآله، ولا نازل بطلا، ولا سفك بيده لأحد المشركين دما، ولا كان له فيهم جريح، ولم يزل من قتالهم هاربا، ومن حربهم ناكلا، وكان على المؤمنين غليظا، ولم يكن بهم رحيما. ألا ترى ما فعله بفاطمة سيدة نساء العالمين عليه السلام وما أدخله من الذل على ولدها، وما صنع بشيعتها، وما كان من شدته على صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله وعامله على الصدقات، ومن كان في حيزه من المسلمين حتى سفك دماءهم بيد المنافق الرجيم، واستباح حريمهم بما لا يوجب ذلك في الشرع والدين. فثبت أنه كان من الأوصاف على ضد ما أوجبه الله تعالى في حكمه لمن أخبر عن الانتقام به من المرتدين.

ثم صرح تعالى فيما أوصله بالآية من الذكر الحكيم ينعت أمير المؤمنين عليه السلام، وأقام البرهان الجلي على أنه عناه بذلك وأراده خاصة، بما أشار به من صفاته التي تحقق بالإنفراد بها من العالمين. فقال جل اسمه: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَن يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ}. فصارت الآية متوجهة إلى أمير المؤمنين عليه السلام بدلالة متضمنها، وما اتصل بها على حسب ما شرحناه، وسقط توهم المخالف فيما ادعاه لأبي بكر على ما بيناه.

فصل: ويؤيد ذلك إنذار رسول الله صلى الله عليه وآله قريشا بقتال أمير المؤمنين عليه السلام لهم من بعده، حيث جاءه سهيل بن عمرو في جماعة منهم، فقالوا: يا محمد، إن أرقاءنا لحقوا بك فأرددهم علينا. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: "لتنتهن -يا معشر قريش- أو ليبعثن الله عليكم رجلا يضربكم على تأويل القرآن كما ضربتكم على تنزيله". فقال له بعض أصحابه: من هو -يا رسول الله- أبو بكر؟! فقال: "لا" فقال: فعمر؟! فقال: "لا، ولكنه خاصف النعل في الحجرة" وكان علي عليه السلام يخصف نعل رسول الله صلى الله عليه وآله في الحجرة. وقوله صلى الله عليه وآله لأمير المؤمنين عليه السلام: "تقاتل بعدي الناكثين والقاسطين والمارقين". وقول الله عز وجل: {فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُم مُّنتَقِمُونَ}. وهي في قراءة عبد الله بن مسعود: "منهم بعلي منتقمون" وبذلك جاء التفسير عن علماء التأويل. وإذا كان الأمر على ما وصفناه، ولم يجر لأبي بكر وعمر في حياة النبي صلى الله عليه وآله ما ذكرناه، فقد صح أن المراد بمن ذكرناه أمير المؤمنين عليه السلام خاصة على ما بيناه.

وقد صح أنه المراد بقوله تعالى: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} على ما فصلنا القول به من انتظام الكلام ودلالة معانيه، وما في السنة مما بينا الغرض فيه وشرحناه.

فصل: على أنا متى حققنا النظر في متضمن هذه الآية، ولم نتجاوز المستفاد من ظاهرها، وتأويله على مقتضى اللسان إلى القرائن من الأخبار على نحو ما ذكرناه آنفا، لم نجد في ذلك أكثر من الأخبار بوجود بدل من المرتدين في جهاد من فرض الله جهاده من الكافرين، على غير تعيين لطائفة من مستحقي القتال، ولا عموم الجماعة بما يوجب استغراق الجنس في المقال.

ألا ترى لو أن حكيما أقبل على عبيد له، وقال لهم: يا هؤلاء، من يعصني منكم ويخرج عن طاعتي فسيغنيني الله عنه بغيره ممن يطيعني، ويجاهد معي على الإخلاص في النصحية لي، ولا يخالف أمري. لكان كلامه هذا مفهوما مفيدا لحث عبيده على طاعته، وإخباره بغناه عنهم عند مخالفتهم، ووجود من يقوم مقامهم في طاعته على أحسن من طريقتهم، ولم يفد بظاهره ولا مقتضاه الأخبار بوجود من يجاهدهم أنفسهم على القطع، وإن كان محتملا لوعيدهم بالجهاد على الجواز له دون الوجوب لموضع الإشارة بذكر الجهاد إلى مستحقه. وهذا هو نظير الآية فيما انطوت عليه، ومماثل ألفاظها فيما تفضي إليه، ومن ادعى فيه خلاف ما ذكرناه لم يجد إليه سبيلا، وإن رام فيه فصلا عجز عن ذلك، ورجع بالخيبة حسيرا، ومن الله نسأل التوفيق.

- في الداخلين في المدح والخارجين عنه في قوله تعالى مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ الآية
- الإفصاح - الشيخ المفيد  ص 139، 149:

فصل: فإن قال: أفليس الله تعالى يقول في سورة الفتح: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ}. وقد علمت الكافة أن أبا بكر وعمر وعثمان من وجوه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله، ورؤساء من كان معه، وإذا كانوا كذلك فهم أحق الخلق بما تضمنه القرآن من وصف أهل الإيمان، ومدحهم بالظاهر من البيان، وذلك مانع من الحكم عليهم بالخطأ والعصيان؟!.

قيل لهم: إن أول ما نقول في هذا الباب أن أبا بكر وعمر وعثمان ومن تضيفه الناصبة إليهم في الفضل كطلحة والزبير وسعد وسعيد وأبي عبيدة وعبد الرحمن لا يتخصصون من هده المدحة بما خرج عنه أبو هريرة وأبو الدرداء، بل لا يتخصصون بشيء لا يعم عمرو بن العاص وأبا موسى الأشعري والمغيرة بن شعبة وأبا الأعور السلمي ويزيد ومعاوية بن أبي سفيان، بل لا يختصون منه بشيء دون أبي سفيان صخر بن حرب وعبد الله بن أبي سرح والوليد بن عقبة بن أبي معيط والحكم بن أبي العاص ومروان بن الحكم وأشباههم من الناس، لأن كل شيء أوجب دخول من سميتهم في مدحة اقرآن، فهو موجب دخول من سميناه، وعبد الله بن أبي سلول ومالك بن نويرة وفلان وفلان. إذ أن جميع هؤلاء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله ومن كان معه، ولأكثرهم من النصرة للإسلام والجهاد بين يدي النبي صلى الله عليه وآله والآثار الجميلة والمقامات المحمودة ما ليس لأبي بكر وعمر وعثمان، فأين موضع الحجة لخصومنا في فضل من ذكره على غيره من جملة من سميناه، وما وجه دلالتهم منه على إمامتهم، فإنا لا نتوهمه، بل لا يصح أن يدعيه أحد من العقلاء؟!.

فصل: ثم يقال لهم: خبرونا عما وصف الله تعالى به من كان مع نبيه صلى الله عليه وآله بما تضمنه القرآن، أهو شامل لكل من كان معه عليه الصلاة والسلام في الزمان، أم في الصقع والمكان، أم في ظاهر الإسلام، أم في ظاهره وباطنه على كل حال، أم الوصف به علامة تخصيص مستحقه بالمدح دون من عداه، أم لقسم آخر غير ما ذكرناه؟ فإن قالوا: هو شامل لكل من كان مع النبي صلى الله عليه وآله في الزمان أو المكان أو ظاهر الإسلام، ظهر سقوطهم وبان جهلهم وصرحوا بمدح الكفار وأهل النفاق، وهذا ما لا يرتكبه عاقل. وإن قالوا: إنه يشمل كل من كان معه على ظاهر الديانة وباطنها معا دون من عددتموه من الأقسام.

قيل لهم: فدلوا على أئمتكم وأصحابكم، ومن تسمون من أوليائكم، أنهم كانوا في باطنهم على مثل ما أظهروه من الإيمان، ثم ابنوا حينئذ على هذا الكلام، وإلا فأنتم مدعون ومتحكمون بما لا تثبت معه حجة، ولا لكم عليه دليل، وهيهات أن تجدوا دليلا يقطع به على سلامة بواطن القوم من الضلال، إذ ليس به قرآن ولا خبر عن النبي صلى الله عليه وآله، ومن اعتمد فيه على غير هذين فإنما اعتمد على الظن والحسبان.

وإن قالوا: إن متضمن القرآن من الصفات المخصوصة إنما هي علامة على مستحقي المدحة من جماعة مظهري الإسلام دون أن تكون منتظمة لسائرهم على ما ظنه الجهال.

قيل لهم: فدلوا الآن على من سميتموه كان مستحقا لتلك الصفات، لتتوجه إليه المدحة ويتم لكم فيه المراد، وهذا ما لا سبيل إليه حتى يلج الجميل في سم الخياط.

فصل: ثم يقال لهم: تأملوا معنى الآية، وحصلوا فائدة لفظها، وعلى أي وجه تخصص متضمنها من المدح، وكيف مخرج القول فيها؟ تجدوا أئمتكم أصفارا مما ادعيتموه لهم منها، وتعلموا أنهم باستحقاق الذم وسلب الفضل بدلالتها منهم بالتعظيم والتبجيل من مفهومها، وذلك أن الله تعالى ميز مثل قوم من أصحاب نبيه صلى الله عليه وآله في كتبه الأولى، وثبوت صفاتهم بالخير والتقى في صحف إبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام، ثم كشف عنهم بما ميزهم به من الصفات التي تفردوا بها من جملة المسلمين، وبانوا بحقيقتها عن سائر المقربين. فقال سبحانه: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنجِيلِ}. وكأن تقدير الكلام: إن الذين بينت أمثالهم في التوراة والإنجيل من جملة أصحابك ومن معك -يا محمد- هم أشداء على الكفار، والرحماء بينهم الذين تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا.

وجرى هذا في الكلام مجرى من قال: زيد بن عبد الله إمام عدل، والذين معه يطيعون الله، ويجاهدون في سبيل الله، ولا يرتكبون شيئا مما حرم الله وهم المؤمنون حقا دون من سواهم، إذ هم أولياء الله الذين تجب مودتهم دون من معه ممن عداهم، وإذا كان الأمر على ما وصفناه، فالواجب أن تستقرئ الجماعة في طلب هذه الصفات، فمن كان عليها منهم فقد توجه إليه المدح وحصل له التعظيم، ومن كان على خلافها فالقرآن إذن منبه على ذمه، وكاشف عن نقصه، ودال على موجب لومه، ومخرج له عن منازل التعظيم. فنظرنا في ذلك واعتبرناه، فوجدنا أمير المؤمنين عليه السلام وجعفر بن أبي طالب وحمزة بن عبد المطلب وعبيدة بن الحارث وعمار بن ياسر والمقداد بن الأسود وأبا دجانة -وهو سماك بن خرشة الأنصاري- وأمثالهم من المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم، قد انتظموا صفات الممدوحين من الصحابة في متضمن القرآن. وذلك أنهم بارزوا من أعداء الملة الأقران، وكافحوا منهما الشجعان، وقتلوا منهم الأبطال، وسفكوا في طاعة الله سبحانه دماء الكفار، وبنوا بسيوفهم قواعد الإيمان، وجلوا عن نبيهم صلى الله عليه وآله الكرب والأحزان، وظهر بذلك شدتهم على الكفار، كما وصفهم الله تعالى في محكم القرآن، وكانوا من التواصل على أهل الإسلام والرحمة بينهم على ما ندبوا إليه، فاستحقوا الوصف في الذكر والبيان. فأما إقامتهم الصلاة وابتغاؤهم من فضل الله تعالى القربات، فلم يدفعهم عن علو الرتبة في ذلك أحد من الناس، فثبت لهم حقيقة المدح لحصول مثلهم فيما أخير الله تعالى عنهم في متقدم الكتب، واستغنينا بما عرفنا لهم مما شرحناه في استقراء غيرهم، ممن قد ارتفع في حاله الخلاف، وسقط الغرض بطلبه على الاتفاق.

ثم نظرنا فيما ادعاه الخصوم لأجل أئمتهم وأعظمهم قدرا عندهم من مشاركة من سميناه فيما ذكرنا من الصفات وبيناه، فوجدنا هم على ما قدمناه من الخروج عنها واستحقاق أضدادها على ما رسمناه. وذلك أنه لم يكن لأحد منهم مقام في الجهاد، ولا عرف لهم قتيل من الكفار، ولا كلم كلاما في نصرة الإسلام، بل ظهر منه الجزع في مواطن القتال، وفر في يوم خيبر واحد وحنين، وقد نهاهم الله تعالى عن الفرار، وولوا الأدبار مع الوعيد لهم على ذلك في جلي البيان، وأسلموا النبي صلى الله عليه وآله للحتوف  في مقام بعد مقام، فخرجوا بذلك عن الشدة على الكفار، وهان أمرهم على أهل الشرك والضلال، وبطل أن يكونوا من جملة المعنين بالمدحة في القرآن ولو كانوا على سائر ما عدا ما ذكرناه من باقي الصفات، وكيف وأنى يثبت لهم شيء منها بضرورة ولا استدلال، لأن المدح إنما توجه إلى من حصل له مجموع الخصال في الآية دون بعضها، وفي خروج القوم من البعض بما ذكرناه مما لا يمكن دفعه إلا بالعناد وجوب الحكم عليهم بالذم بما وصفناه؟! وهذا بين جلي والحمد لله.

فصل: ثم يقال لهم: قد روى مخالفوكم عن علماء التفسير من آل محمد عليهم السلام أن هذه الآية إنما نزلت في أمير المؤمنين والحسن والحسين والأئمة عليهم السلام من بعدهم خاصة دون سائر الناس، وروايتهم لما ذكرنا عمن سمينا أولى بالحق والصواب مما ادعيتموه بالتأويل والظن الحسبان والرأي، لإسنادهم مقالتهم في ذلك إلى من ندب النبي صلى الله عليه وآله إلى الرجوع إليه عند الاختلاف، وأمر باتباعه في الدين، وأمن متبعه من الضلال. ثم إن دليل القرآن يعضده البيان، وذلك إن الله تعالى أخبر عمن ذكره بالشدة على الكفار، والرحمة لأهل الإيمان، والصلاة له، والاجتهاد في الطاعات، بثبوت صفته في التوراة والإنجيل، وبالسجود لله تعالى وخلع الأنداد، ومحال وجود صفة ذلك لمن سجوده للأوثان، وتقربه للات والعزى دون الله الواحد القهار، لأنه يوجب الكذب في المقال، أو المدحة بما يوجب الذم من الكفر والعصيان.

وقد اتفقت الكافة على أن أبا بكر وعمر وعثمان وطلحة والزبير وسعدا وسعيدا وأبا عبيدة وعبد الرحمن قد عبدوا قبل بعثة النبي صلى الله عليه وآله الأصنام، وكانوا دهرا طويلا يسجدون للأوثان من دون الله تعالى، ويشركون به الأنداد، فبطل أن تكون أسماؤهم ثابتة في التوراة والإنجيل بذكر السجود على ما نطق به القرآن. وثبت لأمير المؤمنين والأئمة من ذريته عليهم السلام ذلك، للاتفاق على أنهم لم يعبدوا قط غير الله تعالى، ولا سجدوا لأحد سواه، وكان مثلهم في التوراة والإنجيل واقعا موقعه على ما وصفناه، مستحقا به المدحة قبل كونه لما فيه من الإخلاص لله سبحانه على ما بيناه. ووافق دليل ذلك برهان الخبر عمن ذكرناه من علماء آل محمد صلوات الله عليهم، بما دل به النبي صلى الله عليه وآله من مقاله الذي اتفق العلماء عليه، وهذا أيضا مما لا يمكن التخلص منه مع الإنصاف.

فصل على أنه يقال لهم : خبرونا عن طلحة والزبير، أهما داخلان في جملة الممدوحين بقوله تعالى: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ} إلى آخره، أم غير داخلين في ذلك؟ فإن قالوا: لم يدخل طلحة والزبير ونحوهما في جملة القوم. خرجوا من مذاهبهم، وقيل لهم: ما الذي أخرجهم من ذلك وأدخل أبا بكر وعمر وعثمان، فكل شيء تدعونه في استحقاق الصفات، فطلحة والزبير أشبه أن يكونا عليها منهم، لما ظهر من مقاماتهم في الجهاد الذي لم يكن لأبي بكر وعمر وعثمان فيه ذكر على جميع الأحوال؟! فلا يجدون شيئا يعتمدون عليه في الفرق بين القوم أكثر من الدعوى الظاهرة الفساد.

وإن قالوا: إن طلحة والزبير في جملة القوم الممدوحين بما في الآي. قيل لهم: فهلا عصمهما المدح الذي ادعيتموه لهم من دفع أمير المؤمنين عليه السلام عن حقه، وإنكار إمامته، واستحلال حربه، وسفك دمه، والتدين بعداوته على أي جهة شئتم: كان ذلك من تعمد، أو خطأ، أو شبهة، أو عناد، أو نظر، أو اجتهاد!.

فإن قالوا: إن مدح القرآن -على ما يزعمون- لم يعصمهما من ذلك، ولا بد من الاعتراف بما ذكرناه، لأن منع دفعه جحد الاضطرار.

قيل لهم: فبما تدفعون أن أبا بكر وعمر وعثمان قد دفعوا أمير المؤمنين عليه السلام عن حقه، وتقدموا عليه وكان أولى بالتقدم عليهم، وأنكروا إمامته وقد كانت ثابتة، و دفعوا النصوص عليه وهي له واجبة، ولم يعصمهم ذلك، ثم توجه المدح لهم من الآية، كما لم يعصم طلحة والزبير مما وصفناه ووقع منهم في إنكار حق أمير المؤمنين عليه السلام، كما وقع من الرجلين المشاركين لهم فيما ادعيتموه من مدح القرآن وعلى الوجه الذي كان منهما ذلك من تعمد أو خطأ أو شبهة أو اجتهاد أو عناد؟ وهذا ما لا سبيل لهم إلى دفعه، وهو مبطل لتعلقهم بالآية ودفع أئمتهم عن الضلالة، وإن سلم لهم منها ما تمنوه تسليم جدل للاستظهار.

فصل: ويؤكد ذلك أن الله تعالى مدح من وصف بالآية بما كان عليه في الحال، ولم يقض بمدحه له على صلاح العواقب، ولا أوجب العصمة له من الضلال، ولا استدامة لما استحق به المدحة في الاستقبال. ألا ترى أنه سبحانه قد اشترط في المغفرة لهم والرضوان الإيمان في الخاتمة، ودل بالتخصيص لمن اشترط له ذلك، على أن في جملتهم من يتغير حاله فيخرج عن المدح إلى الذم واستحقاق العقاب، فقال تعالى فيما اتصل به من وصفهم ومدحهم بما ذكرناه من مستحقهم في الحال: {كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} فبعضهم في الوعد ولم يعمهم به، وجعل الأجر مشترطا لهم بالأعمال الصالحة، ولم يقطع على الثبات، ولو كان الوصف لهم بما تقدم موجبا لهم الثواب، ومبينا لهم المغفرة والرضوان، لاستحال الشرط فيهم بعده وتناقض الكلام، وكان التخصيص لهم موجبا بعد العموم ظاهر التضاد، وهذا ما لا يذهب إليه ناظر، فبطل ما تعلق به الخصم من جميع الجهات، وبان تهافته على اختلاف المذاهب في الأجوبة والاسقاطات، والمنة لله.

- قوله تعالى وَالَّذِي جَاء بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ نزلت في علي بن أبي طالب
- الإفصاح - الشيخ المفيد  ص 163، 170:

مسألة: فإن قالوا: وجدنا الله تعالى قد مدح أبا بكر في مسارعته إلى تصديق النبي صلى الله عليه وآله، وشهد له بالتقوى على القطع والثبات، فقال الله تعالى: {وَالَّذِي جَاء بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ * لَهُم مَّا يَشَاءونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاء الْمُحْسِنِينَ * لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ}. وإذا ثبت أن هذه الآية نزلت في أبي بكر على ما جاء به الأثر، استحال أن يجحد فرض الله تعالى، وينكر واجبا، ويظلم في أفعاله، ويتغير عن حسن أحواله، وهذا ضد ما دعونه عليه وتضيفونه إليه من جحد النص على أمير المؤمنين عليه السلام فقولوا في ذلك كيف شئتم لنقف عليه جواب.

قيل لهم: قد أعلمناكم فيما سلف أن تأويل كتاب الله تعالى لا يجوز بأدلة الرأي، ولا تحمل معانيه على الأهواء، ومن قال فيه بغير علم فقد غوى، والذي ادعيتموه من نزول هذه الآية في أبي بكر على الخصوص فهذا راجع إلى الظن، والعمل عليه غير صادر عن اليقين، وما اعتمدتموه من الخبر فهو مخلوق، وقد سبرنا الأخبار ونخلنا الآثار فلم نجده في شيء منها معروف، ولا له ثبوت من عالم بالتفسير موصوف، ولا يتجاسر أحد من الأمة على إضافته إلى النبي صلى الله عليه وآله فإن عزاه إلى غيره فهو كداود ومقاتل بن سليمان وأشباههما من المشبهة الضلال، والمجبرة الاغفال الذين أدخلوا في تأويل كلام الله تعالى الأباطيل، وحملوا معانيه على ضد الحق والدين، وضمنوا تفسيرهم الكفر بالله العظيم، والشناعة للنبيين والملائكة المقربين عليهم السلام أجمعين، ومن اعتمد في معتقده على دعاوى ما وصفناه فقد خسر الدنيا والآخرة بما بيناه، وبالله العصمة وإياه نسأل التوفيق.

فصل: على أن أكثر العامة وجماعة الشيعة يروون عن علماء التأويل وأئمة القول في معاني التنزيل أن هذه الآية نزلت في علي بن أبي طالب عليه السلام على الخصوص، وإن جرى حكمها في حمزة وجعفر وأمثالهما من المؤمنين السابقين، وهذا يدفع حكم ما ادعيتموه لأبي بكر ويضاده، ويمنع من صحته ويشهد بفساده، ويقضي بوجوب القول به دون ما سواه، إذا كان واردا من طريقين، ومصطلحا عليه من طائفتين مختلفين، ومتفقا عليه من الخصمين المتباينين، فحكمه بذلك حكم الإجماع، وما عداه فهو من طريق -كما وصفناه- مقصور على دعوى الخصم خاصة بما بيناه، وهذا ما لا يحيل الحق فيه على أحد من العقلاء، فممن روى ذلك على ما شرحناه: إبراهيم بن الحكم، عن أبيه، عن السدي، عن ابن عباس، في قوله تعالى: {وَالَّذِي جَاء بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ}. قال: هو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام ورواه عبيدة بن حميد، عن منصور، عن مجاهد، مثل ذلك سواء. وروى سعيد، عن الضحاك، مثل ذلك أيضا. وروى أبو بكر الحضرمي، عن أبي جعفر الباقر عليه السلام، في قوله تعالى: {وَالَّذِي جَاء بِالصِّدْقِ} "هو رسول الله صلى الله عليه وآله، صدق به أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام". وروى علي بن أبي حمزة، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله جعفر بن محمد عليه السلام، مثل ذلك سواء...

مسألة: فإن قال قائل منهم: كيف يتم لكم تأويل هذه الآية في أمير المؤمنين عليه السلام، وهي تدل على أن الذي فيه قد كانت له ذنوب كفرت عنه بتصديقه رسول الله صلى الله عليه وآله، حيث يقول الله تعالى: {لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ}. ومن قولكم أن أمير المؤمنين عليه السلام لم يذنب ذنبا، ولا قارف معصية، صغيرة ولا كبيرة ، على خطأ ولا عمد، فكيف يصح أن الآية -مع ما وصفنا- فيه؟!

جواب: قيل لهم: لسنا نقول في عصمة أمير المؤمنين عليه السلام بأكثر من قولنا في عصمة النبي صلى الله عليه وآله، ولا نزيد على قول أهل العدل في عصمة الرسل عليهم السلام من كبائر الآثام، وقد قال الله تعالى في نبيه  صلى الله عليه وآله {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ}. وقال تعالى: {لَقَد تَّابَ الله عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ}. وقال تعالى: {وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ}. فظاهر هذا الكلام يدل على أنه قد قارف الكبائر، وقد ثبت أنه مصروف عن ظاهره بضروب من البرهان، فكذلك القول فيما تضمنته الآية في أمير المؤمنين عليه السلام.

وجه آخر: أن المراد بذكر التكفير إنما هو ليؤكد التطهير له صلوات الله عليه من الذنوب، وهو وإن كان لفظه لفظ الخبر على الإطلاق، فإنه مشترط بوقوع الفعل لو وقع، وإن كان المعلوم أنه غير واقع أبدا للعصمة، بدليل العقل الذي لا يقع فيه اشتراط.

وجه آخر: وهو أن التكفير المذكور بالآية إنما تعلق بالمحسنين الذين أخبر الله تعالى بجزائهم من التنزيل، وجعله جزاء للمعني بالمدح للتصديق دون أن يكون متوجها إلى المصدق المذكور، وهذا يسقط ما توهمه الخصوم.

فصل: وقد روى أصحاب الحديث من العامة عن طرقهم خاصة أنها نزلت في النبي صلى الله عليه وآله وحده دون غيره من سائر الناس. فروى علي بن الحكم، عن أبي هريرة، قال: بينا هو يطوف بالبيت إذ لقيه معاوية بن أبي سفيان، فقال له أبو هريرة: يا معاوية، حدثني الصادق المصدق والذي جاء بالصدق وصدق به: أنه يكون أمرا يود أحدكم لو علق بلسانه منذ خلق الله السماوات والأرض، وأنه لم يل ما ولي. ورووا عن السدي وغيره من السلف، عن قوله تعالى: {وَالَّذِي جَاء بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ} قال: جاء بالصدق عليه السلام، وصدق به نفسه عليه السلام. وفي حديث لهم آخر، قالوا: جاء محمد صلى الله عليه وآله بالصدق، وصدق به يوم القيامة إذا جاء به شهيدا.

فصل: وقد رووا أيضا في ذلك ما اختصوا بروايته دون غيرهم، عن مجاهد في قوله تعالى: {وَالَّذِي جَاء بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ} أنه رسول الله صلى الله عليه وآله، والذي صدق به أهل القرآن، يجيئون به يوم القيامة، فيقولون: هذا الذي دعوتمونا إليه قد اتبعنا ما فيه.

فصل: وقد زعم جمهور متكلمي العامة وفقهائهم أن الآية عامة في جميع المصدقين برسول الله صلى الله عليه وآله، وتعلقوا في ذلك بالظاهر أو العموم، وبما تقدمه من قول الله تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ * وَالَّذِي جَاء بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ}. وإذا كان الاختلاف بين روايات العامة وأقاويلهم في تأويل هذه الآية على ما شرحناه، وإذا تناقضت أقوالهم فيه بما بيناه سقط جميعها بالمقابلة والمكافأة، وثبت تأويل الشيعة للاتفاق الذي ذكرناه، ودلالته على الصواب حسب ما وصفناه، والله الموفق للصواب.

مسألة: فإن قال قائل منهم: كيف يتم لكم تأويل هذه الآية في أمير المؤمنين عليه السلام، وهي تدل على أن الذي فيه قد كانت له ذنوب كفرت عنه بتصديقه رسول الله صلى الله عليه وآله، حيث يقول الله تعالى: {لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ}. ومن قولكم أن أمير المؤمنين عليه السلام لم يذنب ذنبا، ولا قارف معصية، صغيرة ولا كبيرة، على خطأ ولا عمد، فكيف يصح ان الآية -مع ما وصفنا- فيه؟!

جواب: قيل لهم: لسنا نقول في عصمة أمير المؤمنين عليه السلام بأكثر من قولنا في عصمة النبي صلى الله عليه وآله، ولا نزيد على قول أهل العدل في عصمة الرسل عليهم السلام من كبائر الآثام، وقد قال الله تعالى في نبيه صلى الله عليه وآله {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ}. وقال تعالى: {لَقَد تَّابَ الله عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ}. وقال تعالى: {وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ}.

فظاهر هذا الكلام يدل على أنه قد قارف الكبائر، وقد ثبت أنه مصروف عن ظاهره بضروب من البرهان، فكذلك القول فيما تضمنته الآية في أمير المؤمنين عليه السلام.

وجه آخر: أن المراد بذكر التكفير إنما هو ليؤكد التطهير له صلوات الله عليه من الذنوب، وهو وإن كان لفظه لفظ الخبر على الإطلاق، فإنه مشترط بوقوع الفعل لو وقع، وإن كان المعلوم أنه غير واقع أبدا للعصمة، بدليل العقل الذي لا يقع فيه اشتراط.

وجه آخر: وهو أن التكفير المذكور بالآية إنما تعلق بالمحسنين الذين أخبر الله تعالى بجزائهم من التنزيل، وجعله جزاء للمعني بالمدح للتصديق دون أن يكون متوجها إلى المصدق المذكور، وهذا يسقط ما توهمه الخصوم.

- اشتهرت صدقة أمير المؤمنين بخاتمه وهو في الركوع حتى علم به الخاص والعام
- شاعت نفقة أمير المؤمنين بالليل والنهار والسر والإعلان ونزول بها محكم القرآن ولم تخف صدقته التي قدمها بين يدي نجواه حتى أجمعت عليها أمة الإسلام وجاء بها صريح القول في البيان واستفاض إطعام المسكين واليتيم والأسير وورد الخبر به مفصلا في هل أتى على الإنسان
- النبي لم يسترفد أحدا من الصحابة ولا استوصله ولا جعل عليه قسما من مؤنته ولا التمس منهم شيئا
- كان النبي من أزهد الناس في الدنيا وزينتها ولم يزل مخرجا لما في يديه من مواريث آبائه وما أفاء الله تعالى من الغنائم والأنفال وجعله له خالصا دون الناس إلى فقراء أصحابه وذوي الخلة من أتباعه حتى استدان من المال ما قضاه أمير المؤمنين بعد وفاته وكان هو المنجز لعداته
- الإفصاح - الشيخ المفيد  ص 209، 210:

مسألة أخرى: فإن قالوا: إن لأبي بكر من الإنفاق على رسول الله صلى الله عليه وآله والمواساة بماله ما لم يكن لعلي بن أبي طالب عليه السلام، ولا لغيره من الصحابة، حتى جاء الخبر عنه صلى الله عليه وآله، أنه قال: "ما نفعنا مال كمال أبي بكر". وقال عليه السلام في موطن آخر: "ما أحد من الناس أعظم نفعا علينا حقا في صحبته وماله من أبي بكر بن أبي قحافة".

جواب: قيل لهم: قد تقدم لنا من القول فيما يدعى من إنفاق أبي بكر ما يدل المتأمل له على بطلان مقال أهل الخلاف، وإن كنا لم نبسط الكلام في معناه بعد، فإن أصل الحديث في ذلك عائشة، وهي التي ذكرته عن رسول الله صلى الله عليه وآله، وأضافته بغير حجة، وقد عرفت ما كان من خطأها في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله، وارتكابها معصية الله تعالى في خلافه حتى نزل فيها وفي صاحبتها حفصة بنت عمر بن الخطاب: {إِن تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ}. ثم الذي كان منها في أمر عثمان بن عفان حتى صارت أوكد الأسباب في خلعه، وقتله، فلما كان من أمره ما كان، وبايع الناس لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام حسدته على ذلك، وكرهت أمره، ورجعت عن ذم عثمان بن عفان إلى مدحه، وقذفت أمير المؤمنين عليه السلام بدمه، وخرجت من بيتها إلى البصرة إقداما على خلاف الله تعالى فيما أمرها به في كتابه، فألبت عليه ودعت إلى حربه، واجتهدت في سفك دمه واستئصال ذريته وشيعته، وأثارت من الفتنة ما بقي في الأمة ضررها في الدين إلى هذه الغاية. ومن كانت هذه حالها لم يوثق بها في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله، ولا آمنت على الأدغال في دين الله تعالى، لا سيما فيما تجربه نفعا إليها وشهادة بفضل متى صح لكان لها فيه الحظ الأوفر، وهذا ما لا يخفى على ذوي حجا...

فصل: على أنه لو كان لأبي بكر إنفاق على ما تدعيه الجهال، لوجب أن يكون له وجه معروف، وكان يكون ذلك لوجه ظاهر مشهور، كما اشتهرت صدقة أمير المؤمنين عليه السلام بخاتمه، وهو في الركوع حتى علم به الخاص، والعام، وشاعت نفقته بالليل والنهار والسر والإعلان، ونزول بها محكم القرآن، ولم تخف صدقته التي قدمها بين يدي نجواه، حتى أجمعت عليها أمة الإسلام، وجاء بها صريح القول في البيان، واستفاض إطعام المسكين واليتيم والأسير، وورد الخبر به مفصلا في{هل أتى على الإنسان}.

فكان أقل ما يجب في ذلك أن يكون كشهرة نفقة عثمان بن عفان في جيش العسرة، حتى لم يختلف في ذلك من أهل العمل اثنان، ولما خالف الخبر في إنفاق أبي بكر ما ذكرناه، وكان مقصورا على ابنته خاصة، ويكفي في ما شرحناه، ومضافا إلى من في طريقه من أمثال الشعبي وأشباهه المعروفين بالعصبية لأبي بكر وعمر وعثمان، والتقرب إلى بني أمية بالكذب والتخرص والبهتان، مما يدل على فساده بلا ارتياب.

فصل: مع أن الله تعالى قد أخبر في ذلك بأنه المتولي عناء نبيه صلى الله عليه وآله عن سائر الناس، ورفع الحاجة عنه في الدين والدنيا إلى أحد من العباد، فقال تعالى {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى}. فلو جاز أن يحتاج مع ذلك إلى نوال أحد من الناس لجاز أن يحتاج في هداه إلى غير الله تعالى، ولما ثبت أنه غني في الهدى بالله وحده، ثبت أنه غني في الدنيا بالله تعالى دون الخلق كما بيناه.

فصل: على أنه لو كان فيما عدده الله تعالى من أشياء يتعدى الفضل إلى أحد من الناس، فالواجب أن تكون مختصة بآبائه عليهم السلام، وبعمه أبي طالب رحمه الله، وولده عليه السلام، وبزوجته خديجة بنت خويلد رضي الله عنها، ولم يكن لأبي بكر في ذلك حظ ولا نصيب على كل حال.

وذلك أن الله تعالى آوى يتمه بجده عبد المطلب، ثم بأبي طالب من بعده، فرباه وكفله صغيرا، ونصره وواساه ووقاه من أعدائه بنفسه وولده كبيرا، وأغناه بما رزقه الله من أموال آبائه رحمهم الله تعالى وتركاتهم وهم ملوك العرب، وأهل الثروة منهم واليسار بلا اختلاف، ثم ما أفاده من بعده في خروجه إلى الشام من الأموال، وما كان انتقل إليه من زوجته خديجة بنت خويلد.

وقد علم جميع أهل العلم ما كانت عليه من سعة الأحوال، وكان لها من جليل الأموال، وليس لأبي بكر وعمر وعثمان وطلحة والزبير وسعد وسعيد وعبد الرحمن وأبي عبيدة بن الجراح وغيرهم من سائر الناس سوى من سميناه سبب لشيء من ذلك، يتعدى به فضلهم إليه على ما بيناه، بل كانوا فقراء فأغناهم الله بنبيه صلى الله عليه وآله، وكانوا ضلالا فدعاهم إلى الهدى، ودلهم على الرشاد، وكانوا أذلة فتوصلوا بإظهار اتباع نبوته إلى الملك والسلطان.

وهب أن في هؤلاء المذكورين من كان له قبل الإسلام من المال ما ينسب به إلى اليسار، وفيهم من له شرف بقبيلة يبين به ممن عداه، هل لأحد من سامعي الأخبار وأهل العلم بالآثار ريب في فقر أبي بكر وسوء حاله في الجاهلية والإسلام، ورذالة قبيلته من قريش كلها، وظهور المسكنة في جمهورهم على الاتفاق؟.

ولو كان له من السعة ما يتمكن به من صلة رسول الله صلى الله عليه وآله والإنفاق عليه ونفعه بالمال، كما ادعاه الجاهلون، لأغنى أباه ببعضه عن النداء على مائدة عبد الله بن جدعان بأجرة على ذلك بما يقيم به رمقه، ويستر به عورته بين الناس، ولارتفع هو عن الخياطة وبيع الخلقان بباب بيت الله الحرام إلى مخالطة وجوه التجار، ولكان غنيا به في الجاهلية عن تعليم الصبيان ومقاساة الأطفال في ضرورته إلى ذلك لعدم ما يغنيه عنه ما وصفناه.

وهذا دليل على ضلال الناصبة فيما ادعوه له من الإنفاق للمال، وبرهان يوضح عن كذبهم فيما أضافوه إلى النبي صلى الله عليه وآله من مدحه على الإنفاق.

فصل آخر: مع أنه لو ثبت لأبي بكر نفقة مال على ما ظنه الجهال لكان خلو القرآن من مديح له على الإجماع وتواتر الأخبار، مع نزوله بالمدح على اليسير من ذوي الإنفاق، دليلا على أنه لم يكن لوجه الله تعالى، وأنه يعتمد بالسمعة والرياء، وكان فيه ضرب من النفاق.

وإذا ثبت أن الله تعالى عدل كريم لا ينوه بذكر اليسير من طاعاته، ويخفي الكثير، ولا يمدح الصغير، ويهمل الكبير، ففي خلو القرآن من ذكر إنفاق أبي بكر أو مدحه له بذكر الإنفاق على الشرط الذي وصفناه أوضح برهان على ما قدمناه.

ثم يقال لهم: قد علمت الكافة أن نفقات الصحابة على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله إنما كانت في السلاح والكراع ومعونة الجهاد وصلات فقراء المسلمين، وتزويد المرملين، ومعونة المساكين، ومواساة المهاجرين، وأن النبي صلى الله عليه وآله لم يسترفد أحدا منهم ولا استوصله، ولا جعل عليه قسما من مؤنته، ولا التمس منهم شيئا أهله وعشيرته، وقد حرم الله تعالى عليه وعلى أهل بيته أكل الصدقات، وأسقط عن كافتهم الأجر له على تبليغهم عن الله تعالى الرسالات، ونصب الحجج لهم وإقامة البينات، في دعائهم إلى الأعمال الصالحات، واستنقاذهم بلطفه من المهلكات، وإخراجهم بنور الحق عن الظلمات.

وكان صلى الله عليه وآله من أزهد الناس في الدنيا وزينتها، ولم يزل مخرجا لما في يديه من مواريث آبائه، وما أفاء الله تعالى من الغنائم والأنفال، وجعله له خالصا دون الناس إلى فقراء أصحابه، وذوي الخلة من أتباعه حتى استدان من المال ما قضاه أمير المؤمنين عليه السلام بعد وفاته، وكان هو المنجز لعداته فأي وجه مع ما وصفناه من حاله صلى الله عليه وآله لإنفاق أبي بكر على ما ادعوه، لولا أن الناصبة لا تأنف من الجهل ولا تستحيي من العناد؟!.

فصل: مع أنا لا نجدهم يحيلون على وجه فيما يذكرونه من إنفاق أبي بكر، إلا على ما ادعوه من ابتياعه بلال بن حمامة من مواليه، وكانوا عزموا بعد الإيمان ليردوه عنه إلى الكفر والطغيان.

وهذا أيضا من دعاويهم الباطلة المتعرية من الحجج والبرهان، وهو راجع في أصله إلى عائشة، وقد تقدم من القول فيما ترويه وتضيفه إلى النبي صلى الله عليه وآله، ما يغني عن الزيادة فيه والتكرار.

ولو ثبت على غاية أمانيهم في الضلال لما كان مصححا لروايتهم مدح أبي بكر عن النبي صلى الله عليه وآله، وإخباره بانتفاعه بنفقته عليه ومواساته بالمال، لأن بلالا لم يكن ولدا للنبي صلى الله عليه وآله، ولا أخا ولا والدا، ولا قريبا ولا نسيبا، فيكون خلاصه من العذاب بمال أبي بكر نافعا للنبي صلى الله عليه وآله، ولا مختصا به دون سائر أهل الإسلام.

ولو تعدى ما خص بلالا من الانتفاع بمال أبي بكر إلى النبي صلى الله عليه وآله، لموضع إيمانه برسالته، وإقراره بنبوته ولكونه في جملة أصحابه، لتعدى ذلك إلى جبرئيل وميكائيل وإسرافيل وجميع ملائكة الله تعالى وأنبيائه وعباده الصالحين، لأن الإيمان برسول الله صلى الله عليه وآله يتضمن الإيمان بجميع النبيين والملائكة والمؤمنين والصديقين والشهداء والصالحي، وقد انكشف عن جهالات الناصبة وتجرئهم في بدعهم، وضعف بصائرهم، وسخافة عقولهم، ومن الله نسأل التوفيق.

فصل: على أن الثابت من الحديث في مدح النبي صلى الله عليه وآله خديجة بنت خويلد رضي الله عنها دون أبي بكر، والظاهر المشهور من انتفاع النبي صلى الله عليه وآله بمالها، يوضح عن صحته واختصاصها به دون من ادعى له بالبهتان، وقد اشترك في نقل الحديث الفريقان من الشيعة والحشوية، وجاء مستفيضا عن عائشة بنت أبي بكر على البيان. فروى عبد الله بن المبارك، عن مجالد، عن الشعبي، عن مسروق، عن عائشة، قالت: كان النبي صلى الله عليه وآله إذا ذكر خديجة أحسن الثناء عليها، فقلت له يوما: ما تذكر منها وقد أبدلك الله خيرا منها؟! فقال: "ما أبدلني الله خيرا منها، صدقتني إذ كذبني الناس، وواستني بمالها إذ حرمني الناس، ورزقني الله الولد منها ولم يرزقني من غيرها" وهذا يدل على بطلان حديثها في مدح أبي بكر بالمواساة، ويوجب تخصيصها بذلك دونه، ويوضح عن بطلان ما تدعيه الناصبة أيضا من سبق أبي بكر جماعة الأمة إلى الإسلام، إذ فيه شهادة من الرسول صلى الله عليه وآله بتقدم إيمان خديجة رحمها الله على سائر الناس.

- أمير المؤمنين تقدم أبا بكر إلى الإسلام
- لم يتقدم أحد من الثلاثة أمير المؤمنين في الجهاد والعلم بالدين والإنفاق والزهد في الدنيا
- الإفصاح - الشيخ المفيد  ص 231، 235 :

فصل: ثم يقال لهم: قد سبرنا أحوال المتقدمين على أمير المؤمنين عليه السلام، فيما يقتضي لهم فضلا يوجب تقدمهم، فلم نجده على شيء من الوجوه، وذلك أن خصال الفضل معروفة، ووجوهه ظاهرة مشهورة، وهي: السبق إلى الإسلام، والجهاد بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله، والعلم بالدين، والإنفاق في سبيل الله جل اسمه، والزهد في الدنيا.

أما السبق إلى الإسلام: فقد تقدم أمير المؤمنين عليه السلام أبا بكر باتفاق العلماء وإجماع الفقهاء، وإن كان بعض أعدائه يزعم أنه لم يكن على يقين، وإنما كان منه لصغر سنه على جهة التعليم، وقد تقدمه أيضا بعد أمير المؤمنين عليه السلام زيد وجعفر وخباب رضي الله عنهم وغيرهم من المهاجرين، وجاء بذلك الثبت في الحديث. فروى سالم بن أبي الجعد، عن محمد بن سعد بن أبي وقاص أنه قال لأبيه سعد: كان أبو بكر أولكم إسلاما؟ قال: لا، قد أسلم قبله أكثر من خمسين رجلا.

فأما عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان، فإنه لا يشتبه على أحد من أهل العلم أنهما ينزلان عن مرتبة التقدم على السابقين، وأنهما لم يكونا من الأولين في الإسلام، وقد تقدمهما جماعة من المسلمين.

وأما الجهاد: فأنه لا قدم لأحدهم فيه، فلا يمكن لعاقل دعوى ذلك على شيء من الوجوه وقد ذكر من كان منه ذلك سواهم، فلم يذكرهم أحد، ولا تجاسر على القول بارزوا وقتا من الأوقات قرنا، ولا سفكوا لمشرك دما، ولا جرحوا في الحرب كافرا، ولا نازلوا من القوم إنسانا، فالريب في هذا الباب معدوم، والعلم بما ذكرناه حاصل موجود.

وأما العلم بالدين: فقد ظهر من عجزهم فيه، ونقصهم عن مرتبة أهل العلم في الضرورة إلى غيرهم من الفقهاء، أحوال إماراتهم ما أغنى عن نصب الدلائل عليه. وقد كان رسول صلى الله عليه وآله حكم لجماعة من أصحابه بأحكام فيه، فما حكم لأحد من الثلاثة بشيء منه، فقال صلى الله عليه وآله: "أقرأكم أبي، وأعلمكم بالحلال والحرام معاذ، وأفرضكم زيد، وأقضاكم علي". فكان صلى الله عليه وآله ناحلا لكل من سميناه سهما من العلم، وجامعا سائره لأمير المؤمنين عليه السلام، بما حكم له بالقضاء الذي يحتاج صاحبه إلى جميع من سماه من العلوم، وأخرج أبا بكر وعمر وعثمان من ذلك كله، ولم يجعل لهم فيه حظا كما ذكرناه، وهذا مما لا إشكال فيه على ذوي العقول.

وأما الإنفاق: فقد قلنا فيما تقدم فيه قولا يغني عن إعادته ها هنا، وعمر بن الخطاب من بين الثلاثة صفر منه بالاتفاق، أما عثمان فقد كان له ذلك، وإن كان بلا فضل، فإن خلو القرآن من مديح له على ما كان منه، دليل على أنه لا فصل له فيه، ولو حصل له به قسط من الفضل لكان كسهم غيره من المنفقين الذين لم يجب لهم التقدم بذلك في إمامة المسلمين.

وأما الزهد في الدنيا: فقد قضى بتعرية الثلاثة منه مثابرتهم على الإمارة، ومضاربتهم الأنصار على الرئاسة، ومسابقتهم إلى الحلية في التظاهر باسم الإمامة، وتركوا رسول الله صلى الله عليه وآله مسجى بين أظهرهم، لم يقضوا له بذلك في مصابه حقا، ولا حضروا له غسلا وتجهيزا، ولا صلاة ولا تشييعا ولا دفنا، وتوفروا على مخاصمة من سبقهم إلى السقيفة طمعا في العاجل، وزهدا في الآجل، وسيعا في حوز الشهوات، وتناولا للذات، وتطاولا على الناس بالرئاسات، ولم يخرجها الأول منهم عن نفسه حتى أيقن بهلاكه، فجعلها حينئذ في صاحبه ضنا بها على سائر الناس، وغبطة لهم.

وكان من أمر الثاني في الشورى ما أوجب تحققه بها بعد وفاته، وتحمل من أوزارها ما كان غنيا عنه لو سنحت بها نفسه إلى مستحقها، وظهر بعده من الثالث ما استحل به أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله دمه، من إطراح الدين، والانقطاع إلى الدنيا، وقضاء الذمامات بأموال الله تبارك وتعالى، وتقليد الفجار من بني أمية ومروان رقاب أهل الأديان، ولما طولب بنزعها عنه ليقوم بها من سلك طرق الدين، امتنع من ذلك حبا للدنيا، وتأكد طمعه فيها، إلى أن سفك القوم دمه على الاستحلال له، ورفع الحظر والتحريم.

ثم فأي زهد حصل لهم مع ما وصفناه، وأي شبهة تبقى على مخالف في خروجهم عن خصال الفضل كلها مع ما ذكرناه، لولا أن العصبية ترين على القلوب؟!.

- أمير المؤمنين معصوم من الخطأ في الدين والزلل فيه مصيب في كل أقواله وأفعاله وحروبه ومخالفوه على خطأ وضلال ويستحقون بذلك العقاب
- الإمام معصوم كعصمة الأنبياء
- الأئمة قدوة في الدين
- معنى الائتمام هو الاقتداء وحقيقة الاقتداء هو الاتباع للمقتدى به فيما فعل وقال من حيث كان حجة فيه دون الاتباع لقيام الأدلة على صواب ما فعل وقال بسوى ذلك من الأشياء
- الجمل - الشيخ المفيد  ص 30، 32:

عصمة أمير المؤمنين عليه السلام: باب صواب أمير المؤمنين عليه السلام في حروبه كلها وحقه في جميع أقواله وأفعاله والتوفيق للمقر بآرائه وبطلان قول من خالف ذلك من خصمائه وأعدائه:

فمن ذلك وضوح الحجة على عصمة أمير المؤمنين عليه السلام من الخطأ في الدين والزلل فيه والعصمة له من ذلك يتوصل إليها بضربين أحدهما الاعتبار والثاني الوثوق به من الأخبار، فأما طريق الاعتبار الموصول إلى عصمته عليه السلام فهو الدليل على إمامته وفرض طاعته على الأنام إذ الإمام لا بد أن يكون معصوما كعصمة الأنبياء بأدلة كثيرة قد أثبتناها في مواضع من كتبنا المعروفة في الإمامة الأجوبة عن المسائل الخاصة في هذا الباب.

فمن ذلك أن الأئمة قدوة في الدين وأن معنى الائتمام هو الاقتداء، وقد ثبت أن حقيقة الاقتداء هو الاتباع للمقتدى به فيما فعل وقال من حيث كان حجة فيه دون الاتباع لقيام الأدلة على صواب ما فعل وقال بسوى ذلك من الأشياء، إذ لو كان الاقتداء هو الاتباع للمقتدى به من جهة حجة سواه على ذلك كان كل وفاق لذي نحلة في قول أو فعل لا من جهة قوله وفعله بل لحجة سواه اقتداء به وائتماما وذلك باطل لوفاقنا الكفار من اليهود والنصارى وغيرهم من أهل الباطل والضلال في بعض أقوالهم وأفعالهم; من حيث قامت الأدلة على صواب ذلك فيهم لا من حيث ما رأوه وقالوه وفعلوه، وذلك باطل بلا ارتياب ولأن أحد أسباب الحاجة إلى الأئمة هو جواز الغلط على الرعية وارتفاع العصمة عنها لتكون من ورائها تسدد الغالط منها وتقومه عند الاعوجاج وتنبهه عند السهو منه والإغفال ويتولى إقامة الحد عليه فيما جناه، فلو لم تكن الأئمة معصومون كما أثبتناه لشاركت الرعية فيما له إليها وكانت تحتاج إلى الأئمة عليها ولا تستغني عن دعاة وساسة تكون من ورائها وذلك باطل بالإجماع.

على أن الأئمة أغنياء عن إمام وغير ما ذكرناه من الأدلة على عصمتهم كثيرة وهي موجودة في أماكنها من كتبنا على بيان الوجوه واستقصائها وأنها تثبت عصمة الأئمة عليهم السلام حسبما وصفناه وأجمعت الأمة على أنه لو كان بعد النبي صلى الله عليه وآله إمام على الفور تجب طاعته على الأنام وجب القطع على أنه أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب دون غيره ممن ادعيت له الإمامة في تلك الحال للإجماع على أنه لم يكن لواحد ممن ذكروه العصمة التي أوجبناها بالنظر الصحيح لأئمة الإسلام وإجماعا الشيعة الإمامية على علي عليه السلام كان مخصوصا بها من بين الأنام إذ لو لم يكن الأمر كذلك لخرج الحق عن إجماع أهل الصلاة وفسد ما في العقول من وجوب العصمة لأئمة المسلمين بما ذكرناه وإذا تثبت عصمة علي عليه السلام من الخطأ ووجب مشاركته للرسول في معناه ومساواته فيها ثبت أنه كان مصيبا في كل ما فعل وقال ووجب القطع على خطأ مخالفيه وضلالهم في حيرة واستحقاقهم بذلك العقاب وهذا بين لمن تدبر والله الموفق للصواب.

- إمامة أمير المؤمنين بالنص
- الجمل - الشيخ المفيد  ص 32:

دليل آخر على إمامة علي عليه السلام: فيما يدل على إمامته الموجبة بالحكم بعصمة على ما قدمناه بثبوت الحاجة إلى الأدلة بإتقان وفساد ثبوت الإمامة من جهة الشورى والآراء وإذا فسد ذلك وجب النص على الأئمة وفي وجوبه لثبوت إمامة علي عليه السلام إذ الأمر بين رجلين أحدهما يوجب الإمامة بالنص ويقطع على إمامة علي به ومن جهته دون ما سواها من الجهات والأخرى يمنع من ذلك ويجوزها بالرأي وإذا فسد هذا الفريق لفساد ما ذهبوا إليه من عقد الإمامة بالرأي ولم يصلح خروج الحق عن أئمة الإسلام ثبتت إمامته عليه السلام.

- الاستدلال بالنص على إمامة أمير المؤمنين قوله تعالى إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ
- الجمل - الشيخ المفيد  ص 32:

التصديق في الصلاة: مما يدل على إمامته عليه السلام من نص القرآن قوله تعالى {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ}. وهذا الخطاب موجه إلى جماعة جعل الله لهم أولياء أضيفوا إليهم بالذكر والله وليهم ورسوله ومن عبر عنه بأنه من الذين آمنوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وهم راكعون، يعني حال ركوعهم بدلالة أنه لو أراد سبحانه بالخطاب جميع المكلفين لكان هو المضاف ومحال إضافة الشيء إلى نفسه وإنما يصح إضافته إلى غيره; وإذا لم تكن طائفة تختص بكونها أولياء لغيرها وليس لذلك الغير مثل ما اختصت به في الولاء وتفرد من جملتهم من عناه الله تعالى بالإيمان والزكاة حال ركوعه لم يبق إلا ما ذهبت إليه الشيعة في ولاية علي عليه السلام على الأمة من حيث الإمامة له عليها وفرض الطاعة ولم يكن أحد يدعي له الزكاة في حال ركوعه إلا علي عليه السلام وقد ثبتت إمامته بذلك على الترتيب الذي رتبناه فصح إنه مصيب في جميع أقواله وأفعاله وتخطئة مخالفيه حسبما شرحناه.

- الإمامة تدل على العصمة والعصمة تقضي صواب أمير المؤمنين في حروبه كلها وأفعاله بأجمعها وأقواله بأسرها وخطأ مخالفيه وضلالهم عن هداه
- الجمل - الشيخ المفيد  ص 33، 39:

حديث المنزلة: دليل آخر وهو أيضا ما أجمع عليه أهل القبلة ولم ينازع في صحة الخبر به من أهل العلم بالرواية والآثار من قول النبي صلى الله عليه وآله "أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي" فأوجب له بذلك جميع ما كان لهارون من موسى في المنازل إلا ما استثناه من النبوة وفي ذلك أن الله تعالى قد فرض طاعته على أمة محمد كما كان فرض طاعة هارون على أمة موسى وجعله إماما لهم كما كان هارون إماما لقوم موسى وإن هذه المنزلة واجبة له بعد مضي النبي كما كانت تجب لهارون لو بقي بعد أخيه موسى ولم يجز خروجه عنها بحال وفي ذلك ثبوت إمامة أمير المؤمنين، والإمامة تدل على عصمة صاحبها كما بيناه فيما سلف ووصفناه والعصمة تقضي فيمن وجبت له بالصواب بالأقوال والأفعال على أثبتناه فيما تقدم من الكلام وفي ذلك بيان صواب أمير المؤمنين في حروبه كلها وأفعاله بأجمعها وأقواله بأسرها وخطأ مخالفيه وضلالهم عن هداه.

ولأهل الخلاف من المعتزلة والحشوية والخوارج أسئلة قد أجبنا عنها في مواضعها من غير هذا الكتاب وأسقطنا شبهاتهم بدليل البرهان لم نوردها ههنا لغنانا عن ذلك بثبوتها فيما سواه وإنما اقتصرنا على ذكر هذه الأدلة ووجوهها وعدلنا عن إيراد ما في معناها والمتفرع عليه عن إثبات رسم الحجاج في صواب علي عليه السلام وفساد مذهب الناكثين فيه والإيماء إلى أصول ذلك ليقف عليه من نظر في كتابنا هذا ويعلم العمدة بما فيه ويستوفي معانيه فإن أحب ذلك يجده في مواضعه المختصة به لنا ولغيرنا من متكلمي عصابة الحق ولأن الغرض في هذا الكتاب ما لا يفتقر إلى هذه الأدلة من براهين إصابة علي عليه السلام في حروبه وخطأ مخالفيه ومحاربيه.

وإنا سنذكر فيما يلي هذا الفصل من الكلام وتوضيح الحجة فيه على أصول مخالفينا أيضا في طريق الإمامة وثبوتها عندهم من جهة الآراء إنكارهم ما نذهب إليه من قصور طريقها على النص كما قدمناه وبيناه عن الغرض فيه ووصفناه من الدليل على أن أمير المؤمنين عليه السلام كان مصيبا في حروبه كلها وإن مخالفيه في ذلك على ضلال، وهو ما تظاهرت به الرواية عن النبي صلى الله عليه وآله من قوله:

"حربك يا علي حربي وسلمك يا علي سلمي" وقوله:

"يا علي أنا حرب لمن حاربك وسلم لمن سالمك"

وهذان القولان مرويان من طريق العامة والخاصة، والمنتسبة من أصحاب الحديث إلى السنة المنتسبين منهم للشيعة، لم يعترض أحد من العلماء الطعن على سندهما ولا ادعى إنسان من أهل المعرفة بالآثار كذب روايتهما ومن كان هذا سبيله وجب تسليمه والعمل به، إذ لو كان باطلا لما خلت الأمة من عالم منها ينكره ويكذب روايته، ولا سلم من طعن فيه ولعرف سبب تخرصه وافتعاله وأقام دليل الله على بطلانه، وفي سلامة هذين الخبرين من جميع ما ذكرناه حجة واضحة على ثبوتهما حسبما بيناه.

ومن ذلك الرواية المستفيضة عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال لعلي عليه السلام:

"تقاتل يا علي على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله".

وقوله لسهيل بن عمر ومن حضر معه لخطابه على رد من أسلم من مواليهم:

"لتنتهين يا معشر قريش ليبعث الله عليكم رجلا يضربكم على تأويل القرآن كما ضربتكم على تنزيله" فقال له بعض أصحابه من هو يا رسول الله؟ هو فلان "قال لا" قال فلان؟ "قال لا ولكنه خاصف النعل في الحجرة" فنظروا فإذا به علي عليه السلام في الحجرة يخصف نعل النبي.

وقوله لعلي:

"تقاتل بعدي الناكثين والقاسطين والمارقين"

والقول في هذه الرواية كالأخبار التي تقدمت، قد سلمت من طاعن في سندها بحجة ومن قيام دليل على بطلان ثبوتها وسلم لروايتها الفريقان فدل على صحتها. ومن ذلك قوله صلى الله عليه وآله:

"علي مع الحق والحق مع علي".

وقوله صلى الله عليه وآله:

"اللهم أدر الحق مع علي حيث ما دار"

وهذا أيضا خبر قد رواه محدثوا العامة وأثبتوه في الصحيح عندهم ولم يعترض أحدهم لتعليل سنده، ولا أقدم منهم مقدم على تكذيب ناقله وليس توجد حجة في العقل ولا السمع على فساده فوجب الاعتقاد بصحته وصوابه.

ومن ذلك قوله صلى الله عليه وآله:

"اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله"

وهذا في الرواية أشهر من أن يحتاج معه إلى جمع السند له وهو أيضا مسلم عند نقلة الأخبار. وقوله صلى الله عليه وآله:

"قاتل الله من قاتلك وعادى الله من عاداك"

والخبر بذلك مشهور وعند أهل الرواية معروف مذكور.

ومن ذلك قوله صلى الله عليه وآله:

"من آذى عليا فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله"

فحكم أن الأذى له أذى الله والأذى لله جل اسمه ضلال مخرج عن الإيمان. قال الله تعالى:

{إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُّهِينًا}

وأمثال ما أثبتناه من هذه الأخبار في معانيها الدالة على صواب علي عليه السلام وخطأ مخالفيه كثيرة أن عملنا على إيراد جميعها طال به الكتاب وانتشر الخطاب، وفيما أثبتناه منه دليلا للحق منه كفاية في الغرض الذي نأمله إن شاء الله.

نظرة في النصوص:

(فصل وسؤال) فإن قال قائل إنكم إن كنتم قد اعتمدتم على هذه الأخبار في عصمة علي عليه السلام وهي آحاد ليست من المتواترة الذي يمنع على قائليه الافتعال فما الفضل بينكم وبين خصومكم فيما يتعلقون به من أمثالها عن النبي صلى الله عليه وآله في فضل فلان وفلان ومعاوية بن أبي سفيان؟.

الجواب: قيل له: الأخبار التي يتعلق بها أهل الخلاف في دعوى فضائل من سميت على ضربين: أحدهما لا تنكر صحته وإن خصومنا منفردين بنقله إذ ليس فينا مشارك لهم في شيء منه كما شاركنا الخصوم في نقل ما أثبتناه من فضائل علي عليه السلام إلا أنهم يغلطون في دعوى التفضيل لهم به على ما يتحيلون في معناه، والآخر مقطوع بفساده عندنا بأدلة واضحة لا تخفى على أهل الاعتبار وليست مما تساوي أخبارنا التي قدمناها لقطعنا على بطلان ما يقروا به من ذلك طعنا في رواتها واستدللنا على فسادها وأجمع مخالفونا على رواية ما رويناه مما قد بيناه وتسليمه وتخليدهم صحفهم كما ذكرناه وعدو لهم عن الطعن في شيء منه حسبما وصفناه وإن كان هذا سبيله ليس يكون الأمر فيه كذلك إلا لاعتقاد القوم وتسخيرهم لنقله والتسليم لرواته إذ كانت العادة جارية بأن كل شيء يتعلق به في حجاج مخالفيه ونصرة مذهبه والمنفرد به دون خصمه وكان في الإقرار به شبهة على صحة مقالته المباين لمقال مخالفيه، فإنه لا يخلو من دافع له وجاحد وطاعن فيما يروم به إبطاله إلا أن لا تلزم الحجة في صوابه وأن يكون ملطوفا له في اعتقاده، أو مسخرا للإقرار به حجة الله تعالى في صحته ودليلا على ثبوته وبرهانا منه على نصرته والمحتج به وتبديل للحق فيه بلطف من لطائفه وإذا كان الأمر في هذا الباب على ما بيناه وثبت تسليم الفريقين لأخبارنا مع اختلافهم في الاعتقاد على ما ذكرناه، وصح الاختلاف بيننا وبين خصومنا في الاحتجاج بالأخبار وبراهينها حسبما اعتمدنا سقط توهم المخالف لما يحيله من المساواة بين الأمرين.

إنكار الخوارج والأموية فضل علي:

فإن عارض الخوارج وقالوا هم يدفعون ما آتيتموه من الأخبار الدالة على عصمته وذكروا الأموية، وما يعرف من ضلالهم وظاهر أمرهم في جحد ما رويناه، قلنا حكمهم في جحد أخبارنا كحكمهم في جحد أخباركم سواء وإلا فما الفضل بين الأمرين، فإنه يقال لهم الفضل بيننا وبين من عارضتم به من الخوارج في دفع النقل ظاهر لذوي الاعتبار وذلك أن الخوارج ليسوا من أهل النقل والرواية ولا يعرفون حفظ الآثار ولا الاعتماد على الأخبار لإكفارهم الأمة جميعا واتهام كل فريق منهم فيما يروونه واعتمادهم لذلك على ظاهر القرآن وإنكارهم ما خرج عنه القرآن من جميع الفرائض والأحكام ومن كان هذا طريقة دينه وسبيله في اعتقاده ومذهبه في النقل والأخبار ولم يعتقد بخلافه فيها على حال.

فأما الأموية والعثمانية فسبب جحودهم لفضائل علي عليه السلام معروف وهو الحرص لدولتهم والعصبية لملوكهم وجبابرتهم وهم كالخوارج في سقوط الاعتراض بهم فيما طريقه النقل لبعدهم عن عمله وتأنيهم عن فهمه وإطراحهم للعمل به وقد انقرضوا مع ذلك بحمد الله ومنه حتى لم يبق منهم أحد ينسب إلى فضل علي ولا منهم من يذكر في جملة العلماء بخلافه في شيء من الأحكام فسقط الاعتراض بهم كسقوط الاعتراض بالمارقة فيما تعتمد فيه من الأخبار، مع أن الخوارج متى تعاطت الطعن في أخبارنا التي أثبتناها في الحجة على عصمة أمير المؤمنين عليه السلام فإنما يقطعوا بها بالطعن رواتها في دينها المخالف كما تدين به من إكفار علي عليه السلام وعثمان وطلحة والزبير وعائشة بنت أبي بكر ومن تولى واحدا منهم واعتقد أنه من الإسلام وذلك طعن يعم جميع نقلة الدين من الملة فسقط لذلك قدحهم في الأخبار، وليس كذلك طعوننا في نقل ما تفردت به الناصبة في الحديث لأنا لا نطعن في رواية إلا لكذبهم فيه وقيام الحجة على بطلان معانيه دون الطعن في عقايدهم وإن كانت عندنا فاسدة فوضح الفرق بيننا وبين من عارضنا في الخصومة برأيه في الأخبار على ما شرحناه.

- ثبتت البيعة لأمير المؤمنين على الطوع والإيثار بإجماع من حوته مدينة الرسول من المهاجرين والأنصار وأهل بيعة الرضوان ومن انضاف إليهم من أهل مصر والعراق في تلك الحال من الصحابة والتابعين بإحسان
- الجمل - الشيخ المفيد  ص 40، 42:

البيعة لأمير المؤمنين بعد عثمان: فصل: قد ثبت بتواتر الأخبار ومتظاهر الحديث والآثار أن أمير المؤمنين عليه السلام كان منزلا للفتنة بقتل عثمان وأنه بعد عن منزله في المدينة لئن لا تتطرق عليه الظنون برغبته في البيعة بالأمر على الناس وأن الصحابة لما كان من أمر عثمان ما كان التمسوه وبحثوا عن مكانه حتى وجدوه فصاروا إليه وسألوه القيام بأمر الأمة وشكوا إليه ما يخافونه من فساد الأمة فكره إجابتهم إلى ذلك على الفور والبدأ لعلمه بعاقبة الأمور وإقدام القوم على الخلاف عليه والمظاهرة له بالعداوة له والشنئان فلم يمنعهم باؤه من الإجابة عن الإلحاح فيما دعوه إليه ذكروه بالله عز وجل وقالوا له إنه لا يصلح لإمامة المسلمين سواك ولا نجد أحدا يقوم بهذا الأمر غيرك فاتق الله في الدين وكافة المسلمين فامتحنهم عند ذلك بذكر من نكث بيعته بعد أن أعطاها بيده على الإيثار وإماما لهم إلى مبايعة أحد الرجلين، وضمن النصرة لهما متى أرادوا إصلاح الدين وحياطة الإسلام فأبى القوم عليه تأمير من سواه والبيعة لمن عاداه وبلغ ذلك طلحة والزبير فصارا إليه راغبين في بيعته منتظرين للرضا بتقدمه عليهما وإمامته عليهما فامتنع فألحا عليه في قبول بيعتهما له، واتفقت الجماعة كلها على الرضا به وترك العدول عنه إلى سواه، وقالوا أن تجبنا إلى ما دعوناك إليه من تقليد الأمر وقبول البيعة وإلا انفتق الإسلام ما لا يمكن رتقه وانصدع في الدين ما لا يستطاع شعبه فلما سمع ذلك منهم بعد الذي ذكرناه من الآباء عليهم والامتناع لتأكيد الحجة لنفسه بسط يده لبيعتهم فتداكوا عليه تداك الإبل على حياضها يوم ورودها حتى شقوا أعطافه ووطأوا ابنيه الحسن والحسين بأرجلهم لشدة ازدحامهم عليه وحرصهم على البيعة له والصفقة بها على يده رغبة بتقديمه على كافتهم وتوليته أمر جماعتهم لا يجدون عنه معدلا ولا يخطر ببالهم سواه لهم موئلا فتمت بيعة المهاجرين والبدريين والأنصار العقبيين المجاهدين في الدين والسابقين إلى الإسلام من المؤمنين وأهل البلاء الحسن مع النبي صلى الله عليه وآله من الخيرة البررة الصالحين.

ولم تكن بيعته عليه السلام مقصورة على واحد أو اثنين أو ثلاثة ونحوها في العدد كما كانت بيعة أبي بكر مقصورة على بعض أصحابه على بشر بن سعد فتمت بها عنده ثم اتبعه عليها من تابعه عليها من الناس وقال بعضهم بل تمت ببشر بن سعد وعمر بن الخطاب وقال بعضهم بل تمت بالرجلين المذكورين وأبي عبيدة بن الجراح وسالم مولى أبي حذيفة واعتمدوا ذلك في أن البيعة لا تتم بأقل من أربعة نفر من المسلمين، وقال بعضهم بل تمت بخمسة نفر: قيس ابن سعد وأسيد بن خضير من الأنصار وعمر وأبو عبيدة وسالم من المهاجرين ثم تابعهم الناس بعدها بالخمسة المذكورين ومن ذهب إلى هذا المذهب الجبائي وأبيه والبقية من أصحابهما في هذا الزمان.

وقالوا في بيعة عمر بن الخطاب مثل ذلك فزعم من يذهب إلا أن البيعة تتم بواحد من الناس وهم جماعة من المتكلمين منهم الخياط والبلخي وابن مجالد ومن ذهب مذهبهم من أصحاب الاختيار أن الإمامة تمت لعمر بأبي بكر وحده وعقد له إياها دون من سواه.

وكذلك قالوا في عثمان بن عفان والعقد له أنه تم بعبد الرحمن بن عوف خاصة وخالفهم على ذلك من أضاف إلى المذكورين غيرهما في العقد وزعم أن بيعة عمر انفردت من الاختيار له عن الإمام وعثمان إنما تم له الأمر ببيعة بقية أهل الشورى وهم خمسة نفر، أحدهم عبد الرحمن فاعترفت الجماعة من مخالفينا بما هو حجة عليهم في الخلاف على أئمتهم وبشذوذ العاقدين لهم وانحصار عددهم بمن ذكرناه.

وثبتت البيعة لأمير المؤمنين عليه السلام بإجماع من حوته مدينة الرسول من المهاجرين والأنصار وأهل بيعة الرضوان ومن انضاف إليهم من أهل مصر والعراق في تلك الحال من الصحابة والتابعين بإحسان ولم يدع أحد من الناس أنه تمت له بواحد مذكور ولا إنسان مشهور ولا بعدد يحصى محصور فيقال تمت بيعته بفلان واحد وفلان وفلان كما قيل في بيعة أبي بكر وعمر وعثمان.

- إذا ثبت بالإجماع إمامة أمير المؤمنين والبيعة له على الطوع والإيثار ثبت فرض طاعته وحرم على كل أحد من الخلق التعرض لخلافه ومعصيته ووضح الحق في الحكم على مخالفيه ومحاربيه بالضلال عن هدايته والقضاء بباطل مخالفة أمره وفسقهم بالخروج عن طاعته
- الجمل - الشيخ المفيد  ص 42، 43:

وإذا ثبت بالإجماع من وجوه المسلمين وأفاضل المؤمنين والأنصار والمهاجرين على إمامة أمير المؤمنين عليه السلام والبيعة له على الطوع والإيثار وكان العقد على الوجه الذي ثبت به إمامة الثلاثة قبله عند الخصوم بالاختيار وعلى أوكد منه بما ذكرناه في الرغبة إليه في ذلك والإجماع عليه ممن سميناه من المهاجرين والأنصار والتابعين بإحسان حسبما بيناه ثبت فرض طاعته وحرم على كل أحد من الخلق التعرض لخلافه ومعصيته ووضح الحق في الحكم على مخالفيه ومحاربيه بالضلال عن هدايته والقضاء بباطل مخالفة أمره وفسقهم بالخروج عن طاعته لما أوجب الله تعالى من طاعة أولياء أمره في محكم كتابه حيث يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ} فقرن طاعة الأئمة بطاعته ودل على أن المعصية لهم كمعصيته على حد سواء في حكمه وقضيته وأجمع أهل القبلة مع عن ذكرناه على فسق محاربي أئمة العدل وفجورهم بما يرتكبونه من حكم السمع والعقل.

وإذا لم يكن أمير المؤمنين عليه السلام أحدث بعد البيعة العامة له ما يخرجه عن العدالة ولا كان قبلها على الظاهر بخيانة في الدين ولا خرج عن الإمامة كان المارق عن طاعته ضالا، فكيف إذا أضاف له بذلك حربا واستحلالا لدمه ودماء المسلمين معه ويبغي بذلك في الأرض فسادا يوجب عليه التنكيل بأنواع العقاب، المذكور في نص من قوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ}. هذا بين أن لم يحجب الهوى ويبعد عن فهمه العمى والله نسأل التوفيق.

- في مناقشة الإجماع على بيعة أمير المؤمنين وتأخر سعد بن أبي وقاص وعبد الله بن عمر وأسامة بن زيد ومحمد بن مسلمة وأمثالهم عن الخروج مع أمير المؤمنين إلى البصرة
- الجمل - الشيخ المفيد  ص 43، 49:

تأخر سعد وأسامة عن حرب البصرة: فصل وسؤال:

فإن قال قائل كيف تتم لكم دعوى الإجماع على بيعة أمير المؤمنين عليه السلام وقد علمتم أن الأخبار قد ثبتت بتخلف سعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن عمر بن الخطاب، وأسامة بن زيد; ومحمد بن مسلمة; ومظاهرتهم له بالخلاف فيما راقبه بالقتال.

الجواب: قيل له أما تأخر من سميت عن الخروج مع أمير المؤمنين عليه السلام إلى البصرة فمشهور ورأيهم في القعود عن القتال معه ظاهر معروف وليس ذلك بمناف لبيعتهم له على الإيثار ولا مضاد للتسليم لإمامته على الاختيار والذي ادعى عليه الامتناع في البيعة وأشكل عليه الأمر فظن أنهم لو تأخروا عن نصرته كان ذلك منهم لامتناعهم عن بيعته، وليس الأمر كما توهموا إلا أنه قد يعرض للإنسان شاك فيما تيقن سلطانه في صوابه، ولا يرى لسلطان حمله على ما هو شاك فيه لضرب من الرأي يقتضيه الحال في صواب التدبير وقد يعتقد الإنسان أيضا صواب غيره في شيء يحمله الهوى على خلافه فيظهر فيما صار إليه من ذلك شبهة تعذره عند كثير من الناس فعاله وليس كل من اعتقد طاعة إمامه كان مضطرا إلى وفاقه بل قد يجمع الاعتقاد لحق الرئيس المقدم في الدين مع العصيان له في بعض أوامره ونواهيه ولولا أن ذلك كذلك لما عصى الله من يعرفه ولا خالف نبيه صلى الله عليه وآله ممن يؤمن به وليس هذا من مذاهب خصومك في الإمامة فتوضح عنه بما يكسر شبهة مدعيه على أن الأخبار قد وردت بإذعان القوم بالبيعة مع إقامتهم على ترك المساعدة والنصرة وما تضمنت ذكر أعذار لهم زعموها في ذلك وجاءت بما كان من أمير المؤمنين فيما أظهروه وإنكاره له بحسب ما اقتضته الحال في مثله من الخطأ فيما ارتكبوه.

فروى أبو مخنف لوط بمن يحيى الأزدي في كتابه الذي صنفه في حرب البصرة عن أصحابه، وروى غيره من أمثاله الرواة للسيرة عن سلفهم أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام لما هم بالمسير إلى البصرة بلغه عن سعد ابن أبي وقاص وابن مسلمة وأسامة بن زيد وابن عمر تثاقلهم عنه فبعث إليهم فلما حضروا قال لهم قد بلغني عنكم هنات كرهتها وأنا لا أكرهكم على المسير معي على بيعتي: قالوا بلى، قال فما الذي يقعدكم عن صحبتي؟ فقال له سعد إني أكره الخروج في هذا الحرب فأصيب مؤمنا فإن أعطيتني سيفا يعرف المؤمن من الكافر قاتلت معك. وقال له أسامة أنت أعز الخلق علي ولكني عاهدت الله أن لا أقاتل أهل لا إله إلا الله، وكان أسامة قد أهوى برمحه في عهد رسول الله إلى رجل في الحرب من المشركين فخافه الرجل فقال لا إله إلا الله فشجره بالرمح فقتله فبلغ النبي صلى الله عليه وآله خبره فقال يا أسامة أقتلت رجلا يشهد أن لا إله إلا الله؟ فقال يا رسول الله إنما قالها تعوذا، فقال له ألا شفقت عن قتله فزعم أسامة أن النبي صلى الله عليه وآله أمره أن يقاتل بالسيف من قاتل المشركين فإذا قوتل به المسلمون ضرب بسفه الحجر فكسره.

وقال عبد الله بن عمر لست أعرف في هذه الحرب شيئا أسألك أن لا تحملني على ما لا أعرف، فقال لهم أمير المؤمنين عليه السلام ليس كل مفتون معاتب ألستم على بيعتي قالوا بلى قال انصرفوا فسيغنيني الله عنكم فاعترفوا له عليه السلام بالبيعة وأقاموا في تأخرهم عند عذرا لم يقبله منهم وأخبر أنهم بتركهم الجهاد مفتنون ولم ير الإنكار عليهم في الحال بأكثر مما أبداه من ذكر المهم عن الصواب في خلافته والشهادة بفتنتهم بترك وفاقهم له.

ولأن الدلائل الظاهرة على حقه عليه السلام تغني عن محاججتهم بالكلام ومعرفته بباطن أمرهم الذي أظهروا خلافه في الاعتذار يسقط عن فرض التنبيه الذي يحتاج إليه أهل الرقدة عن البيان وقد قال الله عز وجل في تأكيد ما ذكرناه وحجة على ما وصفناه {بَلِ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ}.

وقد ذكر بعض العلماء أن الأسباب في تأخر القوم عن نصرة أمير المؤمنين عليه السلام بعد البيعة له معروفة وإن الذي أظهروه من الاعتذار في خلافه خداع منهم وتمويه وستر على أنفسهم ما استبطنوه منه خوفا من الفضيحة فيه، فقال أما سعد بن مالك فسبب قعوده عن نصرة أمير المؤمنين عليه السلام الحسد له والطمع كان منه في مقامه الذي يرجوه فلما خاب من أمله حمله الحسد على خذلانه والمباينة له في الرأي قال والذي أفسد سعدا طمعه فيما ليس له بأهل وجرأة على مسامات أمير المؤمنين بإدخال عمر بن الخطاب إياه في الشورى وتأهيله إياه للخلافة وإيهامه لذلك أنه محل الإمامة فقدم عليه وأفسد حاله في الدنيا والدين حتى خرج منها صفرا مما كان يرتجيه.

وأما أسامة بن زيد فإن النبي صلى الله عليه وآله كان ولاه في مرضه الذي توفي فيه على أبي بكر وعمر وعثمان فلما مضى رسول الله سبيله انصرف القوم عن معسكره وخدعوه بتسميته مدة حياتهم له بالإمرة مع تقدمهم عليه في الخلافة وصانعوه بذلك مما خالفوه فيه من السمع له والسير معه والطاعة واغتر بخداعهم وقبل منهم مصانعتهم وكان يعلم أن أمير المؤمنين لا يسمح له بالخداع ولا يصانعه مصانعة القوم ويحذر من التسمية التي جعلوها له ولا يرفعه عن منزلته ويسير به سيرته في عبيده وموالي نعمته إذ كان ولائه له بالتعتق الذي كان من نزاعه النبي صلى الله عليه وآله لأبيه بعد استرقاقه فصار كذلك بعد النبي صلى الله عليه وآله غير أنه منه في الولاء فكره الانحطاط عن رتبته التي رتبها القوم فيه ولم يجد إلى التخلص من ذلك إلا بكفر النعمة والمباينة لسيده والخلاف لمولاه فحمل نفسه على ذلك لما ذكرناه.

وأما محمد بن مسلمة فإنه كان صديق عثمان بن عفان وخاصته وبطانته فحملته المعصية له على معاونة الطالبين بثاره وكره أن يتظاهر في الكون في حيز المحاربين فهم المباينين طريقهم ولم ير بمقتضى الحال معاونة أعدائهم ولا سمحت نفسه بذلك فأظهر من العذر بتأخره عن نصرة أمير المؤمنين بخلاف باطنه منه مما كره وسترا لقبيح سريرته.

وأما عبد الله بن عمر فإنه كان ضعيف العقل كثير الجهل ماقتا لأمير المؤمنين عليه السلام وراثة الخلف عن السلف ما يرثونه من المودة والعداوة وكان أمير المؤمنين عليه السلام مع ذلك قد شجاه بهدر دم أخيه عبيد الله لقتله الهرمزان وأجلاه عن المدينة وشرده في البلاد لا يأمن على نفسه من الظفر به فيسقط قودا فلم تسمح نفسه بطاعة أمير المؤمنين صلى الله عليه وآله ولا أمكنه المقت من الانقياد له لنصرته وتجاهل ما أبداه من الحيرة في قتال البغاة والشك في لمسه ذلك وحجته.

روى هذا الكلام بعينه عن أمير المؤمنين في أسباب تأخر القوم عنه فإن صحت الرواية بذلك فهو أوكد بحجته وإن لم تثبت كفى في برهانه أن قائله ليس من أهل العلم له صحة فكر وصفاء فطنة.

على أنا لو سلمنا لخصومنا ما ادعوه من امتناع سعد وابن مسلمة وأسامة وابن عمر من بيعة أمير المؤمنين وكراهتهم لها باعتزالهم إياها وأضفنا إليهم في ذلك أمثالهم ممن ظاهر عليه بالعداوة كزيد بن ثابت وحسان بن ثابت ومروان بن الحكم بن أبي العاص وعبد الله بن الزبير وولد عثمان بن عفان وجماعة ممن كان معهم في الدار يوم الحصار بني أمية المعروفين بمقت بني هاشم وعداوتهم والمباينة لهم في الجاهلية والإسلام بالخلاف لما قدح فيما اعتمدنا من دليل إمامته عليه السلام الذي بينا القول فيه على مذاهب الخصوم من الحشوية والمرجئة والخوارج وأهل الاعتزال وقاعدتهم في ثبوت البيعة بالاختيار من أهل الرأي إذ كنا لم نعتمد في ذلك على إجماع كافة أهل الإسلام وإنما اعتمدنا ما ثبت به العقل على أمور القوم في بيعة أهل الفضل منهم والاجتهاد واستظهرنا في التأكيد لذلك بذكر إجماع المهاجرين الأولين وعيون الأنصار وفضلاء المسلمين ممن حوته المدينة يومئذ والتابعين بإحسان والخيرة الصالحين من أهل الحجاز والعراق ومصر وغيرها من البلاد والذين كانوا حاضرين بالمدينة يومئذ بأجمعهم سوى من يعتصم بخلافة الخصوم محصور عددهم لقلتهم رضوا بإمامة أمير المؤمنين عليه السلام ورغبوا في تولي الأمر وسألوه ورأوا أن لا يستحق له سواه وتابعوه على الطوع منهم والإيثار وبذلوا نفوسهم من بعد البيعة معه في جهاد أعدائه واعتقدوا أن التأخر عن طاعته في قتال أعدائه ضلال موبق وفسق مخرج عن الإيمان والبيعة عند مخالفينا تتم ببعض من ذكرناه إذ كانوا خمسة نفر على قول فريق منهم أو أربعة على قول آخرين أو اثنين على مذهب فريق آخر بل تتم عند أكثرهم بواحد حسبما ذكرناه فكيف يحل مع ذلك بدليلنا الذي ذكرناه في إمامته عليه السلام خلاف النفر الذين تعلق بذكرهم في القعود عن القتال ممن تعلق أو بما ظهر بعد البيعة من خلاف مرتكبها. ومباينة معاوية بن أبي سفيان وعمرو بن العاص بعد الذي كان من مراسلتهما أمير المؤمنين عليه السلام بالبيعة والطاعة بشرط إقرارهما على ماولاهما عليه عثمان من الأعمال فلما أبى ذلك خوفا من الله تعالى ظاهروا عليه بالخلاف وإن خصومنا جهال أغمار لا معرفة لهم بوجوه النظر ولا علم لهم بالأخبار.

- جملة من خيار المهاجرين ممن بايع أمير المؤمنين الراضين بإمامته الباذلين لأنفسهم في طاعته
- الجمل - الشيخ المفيد  ص 49:

ونحن نذكر الآن جملة من بايع أمير المؤمنين عليه السلام الراضين بإمامته الباذلين لأنفسهم في طاعته بعد الذي أجملناه من الخبر عنهم ممن يعترف المنصف بوقوفه على أسمائهم تحقيق ما وصفناه عن عنايتهم في الدين وتقدمهم في الإسلام ومكانهم من نبي الهدى وإن الواحد منهم لو ولى العقد لإمام لانعقد الأمر به خاصة عند خصومنا فضلا عن جماعتهم وعلى مذهبهم فيما يدعونه من ثبوت الإمامة بالاختيار وآراء الرجال وتضمحل بذلك عنده شبهات الأموية فيما راموه من القدح في دليلنا بما ذكروه من خلاف من سموه حسبما قدمنا ومن بايع أمير المؤمنين بغير ارتياب ودان بإمامته على الإجماع والاتفاق، واعتقد فرض طاعته والتحريم لخلافه ومعصيته والحاضرون معه في حرب البصرة ألف وخمسمائة رجل من وجوه المهاجرين الأولين والسابقين إلى الإسلام والأنصار البدريين العقبيين وأهل بيعة الرضوان من جملتهم سبعمائة من المهاجرين وثمانمائة من الأنصار سوى أبنائهم وحلفائهم ومواليهم وغيرهم من بطون العرب والتابعين بإحسان على ما جاء به الثبت من الأخبار.

بيعة المهاجرين: فمن جملة المهاجرين عمار بن ياسر صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله وحبيبه أخص الأصحاب كان به والثقة قبل البعثة وبعدها وأنصر الناس له وأشدهم اجتهادا في طاعته المعذب في الله أبوه وأمه في أول الإسلام الذي لم يكن لأحد من الصحابة في المحنة ما كان له ولا نال أحد منهم في الدين من المكروه والصبر على الإسلام كما ناله، لم تأخذه في الله لومة لائم، مقيم مع شدة البلاء على الإيمان الذي اختص من رسول الله بمديح لم يسبقه فيها سواه من الصحابة كلها، مع شهادته له بالجنة مع القطع والبيان لإنذاره من قتله والتبشير لقاتله بالنار على ما اتفق عليه أهل النقل من حملة الآثار فمن ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وآله إن الجنة لتشتاق إلى عمار فإنها إليه أشوق منه إليها، وقوله بشر قاتل عمار وسالبه بالنار، وقوله صلى الله عليه وآله عمار جلدة بين عيني وأنفي، وقوله لا تؤذوني في عمار، وقوله عمار ملأ إيمانا وعلما، في أمثال ذلك من المدايح والتعظيمات التي اختص بها على ما ذكرناه.

ثم الحصين بن الحرث بن عبد المطلب والطفيل بن الحرث المهاجران البدريان ومسطح بن أثاثه وحجار بن سعد الغفاري وعبد الرحمن بن جميل الجمحي وعبد الله ومحمد ابنا بديل الخزاعي والحرث بن عوف وأبو عابد الليثي والبراء بن عازب وزيد بن صوحان ويزيد بن نويرة الذي شهد له رسول الله صلى الله عليه وآله بالجنة وهاشم بن عتبة المرقال وبريدة الأسلمي وعمرو بن الحمق الخزاعي وهجرته إلى الله ورسوله معروفة ومكانه منه مشهور ومدحه له مذكور والحرث بن سراق وأبو أسيد ابن ربيعة ومسعود بن أبي عمر وعبد الله بن عقيل وعمر بن محصن وعدي بن حاتم وعقبة بن عامر ومن في عدادهم ممن أدرك عصر النبي كحجر بن عدي الكندي وشداد بن أوس في نظرائهما من الأصحاب وأمثال من تقدم ذكره من المهاجرين على طبقاتهم في التقى ومراتبهم في الدين ممن يطول تعداد ذكره والكلام فيه.

- جملة من خيار الأنصار ممن بايع أمير المؤمنين الراضين بإمامته الباذلين لأنفسهم في طاعته
- الجمل - الشيخ المفيد  ص 51:

بيعة الأنصار: ومن الأنصار أبو أيوب وخالد بن زيد صاحبا رسول الله صلى الله عليه وآله وخزيمة بن ثابت ذي الشهادتين وأبي الهيثم بن التيهان وأبو سعيد الخدري وعبادة ابن الصامت وسهل وعثمان ابنا حنيف وأبو عباس الزرقي فارس رسول الله صلى الله عليه وآله يوم أحد وزيد بن أرقم وسعد وقيس ابنا سعد بن عبادة وجابر بن عبد الله بن حزام ومسعود بن أسلم وعامر ابن أجبل وسهل بن سعيد والنعمان بن حجلان وسعد بن زياد ورفاعة ابن سعد ومخلد وخالد ابني أبي خلف وضرار بن الصامت ومسعود بن قيس وعمر بن بلال وعمار بن أوس ومرة الساعدي ورفاعة بن مالك الزرقي وجبلة بن عمرو الساعدي وعمر بن حزم وسهل بن سعد الساعدي في أمثالهم من الأنصار الذين بايعوا البيعتين وصلوا القبلين واختصوا من مدايح القرآن والثناء عليهم من نبي الهدى عليه وآله السلام مما لم يختلف فيه من أهل العلم اثنان وممن لو أثبتنا أسماءهم لطال بها الكتاب ولم يحتمل استيفاء العدد الذي حددناه.

- جملة من خيار الهاشميين ممن بايع أمير المؤمنين الراضين بإمامته الباذلين لأنفسهم في طاعته
- الجمل - الشيخ المفيد  ص 51، 52:

بيعة الهاشميين: ومن بني هاشم أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة ومهبط الوحي ومختلف الملائكة الحسن والحسين سبطا الرحمة وسيدا شباب أهل الجنة عليهما السلام ومحمد بن الحنفية وعبد الله بن جعفر ومحمد وعون ابنا جعفر الطيار وعبد الله بن عباس بن عبد المطلب بن عم رسول الله والفضل وقثم وعبيد الله بنو العباس وعبد الله بن أبي لهب وعبد الله ابن الزبير بن عبد المطلب وعبد الله بن أبي سفيان بن الحرث بن عبد المطلب وكافة بني هاشم وبني عبد المطلب.

- جملة من خيار الشيعة ممن بايع أمير المؤمنين الراضين بإمامته الباذلين لأنفسهم في طاعته
- الجمل - الشيخ المفيد  ص 52:

بيعة باقي الشيعة: ومن يلحق منهم بالذكر من أوليائهم وعليه شيعتهم وأهل الفضل في الدين والإيمان والعلم والفقه والقرآن المنقطعين إلى الله تعالى بالعبادة والجهاد والتمسك بحقائق الإيمان: محمد بن أبي بكر ربيب أمير المؤمنين وحبيبه ومحمد بن أبي حذيفة وليه وخاصته المستشهد في طاعته ومالك ابن الحرث الأشتر النخعي سيفه، المخلص في ولايته وثابت بن قيس النخعي وكميل بن زياد وصعصعة بن صوحان العبدي وعمر بن زرارة النخعي وعبد الله بن أرقم وزيد بن الملفق وسليمان بن صرد الخزاعي وقبيصة وجابر وعبد الله ومحمد بن بديل الخزاعي وعبد الرحمن بن عديس السلولي وأويس القرني وهند الجملي وجندب الأزدي والأشعث ابن سوار وحكيم بن جبلة ورشيد الهجري ومعقل بن قبس بن حنظلة وسويد بن الحارث وسعد بن مبشر وعبد الله بن وال ومالك ابن ضمرة والحارث الهمداني وحبة بن جويرة العرني ممن كانوا بالمدينة عند قتل عثمان وأطبقوا على الرضا بأمير المؤمنين عليه السلام فبايعوه على حرب من حارب وسلم من سالم وأن لا يولوا في نصرته الأدبار وحضروا مشاهده كلها لا يتأخر عنه منهم أحد حتى مضى الشهيد منهم على نصرته وبقي المتأخر منهم على حجته حتى مضى أمير المؤمنين عليه السلام لسبيله وكان من بقي منهم بعده على ولايته والاعتقاد بفضله على الكافة بإمامته.

- اتفق المهاجرون والأنصار وأهل بدر وأهل بيعة الرضوان والتابعون بإحسان على إمامة أمير المؤمنين
- الجمل - الشيخ المفيد  ص 52، 53:

وإذا كان الأمر في بيعته حسب ما ذكرناه وإجماع من سميناه ونعتناه على الرضا به والطاعة له والاعتقاد كما وصفناه بطل اعتراض المتعرض في ثبوت إمامته بتأخر من سميناه من البيعة وتفردهم عن الحرب معه ووضح حصر عددهم، وقلت إن الإجماع كان من كافة أهل الهجرة عليه إذ لو كان هناك سوى النفر المعدودين في خلاف أمير المؤمنين عليه السلام لشركهم في الرأي وذكرهم الناس في جملتهم وأحصوهم في عددهم وألحقوهم بهم فيما انفردوا به من جماعتهم ولم يكن لغيرهم ذكر في ذلك فصح ما حكيناه من اتفاق المهاجرين والأنصار وأهل بدر وأهل بيعة الرضوان والتابعين بإحسان على إمامته كما قدمناه فيما سلف وذكرناه والمنة لله.

- في رد دعوى الإجبار  على بيعة أمير المؤمنين
- أمير المؤمنين بايعه على الرضا من لا يحصى عددهم كثرة ممن جاهد معه في حروبه وبذل دمه في نصرته من المهاجرين البدريين والأنصار العقبيين وأهل بيعة الرضوان والتابعين بإحسان
- الجمل - الشيخ المفيد  ص 53، 56:

الإجبار في البيعة: فإن قال قائل قد وجدتكم فيما احتججتم به على مخالفيكم في إمامة علي عليه السلام وثبوتها الموجب لضلال مخالفيه وخروجهم بحربه عن الإيمان عقد الصحابة على الاختيار ورغبتهم إليه في تولي أمورهم ومسائلته في ذلك وإباؤه له حتى اجتمع المسلمون والإلحاح ممن بايعه طوعا من المهاجرين والأنصار وقد جاءت الأخبار بضد ذلك وأنه كان قاهرا للأمة مجبرا لها على البيعة مكرها في ذلك الناس.

فروى الواقدي عن هاشم بن عاصم عن المنذر بن الجهم قال سألت عبد الله بن تغلبة كيف كانت بيعة علي عليه السلام قال رأيت بيعة رأسها الأشتر يقول من لم يبايع ضربت عنقه وحكيم بن جبلة وذووهما ما ظنك بما يكون أجبر فيه جبرا ثم قال أشهد لرأيت الناس يحشرون بيعته فيتفرقون فيؤتى بهم فيضربون ويعسفون فبايع من بايع وانفلت من انفلت، وروى أيضا عن سعيد بن المسيب قال لقيت سعد بن زيد بن نفيل فقلت بايعت؟ فقال ما أصنع إن لم أفعل قتلني الأشتر وذووه، قال وقد عرف الناس من طلحة والزبير كانا يقولان بايعناه مكرهين، وروى عنهما أنهما قالا بايعناه بأيدينا ولم تبايعه قلوبنا، والخبر مشهور عن طلحة بن عبد الله إنه كان يقول بايعت مع علي وإلا رقبتي، قالوا وإذا كان البيعة لعلي بقهر وإصرار وإكراه الناس وإجبار لم تثبت إمامته ولم يثبت نظيرها في بيعة أبي بكر وعمر وعثمان.

الجواب: فيقال للمعترض لما حكيناه، لسائل عما ذكرناه، فأما الواقدي فعثماني المذهب بالميل عن علي أمير المؤمنين عليه السلام والذي رووا عنه ما رواه من إكراه الناس علي البيعة لأمير المؤمنين عليه السلام والتخرص عليه بإضافة الأباطيل إليه وقد ثبت أن شهادة المشاجر مردودة بالإجماع وحديث الخصم فيما قدح به عدالة خصمه مطروح بالاتفاق وقول المتهم الظنين غير مقبول بلا اختلاف فلا حجة في الحديث المذكور عن ابن تغلبة. ولو سلم من جميع ما وصفناه من الطعن فيه إذا كان فإنه خبر واحد يضاد التواتر الوارد بخلاف معناه فكيف وهو من الوهن على ما بيناه.

وأما خبر ابن المسيب عن سعيد بن زيد بن نفيل فقد صرح فيه بإقرار سعيد بالبيعة ودعواهم أنه بايع خوفا من الأشتر باطلة إذا كان ظاهره بخلاف ما ادعاه فيه وليس كل من خاف شيئا فقد وقع خوفه موقعه بل أكثر من يخاف متوهم للبعد ظان للباطل متخيل للفاسد ولم يذكر سعيد شيئا من إمارات خوفه فيكون له حجة فيما ادعاه ولم يقل أحد أن الأشتر ولا غيره من شيعة أمير المؤمنين عليه السلام كلموا ممتنعا من بيعته في الحال ولا ضربوا أحدا منهم بالسوط ولا نهروه فضلا عن القتل وضرب الرقاب فكيف يخاف سعيد من الأشتر مع ما ذكرناه وأنى يكون لخوفه وجه صحيح على ما نقلناه وهذا يدل على كذب الواقدي فيما أضافه إلى سعيد بن زيد من الخوف وأخبر عنه أو على تمويه سعيد فيما ادعاه.

وأما قول طلحة والزبير إنهما بايعا مكرهين فالكلام فيه كالكلام على ابن المسيب عن سعيد والتهمة لهما في ذلك أوكد لأنهما جعلا ذلك عذرا في نكثهما البيعة والخروج عن الطاعة وطلب الرياسة والإمرة فلم يجدا إلى ذلك سبيلا مع ما كان منهما في ظاهر الحال من البيعة على الطوع بلا إجبار إلا بدعوى الإكراه والإحالة في ذلك على الضمائر والبواطن التي لا يعلمها إلا الله وقد ثبت في حكم الإسلام الأخذ لهما بمقتضى الإقرار منهما في البيعة والقضاء عليها بلزوم الطاعة لهما لمن بايعاه والخلاف عليهما لإمامهما الذي اعترفا ببيعتهما له وصفقا له بأيديهما على يده بالعقد له على ظاهر الرضا والإيثار وسقوط دعواهما للباطن المضاد للحكم الظاهر من ذلك وما زعماه من حكم الكراهة في قلوبهما على ما ادعياه. مع أن ظهور مشاحتهما لأمير المؤمنين عليه السلام ومظاهرتهما له بالعداوة وبلوغهما في ذلك الغاية من ضرب الرقاب وسفك الدماء يبطل دعواهما على ما يقدح في عدالته ويؤثر في إمامته ويمنعه حقا له على كل حال.

على أنه لو ثبت الإكراه في البيعة لأمير المؤمنين لمن ادعى المخالفون إكراهه لم يقدح ذلك في إمامته عليه السلام على أن أصول شيعته الدائنين بالنص عليه من رسول الله صلى الله عليه وآله تقتضي ذلك لأن الإمام المنصوص عليه المفترض طاعته على الأنام أن يكره من أبى طاعته ونصرته بالسوط والسيف على ذلك حتى يفيء إلى أمر الله والانقياد له ويزول بذلك ما يحذر من فسادهم وفتنهم ولا يؤثر أيضا في إمامته على مذهب المخالفين القائلين بالاختيار لأنه إذا بايع عندهم من أهل الفضل عدد محصور ثبت له العقد ووجبت له الطاعة وكان له إكراه من أبي البيعة ورام الخلاف والعصيان وأعمال السوط والسيف في ردعه عن ذلك وإكراهه على الطاعة والدخول مع الجماعة ومعلوم أن أمير المؤمنين قد بايعه على الرضا به من لا يحصى عددهم كثرة ممن جاهد معه في حروبه وبذل دمه في نصرته من المهاجرين البدريين والأنصار العقبيين وأهل بيعة الرضوان، والتابعين بإحسان ممن أثبتنا أسماء بعضهم فيما سبق هذا الفصل في الكتاب فبطل ما تعلق به الخصم من دعوى الإكراه لمن سموه والخبر في ذلك على ما ادعوه والاعتماد على أخبار شواذ به يبطله الظاهر والمنتشر في خلافهما من الأخبار.

- بيعة طلحة والزبير لأمير المؤمنين
- الجمل - الشيخ المفيد  ص 65، 66:

بيعة طلحة والزبير: وروى أبو إسحاق بن إبراهيم بن محمد الثقفي عن عثمان بن أبي شيبة عن إدريس عن محمد بن عجلان عن زيد بن أسلم قال جاء طلحة والزبير إلى علي عليه السلام وهو متعوذ بحيطان المدينة فدخلا عليه وقالا ابسط يدك نبايعك فإن الناس لا يرضون إلا بك; فقال لهما لا حاجة لي في ذلك ولئن أكون لكما وزيرا خير لكما من أن أكون أميرا فليبسط قرشيا منكما يده أبايعه; فقالا إن الناس لا يؤثرون غيرك ولا يعدلون عنك إلى سواك فابسط يدك نبايعك أول الناس، فقال إن بيعتي لا تكون سرا فأمهلا حتى أخرج إلى المسجد فقالا بل نبايعك هنها ثم نبايعك في المسجد فبايعاه أول الناس ثم بايعه الناس على المنبر أولهم طلحة بن عبيد الله وكانت يده شلاء فصعد المنبر إليه فصفق على يده، ورجل من بني أسد يزجر الطير قائم ينظر إليه فلما رأى أول يده صفقت على يد أمير المؤمنين يد طلحة وهي شلاء قال إنا لله وإنا إليه راجعون أول يد صفقت على يدي شلاء يوشك أن لا يتم هذا الأمر ثم نزل طلحة والزبير وبايعه الناس بعدهما.

وهذه الأخبار مع كثرتها وانتشارها في كتب السير وكافة كتب العلماء وظهورها واستفاضتها تتضمن نقيض ما ادعاه المخالف من إكراه أمير المؤمنين عليه السلام على البيعة ويبطل ما تعلق به من ذلك من شك في الخبر الذي أورده الواقدي عن العثمانية المتظاهرة بعداوة أمير المؤمنين عليه السلام.

على أن الواقدي قد أثبت في كتابه الذي صنفه في حرب البصرة ما يوافق الأخبار التي قدمنا ذكرها ويضاد ما خالفها في معناه، فقال حدثني عبد الله بن جعفر عن عثمان بن محمد قال لما قتل عثمان أقبل الناس على علي ليبايعوه فتأبى عليهم وقالوا بايعنا لا تخلف أمرك فأبى عليهم فمدوا يده وبسطوها وقبضوها فقالوا بايعنا لا نجد غيرك ولا نرضى إلا بك; وروى إسماعيل بن محمد عن محمد بن سعد عن أبيه قال أرسل علي ابن أبي طالب عليه السلام إلى أبي ليبايع فقال له إذا لم يبق غيري بايعتك فقال علي عليه السلام خلوا سعدا وأرسل إلى أسامة بن زيد فقال له أسامة أنا لك طوع ولكن أعفني الخروج بالسيف فقال له علي لم أكره أحدا على بيعته وأن جميع من بايعه كان مؤثرا له داعيا إليه في ذلك على ما قدمناه والحمد لله.

- رأي الجاحظ في أمير المؤمنين
- الجمل - الشيخ المفيد  ص 108:

رأي الجاحظ في علي: فصل: قد زعم الجاحظ أن أمير المؤمنين عليه السلام كان ممتحنا بعد قتل عثمان بمحن عظيمة وذلك أن جميع من نصب له الحرب جعل الحجة عليه في دعواه عليه قتل عثمان، قال وظاهر الحال يوهم ذلك عليه لأنه كان مباينا له في الأحوال والأوقات وهاجرا له في زمان وأيام وكان المنكرون على عثمان من أهل مصر والعراق يلجأون إليه في السفارة بينه وبين عثمان وكان عليه السلام فيهم مسموع القول مطاعا معظما مأمونا ثم قعد عن نصرته وتقلد الأمر من بعده واستنصر على محاربيه بقتله فلم يشك القوم أنه قاتله.

قال وواحدة من هذه الخصال تريب فكيف بجميعها ثم قال: وقد علم الناس قد يكون في هذا المصر الذي يتولاه أميرا ووزيرا وعاملا من يوصل مثل عمله ويصلح لمثل رتبته ويمد عنقه إلى مثل ولايته ولا يتفق له من مراده من ذلك ويقصده الناظر بما يمنعه من صرفه والتدبر في عزله فيلزم بيته ويقصر مراعاته خوفا من بيعته في عزله وتولى مقامه فيموت حتف أنفه فلا يشك الناس أنه دس إليه من قتله ولو قتل ذلك الإنسان ذو غر لغرض لضره أو لطلب ماله لقطعوا أن أمير البلدة وضعه على ذلك ودبر الأمر فيه عليه وقد يجلس السلطان بعض الرعية لشيء يجده في نفسه عليه فيموت في الحبس حتف أنفه فيحلف خلق من الناس بالله أنه تقدم فخنقه ولا يشك الجمهور أنه واطأ على دمه ولو أقسم السلطان بالله أقساما أكدها على البرائة من دمه لجعلوا ذلك شبهة فيما ادعوه عليه من قتله، ثم قال هذا الرجل -أعني الجاحظ- أن أقوال علي في عثمان إنما اختلفت وتناقضت -بزعمه- لأنه كان محتاجا إلى التبرئ من دمه لكف أهل البصرة وأهل الشام عنه بذلك وكان محتاجا إلى إضافة دم عثمان إليه لاستصلاح رعيته وارتباطهم لنصرته.

وليس الأمر كما زعمه الجاحظ ولا القصد فيه كما توهمها وإنما حمل الجاحظ حال أمير المؤمنين عليه السلام في ما زعمه على أحوال أهل الدنيا ومن لا دين له ولا يقين ولا تقوى من يصنع ما يصنع ويقول ما يقول لعمارة الدنيا ولا يبالي بعاقبة ذلك في الآخرة بل كانت أفعال علي عليه السلام وأقواله التي أثبتناها في ما تقدم على الأغراض التي أنبأنا عنها وأوضحنا عن اتفاقها ووفاقها للدين والنظر في مصالح المسلمين ومن تأمل ما ذكرناه وفكر فيه بقلب سليم وجده على ما وصفناه.

- رأي العثمانية في أمير المؤمنين واتهامه في قتل عثمان
- الجمل - الشيخ المفيد  ص 110، 112:

رأي العثمانية: فصل: وقد زعمت العثمانية أن الذي يدل على مشاركة علي عليه السلام قتلة عثمان أشياء قد ثبتت بالأخبار وتظاهرت بها الآثار منها أنه تولى الصلاة بالناس يوم النحر وعثمان محصور ولم يستأذنه في ذلك وتغلب عليه فيه وهذا مما جعل الشافعي حجة في جواز صحة صلاة المتغلب بالناس يوم الجمعة والعيدين ورد به على أهل العراق وإنكارهم ذلك وقولهم لا تصح الصلاة في الجمعة والعيدين خلف المتغلب فحكى الربيع والمزني عن الشافعي أنه قال في هذه المسألة لا بأس بصلاة الجمعة والعيدين خلف الآمر فإن عليا عليه السلام صلى بالناس وعثمان محصور.

وقد روى أبو حذيفة القرشي عن محمد بن إسحاق وغيره أن قوما صاروا إلى عثمان وهو محصور وقالوا ما ترى إلى هؤلاء الذين يصلون بالقوم في يوم الجمعة بالناس وأنت على هذا الحال لم تأمرهم بذلك وقد كان طلحة بن عبيد الله صلى بهم يوم الجمعة في حصار عثمان فحكوا عن عثمان أنه قال إذا أحسنوا فاتبعوهم وإن أساؤا فاجتنبوهم الصلاة حسنة فصلوا إذا صلوا، فزعمت العثمانية أن عليا كان متهما بدم عثمان لصلاته بالناس يوم النحر عن غير إذنه وادعى الشافعي إنه كان متغلبا بذلك ولم يتعلق أحد من قرف طلحة بدم عثمان لصلوته بالناس يوم الجمعة وعثمان محصور ولا نسبوه إلى التغلب بذلك وبرؤه من دمه وهو الذي تولى حصره حتى قتله وكانت شبهتهم في برائة طلحة خلاف لأمير المؤمنين عليه السلام والتمويه في حربه بالتظاهر لطلب دمه وعقول هؤلاء القوم عقول ضعيفة وأحلامهم أحلام سخيفة فلذلك ينقادون من الشبهة إلى ما ذكرناه.

ومما تعلق القوم به أيضا في قرف علي عليه السلام بدم عثمان بعد الذي ذكرناه وعددنا مقامه بالمدينة منذ حصر وقول أسامة بن زيد مشيرا عليه بالخروج عنها على ما رواه حذيفة القرشي عن رجاله قال: قال أسامة ابن زيد لعلي لأنت والله يا أبا الحسن أعز علي من سمعي وبصري فأطعني واخرج إلى أرضك بينبع فإن قتل عثمان وأنت شاهد طلبك الناس بدمه وإن لم تشهد لم تعدك بك الناس أحدا، فقال ابن عباس لأسامة يا أبا محمد أتطلب أثرا بعد عين أبعد ثلاثة من قريش وروى يوسف بن دينار عن عبد الملك بن عمير اللخمي عن أبي ليلى قال سألني عبد الملك بن مروان حين قدم الكوفة عن قتل عثمان فأخبرته فقال أين كان علي يومئذ فقلت بالمقاعد يأمر فيطاع، وينهى فيطاع ولقد رأيته عند أحجار الزيت مختبيا بسيفه ومناد ينادي آمن الله هذا الناس كلهم إلا الشقي (نعثلا) فقال عبد الملك هل سمعت عليا يقول شيئا؟ فقال لا، وروى النخعي عن علقمة بن قيس قال أرسلت أم حبيبة بنت أبي سفيان إلى علي وهو قاعد في المسجد: إن أمن لي خاصتي ومن في الدار من أهلي، فقال الناس كلهم آمنون إلا الشقي ابن أبي العاص وروى خالد الحذاء عن رجل من بني شيبان قال رأيت عليا يوم قتل عثمان يخطب الناس على المنبر وعليه السلاح فجعلت العثمانية هذه الأشياء شبها لها فيما قذفت به أمير المؤمنين عليه السلام من دم عثمان واحتجت أيضا في ذلك بما صنعه علي عليه السلام عند قتل عثمان من أخذ نجائبه وأدراعه وأورد في ذلك قول الوليد بن عقبة يخاطب بني هاشم ويعاتبهم عند قتل عثمان:

بني هاشم ردوا سلاح ابن أختكم  *  ولا تنهبوه لا تحل مناهبه

بني هاشم كيف الهوادة بيننا  *  وعند علي درعه ونجائبه

بني هاشم كيف التودد بيننا  *  وتبر ابن أروى فيكم وجوائبه

بني هاشم إني وما كان منكم  *  كصدع الصفا لا يشعب الصدع شاعبه

هم قتلوه كي يكونوا مكانه  *  كما غدرت يوما بكسرى مرازبه

فإن لم تكونوا قاتليه فإنه  *  سواء علينا مسلموه وسالبه

واحتجوا أيضا بقول حسان بن ثابت الأنصاري في قتل عثمان:

ضحوا بأشمط عنوا السجود له  *  يقطع الليل تسبيحا وقرآنا

يا ليت شعري وليت الطير تخبرني  *  ما كان بين علي وابن عفانا

لتسمعن وشيكا في ديارهم  *  الله أكبر يا ثارات عثمانا

وله أيضا:

من عذيري من الزبير ومن  *  طلحة هاجا أمرا له إعسار

حين قالا للناس دونكم العلج  *   فشبت وسط المدينة نار

واصطلاها محمد بن أبي بكر  *  جهارا وخلفه عمار

وعلي في بيته يسأل الناس  *  رويدا وعنده الأخبار

باسطا كفه يريد ذراعيه  *  وفيه سكينة ووقار

خذلته الأنصار إذ حضر الموت  *  وكانت تعاند الأنصار

وكذلك اليهود ضلت عن الدين  *  بما زينت لها الأحبار

وأمثال ما ذكرناه والجواب عن جميعه سهل قريب والمنة لله.

- شعر حسان بن ثابت في الولاية لأمير المؤمنين في غدير خم ثابت لأنه قاله بمحضر من رسول الله ومشهده ولم ينكر عليه
- الجمل - الشيخ المفيد  ص 112، 119:

الدفاع عن علي: فصل: فأما الجواب عما تعلقوا به من قذف علي عليه السلام بدم عثمان من حيث تولي الصلاة بالناس يوم النحر وعثمان محصور فهو مبني على مذهبين: أحدهما الشيعة القائلين بالنص على علي القاطعين على إمامته بلا فصل، وهو أنه إذا كان الإمام المفترض الطاعة فله أن يتولى كلما يتمكن من توليه مما اقتضته إمامته، والإمامة تقتضي إمامة المسلمين في الصلاة والتقدم عليهم في الجهاد، وإقامة الحدود والأحكام وليس متى تولى الإمام شيئا مما له توليته عند الإمكان دل ذلك على أنه ساع في دم إنسان ومريد لقتله على كل حال.

والجواب على المذهب الآخر وهو القول بالاختيار إن الإمام إذا غير وبدل وأحدث ما ينفسخ به عقده فلا فاضل الناس أن يتولى أمر الصلاة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى أن يعقد الإمام من بعده.

وعلى مذهب القوم الذين رأوا إقامة الإمام بالاختيار إن في خلع عثمان باحداثه قد زال فرض طاعته بذلك وكان للأفاضل منهم أن يقدموا في الصلاة بهم من يرون إلى أن يتم الأمر في العقد لمن يستحق ذلك; ولو كان هناك من يعتقد أن إمامة عثمان لم تزل بأحداثه، إلا أنه ممنوع من الصلاة بالناس لكان للأفاضل أن يتولوا الصلاة نيابة عنه في تلك الحال فعلى كل المذهبين اللذين ذكرناهما لا تجب بصلاة علي يوم النحر بالناس وعثمان محصور أن يقضى عليه بأنه كان مريدا لقتله، فضلا أن يكون مشاركا فيه.

وقد روى الخصم عن عثمان لما أؤذن بصلاة طلحة بالناس، واستؤذن في الصلاة معه، قال لهم إذا أحسنوا فاتبعوهم وإذا أساؤا فاجتنبوهم فحكم لصلاتهم بالحسن وإن كان محصورا لم يأذن فيها لهم ولم يولهم ذلك إلا أنه أباحه ووصف المصلين بأنهم في ذلك محسنون، فإن تعلق المخالف على علي عليه السلام في قتل عثمان بصلاته بالناس وهو محصور لولا أنه تعنت بذلك عادل عن طريق الإنصاف.

وأما تعلقهم بقعود أمير المؤمنين عليه السلام بالمدينة حتى قتل عثمان، وتركه الخروج منها ومباعدة القوم فيما صنعوه وما أشار عليه أسامة من الخروج وتحذيره في قعوده بمطالبة القوم له بدم عثمان فليس أيضا ما ثبتت به الحجة على ما ادعوه من قبل إنه لا يمتنع أن يكون مقامه بالمدينة في تلك الحال لتدبير الدفاع عنه ولو كان خرج عنها لتعجل من قتل القوم له ما تأخر ولم يكن أيضا يؤمن أن يتعدى القتل منه إلا غيره وتحدث فتنة لا يتلافى صلاحها فجلس عليه السلام لذلك ولم يجلس لمعونة على قتل عثمان، بل لو خرج من المدينة في حال حصر القوم الرجل لكانت التهمة إليه في قتله أسرع مع ما ذكرناه من المحذور.

وأما نقلهم جواب ابن عباس لأسامة وقوله أبعد ثلاثة من قريش تطلب أثرا بعد عين، فليس فيه أيضا دليل على إيثار ابن عباس لأمير المؤمنين عليه السلام قتل الرجل ولا فيه حجة على أنهما شركا يفي ذلك من تولاه وإنما يدل على إيثار ابن عباس أن يكون الأمر فيهم بعد عثمان، ولسنا ننكر أن يكون عليا كان مؤثرا للتمكن من الأمر بعد عثمان ليقيم بذلك حدود الله وينفذ به أحكامه، وينظر في مصالح المسلمين، ومن آثر ذلك من أهله فهو محمود وهذا يستمر على مذهب الشيعة الإمامية والزيدية والجارودية والقائلين بالنص عليه وعلى مذهب أصحاب الاختيار معا.

فأما أصحاب النص فيقولون إنه الإمام المفترض الطاعة على الأنام وكان يجب أن يجتهد بالتوصل بما للأئمة إقامته وتولي ما لهم توليته وأن لا يفرط في ذلك ولا يهمله وإذا كان مقامه لما ذكرناه كان به محمودا ولم يجز صرف الغرض فيه إلى ما ادعاه الخصوم من خلافه مع أنه لم ينكر إنما كان مقامه بالمدينة لدفاع ما كان يحذر من إمامة من لا يستحق الأمر بعد قتل عثمان فأقام لدفاعهم عن ذلك لوجوده بينهم وعلمه برأي الناس في تقديمه على غيره ولو كان نائبا عن المدينة لغلب على الأمر من يعسر على الأمة صرفه عنه ممن لا يؤمن على الدين وهو مستمر على أصول أصحاب أهل الاختيار كما استمر على أصول أصحاب النص وليس فيه دليل على ما يتعلق به القوم من قذفه بقتل عثمان حسبما بيناه وشرحناه.

وأما قبض أمير المؤمنين عليه السلام عند قتل عثمان النجائب والادراع التي قبضها مما كان منسوبا إلى عثمان والتعلق بشعر الوليد بن عقبة على ما أثبتناه عنه فيما سلف وسطرناه فليس أيضا بحجة لقاذف علي عليه السلام بقتل عثمان وذلك أنه لو لم يقبض ذلك علي عليه السلام لأسرع إلى قبضه ونهبه وتملكه من ليس له ذلك بحق من الرعية واحتاط بقبضه وإحرازه لأربابه وقد كان هو الإمام باتفاق الجمهور بعد عثمان وللأمام أن يحتاط لأموال المسلمين وتركات من قضى بينهم ليصل إلى مستحقيه دون غيرهم وليس إذا التمس الوليد بن عقبة ما لا يستحق فمنع منه كان ذلك لغلول المانع له بما التمسه ولا لتغلبه عليه ولا قول الوليد أيضا مسموع ولا شهادته مقبولة مع نزول القرآن بتفسيقه، قال تبارك وتعالى اسمه {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} وقد روى أهل التفسير أن هذه الآية نزلت في الوليد بن عقبة حين أنفذه النبي صلى الله عليه وآله إلى قوم يقبض منهم الصدقات فعاد مدعيا عليهم أنهم منعوه من ذلك وخرجوا إلى حربه فأعد رسول الله جماعة لحربهم فورد وارد بتكذيب الوليد وإنهم على الإسلام والطاعة فأنزل الله تعالى ما أثبتناه فيه.

وجاء في الحديث المشهور أن الوليد قال لأمير المؤمنين في محاورة جرت بينهما أنا أبسط منك لسانا وأحد سنانا قال عليه السلام اسكت يا فاسق فأنزل الله تعالى هذه الآية: {أَفَمَن كَانَ مُؤْمِنًا كَمَن كَانَ فَاسِقًا لاَّ يَسْتَوُونَ} وبعد فلو كانت الأدراع والنجائب التي قبضها أمير المؤمنين عليه السلام بعد قتل عثمان ملكا له، لكان أولاده وأزواجه أحق بها من الوليد وكان ارتباط علي عليه السلام ليوصلها إلى ورثته أولى من تسليمها للوليد وأمثاله من بني أمية الذين ليس لهم من تركة عثمان نصيب على حال فكيف وقد ذكر الناس في هذه الأدراع والنجائب إنها من الفيء الذي يستحقه المسلمون فغلب عليها عثمان واصطفاها لنفسه فلما بايع الناس عليا انتزعها عليه السلام من موضعها ليجعلها في مستحقيها فما في ذلك من تهمة بقتل عثمان لولا العمى والخذلان.

وأما شعر حسان ابن ثابت وما تضمنه من التعريض على أمير المؤمنين عليه السلام:

وليت شعري فليت الطير تخبرني  *  ما كان بين علي وابن عفانا

ليسمعن وشيكا في ديارهم  *  الله أكبر يا ثارات عثمانا

فهو لعمري قذف بدم عثمان فلم يكن قوله حجة لنصغي إليه ولا كان عدلا فتقبل شهادته وقد نص التنزيل على رد شهادته فقال الله عزل وجل: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} ولا خلاف أن حسان كان ممن قذف عائشة وجلده النبي صلى الله عليه وآله على قذفه، وإذا كان القرآن حاصرا على المسلمين قبول شهادة الفاسقين فوجب رد شهادة حسان وأن لا يقبل منه على حال مع أنه لا خلاف بين أهل العراق من أن القاذف مردود الشهادة وإن تاب فعلى قول هذه الفرقة شهادة حسان مردودة على كل حال وأما من ذهب إلى أن القاذف تقبل شهادته عنه التوبة فبينهم في ذلك اختلاف فمنهم من يقول أنه يشترط في توبته أن يقف في الموضع الذي قذف فيه فيكذب نفسه ويظهر التوبة من جرمه ولم يدع أحد أن حسان كذب نفسه ظاهرا ورجع عن قذفه مختارا فلا توبة له على قول هذا الفريق، وأما الفريق الآخر فإنهم قبلوا شهادة القاذف بعد توبته ولم يشترط في توبته ما ذكرناه فليس معهم دليل على أنه تاب والظاهر منه القذف الذي يستحق به التفسيق ورد الشهادة في دين الإسلام فلا تعلق في قول حسان في قذف أمير المؤمنين عليه السلام بدم عثمان على كل حال، على أن حسان مذموم مردود القول باتفاق أهل الإسلام وعلى كل مذهب لأهل القبلة وذلك أنه قال في يوم الغدير بمحضر من النبي صلى الله عليه وآله في أمير المؤمنين ما قال وشهد له بالإمامة والنص فيها عليه من الله تعالى فردته المعتزلة بذلك وأنكرته الحشوية ودفعته الخوارج وكذبه جميع من سميناه ولم يحتج فيه إلا على مذهب الشيعة الإمامية والجارودية دون من سواهما من فرق الأمة على ما ذكرناه وقوله الذي قدمنا ذكره وأشرنا إليه على الإجمال هو هذا:

يناديهم يوم الغدير نبيهم  *  بخم وأسمع بالنبي مناديا

يقول فمن مولاكم ووليكم  *  فقالوا ولم يبدوا هناك التعاميا

إلهك مولانا وأنت ولينا  *  وما لك فينا في المقالة عاصيا

فقال له قم يا علي فإنني  *  رضيتك من بعدي إماما وهاديا

فمن كنت مولاه فأنت وليه  * فكونوا له أنصار صدق مواليا

هناك دعا اللهم وال وليه  *  وكن للذي عادى عليا معاديا

وهذا القول مقبول عند الشيعة لأنه قاله بمحضر من رسول الله ومشهده فلم ينكر عليه فصارت الحجة في صوابه شهادة رسول الله بحقه والناصبة بأجمعها ترد عليه وتكذبه فيه ثم تقبل قوله في القذف الباطل وحال الفتنة الظاهرة ولا شاهد لهم على ما ادعوه ثم هو في وصفه لعثمان بأنه ظلم فيما صنع به وإنه كان بريئا عند الله ومن أهل التقى والإيمان مردود الشهادة عند جميع حاصري عثمان وقاتليه من المهاجرين والأنصار والتابعين بإحسان وعند كافة الشيعة والمعتزلة والخوارج حين قال:

ضحوا بأشمط عنوان السجود له  *  يقطع الليل تسبيحا وقرآنا

إذ كان حسان مكذبا في قوله على مذهب ما ذكرناه من أهل القبلة ومردود الشهادة بما سلف له من قذف المحصنات لم يعتمد في الحجة بقوله المفترى به ومن برهان شمله الخذلان ثم هو في قول له آخر يكذب عند الشيعة بأجمعها وجمهور المعتزلة والمرجئة والحشوية القائلين بأن أمير المؤمنين عليه السلام كان أفضل الناس بعد النبي صلى الله عليه وآله وأبي علي الجبائي وابنه ورهطهما ومن شركهما في الوقف وترك القطع في التفضيل لأحد من الخلفاء الأربعة على غيره وذلك في مرثيته لأبي بكر:

إذا تذكرت شجوا من أخي ثقة  *  فاذكر أخاك أبا بكر بما فعلا

خير البرية أتقاها وأعدلها  *  بعد النبي وأوقاها بما جملا

الثاني التالي المحمود مشهده  *  وأول الناس ممن صدق الرسلا

هذا يكشف لك عن سقوط من تعلق في شيء من الدين بقول حسان من إبطال من جعل قوله حجة على كل حال وتبيين أنه كان في ما يقول نظما ونثرا على مذهب الشعراء الذين لا يتقون السيئات ولا يتورعون عن الخطيئات ولا يبالون بارتكاب الزلات ويقدمون على الأباطيل في ارتكاب الموبقات ممن وصفهم الله تعالى في كتابه فقال {وَالشُّعَرَاء يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ} وقد كان حسان ممن يشكر نعمة عثمان عليه وإحسانه إليه ولم يكن ممن يرجع إلى تقوى فيحجزه من الباطل فيما ادعاه وإن امرأ يعتمد على قول حسان وأمثاله في القدح على أمير المؤمنين ويصوب استنفار الناس عليه وإغرائهم به لخفيف الميزان عند الله بين الخسران وبالله المستعان.

- خطبة أمير المؤمنين في عسكره
- الجمل - الشيخ المفيد  ص 177، 178:

خطبة أمير المؤمنين: وبلغ أمير المؤمنين عليه السلام لغط القوم واجتماعهم على حربه. فقام في الناس خطيبا فحمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي ثم قال: أيها الناس إن طلحة والزبير قدما البصرة وقد اجتمع أهلها على طاعة الله وبيعتي فدعواهم إلى معصية الله تعالى وخلافي فمن أطاعهما منهم فتنوه ومن عصاهما قتلوه وقد كان من قتلهما حكيم بن جبلة ما بلغكم وقتلهم السبابجة وفعلهما بعثمان بن حنيف ما لم يخف عليكم وقد كشفوا الآن القناع وأذنوا بالحرب وقام طلحة بالشتم والقدح في أديانكم وقد أرعد وصاحبه وأبرقا وهذان امرءان معهما الفشل ولسنا نريد منكم أن تلقوهم ليظنوا ما في نفوسكم عليهم ولا ترون ما في أنفسكم لنا ولسنا نرعد حتى نوقع ولا نسيل حتى نمطر وقد خرجوا من هدى إلى ضلال ودعوناكم إلى الرضا ودعونا إلى السخط فحل لنا ولكم ردهم إلى الحق والقتال وحل لهم بقصاصهم القتل وقد والله مشوا إليكم ضرارا وأذاقوكم أمس من الجمر فإذا لقيتم القوم غذا فاعذروني الدعاء وأحسنوا في التقية واستعينوا بالله واصبروا إن الله مع الصابرين.

فقام إليه حكيم بن مناف حتى وقف بين يديه وقال:

أبا حسن أيقضت من كان نائما   *  وما كل من يدعى إلى الحق يسمع

وما كل من يعطى الرضا يقبل الرضا  *  وما كان من أعطيته الحق يقنع

وأنت امرء أعطيت من كل وجهة  *  محاسنها والله يعطي ويمنع

وما منك بالأمر المؤلم غلطة  *  وما فيك للمرء المخالف مطمع

وإن رجالا بايعوك وخالفوا  *  هداك وأجروا في الضلال فضيعوا

لاهل لتجريد الصوارم فيهم  *  وسمر العوالي والقنا تتزعع

فإني لأرجو أن تدور عليهم  *  رحى الموت حتى يسكنوا ويصرعوا

وطلحة فيها والزبير قرينه  *  وليس لما لا يدفع الله مدفع

فإن يمضيا فالحرب أضيق حلقة  *  وإن يرجعا عن تلك فالسلم أوسع

وما بايعوه كارهين لبيعة  *  وما بسطت منهم إلى الكره إصبع

ولا بطيا عنها فراقا ولا  *  بدا لهم أحد بعد الذين تجمعوا

على نقضها ممن له شد عقدها  *  فقصراهما منه أصابع أربع

خروج بأم المؤمنين وغدرهم  *  وعيب على من كان في القلب أشجع

وذكرهم قتل ابن عفان خدعة  *  وهم قتلوه والمخادع يخدع

فعود علي نبعة هاشمية  *  وعودهما فيما هما فيه (خروع)

- حرب الجمل أمير المؤمنين
- الجمل - الشيخ المفيد  ص 178، 209:

أحداث الحرب:...

- أمير المؤمنين يكلم القتلى
- الجمل - الشيخ المفيد  ص 209:

الوصي يكلم القتلى: فصل: لما انجلت الحرب بالبصرة وقتل طلحة والزبير وحملت عايشة إلى قصر بني خلف ركب أمير المؤمنين عليه السلام وتبعه أصحابه وعمار بن ياسر رحمه الله يمشي مع ركابه حتى خرج إلى القتلى يطوف عليهم فمر بعبد الله بن خلف الخزاعي وعليه ثياب حسان مشهرة فقال الناس هذا والله رأس الناس فقال عليه السلام ليس برأس الناس ولكنه شريف منيع النفس ثم مر بعبد الرحمن بن عتاب بن أسيد فقال هذا يعسوب القوم ورأسهم كما ترونه ثم جعل يستعرض القتلى رجلا رجلا فلما رأى أشراف قريش صرعى في جملة القتلى قال جدعت أنفي أما والله إن كان مصرعكم لبغيضا إلي ولقد تقدمت إليكم وحذرتكم عض السيوف وكنتم أحداثا لا علم لكم بما ترون ولكن الحين ومصارع السوء نعوذ بالله من سوء المصرع ثم سار حتى وقف على كعب بن شور وهو مجدل بين القتلى وفي عنقه المصحف فقال نحو المصحف وضعوه في مواضع الطهارة ثم قال اجلسوا لي كعبا فأجلس ورأيته ينخفض إلى الأرض فقال يا كعب بن شور قد وجدت ما وعدني ربي حقا فهل وجدت ما وعدك ربك حقا ثم قال اضجعوا كعبا فتجاوزه فمر فرأى طلحة صريعا فقال اجلسوا طلحة فأجلس وقال يا طلحة بن عبد الله قد وجدت ما وعدني ربي حقا فهل وجدت ما وعدك ربك حقا ثم قال اضجعوه فوقف رجل من القراء أمامه وقال يا أمير المؤمنين ما كلامك هذه إلهام قد صديت لا تسمع لك كلاما ولا ترد جوابا فقال عليه السلام إنهما ليسمعان كلامي كما سمع أصحاب القليب كلام رسول الله صلى الله عليه وآله ولو أذن لهم في الجواب لرأيت عجبا ومر بعبد الله بن المقداد بن عمر وهو في الصرعى فقال رحم الله أباك إنما كان رأيه فينا أحسن من رأيك فقال عمار الحمد لله الذي أوقعه وجعل خده الأسفل إنا والله يا أمير المؤمنين لا نبالي عمن عند من الحق من ولد ووالد فقال عليه السلام رحمك الله يا عمار وجزاك عن الحق خيرا ومر بعبد الله بن ربيعة بن رواح وهو في القتلى فقال هذا البائس ما كان أخرجه نصر عثمان والله ما كان رأي عثمان فيه ولا في أبيه بحسن ومر بمعبد بن زهير بن أمية فقال لو كانت الفتنة برأس الثريا لتناولها هذا الغلام والله ما كان فيها بذي مخبره ولقد أخبرني من أدركه أنه يلوذ خوفا من السيف حتى قتل البائس ضياعا ومر بمسلم بن قرضة فقال البر أخرج هذا ولقد سألني أن أكلم عثمان في شيء يدعيه عليه بمكة فلم أزل به حتى أعطاه وقال لي لولا أنت ما أعطيته إن هذا ما علمت بئس العشيرة ثم جاء لحينه ينصر عثمان ثم مر بعبد الله بن عمير ابن زهير قال هذا أيضا ممن وضع في قتلانا يطلب بزعمه دم عثمان ولقد كتب إلي كتبا آذى عثمان فيها فأعطاه شيئا فرضي عنه ومر بعبد الله ابن حكيم بن حزام فقال هذا خالف أباه في الخروج علي وإن أباه حيث لم ينصرنا بايع وجلس في بيته ما ألوم أحدا إذا كف عنا وعن غيرنا ولكن الملوم الذي يقاتلنا ومر بعبد الله بن المغيرة بن الأخنس فقال أما هذا فقتل أبوه يوم قتل عثمان في الدار فخرج غضبا لمقتل أبيه وهو غلام لا علم له بعواقب الأمور ومر بعبد الله بن الأخنس بن شريق فقال أما هذا فإني أنظر إليه وقد أخذ القوم السيوف وإنه لهارب يعدو من السيف فنهيت عنه فلم يسمع نهيي حتى قتل وكان هذا ممن مقت علي وإنه من فتيان قريش الأغمار لا علم لهم بالحرب خدعوا واستنزلوا فلما وقعوا ألحجوا فقتلوا.

- أمير المؤمنين لم يؤثر لنفسه من بيت مال البصرة شيئا ويقسمها بين أصحابه بالسوية
- الجمل - الشيخ المفيد  ص 214:

زهد علي عليه السلام: ثم نزل عليه السلام واستدعى جماعة من أصحابه فمشوا معه حتى دخلوا بيت المال وأرسل إلى القراء فدعاهم ودعا الخزان وأمرهم بفتح الأبواب التي داخلها المال فلما رأى كثرة ما فيها فقال هذا جناي ثم قسم المال بين أصحابه فأصاب كل منهم ستة آلاف درهم وكان أصحابه اثني عشر ألف وأخذ كأحدهم فبينا هي بحالها إذ أتاه آت فقال يا أمير المؤمنين إن اسمي سقط من كتابك وقد رأيت من البلاء ما رأيت فدفع سهمه إلى ذلك الرجل.

وروى الثوري عن داوود بن أبي هند عن أبي حرز الأسود قال لقد رأيت بالبصرة طلحة والزبير قد أرسلا إلى أناس من أهل البصرة أنا فيهم فدخلنا بيت المال معهما فلما رأيا ما فيه من أموال قالا هذا ما وعدنا الله ورسوله ثم تليا هذه الآية: {وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ} إلى آخر الآية وقالا نحن أحق بهذا المال من كل أحد ولما كان من القوم ما كان دعانا علي بن أبي طالب عليه السلام فدخلنا معه بيت المال فلما رأى ما فيه ضرب إحدى يديه على الأخرى وقال غري غيري وقسمه بين أصحابه بالسوية حتى لم يبق إلا خمسمأة درهم عزلها لنفسه فجاءه رجل فقال إن اسمي سقط من كتابك فقال عليه السلام ردوها عليه ثم قال الحمد لله الذي لم يصل إلي من هذا المال شيئا ووفره على المسلمين.

- سيرة أمير المؤمنين بعد حرب الجمل في أهل البصرة
- الجمل - الشيخ المفيد  ص 216:

سيرته في أهل البصرة: روى مطر بن خليفة عن منذر الثوري قال لما انهزم الناس يوم الجمل أمر أمير المؤمنين عليه السلام مناديا ينادي أن لا تجهزوا على جريح ولا تتبعوا مدبرا وقسم ما حواه العسكر من السلاح والكراع.

وروى سفيان بن سعد قال قال عمار لأمير المؤمنين عليه السلام ما ترى في سبى الذرية قال ما أرى عليهم من سبيل إنما قاتلنا من قاتلنا ولما قسم ما حواه العسكر قال له بعض القراء من أصحاب أقسم من ذراريهم لنا وأموالهم وإلا فما الذي أحل دماءهم ولم يحل أموالهم فقال عليه السلام هذه الذرية لا سبيل عليها وهم في دار هجرة وإنما قتلنا من حاربنا وبغى علينا وأما أموالهم فهي ميراث لمستحقيها من أرحامهم فقال عمار رحمه الله لا نتبع مدبرهم ولا نجهز على جريحهم فقال عليه السلام لا لأني آمنتهم.

وروى سعد بن جشم عن خارجة عن مصعب عن أبيه قال شهدنا مع أمير المؤمنين عليه السلام الجمل فلما ظفرنا بهم خرجنا في طلب الطعام فجعلنا نمر بالذهب والفضة فلا نتعرض له وإذا وجدنا الطعام أصبنا منه قال وقسم علي عليه السلام ما وجده في العسكر من طيب بين نسائنا وقال عليه السلام مروا نساء هؤلاء المقتولين من أهل البصرة أن يعتدن منهم ولنقسم أموالهم في أهليهم فهي ميراث لهم على فريضة من الله قال وكان إذا أتى بأسير منهم فإن كان قاتل قتله وإن لم تقم عليه بينة بالقتل أطلقه ولما قسم ما حواه العسكر أمر بفرس فيه كادت أن تباع فقام إليه رجل قال يا أمير المؤمنين هذه الفرس لي كانت وإنما أعرتها لفلان ولم أعلم أنه يخرج عليها فسأله البينة على ذلك فأقام البينة إنها عارية فردها وقسم ما سوى ذلك.

- جملة من بايع أمير المؤمنين من فتيان قريش بعد حرب الجمل
- الجمل - الشيخ المفيد  ص 220:

قال الواقدي ولما فرغ أمير المؤمنين عليه السلام من أهل الجمل جاءه قوم من فتيان قريش يسألونه الأمان وأن يقبل منهم البيعة فاستشفعوا إليه بعبد الله بن العباس فشفعه وأمر لهم في الدخول عليه فلما مثلوا بين يديه قال لهم ويلكم يا معشر قريش علام تقاتلونني على أن حكمت فيكم بغير عدل أو قسمت بينكم بغير سوية أو استأثرت عليكم أو لبعدي عن رسول الله أو لقلة بلاء مني في الإسلام، فقالوا يا أمير المؤمنين نحن إخوة يوسف فاعف عنا واستغفر لنا فنظر إلى أحدهم فقال له من أنت؟ قال أنا مساحق بن مخرمة معترف بالزلة مقر بالخطيئة تائب من ذنبي فقال عليه السلام قد صفحت عنكم وأيم الله إن فيكم من لا أبالي بايعني بكفه أو بأسته ولئن بايعني لينكثن.

وتقدم إليه مروان بن الحكم وهو متكئ على رجل فقال له ما بك؟ هل بك جراحة؟ قال نعم يا أمير المؤمنين وما أراني إلا لما بي فتبسم أمير المؤمنين عليه السلام وقال لا والله ما أنت لما بك وستلقى هذه الأمة منك ومن ولدك يوما أحمرا وبايعه وانصرف، وتقدم إليه عبد الرحمن بن الحرث بن هشام فلما نظر إليه أمير المؤمنين عليه السلام قال والله لئن كنت أنت وأهل بيتك لأهل دعة وإن كان فيكم غنى ولكن أعف عنكم ولقد ثقل علي حيث رأيتكم في القوم وأحببت أن تكون الواقعة بغيركم فقال له عبد الرحمن فقد صار ذلك إلى ما لا يجب ثم بايعه وانصرف.

- مروان بن الحكم بعد حرب الجمل يعترف بذنبه ويبايع أمير المؤمنين
- الجمل - الشيخ المفيد  ص 222:

اعتراف مروان بالظلم: وروى أبو مخنف عن العدي عن أبي هشام عن البريد عن عبد الله ابن المخارق عن هاشم بن مساحق القرشي قال حدثنا أبي إنه لما انهزم الناس يوم الجمل اجتمع معه طائفة من قريش فيهم مروان بن الحكم فقال بعضهم لبعض والله لقد ظلمنا هذا الرجل يعنون أمير المؤمنين عليه السلام ونكثنا بيعته من غير حدث والله لقد ظهر علينا فما رأينا قط أكرم سيرة منه ولا أحسن عفوا بعد رسول الله صلى الله عليه وآله تعالوا حتى ندخل عليه ونعتذر إليه فيما صنعناه قال فصرنا إلى بابه فاستأذناه فأذن لنا فلما مثلنا بين يديه جعل متكلمنا يتكلم فقال عليه السلام انصتوا أكفكم إنما أنا بشر مثلكم فإن قلت حقا فصدقوني وإن قلت باطلا فردوا علي أنشدكم الله أتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وآله قبض وأنا أولى الناس به وبالناس من بعده؟ قلنا اللهم نعم قال فعدلتم عني وبايعتم أبا بكر فأمسكت ولم أحب أن أشق عصا المسلمين وأفرق بين جماعاتهم ثم إن أبا بكر جعلها لعمر من بعده فكففت ولم أهج الناس وقد علمت إني كنت أولى الناس بالله وبرسوله وبمقامه فصبرت حتى قتل وجعلني سادس ستة فكففت ولم أحب أن أفرق بين المسلمين ثم بايعتم عثمان فطغيتم عليه وقتلتموه وأنا جالس في بيتي وأتيتموني وبايعتموني كما بايعتم أبا بكر وعمر وفيتم لهما ولم تفوا لي وما الذي منعكم من نكث بيعتهما ودعاكم إلى نكث بيعتي، فقلنا له كن يا أمير المؤمنين كالعبد الصالح يوسف إذ قال: لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين: فقال عليه السلام لا تثريب عليكم اليوم وإن فيكم رجلا لو بايعني بيده لنكث بأسته; يعني مروان بن الحكم.

- في الرد على من اعترض بقعود أمير المؤمنين عن المطالبة بحقه في الإمامة والخلافة
-  مسألتان في النص على علي عليه السلام ج 1 - الشيخ المفيد   ص 13:

بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله ولي كل نعمة. سأل سائل فقال: إذا كان رسول الله صلى الله عليه وآله عندكم قد نص على أمير المؤمنين سلام الله عليه، واستخلفه على أمته، فلم قعد عن حق له، وقد عول النبي صلى الله عليه وآله عليه فيه؟. فإن قلتم: فعل ذلك باختياره. نسبتموه إلى التضييع لأمر الله وأمر رسوله. وإن قلتم: فعل ذلك مضطرا. نسبتموه إلى الجبن والضعف، وقد علم الناس منه خلاف ذلك، لأنه صاحب المواقف المشهورة، والفروسية المذكورة.

وبعد ذلك، فلم أخذ عطاياهم، ونكح سبيهم، وصلى خلفهم، وحكم في مجالسهم؟! وكل ذلك يدل على فساد ما ذهبتم إليه في النص.

الجواب: قيل له: أما أخذه العطايا، إنما أخذ بعض حقه. وأما الصلاة خلفهم، فهو الإمام، من تقدم بين يديه فصلاته فاسدة، على أن كلا مؤد فريضة. وأما نكاحه من سبيهم، ففيه جوابان: أحدهما: على طريق الممانعة. والآخر: على طرية المتابعة.

فأما الذي على طريق الممانعة، فان الشيعة تروي أن الحنفية تزوجها من خالها القاسم بن مسلم الحنفي، واستدلوا على ذلك، بأن عمر ابن الخطاب لما رد من كان أبو بكر سباه، لم يرد الحنفية، ولو كانت من السبي لردها.

وأما الذي على طريق المتابعة: فهو إنا إذا سلمنا لكم أنه نكح من سبيهم، لم يكن لكم فيه ما أردتم، لأن الذين سباهم أبو بكر كانوا قادحين في نبوة رسول الله صلى الله عليه وآله، ومن قدح في نبوته كفر، ونكاحهم حلال لكل أحد، ولو سباهم يزيد. وإنما كان يسوغ لكم ما ذكرتموه لو كان الذي سباهم قادحين في إمامته، فنكح أمير المؤمنين سلام الله عليه من سبيهم، لكن الأمر خلاف ذلك.

وأما حكمه في مجالسهم، فانه لو قدر ألا يدعهم يحكمون حكما واحدا لفعل، إذ الحكم له وإليه دونهم. وبالله التوفيق.

قال من كتب بخطه هذه المسألة: اختصرها كاتبها، وليست مستوفاة حسب ما أملاها رضي الله عنه، وصلى الله على سيدنا محمد النبي وآله أجمعين الطيبين الطاهرين.

-  مسألتان في النص على علي (ع) - الشيخ المفيد ج 2   ص 21:

بسم الله الرحمن الرحيم الملك الحق المبين، وصلى الله على سيدنا محمد النبي وآله الهادين. وبعد، فقد سألني القاضي الباقلاني فقال: أخبرونا عن أسلافكم في النص على أمير المؤمنين عليه السلام أكثير أم قليل؟ فإن قلتم: قليل، قيل لكم: فلا تنكرون أن يتواطئوا على الكذب لان افتعال الكذب يجوز على القليل. وإن قلتم كثير، قيل لكم: فما بال أمير المؤمنين سلام الله عليه لم يقاتل بهم أعداءه، لاسيما وأنتم تدعون أنه لو أصاب أعوانا لقاتل!

الجواب وبالله الثقة: قيل له: أسلافنا بحمد الله في النص كثير لا يجوز عليهم افتعال الكذب، لكن ليس كل من يصلح لنقل الخبر يصلح للجهاد، لأنه قد يصلح لنقل الخبر الشيخ الكبير، الثقة، الأمين، ولا يصلح ذلك لضرب السيف. وأيضا فليست الحروب الدينية موقوفة على كثرة الرجال، وإنما هي موقوفة على المصلحة، ألا ترى أن رسول الله صلى الله عليه وآله جاهد وهو في ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا، وقعد عن الجهاد يوم الحديبية وهو في ثلاثة ألاف وستمائة رجل. فعلمت أن الحروب الدينية الشرعية موقوفة على المصلحة لا على العدد.

قال السائل: فأرنا وجه المصلحة في قعوده عن أخذ حقه لنعلم بذلك صحة ما ذكر تموه؟

قيل له: أول ما في هذا أنه لا يلزمنا ما ذكرت، لأنه الإمام المعصوم من الخطأ والزلل، لا اعتراض عليه في قعود وقيامه، بل يعلم في الجملة أن قعوده لمصلحة في الدين والدنيا. ثم تبين بعد ذلك بعض وجوه المصلحة، فيكون بعض ذلك أنه علم أن في المخالفين من يرجع عن الباطل إلى الحق بعد مدة ويستبصر، فكان ترك قتله مصلحة. ومنه أنه علم أن في ظهورهم مؤمنين لا يجوز قتلهم واجتياحهم، فكان ترك قتلهم مصلحة. ومنه شفقة منه على شيعته وولده أن يصطلموا فينقطع نظام الإمامة. وهذا كلام معروف يعرفه أهل العدل والمتكلمون، وهو من أصول الدين، ألا ترى أنا إذا سئلنا عن تغريق قوم نوح عليه السلام وهلاك قوم صالح لأجل ناقته، وبقاء قاتل الحسين عليه السلام، والحسين عند الله أعظم من ناقة صالح، لم يكن الجواب إلا ما ذكرناه من المصلحة، وما علمه الله من بقاء من بقاه. فلم يأت بشيء لذلك.

تكميل من كلام الشيخ الطوسي رحمه الله في المفصح: فان قيل: لو كان النص عليه صحيحا على ما ادعيتوه: وجب أن يحتج به وينكر على من يدفعه عن ذلك بيده ولسانه ولما جاز منه أن يصلي معهم ولا أن ينكح سبيهم ولا أن يأخذ من فيئهم ولا أن يجاهد معهم. وفي فعله عليه السلام ذلك كله دليل على بطلان ما تدعونه.

قيل له: الذي منع أمير المؤمنين عليه السلام من الاحتجاج بالنص عليه ما ظهر له بالأمارات اللايحة من... القوم على الأمر وإطراح العهد فيه وعزمهم على الاستبداد به مع البدار منهم إليه والانتهاز له وأيسه ذلك عن الانتفاع بالحجة، وربما أدى ذلك إلى دعواههم النسخ لوقوع النص عليه فتكون البلية بذلك أعظم، وان ينكروا وقوع النص جملة ويكذبوه في دعواه فيكون البلاء به أشد.

وأما ترك النكير عليهم باليد فهو انه لم يجد ناصرا ولا معينا على ذلك، ولو تولاه بنفسه وحامته لربما أدى ذلك إلى قتله أو قتل أهله وأحبته فلأجل ذلك عدل عن النكير. وقد بين ذلك عليه السلام في قوله: "أما والله لو وجدت أعوانا لقاتلتهم" وقوله أيضا بعد بيعة الناس له حين توجه إلى البصرة: "أما والله لولا حضور الناصر ولزوم الحجة وما أخذ الله على أوليائه ألا يقروا على كظة ظالم ولا سغب مظلوم لألقيت حبلها على غاربها ولسقيت آخرها بكأس أولها ولألفيتم دنياكم عندي أهون من عفطة عنز".

فبين عليه السلام انه إنما قاتل من قاتل لوجود الأنصار وعدل عن قتال من عدل عن قتالهم لعدمهم. وأيضا فلو قاتلهم لربما أدى ذلك إلى بوار الإسلام والى ارتداد الناس إذ أكثر وقد ذكر ذلك في قوله: "أما والله لولا قرب عهد الناس بالكفر لجاهدتهم".

فأما الإنكار باللسان فقد أنكر عليه السلام في مقام بعد مقام، ألا ترى إلى قوله عليه السلام: "لم أزل مظلوما منذ قبض رسول الله صلى الله عليه وآله" ، وقوله: "اللهم إني أستعديك على قريش فإنهم منعوني حقي وغصبوني إرثي"، وفي رواية أخرى: "اللهم إني أستعديك على قريش فإنهم ظلموني في" الحجر والمدر..."، قوله في خطبته المعروفة: "أما والله لقد تقمصها ابن أبي قحافة وانه ليعلم إن محلي منها محل القطب من الرحى ينحدر عنى السيل ولا يرقى إلي الطير..." إلى آخر الخطبة، صريح بالإنكار والتظلم من الحق.

فأما ما ذكره السائل من صلاته معهم فانه عليه السلام إنما كان يصلى معهم لا على طريق الاقتداء بهم بل كان يصلى لنفسه وإنما كان يركع بركوع ويكبر بتكبيرهم، وليس ذلك بديل الاقتداء عند أحد من الفقهاء.

فأما الجهاد معهم فانه لم ير واحد انه عليه السلام جاهد معهم ولا سار تحت لوائهم، وأكثر ما روي في ذلك دفاعه عن حرم رسول الله صلى الله عليه وآله وعن نفسه، وذلك واجب عليه وعلى كل احد أن يدفع عن نفسه وعن أهله وإن لم يكن هناك أحد يقتدي به.

فأما أخذه من فيئهم فإن ما كان يأخذ بعض حقه، ولمن له حق ، له أن يتوصل إلى أخذه بجميع أنواع التوصل ولم يكن يأخذ من أموالهم هم.

وأما نكاحه لسبيهم فقد اختلف في ذلك، فمنهم من قال: إن النبي عليه السلام وهب له الحنفية وإنما استحل فرجها بقوله عليه السلام.

وقيل أيضا: إنها أسلمت وتزوجها أمير المؤمنين عليه السلام. وقيل أيضا: إنه اشتراها فاعتقادهم تزوجها. وكل ذلك ممكن جائز ، على أن عندنا يجوز وطء سبي أهل الضلال إذا كان المسبي مستحقا لذلك، وهذا يسقط أصل السؤال.

فان قيل: لو كان عليه السلام منصوصا عليه لما جاز منه الدخول في الشورى، ولا الرضا بذلك، لأن ذلك خطأ على مذهبكم.

قيل له: إنما دخل عليه السلام في الشورى لأمور: منها انه دخلها ليتمكن من إيراد النص عليه والاحتجاج بفضائله وسوابقه، وما يدل على انه أحق بالأمر وأولى، وقد علمنا انه لو لم يدخلها لم يجز منه أن يبتدئ بالاحتجاج، وليس هناك مقام احتجاج وبحث فجعل عليه السلام الدخول فيها ذريعة إلى التنبيه على الحق بحسب الإمكان، على ما وردت به الرواية، فإنها وردت بأنه عليه السلام عدد في ذلك اليوم جميع فضائله ومناقبه أو أكثرها.

ومنها إن السبب في دخوله عليه السلام كان للتقية والاستصلاح لأنه عليه السلام لما دعى الدخول في الشورى أشفق من أن يمتنع فينسب منه الامتناع إلى المظاهرة والمكاشفة، والى أن تأخره عن الدخول إنما كان لاعتقاده إنه صاحب الأمر دون من ضم إليه فحمله على الدخول ما حمله في الابتداء على إظهار الرضا والتسليم.

فإن قيل: لو كان عليه السلام منصوصا عليه السلام على ما تدعون لوجب أن يكون من دفعه عن مقامه مرتدا كافرا، وفى ذلك، إكفار الأمة بأجمعها، وذلك خروج عن الإسلام: قيل له: الذي نقوله في ذلك: إن الناس لم يكونوا بأسرهم دافعين للنص وعاملين بخلافه مع علمهم الضروري به، وإنما بادر قوم من الأنصار -لما قبض الرسول عليه السلام- إلى طلب الإمامة واختلفت كلمة رؤسائهم واتصلت حالهم بجماعة من المهاجرين فقصدوا السقيفة عامين على إزالة الأمر من مستحقه والاستبداد به، وكان الداعي لهم إلى ذلك والحامل لهم عليه رغبتهم في عاجل الرياسة والتمكن من الحل والعقد، وانضاف إلى هذا الداعي ما كان في نفس جماعة منهم من الحسد لأمير المؤمنين عليه السلام والعداوة له لقتل من قتل من أقاربهم ولتقدمه واختصاصه بالفضائل الباهرة والمناقب الظاهرة التي لم يخل من اختص ببعضها من حسد وغبطة وقصد بعداوة وآنسهم بتمام ما حاولوه بعض الأنس بتشاغل بني هاشم وعكوفهم على تجهيز النبي عليه السلام فحضروا السقيفة ونازعوا في الأمر وقووا على الأمر وجرى ما هو مذكور. فلما رأى الناس فعلهم -وهم وجوه الصحابة ومن يحسن الظن بمثله وتدخل الشبهة بفعله- توهم أكثرهم أنهم لم يتلبسوا بالأمر ولا أقدموا فيه على ما أقدموا عليه إلا لعذر يسوغ لهم ويجوزه، فدخلت عليه الشبهة واستحكمت في نفوسهم، ولم يمعنوا النظر في حلها فمالوا ميلهم وسلموا لهم، وبقي العارفون بالحق والثابتون عليه غير متمكنين من إظهار ما في نفوسهم فتكلم بعضهم ووقع منهم من النزاع ما قد أتت به الرواية، ثم عاد عند الضرورة إلى الكف والإمساك وإظهار التسليم مع إبطان الاعتقاد للحق ولم يكن في وسع هؤلاء إلا نقل ما علموه وسمعوه من النص إلى إخلافهم ومن يأمنونه على نفوسهم فنقلوه وتواتروا الخبر به عنهم. على أن الله تعالى قد أخبر عن امة موسى عليه السلام أنها قد ارتدت بعد مفارقة موسى إياها إلى ميقات ربه وعبدوا العجل واتبعوا السامري وهم قد شاهدوا المعجزات مثل فلق البحر وقلب العصا حية واليد البيضاء وغير ذلك من المعجزات، وفارقهم موسى أياما معلومة، والنبي عليه السلام خرج من الدنيا بالموت فإذا كان كل ذلك جايزا عليهم فعلى امتنا أجوز وأجوز. على أن الله تعالى قد حكى في هذه الأمة واخبر أنها ترتد، قال الله تعالى: " {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ}. وقال رسول الله صلى الله عليه وآله: "لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو النعل بالنعل والقذة بالقذة حتى لو أن أحدهم دخل جحر ضب لدخلتموه! قالوا: فاليهود والنصارى يا رسول الله؟ قال: فمن إذن؟!". وقال عليه السلام: "ستفترق أمتي ثلاثة وسبعين فرقة، واحدة منها ناجية واثنتان وسبعون في النار". وهذا كله يدل على جواز الخطأ عليهم بل على وقوعه فأين التعجب من ذلك؟.

فان قيل: كيف يكون منهم ما ذكرتموه من الضلال وقد أخبر الله تعالى أنه رضي عنهم، وأعد لهم جنات في قوله: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ} وقال: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ} وذلك مانع من وقوع الضلال الموجب لدخول النار. قيل له: أما قوله: { وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ...} فإنما ذكر فيها الأولون منهم، ومن ذكرناه ممن دفع النص لم يكن من السابقين الأولين لأنهم أمير المؤمنين عليه السلام وجعفر بن أبي طالب وحمزة بن عبد المطلب وزيد بن حارثة وخباب بن الارث، وغيرهم ممن دفع النص كان إسلامه متأخرا عن إسلام هؤلاء. على أن من ذكروه لو ثبت له السبق فإنما يثبت له السبق إلى الإسلام في الظاهر والباطن لا يعلمه إلا الله، وليس كل من اظهر السبق إلى الإسلام كان سبقه على وجه يستحق به الثواب، والله تعالى أنما عنى من يكون سبقه مرضيا على الظاهر والباطن، فمن أين لهم أن من ذكروه كان سبقه على وجه يستحق به الثواب. على أنهم لو كانوا هم المعنيين بالآية لم يمنع ذلك من وقوع الخطأ منهم ولا واجب لهم العصمة لان الرضى المذكور في الآية وما أعد الله من النعيم إنما يكون مشروطا بالإقامة على ذلك والموافاة به، وذلك يجرى مجرى قوله {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ } ولا أحد يقول إن ذلك يوجب لهم العصمة ولا يؤمن وقوع الخطأ منهم بل ذلك مشروط بما ذكرناه وكذلك حكم الآية.

وأيضا فانه لا يجوز أن يكون هذا الوعد غير مشروط وان يكون على الإطلاق إلا لمن علم عصمته ولا يجوز عليه شيء من الخطأ، لانه لو عنى من يجوز عليه الخطأ بالإطلاق، على كل وجه كان ذلك إغراء له بالقبيح ذلك فاسد بالإجماع، وليس احد يدعى للمذكورين العصمة فبطل أن يكونوا معنيين بالآية على الإطلاق. وأما قوله تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْ الْمُؤْمِنِينَ...} فالظاهر يدل على تعليق الرضى بالمؤمنين، والمؤمن هو المستحق للثواب وألا يكون مستحقا لشيء من العقاب فمن أين لهم أن القوم بهذه الصفة؟ فان دون ذلك خرط القتاد. على انه تعالى قد بين أن المعنى بالآية من كان باطنه مثل ظاهره بقوله: {فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ...} ثم قال: {وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} فبين أن الذي أنزل السكينة على هو الذي يكون الفتح على يديه، ولا خلاف أن أول حرب كانت بعد بيعة الرضوان خيبر، وكان الفتح فيها على يدي أمير المؤمنين عليه السلام بعد انهزام من انهزم من القوم فيجب أن يكون هو المعني بالآية. على أن ما قدمناه في الآية الأولى من أنها ينبغي أن تكون مشروطة وان لا تكون مطلقة، يمكن اعتماده هاهنا، وكذلك ما قلناه من أن الآية لو كانت مطلقة كان ذلك إغراء بالقبيح موجود في هذه الآية. ثم يقال لهم: قد رأينا من جملة السابقين ومن جملة المبايعين تحت الشجرة من وقع منهم الخطأ، ألا ترى أن طلحة والزبير كانا من جملة السابقين ومن جملة المبايعين تحت الشجرة وقد نكثا بيعة أمير المؤمنين عليه السلام وقاتلاه وسفكا دماء شيعته، وتغلبا على أموال المسلمين، وكذلك فعلت عائشة، وهذا سعد بن أبى وقاص من جملة السابقين والمبايعين تحت الشجرة وقد تأخر عن بيعة أمير المؤمنين عليه السلام، وكذلك محمد بن مسلمة، وما كان أيضا من سعد بن عبادة وطلبة الأمر خطأ بلا خلاف، وقد استوفينا الكلام على هذه الطريقة في كتابنا المعروف بالاستيفاء في الإمامة، فمن أراد الوقوف عليه فليطلبه من هناك إن شاء الله.

- في معنى النص
- الفصول المختارة- الشيخ المفيد  ص 18، 19:

اتفق للشيخ المفيد أبى عبد الله أيده الله اجتماع مع القاضي أبي بكر أحمد بن سيار في دار السلام بدار الشريف أبي عبد الله محمد بن محمد بن طاهر الموسوي رحمه الله، وكان بالحضرة جمع كثير يزيد عددهم على مائة إنسان، وفيهم أشراف من بني علي عليه السلام وبني العباس رحمة الله عليه، ومن وجوه الناس والتجار حضروا في قضاء حق للشريف رحمه الله فجرى من جماعة من القوم خوض في ذكر النص على أمير المؤمنين علي بن أبى طالب عليه السلام وتكلم الشيخ أبو عبد الله أيده الله في ذلك بكلام يسير على ما اقتضاه الحال فقال له القاضي أبو بكر أحمد بن سيار: أخبرني ما النص في الحقيقة وما معنى هذه اللفظة؟

فقال له الشيخ أيده الله: النص هو الإظهار والإبانة من ذلك قولهم: فلان قد نص قلوصه إذا أبانها بالسير وأبرزها من جملة الإبل ولذلك سمي المفرش العالي منصة لان الجالس عليه يبين بالظهور من الجماعة، فلما أظهره المفرش سمي منصة على ما ذكرناه، ومن ذلك أيضا قولهم قد نص فلان مذهبه إذا أظهره وأبانه ومنه قول امرء القيس:

وجيد كجيد الريم ليس بفاحش  *  إذا هي نصته ولا بمعطل

يريد به إذا هي أظهرته وقد قيل إذا هي نصته والمعنى في هذا يرجع إلى الإظهار فأما هذه اللفظة فإنها قد جعلت مستعملة في الشريعة على المعنى الذي قدمت ومتى أردت حد المعنى منها قلت: حقيقة النص هو القول المنبي عن المقول فيه على سبيل الإظهار.

- إظهار فرض طاعة أمير المؤمنين من رسول الله قد وقع ولم يك خافيا في حال ظهوره
- الفصول المختارة- الشيخ المفيد  ص 19:

فقال القاضي: ما أحسن ما قلت ولقد أصبت فيما أوضحت وكشفت، فخبرني الآن إذا كان النبي صلى الله عليه وآله قد نص على إمامة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام فقد أظهر فرض طاعته وإذا أظهره استحال أن يكون مخفيا، فما بالنا لا نعلمه إن كان الأمر على ما ذكرت في حد النص وحقيقته؟

فقال الشيخ أيده الله: أما الإظهار من النبي صلى الله عليه وآله فقد وقع ولم يك خافيا في حال ظهوره، وكل من حضره فقد علمه ولم يرتب فيه ولا اشتبه عليه، فأما سؤالك عن علة فقدك العلم به الآن وفي هذا الزمان، فإن كنت لا تعلمه على ما أخبرت به عن نفسك فذلك لدخول الشبهة عليك في طريقه لعدولك عن وجه النظر في الدليل ا لمفضي بك إلى حقيقته، ولو تأملت الحجة فيه بعين الإنصاف لعلمته. ولو كنت حاضرا في وقت إظهار النبي صلى الله عليه وآله له لما أخللت بعلمه ولكن العلة في ذهابك عن اليقين فيه ما وصفناه.

- يجوز أن يظهر رسول الله شيئا في زمانه فيخفى على من ينشأ بعد وفاته حتى لا يعلمه إلا بنظر ثاقب واستدلال عليه بل لابد لمن غاب عن المقام في علم ما كان فيه من النظر والاستدلال
- الفصول المختارة- الشيخ المفيد  ص 19، 20:

فقال: وهل يجوز أن يظهر النبي صلى الله عليه وآله شيئا في زمانه فيخفى على من ينشأ بعد وفاته حتى لا يعلمه إلا بنظر ثاقب واستدلال عليه؟

قال له الشيخ أيده الله تعالى: نعم يجوز ذلك، بل لابد لمن غاب عن المقام في علم ما كان فيه من النظر والاستدلال. وليس يجوز أن يقع له به علم الاضطرار لأنه من جملة الغائبات غير أن الاستدلال في هذا الباب يختلف في الغموض والظهور والصعوبة والسهولة على حسب الأسباب المعترضات في طرقه وربما عرى طريق ذلك من سبب فيعلم بيسير من الاستدلال على وجه يشبه الاضطرار إلا أن طريق النص حصل فيه من الشبهات للأسباب التي اعترضته ما تعذر معها العلم به إلا بعد نظر ثاقب وطول زمان في الاستدلال.

- بحث استدلالي في النص على أمير المؤمنين
- الفصول المختارة- الشيخ المفيد  ص 20، 21:

فقال : فإذا كان الأمر على ما وصفت فما أنكرت أن يكون النبي صلى الله عليه وآله قد نص على نبي آخر معه في زمانه أو نبي يقوم من بعده مقامه وأظهر ذلك وشهره على حد ما أظهر به إمامة أمير المؤمنين عليه السلام فذهب عنا علم ذلك كما ذهب عنا علم النص بأسبابه.

فقال الشيخ أيده الله: أنكرت ذلك من قبل أن العلم حاصل لي ولك ولكل مقر بالشرع ومنكر له، بكذب من ادعى ذلك على رسول الله صلى الله عليه وآله ولو كان ذلك حقا لما عم الجميع علم بطلانه وكذب مدعيه ومضيفه إلى النبي صلى الله عليه وآله ولو تعرى بعض العقلاء من سامعي الأخبار عن علم ذلك لاحتجت في إفساده إلى تكلف دليل غير ما وصفت لكن الدليل الذي ذكرت يغنيني عن اعتماد غيره، فإن كان النص على الإمامة نظيره فيجب أن يعم العلم ببطلانه جميع سامعي الأخبار حتى لا يختلف في اعتقاد ذلك اثنان، وفي تنازع الأمة فيه واعتقاد جماعة صحته والعلم به واعتقاد جماعة بطلانه، دليل على فرق ما بينه وبين ما عارضت به.

ثم قال الشيخ أيده الله: هلا أنصف القاضي من نفسه والتزم ما ألزمه خصومه فيما شاركهم فيه من نفي ما تفردوا به ففصل بينه وبين خصومه في قوله إن النبي صلى الله عليه وآله قد نص على رجم الزاني وفعله، وموضع قطع السارق وفعله، وعلى صفة الطهارة والصلاة وحدود الصوم والحج والزكاة وفعل ذلك، وبينه وكرره وشهره، ثم التنازع موجود في ذلك.

وإنما يعلم الحق فيه وما عليه العمل من غيره، بضرب من الاستدلال. بل في قوله: إن انشقاق القمر لرسول الله صلى الله عليه وآله كان ظاهرا في حياته ومشهورا في عصره وزمانه. وقد أنكر ذلك جماعة من المعتزلة وغيرهم من أهل الملل والملحدة وزعموا أن ذلك من توليد أصحاب السير ومؤلفي المغازي وناقلي الآثار وليس يمكنه أن يدعي على من خالف فيما ذكرناه علم الاضطرار وإنما يعتمد على غلطهم في الاستدلال. فما يؤمنه أن يكون النبي صلى الله عليه وآله قد نص على نبي من بعده وإن عرى من العلم بذلك على سبيل الاضطرار؟ وبم يدفع أن يكون قد حصلت له شبهات حالت بينه وبين العلم بذلك كما حصل لخصومه فيما عددناه ووصفناه؟ وهذا ما لا فصل فيه.

فقال له: ليس يشبه أمر النص على أمير المؤمنين عليه السلام جميع ما ذكرت لان فرض النص عندك فرض عام وما وقع فيه الاختلاف فيما قدمت فإنها فروض خاصة ولو كانت في العموم كهو لما وقع فيها الاختلاف.

فقال له الشيخ أدام الله عزه: فقد انتقض الآن جميع ما اعتمدته وبان فساده واحتجت في الاعتماد إلى غيره وذلك انك جعلت موجب العلم وسبب ارتفاع الخلاف، ظهور الشيء في زمان ما واشتهاره بين الملأ ولم تضم إلى ذلك غيره ولا شرطت فيه موصوفا سواه فلما نقضناه عليك ووضح لك دماره، عدلت إلى التعلق بعموم الفرض وخصوصه. ولم يك هذا جاريا فيما سلف والزيادة في الاعتلال انقطاع والانتقال من اعتماد إلى اعتماد أيضا انقطاع على أنه ما الذي يؤمنك أن ينص على نبي يحفظ شرعه ويكون فرض العمل به خاصا في العبادة كما كان الفرض فيما عددناه خاصا، فهل فيها من فصل يعقل؟ فلم يأت بشيء تجب حكايته.

- في معنى المولى
- السيد إسماعيل الحميري قال شعرا في النص على ولاية أمير المؤمنين
- الفصول المختارة- الشيخ المفيد  ص 22، 24:

فصل: وذكرت بحضرة الشيخ أبي عبد الله أدام الله عزه ما ذكره أبو جعفر محمد بن عبد الرحمن بن قبة الرازي رحمه الله في كتاب (الإنصاف) حيث ذكر أن شيخا من المعتزلة أنكر أن تكون العرب تعرف المولى سيدا وإماما.

قال: فانشدته قول الأخطل:

فما وجدت فيها قريش لأمرها  *  أعف وأولى من أبيك وأمجدا

وأورى بزنديه ولو كان غيره  *  غداة اختلاف الناس أكدى وأصلدا

فأصبحت مولاها من الناس كلهم  *  وأحرى قريش أن تهاب وتحمدا

قال أبو جعف فأسكت الشيخ كأنما ألقم حجرا، وجعلت أستحسن ذلك.

فقال لي الشيخ أبو عبد الله أدام الله عزه: قد قال لي أيضا شيخ من المعتزلة: إن الذي تدعونه من النص الجلي على أمير المؤمنين عليه السلام شيء حادث ولم يك معروفا عند متقدمي الشيعة ولا اعتمده أحد منهم في حجته وإنما بدأ به وادعاه ابن الراوندي في كتابه في الإمامة وناضل عليه ولم يسبقه إليه أحد، ولو كان معروفا فيما سلف لما أخل السيد إسماعيل بن محمد رحمه الله به في شعره ولا ترك ذكره في نظمه مع إغراقه في ذكر فضائل أمير المؤمنين عليه السلام ومناقبه حتى تعلق بشاذ الحديث وأورد من الفضائل ما لم نسمع به إلا منه، فما باله إن كنتم صادقين لم يذكر النص الجلي ولا اعتمده في شيء من مقاله؟ وهو الأصل المعول عليه لو ثبت.

فقلت له: قد ذهب عنك أيها الشيخ مواضع مقاله في ذلك لعدولك عن العناية برواية شعر هذا الرجل ولو كنت ممن صرف همته إلى تصفح قصائده لعرفت ما ذهب عليك من ذلك وأسكنتك المعرفة به عن الاعتماد على ما اعتمدته من خلو شعره على ما وصفت في استدلالك بذلك، وقد قال السيد إسماعيل بن محمد رحمه الله في قصيدته الرائية التي يقول في أولها:

الحمد لله حمدا كثيرا  *  ولي المحامد ربا غفورا

حتى انتهى إلى قوله:

وفيهم علي وصي النبي  *  بمحضرهم قد دعاه أميرا

وكان الخصيص به في الحياة  *  وصاهره واجتباه عشيرا

أفلا ترى أنه قد أخبر في نظمه أن رسول الله صلى الله عليه وآله دعا عليا عليه السلام في حياته بإمرة المؤمنين واحتج بذلك فيما ذكره من مناقبه عليه السلام فسكت الشيخ وكان منصفا.

- شعر زيد بن علي في ولاية أمير المؤمنين
- الفصول المختارة- الشيخ المفيد  ص 24، 25:

فصل: وحدثني الشيخ أدام الله عزه قال. وحدث عن الحسين بن زيد، قال: حدثني مولاي، قال: كنت مع زيد بن علي عليه السلام بواسط فذكر قوم أبا بكر وعمر وعليا عليه السلام فقدموا أبا بكر وعمر عليه، فلما قاموا قال لي زيد رحمه الله: قد سمعت كلام هؤلاء وقد قلت أبياتا فادفعها إليهم وهي.

ومن شرف الأقوام يوما برأيه  *  فان عليا شرفته المناقب

وقول رسول الله والحق قوله  *  وإن رغمت منهم أنوف كواذب

بأنك مني يا علي معالنا  * كهارون من موسى أخ لي وصاحب

دعاه ببدر فاستجاب لأمره  *  وما زال في ذات الإله يضارب

فما زال يعلوهم به وكأنه  *  شهاب تلقاه القوابس ثاقب

وأخبرني الشيخ أدام الله عزه مرسلا، قال: سأل رجل زين العابدين علي بن الحسين عليه السلام، فقال له: يا بن رسول الله أخبرني بما ذا فضلتم الناس جميعا وسدتموهم، فقال له عليه السلام: أنا أخبرك بذلك، اعلم أن الناس كلهم لا يخلون من أن يكونوا أحد ثلاثة: إما رجل أسلم على يد جدنا رسول الله صلى الله عليه وآله مولى لنا ونحن ساداته وإلينا يرجع بالولاء، أو رجل قاتلناه فقتلناه فمضى إلى النار أو رجل أخذنا منه الجزية عن يد وهو صاغر ولا رابع للقوم، فأي فضل لم نحزه وشرف لم نحصله بذلك؟.

- مناظرة في إثبات ولاية أمير المؤمنين في الظاهر والباطن
- الفصول المختارة- الشيخ المفيد  ص 28:

فصل: وأخبرني الشيخ أدام الله عزه قال: دخل ضرار بن عمرو الضبي على يحيى بن خالد البرمكي فقال له: يا أبا عمرو هل لك في مناظرة رجل هو ركن الشيعة؟ فقال ضرار: هلم من شئت. فبعث إلى هشام بن الحكم رحمه الله فأحضره فقال له: يا أبا محمد هذا ضرار وهو من قد علمت في الكلام والخلاف لك فكلمه في الإمامة. فقال له: نعم. ثم أقبل على ضرار، فقال : يا أبا عمرو خبرني على ما تجب الولاية والبراءة أعلى الظاهر أم على الباطن؟ فقال ضرار: بل على الظاهر فان الباطن لا يدرك إلا بالوحي قال هشام: صدقت. فأخبرني الآن أي الرجلين كان أذب عن وجه رسول الله صلى الله عليه وآله بالسيف وأقتل لأعداء الله بين يديه وأكثر آثارا في الجهاد أعلي بن أبي طالب أو أبو بكر؟ فقال: بل علي بن أبي طالب، ولكن أبا بكر كان أشد يقينا. فقال هشام. هذا هو الباطن الذي قد تركنا الكلام فيه وقد اعترفت لعلي عليه السلام بظاهر عمله من الولاية وأنه يستحق بها من الولاية ما لم يجب لأبي بكر، فقال ضرار هذا هو الظاهر: نعم.

ثم قال له هشام: أفليس إذا كان الباطن مع الظاهر فهو الفضل الذي لا يدفع؟ فقال له ضرار بلى فقال له هشام: ألست تعلم أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال لعلي: أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا انه لا نبي بعدي؟ قال ضرار نعم. قال هشام: أفيجوز أن يقول له هذا القول إلا وهو عنده في الباطن مؤمن؟ قال: لا. قال هشام: فقد صح لعلي عليه السلام ظاهره وباطنه ولم يصح لصاحبك لا ظاهر ولا باطن والحمد لله.

- عن الرضا أكبر فضيلة لأمير المؤمنين فضيلته في المباهلة
- الفصول المختارة- الشيخ المفيد  ص 38 :

فصل: وحدثني الشيخ أدام الله عزه أيضا قال: قال المأمون يوما للرضا عليه السلام: أخبرني بأكبر فضيلة لأمير المؤمنين عليه السلام يدل عليها القران قال: فقال له الرضا عليه السلام: فضيلته في المباهلة قال الله جل جلاله: {فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} فدعا رسول الله صلى الله عليه وآله الحسن والحسين عليهما السلام فكانا ابنيه ودعا فاطمة عليها السلام فكانت في هذا الموضع نساءه ودعا أمير المؤمنين عليه السلام فكان نفسه بحكم الله عزوجل، وقد ثبت أنه ليس أحد من خلق الله سبحانه أجل من رسول الله صلى الله عليه وآله وأفضل فوجب أن لا يكون أحد أفضل من نفس رسول الله صلى الله عليه وآله بحكم الله عز وجل. قال: فقال له المأمون: أليس قد ذكر الله الأبناء بلفظ الجمع وإنما دعا رسول الله صلى الله عليه وآله ابنيه خاصة وذكر النساء بلفظ الجمع وإنما دعا رسول الله صلى الله عليه وآله ابنته وحدها، فلم لا جاز أن يذكر الدعاء لمن هو نفسه ويكون المراد نفسه في الحقيقة دون غيره فلا يكون لأمير المؤمنين عليه السلام ما ذكرت من الفضل؟ قال: فقال له الرضا عليه السلام: ليس بصحيح ما ذكرت يا أمير المؤمنين وذلك أن الداعي إنما يكون داعيا لغيره كما يكون الآمر آمرا لغيره ولا يصح أن يكون داعيا لنفسه في الحقيقة كما لا يكون آمرا لها في الحقيقة، وإذا لم يدع رسول الله صلى الله عليه وآله رجلا في المباهلة إلا أمير المؤمنين عليه السلام فقد ثبت أنه نفسه التي عناها الله تعالى في كتابه وجعل حكمه ذلك في تنزيله. قال: فقال المأمون: إذا ورد الجواب سقط السؤال.

- حكاية عن هشام بن الحكم في تأويل اختصام العباس وأمير المؤمنين  في الميراث
- الفصول المختارة- الشيخ المفيد  ص 49 :

فصل: وأخبرني الشيخ أدام الله عزه قال: سأل يحيى بن خالد البرمكي بحضرة الرشيد، هشام بن الحكم رحمه الله، فقال له : أخبرني يا هشام عن الحق هل يكون في جهتين مختلفتين؟ قال هشام: لا، قال: فخبرني عن نفسين اختصما في حكم في الدين وتنازعا واختلفا هل يخلوان من أن يكونا محقين أو مبطلين أو يكون أحدهما مبطلا والآخر محقا؟

فقال له هشام: لا يخلوان من ذلك وليس يجوز أن يكونا محقين على ما قدمت من الجواب، قال له يحيى بن خالد: فخبرني عن علي عليه السلام والعباس لما اختصما إلى أبي بكر في الميراث أيهما كان المحق من المبطل إذ كنت لا تقول إنهما كانا محقين ولا مبطلين؟.

قال هشام: فنظرت فإذا إنني إن قلت بأن عليا عليه السلام كان مبطلا، كفرت وخرجت عن مذهبي، وإن قلت إن العباس كان مبطلا ضرب الرشيد عنقي ووردت علي مسألة لم أكن سئلت عنها قبل ذلك الوقت ولا أعددت لها جوابا. فذكرت قول أبي عبد الله عليه السلام وهو يقول لي: يا هشام لا تزال مؤيدا بروح القدس ما نصرتنا بلسانك. فعلمت أني لا اخذل وعن لي الجواب في الحال فقلت له: لم يكن من أحدهما خطأ وكانا جميعا محقين ولهذا نظير قد نطق به القران في قصة داود عليه السلام حيث يقول الله جل اسمه: {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ} إلى قوله: {خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ} فأي الملكين كان مخطئا وأيهما كان مصيبا أم تقول إنهما كانا مخطئين فجوابك في ذلك جوابي بعينه؟.

فقال يحيى: لست أقول إن الملكين أخطئا بل أقول إنهما أصابا، وذلك أنهما لم يختصما في الحقيقة ولا اختلفا في الحكم وإنما أظهرا ذلك لينبها داود عليه السلام على الخطيئة ويعرفاه الحكم ويوقفاه عليه. قال: فقلت له: كذلك علي عليه السلام والعباس لم يختلفا في الحكم ولا اختصما في الحقيقة وإنما أظهرا الاختلاف والخصومة لينبها أبا بكر على غلطه ويوقفاه على خطئه ويدلاه على ظلمه لهما في الميراث، ولم يكونا في ريب من أمرهما وإنما كان ذلك منهما على حد ما كان من الملكين فلم يحر جوابا واستحسن ذلك الرشيد.

- أمير المؤمنين لم يبايع أبا بكر قط
- الفصول المختارة- الشيخ المفيد  ص 56، 57:

فصل: ومن كلامه أيضا في الدلالة على أن أمير المؤمنين عليه السلام لم يبايع أبا بكر، قال الشيخ أدام الله عزه: قد أجمعت الأمة على أن أمير المؤمنين عليه السلام تأخر عن بيعة أبي بكر فالمقلل يقول: كان تأخره ثلاثة أيام، ومنهم من يقول: تأخر حتى ماتت فاطمة عليها السلام ثم بايع بعد موتها، ومنهم من يقول: تأخر أربعين يوما، ومنهم من يقول: تأخر ستة أشهر، والمحققون من أهل الإمامة يقولون: لم يبايع ساعة قط، فقد حصل الإجماع على تأخره عن البيعة ثم اختلفوا في بيعته بعد ذلك على ما قدمنا به الشرح.

فمما يدل على أنه لم يبايع البتة أنه ليس يخلو تأخره من أن يكون هدى وتركه ضلالا أو يكون ضلالا وتركه هدى وصوابا، أو يكون صوابا وتركه صوابا، أو يكون خطأ وتركه خطأ، فلو كان التأخر ضلالا وباطلا، لكان أمير المؤمنين عليه السلام قد ضل بعد النبي صلى الله عليه وآله بترك الهدى الذي كان يجب المصير إليه وقد أجمعت الأمة على أن أمير المؤمنين عليه السلام لم يقع منه ضلال بعد النبي صلى الله عليه وآله ولا في طول زمان أبي بكر وأيام عمر وعثمان وصدرا من أيامه حتى خالفت الخوارج عند التحكيم وفارقت الأمة، وبطل أن يكون تأخره عن بيعة أبي بكر ضلالا. وإن كان تأخره هدى وصوابا وتركه خطأ وضلالا فليس يجوز أن يعدل عن الصواب إلى الخطأ ولا عن الهدى إلى الضلال لاسيما والإجماع واقع على أنه لم يظهر منه ضلال في أيام الثلاثة الذين تقدموا عليه، ومحال أن يكون التأخر خطأ وتركه خطا للإجماع على بطلان ذلك أيضا ولما يوجبه القياس من فساد هذا المقال. وليس يصح أن يكون صوابا وتركه صوابا لان الحق لا يكون في جهتين مختلفتين ولا على وصفين متضادين. ولأن القوم المخالفين لنا في هذه المسالة مجمعون على أنه لم يكن إشكال في جواز الاختيار وصحة إمامة أبي بكر وإنما الناس بين قائلين قائل من الشيعة يقول: إن إمامة أبي بكر كانت فاسدة فلا يصح القول بها أبدا، وقائل من الناصبة يقول: إنها كانت صحيحة ولم يكن على أحد ريب في صوابها إذ جهة استحقاق الإمامة هو ظاهر العدالة والنسب والعلم والقدرة على القيام بالأمور ولم تكن هذه الأمور تلتبس على أحد في أبي بكر عندهم. وعلى ما يذهبون إليه فلا يصح مع ذلك أن يكون المتأخر عن بيعته مصيبا أبدا لأنه لا يكون متأخرا لفقد الدليل بل لا يكون متأخرا لشبهة وإنما يتأخر إذا ثبت أنه تأخر للعناد. فثبت بما بيناه أن أمير المؤمنين عليه السلام لم يبايع أبا بكر على شيء من الوجوه كما ذكرناه وقدمناه.

وقد كانت الناصبة غافلة عن هذا الاستخراج في موافقتها على أن أمير المؤمنين عليه السلام تأخر عن البيعة وقتا ما، ولو فطنت له لسبقت بالخلاف فيه عن الإجماع وما أبعد أنهم سيرتكبون ذلك إذا وقفوا على هذا الكلام غير أن الإجماع السابق لمرتكب ذلك يحجه ويسقط قوله، فيهون قصته ولا يحتاج معه إلى الإكثار.

- أمير المؤمنين كان عند إجابته للرسول بالغا كاملا في صورة الرجال ومثلهم في الجسم ومقاربهم
- في فضيلة مبيت أمير المؤمنين في فراش النبي
- الفصول المختارة- الشيخ المفيد  ص 58، 65:

فصل: وأخبرني الشيخ أدام الله عزه قال: لما أراد رسول الله صلى الله عليه وآله الاختفاء من قريش والهرب منهم إلى الشعب لخوفه على نفسه، استشار أبا طالب رحمه الله في ذلك فأشار به عليه، ثم تقدم أبو طالب إلى أمير المؤمنين عليه السلام أن يضطجع على فراش رسول الله صلى الله عليه وآله ليقيه بنفسه فأجابه إلى ذلك، فلما نامت العيون جاء أبو طالب ومعه أمير المؤمنين عليه السلام فأقام رسول الله صلى الله عليه وآله وأضجع أمير المؤمنين عليه السلام مكانه فقال أمير المؤمنين عليه السلام يا أبتاه إني مقتول. فقال أبو طالب رحمه الله:

اصبرن يا بني فالصبر أحجى  *  كل حي مصيره لشعوب

قد بذلناك والبلاء شديد  *  لفداء النجيب وابن النجيب

لفداء الأغر ذي الحسب الثا  *  قب والباع والفناء الرحيب

إن يصبك المنون فالنبل يبرى  *  فمصيب منها وغير مصيب

كل حي وإن تملى بعيش  *  آخذ من سهامها بنصيب

قال: فقال أمير المؤمنين عليه السلام:

أتأمرني بالصبر في نصر أحمد  *  ووالله ما قلت الذي قلت جازعا

ولكنني أحببت إظهار نصرتي  *  وتعلم أني لم أزل لك طائعا

وسعيي لوجه الله في نصر أحمد  *  نبي الهدى المحمود طفلا ويافعا

وقال أمير المؤمنين عليه السلام بعد ذلك:

وقيت بنفسي خير من وطئ الحصى  *  ومن طاف بالبيت العتيق وبالحجر

رسول إله الخلق إذ مكروا به  *  فنجاه ذو الطول الكريم من المكر

وبات رسول الله بالشعب آمنا  *  وذلك في حفظ الإله وفي ستر

وبت أراعيهم وهم يثبتونني  *  وقد صبرت نفسي على القتل والأسر

أردت به نصر الإله تبتلا  *  وأضمرته حتى أوسد في قبئري

ثم قال الشيخ أدام الله عزه: وأكثر الأخبار جاءت بمبيت أمير المؤمنين عليه السلام على فراش رسول الله صلى الله عليه وآله في ليلة مضي رسول الله صلى الله عليه وآله إلى الغار وهذا الخبر وجدته في ليلة مضيه إلى الشعب، ويمكن أن يكون قد بات عليه السلام مرتين على فراش الرسول صلى الله عليه وآله وفي مبيته عليه السلام حجج على أهل الخلاف من وجوه شتى: أحدها في قولهم إن أمير المؤمنين آمن برسول الله صلى الله عليه وآله وهو ابن خمس سنين أو سبع سنين أو تسع سنين ليبطلوا بذلك فضيلة إيمانه ويقولوا إنه وقع منه على سبيل التلقين دون المعرفة واليقين، إذ لو كانت سنه عند دعوة رسول الله صلى الله عليه وآله على ما ذكروا له، لم يكن أمره يلتبس عند مبيته على الفراش وتشبهه برسول الله صلى الله عليه وآله حتى يتوهم أنه هو فيرصدونه إلى وقت السحر لان جسم الطفل لا يلتبس بجسم الرجل الكامل، فلما التبس على قريش الأمر في ذلك حتى ظنوا أن عليا عليه السلام رسول الله صلى الله عليه وآله بائتا على حاله في مكانه، وكان هذا في أول الدعوة وابتدائها وعند مضيه إلى الشعب، دل على أن أمير المؤمنين عليه السلام كان عند إجابته للرسول صلى الله عليه وآله بالغا كاملا في صورة الرجال ومثلهم في الجسم ومقاربهم. وإن كانت الحجج على صحة إيمانه وفضيلته وأنه لم يقع إلا بالمعرفة، لا يفتقر إلى ذكر هذا وإنما أوردناه استظهارا.

ومنها أن الله سبحانه قص علينا في محكم كتابه قصة إسماعيل في تعبده بالصبر على ذبح أبيه إبراهيم عليه السلام له ثم مدحه بذلك وعظمه وقال: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاء الْمُبِينُ} وقال رسول الله صلى الله عليه وآله في افتخاره بآبائه: أنا ابن الذبيحين يعني إسماعيل عليه السلام وعبد الله، ولعبد الله في الذبح قصة مشهورة يطول شرحها يعرفها أهل السير وأن أباه عبد المطلب فداه بمائة ناقة حمراء. وإذا كان ما أخبر الله تعالى به من محنة إسماعيل عليه السلام بالذبح يدل على أجل فضيلة وأفخر منقبة، احتجنا أن ننظر في حال مبيت أمير المؤمنين عليه السلام على الفراش وهل يقارب ذلك أو يساويه فوجدناه يزيد في الظاهر عليه، وذلك أن إبراهيم عليه السلام قال لابنه إسماعيل عليه السلام: {إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} فاستسلم لهذه المحنة مع علمه بإشفاق الوالد على الولد ورأفته به ورحمته له وأن هذا الفعل لا يكاد يقع من الوالد بولده بل لم يقع فيما سلف ولم يتوهم فيما يستقبل، وكان هذا أمرا يقوى في ظن إسماعيل أن المقال مع أبيه خرج مخرج الامتحان له في الطاعة دون تحقق العزم على إيقاع الفعل فيزول كثير من الخوف معه وترجى السلامة عنده.

وأمير المؤمنين عليه السلام دعاه أبو طالب رحمه الله إلى المبيت على فراش النبي صلى الله عليه وآله وفدائه بنفسه وليس له من الطاعة عليه ما للأنبياء عليهم السلام على البشر، ولم يأمره بذلك عن وحي من الله تعالى كما أمر إبراهيم عليه السلام ابنه وأسند أمره إلى الوحي، ومع علم أمير المؤمنين عليهم السلام أن قريشا أغلظ الناس على رسول الله صلى الله عليه وآله وأقساهم قلبا وما يعرفه كل عاقل من الفرق بين الاستسلام للعدو المناصب والمبغض المعاند الذي يريد أن يشفي نفسه ولا يبلغ الغاية في شفائها إلا بنهاية التنكيل وغاية الأذى بضروب الآلام، وبين الاستسلام للولي المحب والوالد المشفق الذي يغلب في الظن أن إشفاقه يحول بينه وبين إيقاع الضرر بولده، إما مع طاعة الله تعالى بالمسالة والمراجعة أو بارتكاب المعصية ممن يجوز عليه ارتكاب المعاصي أو بحمل ذلك منه على ما قدمناه من الاختبار والتورية في الكلام ليصح له مطلوبه من الامتحان.

وإذا كانت محنة أمير المؤمنين عليه السلام أعظم من محنة إسماعيل عليه السلام بما كشفناه ثبت أن الفضل الذي حصل به لأمير المؤمنين عليه السلام يرجح على كل فضيلة حصلت لأحد من الصحابة وأهل البيت عليهم السلام وبطل قول من رام المفاضلة بينه وبين أبي بكر من العامة والمعتزلة الناصبة له عليهم السلام إذ قد حصل له عليهم السلام فضل يزيد على الفضل الحاصل للأنبياء.

ولعل قائلا يقول عند سماع هذا: كيف يسوغ لكم ما ادعيتموه في هذه المحنة وتعظيمها على محنة إسماعيل عليه السلام وذلك نبي وهذا عندكم وصي نبي وليس يجوز أن يكون من ليس بنبي أفضل من أحد الأنبياء عليهم السلام. فانه يقال لهم: ليس في تفضيلنا هذه المحنة على محنة إسماعيل عليه السلام تفضيل لأمير المؤمنين عليه السلام على أحد الأنبياء عليهم السلام، وذلك أن عليا عليه السلام وإن حصل له فضل لم يجزه نبي فيما مضى، فان الذي حازته الأنبياء من الفضل الذي لم يحصل منه شيء لأمير المؤمنين عليهم السلام يوجب فضلهم عليه ويمنع من المساواة بينه وبينهم أو تفضيله عليهم كما بيناه، وبعد فان الحجة إذا قامت على فضل أمير المؤمنين عليه السلام على نبي من الأنبياء ولاح على ذلك البرهان، وجب علينا القول به وترك الخلاف فيه ولم يوحشنا منه خلاف العامة الجهلاء.

وليس في تفضيل سيد الوصيين وإمام المتقين وأخي رسول رب العالمين سيد المرسلين ونفسه بحكم التنزيل وناصره في الدين وأبي ذريته الأئمة الراشدين الميامين على بعض الأنبياء المتقدمين، أمر يحيله العقل ولا يمنع منه السنة ولا يرده القياس ولا يبطله الإجماع إذ عليه جمهور شيعته، وقد نقلوا ذلك عن الأئمة من ذريته عليهم السلام وإذا لم يكن فيه إلا خلاف الناصبة والمستضعفين ممن يتولاه لم يمنع من القول به.

فإن قال قائل: إن محنة إسماعيل عليه السلام أجل قدرا من محنة أمير المؤمنين عليهم السلام وذلك أن أمير المؤمنين عليهم السلام قد كان عالما بان قريش إنما تريد غيره وليس غرضها قتله وإنما قصدها لرسول الله صلى الله عليه وآله دونه فكان على ثقة من السلامة وإسماعيل عليه السلام كان متحققا لحلول الذبح به من حيث امتثل الأمر الذي نزل الوحي به فشتان بين الأمرين.

قيل له: إن أمير المؤمنين عليه السلام وإن كان قد كان عالما بان قريشا إنما قصدت رسول الله صلى الله عليه وآله دونه، فقد كان يعلم بظاهر الحال وما يوجب غالبا الظن من العادة الجارية شدة غيظ قريش على من فوت غرضهم في مطلوبهم ومن حال بينهم وبين مرادهم من عدوهم ومن لبس عليهم الأمر حتى ضلت حيلتهم وخابت آمالهم من أنهم يعاملونه بأضعاف ما كان في أنفسهم أن يعاملوا صاحبه لتزايد حقنهم وحقدهم واعتراء الغضب لهم، فكان الخوف منه عند هذه الحال أشد من خوف الرسول صلى الله عليه وآله، واليأس من رجوعهم عن إيقاع الضرر به أقوى من يأس النبي صلى الله عليه وآله. وهذا هو المعروف الذي لا يختلف فيه اثنان لأنه قد كان يجوز منهم عند ظفرهم بالنبي صلى الله عليه وآله أن تلين قلوبهم له ويتعطفوا للنسب والرحم التي بينهم وبينه ويلحقهم من الرقة عليه ما يلحق الظافر بالمظفور به فيبرد قلوبهم ويقل غيظهم وتسكن نفوسهم، وإذا فقدوا المأمول من الظفر به وعرفوا وجه الحيلة عليهم في فوتهم غرضهم وعلموا أنه بعلي عليه السلام تم ذلك، ازدادت الدواعي لهم إلى الإضرار به وتوفرت عليه وكانت البلية أعظم على ما شرحناه.

على أن إسماعيل عليه السلام قد كان يعلم أن قتل الوالد لولده لم يجر به عادة من الأنبياء والصالحين ولا وردت به فيما مضى عبادة فكان يقوى في نفسه أنه على ما قدمناه من الاختبار ولو لم يقع له ذلك لجوز نسخه لغرض توجيه الحكمة أو كان يجوز أن يكون في باطن الكلام خلاف ما في ظاهره أو يكون تفسير المنام بضد حقيقته، أو يحول الله عز وجل بين أبيه وبين مراده بالاخترام أو شغل يعوقه عنه.

ولا محالة أنه قد خطر بباله ما فعله الله من فدائه وإعفائه عن الذبح ولو لم يخطر ذلك لكان مجوزا عنده، إذ لو لم يجز في عقله لما وقع من الحكيم سبحانه وعلى أنه متى تيقن الفعل تيقنه من مشفق رحيم. وإذا تيقنه أمير المؤمنين عليه السلام تيقنه من عدو قاس حقود، فكان الفصل بين الأمرين لا خفاء به عند ذوي العقول.

فإن قال قائل منهم في الجواب الأول: إذا كنتم فضلتم عليا على إسماعيل في محنة الاستسلام للقتل ولم يمنع ذلك من فضل إسماعيل عليه السلام عليه في أمور توجب التفاوت بينه وبينه في الفضل فما أنكرتم أن يكون علي أفضل من أبي بكر بهذه الحال ولا يمنع ذلك من فضل أبي بكر عليه في طاعات أخر.

قيل له: الفصل بين الأمرين واضح، وذلك أنا إنما فضلنا إسماعيل عليه السلام على أمير المؤمنين عليه السلام مع اختصاصه بهذه الفضيلة منه، لإحاطة العلم منا بفضل النبوة لإسماعيل عليه السلام الذي لم يحصل لأمير المؤمنين عليه السلام مثله ولا حصل له معنى يوازيه ولفضيلة الوحي بنزول الملائكة وغير ذلك، فلو كان لأبي بكر فضل يوازي هذه الفضيلة أو يزيد عليها لوجب أن يكون معروفا، فلما وجدنا أبا بكر عريا من فضيلة المبيت على الفراش وعريا من فضيلة الجهاد ووجدنا كل فضل تدعيه أصحابه له قد شاركه فيه أمير المؤمنين عليه السلام وزاد عليه في معناه، بطل مقال من أوجب الشك في حاله على ما ذكرناه. ولو جاز ذلك لقائل يقترحه بغير برهان، لجاز لآخر أن يوجب الشك في فضل بعض امة النبي صلى الله عليه وآله على كثير من الأنبياء عليهم السلام وإن لم يظهر منهم فعل يقارب النبوة ويعتمد في ذلك على المبهم من القول والشك في البواطن دون الظواهر والموجود من الأعمال، ولوجب أن لا يقطع على فضل أحد على غيره في الظاهر، لأنا لا نأمن أن يكون مع المفضول في الظاهر أعمال باطنة توفي في الفضل على ما عرفناه، وفي ذلك أنه يجب على من خالفنا أن لا يأمن أن يكون قد كان في بعض الأعراب أو غيرهم ممن صحب النبي صلى الله عليه وآله وقتا ما من يزيد في فضله عند الله على أبي بكر وعمر وعثمان، وهذا نقض مذاهبهم بأسرها وهو لازم لهم على ما أوردوه من السؤال.

- في صلاة أمير المؤمنين خلف القوم
- نقل المفيد: ضرب أمير المؤمنين الوليد بن عقبة الحد بين يدي عثمان لأن الحد له وإليه فإذا أمكنه إقامته أقامه بكل حيلة
- نقل المفيد: أشار أمير المؤمنين على أبي بكر وعمر طلبا منه أن يحيي أحكام الله تعالى ويكون دينه القيم كما أشار يوسف على ملك مصر نظرا منه للخلق ولأن الأرض والحكم فيها إليه فإذا أمكنه أن يظهر مصالح الخلق فعل وإذا لم يمكنه ذلك بنفسه توصل إليه على يدي من يمكنه طلبا منه لإحياء أمر الله تعالى
- قعد أمير المؤمنين عن قتال من تقدمه كما قعد هارون بن عمران عن السامري وأصحابه وقد عبدوا العجل
- نقل المفيد: قعد أمير المؤمنين في الشورى اقتدارا منه على الحجة وعلما منه بان القوم إن ناظروه وأنصفوا كان هو الغالب ولو لم يفعل وجبت الحجة عليه
- نقل المفيد: زوج أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ابنته لإظهاره الشهادتين وإقراره بفضل رسول الله وأراد بذلك استصلاحه وكفه عنه وقد عرض لوط بناته على قومه وهم كفار ليردهم عن ضلالتهم
- الفصول المختارة- الشيخ المفيد  ص 69، 70:

فصل: وأخبرني الشيخ أدام الله عزه قال: سئل أبو الحسن علي بن إسماعيل بن ميثم رحمه الله فقيل له: لم صلى أمير المؤمنين عليه السلام خلف القوم؟ قال: جعلهم بمثل سواري المسجد.

قال السائل: فلم ضرب الوليد بن عقبة الحد بين يدي عثمان؟ قال: لأن الحد له وإليه فإذا أمكنه إقامته أقامه بكل حيلة.

قال: فلم أشار على أبي بكر وعمر؟ قال: طلبا منه أن يحيى أحكام الله عز وجل ويكون دينه القيم كما أشار يوسف عليه السلام على ملك مصر نظرا منه للخلق، ولأن الأرض والحكم فيها إليه فإذا أمكنه أن يظهر مصالح الخلق فعل وإذا لم يمكنه ذلك بنفسه توصل إليه على يدي من يمكنه طلبا منه لإحياء أمر الله تعالى.

قال: فلم قعد عن قتالهم؟. قال: كما قعد هارون بن عمران عن السامري وأصحابه وقد عبدوا العجل، قال: أفكان ضعيفا؟ قال: كان كهارون عليه السلام حيث يقول: * {ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي} وكان كنوح عليه السلام، إذ قال:  {أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ} وكان كلوط عليه السلام إذ قال: {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} وكان كموسى وهارون عليهما السلام إذ قال موسى: {رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي}.

قال: فلم قعد في الشورى؟ قال: اقتدارا منه على الحجة وعلما منه بان القوم إن ناظروه وأنصفوا كان هو الغالب، ولو لم يفعل وجبت الحجة عليه، لأنه من كان له حق فدعي إلى أن يناظر فيه فان ثبت له الحجة سلم الحق إليه وأعطيه فإن لم يفعل بطل حقه وأدخل بذلك الشبهة على الخلق، وقد قال عليه السلام يومئذ: اليوم أدخلت في باب إن أنصفت فيه وصلت إلى حقي، يعني أن أبا بكر استبد بها يوم السقيفة ولم يشاوره.

قال: فلم زوج عمر بن الخطاب ابنته؟ قال: لإظهاره الشهادتين وإقراره بفضل رسول الله صلى الله عليه وآله وأراد بذلك استصلاحه وكفه عنه وقد عرض لوط عليه السلام بناته على قومه وهم كفار ليردهم عن ضلالتهم فقال: {هَؤُلاء بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَلاَ تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌْ}.

- نقل المفيد: دليل على كون أمير المؤمنين أولى بالإمامة من أبي بكر
- الفصول المختارة- الشيخ المفيد  ص 86 :

فصل: وأخبرني الشيخ أدام الله عزه قال: سأل أبو الهذيل العلاف أبا الحسن علي بن ميثم رحمه الله عند علي بن رياح فقال له: ما الدليل على أن عليا كان أولى بالامامة من أبي بكر؟ فقال له: الدليل على ذلك إجماع أهل القبلة على أن عليا عليه السلام كان عند وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله مؤمنا عالما كافيا ولم يجمعوا بذلك على أي بكر، فقال له أبو الهذيل. ومن لم يجمع عليه عافاك الله؟ قال له أبو الحسن: أنا وأسلافي من قبل وأصحابي الآن، فقال له أبو الهذيل: فأنت وأصحابك ضلال تائهون، قال له أبو الحسن. ليس جواب هذا الكلام إلا السباب ثم اللطام.

- نقل المفيد: في الرد على ما نقلته العامة أن  أمير المؤمنين قال لما قبض عمر لو ددت أن ألقى الله بصحيفة هذا المسجى
- الفصول المختارة- الشيخ المفيد  ص 90 :

فصل: ومن حكايته أدام الله عزه قال: سئل هشام بن الحكم رحمه الله عما ترويه العامة من قول أمير المؤمنين عليه السلام لما قبض عمر، وقد دخل عليه وهو مسجى: "لوددت أن ألقى الله بصحيفة هذا المسجى"، وفي حديث آخر لهم "إني لأرجو أن ألقى الله بصحيفة هذا المسجى".

فقال هشام: هذا حديث غير ثابت ولا معروف الإسناد وإنما حصل من جهة القصاص وأصحاب الطرقات، ولو ثبت لكان المعنى فيه معروفا، وذلك أن عمر واطأ أبا بكر والمغيرة وسالما مولى أبي حذيفة وأبا عبيدة على كتب صحيفة بينهم يتعاقدون فيها على أنه إذا مات رسول الله صلى الله عليه وآله لم يورثوا أحدا من أهل بيته ولم يولوهم مقامه من بعده، فكانت الصحيفة لعمر إذ كان عماد القوم والصحيفة التي ود أمير المؤمنين عليه السلام ورجا أن يلقى الله بها هي هذه الصحيفة فيخاصمه بها ويحتج عليه بمتضمنها.

والدليل على ذلك ما روته العامة عن أبي بن كعب أنه كان يقول في مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله بعد أن أفضي الأمر إلى أبي بكر بصوت يسمعه أهل المسجد "ألا هلك أهل العقدة والله ما آسي عليهم إثما آسي على من يضلون من الناس، فقيل له: يا صاحب رسول الله من هؤلاء أهل العقدة؟ وما عقدتهم؟ فقال: قوم تعاقدوا بينهم إن مات رسول الله لم يورثوا أحدا من أهل بيته ولا ولوهم مقامه، أما والله لئن عشت إلى يوم الجمعة لأقومن فيهم مقاما أبين به للناس أمرهم، قال: فما أتت عليه الجمعة".

- معنى النحو وأول من وضعه
- الفصول المختارة- الشيخ المفيد  ص 91:

فصل: وأخبرني الشيخ أدام الله عزه مرسلا قال. قال الصادق عليه السلام: أعربوا حديثنا فإنا قوم فصحاء. وأخبرني الشيخ أدام الله عزه مرسلا عن محمد بن سلام الجمحي أن أبا الاسود الدؤلي دخل على أمير المؤمنين عليه السلام فرمى إليه رقعة فيها: بسم الله الرحمن الرحيم: الكلام ثلاثة أشياء: اسم وفعل وحرف جاء لمعنى، فالاسم ما أنبأ عن المسمى، والفعل ما أنبأ عن حركة المسمى، والحرف ما أوجد معنى في غيره.

فقال أبو الأسود: يا أمير المؤمنين هذا كلام حسن فما تأمرني أن أصنع به فإنني لا أدري ما أردت بإيقافي عليه؟. فقال أمير المؤمنين عليه السلام: إني سمعت في بلدكم هذا لحنا كثيرا فاحشا فأحببت أن أرسم كتابا من نظر إليه ميز بين كلام العرب وكلام هؤلاء فابن على ذلك. فقال أبو الأسود: وفقنا الله بك يا أمير المؤمنين للصواب.

قال الشيخ أدام الله عزه: وقد اختلف في معنى النحو ما هو؟ فقيل: النحو ما قصد له. تقول: نحا نحوه أي قصد قصده، وإنما أرادوا قصد نحو الإعراب.

وقال أبو عثمان المازني: النحو ناحية من الكلام، والعربية اسم اللغة، يقال هي اللغة العربية يراد به الجيدة الفصيحة البينة، وقيل للعربي عربي لأنه عرب الألفاظ أي بينها.

وقال الأصمعي: قال رجل لبنيه: يا بني أصلحوا ألسنتكم فإن الرجل تنوبه النائبة يحب أن يتجمل فيها، فيستعير من أخيه دابته وثوبه، ولا يجد من يعيره لسانه.

- أمير المؤمنين أفضل الصحابة والدليل عليه
- الاستدلال بحديث الطير على فضل أمير المؤمنين على بقية الصحابة
- الفصول المختارة- الشيخ المفيد  ص 96، 101:

فصل: ومن كلام الشيخ أدام الله عزه: سئل في مجلس الشريف أبي الحسن أبن القاسم العلوي المحمدي، فقيل له: ما الدليل على أن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كان أفضل الصحابة؟ فقال: الدليل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وآله: "اللهم ائتني بأحب خلقك إليك يأكل معي من هذا الطائر" فجاء أمير المؤمنين عليه السلام وقد ثبت أن أحب الخلق إلى الله سبحانه وتعالى أعظمهم ثوابا عند الله وأن أعظم الناس ثوابا لا يكون إلا لأنه أشرفهم أعمالا وأكثرهم عبادة لله تعالى، وفي ذلك برهان على فضل أمير المؤمنين عليه السلام على الخلق كلهم سوى النبي صلى الله عليه وآله.

فقال له السائل: وما الدليل على صحة هذا الخبر؟ وما أنكرت أن يكون غير معتمد لأنه إنما رواه أنس بن مالك وحده، وأخبار الآحاد ليست بحجة فيما يقطع على الله تعالى بصوابه.

فقال الشيخ أدام الله عزه: هذا الخبر وإن كان من أخبار الآحاد على ما ذكرت من أن أنس بن مالك رواه وحده، فإن الأمة بأجمعها قد تلقته بالقبول ولم يرووا أن أحدا رده على أنس ولا أنكر صحته عند روايته، فصار الإجماع عليه هو الحجة في صوابه ولم يخل ببرهانه كونه من أخبار الآحاد كما شرحناه.

مع أن التواتر قد ورد بأن أمير المؤمنين عليه السلام احتج به في مناقبه يوم الدار فقال: أنشدكم بالله هل فيكم أحد قال له رسول الله صلى الله عليه وآله: "اللهم ائتني بأحب خلقك إليك يأكل معي من هذا الطائر" فجاء أحد غيري؟ فقالوا : اللهم لا، فقال اللهم اشهد فاعترف القوم بصحته ولم يك أمير المؤمنين عليه السلام بالذي يحتج بباطل لاسيما وهو في مقام المنازعة والتوسل بفضائله إلى أعلى الرتب التي هي الإمامة والخلافة للرسول صلى الله عليه وآله وإحاطة علمه بأن الحاضرين معه في الشورى يريدون الأمر دونه مع قول النبي صلى الله عليه وآله: "علي مع الحق والحق مع علي يدور حيثما دار" وإذا كان الأمر على ما وصفناه دل على صحة الخبر حسبما بيناه. فاعترض بعض المجبرة فقال: إن احتجاج الشيعة برواية أنس من أطرف الأشياء، وذلك أنهم يعتقدون تفسيق أنس بل تكفيره، ويقولون: إنه كتم الشهادة في النص حتى دعا عليه أمير المؤمنين عليه السلام ببلاء لا تواريه الثياب فبرص على كبر السن فمات وهو أبرص، فكيف يجوز بأن يستشهد برواية الكافرين؟ فقالت المعتزلة: قد أسقط هذا الكلام الرجل ولم يجعل الحجة في الرواية أنسا وإنما جعلها الإجماع، وهذا الذي أوردته هذيان قد تقدم إبطاله.

فقال السائل: هب أنا سلمنا صحة الخبر، ما أنكرت ألا يفيد ما ادعيت من فضل أمير المؤمنين عليه السلام على الجماعة، وذلك أن المعنى فيه اللهم ائتني بأحب الخلق إليك يأكل معي من هذا الطائر يريد أحب الخلق إلى الله عز وجل في الأكل معه دون أن يكون أراد أحب الخلق إليه في نفسه لكثرة أعماله، إذ قد يجوز أن يكون الله سبحانه يحب ألا يأكل مع نبيه من غيره أفضل منه ويكون ذلك أحب إليه للمصلحة.

فقال الشيخ أدام الله عزه: هذا الذي اعترضت به ساقط وذلك أن محبة الله تعالى ليست ميل الطباع وإنما هي الثواب كما أن بغضه وغضبه ليسا باهتياج الطباع وإنما هما العقاب. ولفظ (أفعل) في أحب وأبغض لا يتوجه إلا إلى معناهما من الثواب والعقاب، ولا معنى على هذا الأصل لقول من زعم أن "أحب الخلق إلى الله يأكل مع رسول الله صلى الله عليه وآله" توجه إلى محبة الأكل والمبالغة في ذلك بلفظ (أفعل) لأنه يخرج اللفظ عما ذكرناه من الثواب إلى ميل الطباع، وذلك محال في صفة الله تعالى سبحانه.

وشيء آخر وهو أن ظاهر الخطاب يدل على ما ذكرناه دون ما عارضت به أن لو كانت المحبة على غير معنى الثواب، لأنه صلى الله عليه وآله قال: "اللهم ائتني بأحب خلقك إليك يأكل معي من هذا الطائر". وقوله: "بأحب الخلق إليك" كلام تام، وقوله بعده: "يأكل معي من هذا الطائر" كلام مستانف لا يفتقر الأول إليه، ولو كان أراد ما ذكرت لقال: "الهم ائتني بأحب خلقك إليك في الأكل معي" فلما كان اللفظ على خلاف هذا وكان على ما قد ذكرناه لم يجز العدول عن الظاهر إلى محتمل على المجاز وشيء آخر وهو أنه لو تساوى المعنيان في ظاهر الكلام لكان الواجب علينا تحميلهما اللفظ معا دون الاقتصار على أحدهما إلا بالدليل لأنه لا يتنافى الجمع بينهما فيكون أراد بقوله: "أحب خلقك إليك" في نفسه وللأكل معي، وإذا كان الأمر على ما بيناه سقط اعتراضك. وقال رجل من الزيدية كان حاضرا للسائل: هذا الاعتراض ساقط على أصلك وأصلنا، لأنا نقول جميعا: إن الله عز وجل لا يريد المباح والأكل مع النبي صلى الله عليه وآله مباح وليس بفرض ولا نفل فيكون الله عز وجل يحبه فضلا عن أن يكون بعضه أحب إليه من بعض، وهذا السائل من أصحاب أبي هاشم فلذلك أسقط الزيدي كلامه على أصله إذ كان يوافقه في الأصول على مذهب أبي هاشم فخلط السائل هنيأة.

ثم قال للشيخ أدام الله عزه: فأنا أعترض باعتراض آخر وهو أن أقول: ما أنكرت أن يكون هذا القول إنما أفاد أن عليا عليه السلام كان أفضل الخلق في يوم الطائر ولكن بم يدفع أن يكون قد فضله قوم من الصحابة عند الله عز وجل بكثرة الأعمال والمعارف بعد ذلك، وهذا أمر لا يعلم بالعقل وليس معك سمع في نفس الخبر يمنع من ذلك ويدل على أنه عليه السلام أفضل الصحابة كلهم إلى وقتنا هذا. فإنا لا نسألك عن فضله عليهم وقتا بعينه. فقال الشيخ أدام الله عزه: هذا السؤال أوهن مما تقدم والجواب عنه أيسر وذلك أن الأمة مجمعة على إبطال قول من زعم أن أحدا اكتسب أعمالا زادت على الفضل الذي حصل لأمير المؤمنين عليه السلام على الجماعة من قبل أنهم بين قائلين: فقائل يقول: إن أمير المؤمنين عليه السلام كان أفضل من الكل في وقت الرسول صلى الله عليه وآله ولم يساوه أحد بعد ذلك وهم الشيعة الإمامية والزيدية وجماعة من شيوخ المعتزلة وجماعة من أصحاب الحديث.

وقائل يقول: إنه لم يبن لأمير المؤمنين في وقت من الأوقات فضل على سائر الصحابة يقطع به على الله عز وجل وتجزم الشهادة بصحته ولا بان لأحد منهم فضل عليه وهم الواقفة في الأربعة من المعتزلة، منهم أبو علي وأبو هاشم وأتباعهما.

وقائل يقول: إن أبا بكر كان أفضل من علي أمير المؤمنين في وقت الرسول صلى الله عليه وآله وبعده، وهم جماعة من المعتزلة، وبعض المرجئة وطوائف من أصحاب الحديث.

وقائل يقول: إن أمير المؤمنين خرج عن فضله بحوادث كانت منه فساواه غيره وفضل عليه من أجل ذلك من لم يكن له فضل عليه وهم الخوارج وجماعة من المعتزلة، منهم الأصم، والجاحظ. وجماعة من أصحاب الحديث أنكروا قتال أهل القبلة، ولم يقل أحد من الأمة إن أمير المؤمنين كان أفضل عند الله سبحانه تعالى من الصحابة كلهم ولم يخرج عن ولاية الله عز وجل ولا أحدث معصية لله تعالى، ثم فضل عليه غيره بعمل زاد به ثوابه على ثوابه ولا جوز ذلك فيكون معتبرا، وإذا بطل الاعتبار به للاتفاق على خلافه سقط، وكان الإجماع حجة يقوم مقام قوله تعالى في صحة ما ذهبنا إليه فلم يأت بشيء.

وذاكرني الشيخ أدام الله عزه في هذه المسالة بعد ذلك فزادني فيها زيادة ألحقتها وهي أن قال: إن الذي يسقط ما اعترض به السائل في تأويل قول النبي صلى الله عليه وآله: "اللهم ائتني بأحب خلقك إليك، على المحبة للأكل معه دون محبته في نفسه بإعظام ثوابه، بعد الذي ذكرناه في إسقاطه، أن الرواية جاءت عن أنس بن مالك أنه قال: لما دعا رسول الله صلى الله عليه وآله أن يأتيه الله عز وجل بأحب الخلق إليه قلت: اللهم اجعله رجلا من الأنصار ليكون لي الفضيلة بذلك، فجاء علي عليه السلام فرددته وقلت له: رسول الله على شغل. فمضى ثم عاد ثانية فقال لي: استأذن لي على رسول الله. فقلت له: إنه على شغل فجاء ثالثة فاستأذنت له فدخل فقال له النبي صلى الله عليه وآله: قد كنت سألت الله تعالى أن يأتيني بك دفعتين ولو أبطأت على الثالثة لأقسمت على الله بان يأتيني بك. فلولا أن النبي صلى الله عليه وآله سأل الله عز وجل أن يأتيه بأحب خلقه إليه في نفسه وأعظمهم ثوابا عنده، وكانت هذه من أجل الفضائل لما اثر أنس أن يختص بها قومه، ولولا أن أنسا فهم ذلك من معنى كلام الرسول صلى الله عليه وآله لما دافع أمير المؤمنين عليه السلام عن الدخول ليكون ذلك الفضل لرجل من الأنصار فيحصل له جزء منه.

وشيء آخر وهو أنه لو احتمل معنى لا يقتفي الفضيلة لأمير المؤمنين عليه السلام، لما احتج به أمير المؤمنين عليه السلام يوم الدار ولا جعله شاهدا على أنه أفضل من الجماعة، وذلك أنه لو لم يكن الأمر على ما وصفناه وكان محتملا لما ظنه المخالفون من أنه سال ربه أن يأتيه بأحب الخلق إليه في الأكل معه، لما أمن أمير المؤمنين عليه السلام من أن يتعلق بذلك بعض خصومه في الحال أو يشتبه ذلك على إنسان. فلما احتج به أمير المؤمنين عليه السلام على القوم واعتمده في البرهان، دل على أنه لم يكن مفهوما منه إلا فضله، وكان إعراض الجماعة أيضا عن دفاعه عن ذلك بتسليم ما ادعاه دليلا على صحة ما ذكرناه.

وهذا بعينه يسقط قول من زعم أنه يجوز مع إطلاق النبي صلى الله عليه وآله في أمير المؤمنين عليه السلام ما يقتضي فضله عند الله تعالى على الكافة، وجود من هو أفضل منه في المستقبل، لأنه لو جاز ذلك لما عدل القوم عن الاعتماد عليه ولجعلوه شبهة في منعه مما ادعاه من القطع على نقصانهم عنه في الفضل، وفي عدول القوم عن ذلك دليل على أن القول مفيد بإطلاقه فضله عليه السلام ومؤمن من بلوغ أحد منزلته في الثواب بشيء من الأعمال، وهذا بين لمن تدبره.

- في رد التعلق بصحة الاجتهاد والقياس بقول أمير المؤمنين علمني رسول الله ألف باب فتح لي كل باب ألف باب
- الفصول المختارة- الشيخ المفيد  ص 106، 107:

قال الشيخ أدام الله عزه: وقد تعلق قوم من ضعفة متفقهة العامة ومن جهال المعتزلة في صحة الاجتهاد والقياس بقول أمير المؤمنين عليه السلام "علمني رسول الله صلى الله عليه وآله ألف باب فتح لي كل باب ألف باب".

فيقال لهم: وهل أصول الشريعة كلها ألف أصل وفروعها ألف ألف وذلك نهايتها وهي محصورة بهذا العدد لا أقل منه ولا أكثر؟ فإن زعموا ذلك قالوا قولا مرغوبا عنه وقيل لهم: أرونا أصلا واحدا له ألف فرع، وقد ظهرت حجتكم وهذا ما تعجزون عنه، وإن قالوا: ليست الأصول ألفا على التحرير وليس فيها مائة ألف فرع، أبطلوا استدلالهم، فإن قالوا: فما وجه قول أمير المؤمنين عليه السلام وما تأويله؟. قيل لهم: يحتمل وجوها: منها أن المعلم له الأبواب وهو رسول الله صلى الله عليه وآله فتح له بكل باب منها ألف باب ووقفه على ذلك. ومنها أن علمه بكل باب أوجب فكره فيه فبعثه الفكر على المسالة عن شعبه ومتعلقاته فاستفاد بالفكر فيه علم ألف باب بالبحث عن كل باب منها ومثل هذا معنى قول النبي صلى الله عليه وآله: "من عمل بما يعلم ورثه الله علم ما لم يعلم". ومنها أنه نص له على علامات تكون عندها حوادث كل حادثة يدل على حادثة إلى أن ينتهى إلى ألف حادثة فلما عرف الالف علامة عرف بكل علامة منها ألف علامة، والذي يقرب هذا من الصواب أنه عليه السلام أخبرنا بأمور تكون قبل كونها ثم قال عليه السلام عقيب إخباره بذلك. "علمني رسول الله ألف باب فتح لي كل باب ألف باب".

وقال بعض الشيعة: إن معنى هذا القول أن النبي نص له على صفة ما فيه الحكم على الجملة دون التفصيل كقوله: "يحرم من الرضاع ما يحرم بالنسب" وكان هذا بابا استفيد منه تحريم الأخت من الرضاعة والأم والخالة والعمة وبنت الأخ وبنت الأخت، وكقول الصادق عليه السلام: "الربا في كل مكيل وموزون"، فاستفيد بذلك الحكم في أصناف المكيلات والموزونات كلها. وكقوله عليه السلام "يحل من الطير ما يدف، ويحرم منه ما يصف، ويحل من البيض ما اختلف طرفاه ، ويحرم منه ما اتفق طرفاه ، ويحل من السمك ما كان له فلوس، ويحرم منه ما ليس له فلوس"، وما أشبه ذلك. والأجوبة الأولة هي لي خاصة وأنا اعتمدتها.

- نقل المفيد: في الدليل على إمامة أمير المؤمنين
- الفصول المختارة- الشيخ المفيد  ص 118، 120:

فصل: ومن حكايات الشيخ أدام الله عزه، قال: سئل أبو محمد الفضل بن شاذان النيشابوري رحمه الله قيل له: ما الدليل على إمامة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب؟ فقال: الدليل على ذلك من كتاب الله عز وجل ومن سنة نبيه صلى الله عليه وآله ومن إجماع المسلمين، فأما كتاب الله سبحانه وتعالى قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ} فدعانا سبحانه وتعالى إلى إطاعة أولي الأمر كما دعانا إلى طاعة نفسه وطاعة رسوله صلى الله عليه وآله فاحتجنا إلى معرفة أولي الأمر كما وجبت علينا معرفة الله ومعرفة رسوله صلى الله عليه وآله، فنظرنا في أقاويل الأمة فوجدناهم قد اختلفوا في أولي الأمر وأجمعوا في الآية على ما يوجب كونها في علي بن أبي طالب عليه السلام.

فقال بعضهم: أولوا الأمر هم أمراء السرايا، وقال بعضهم: هم العلماء، وقال بعضهم: هم القوام على الناس، والآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر، وقال بعضهم: هم علي بن أبي طالب والأئمة من ذريته عليهم السلام، فسألنا الفرقة الأولى، فقلنا لهم: أليس علي بن أبي طالب من أمراء السرايا؟ فقالوا: بلى فقلنا للثانية: ألم يكن علي عليه السلام من العلماء؟ قالوا: بلى. وقلنا للثالثة: أليس علي عليه السلام قد كان من القوام على الناس بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ فقالوا: بلى، فصار أمير المؤمنين عليه السلام معنيا بالآية باتفاق الأمة وإجماعها، وتيقنا ذلك بإقرار المخالف لنا في إمامته عليه السلام والموافق عليها، فوجب أن يكون إماما بهذه الآية لوجود الاتفاق على أنه معني بها، ولم يجب العدول إلى غيره والاعتراف بإمامته لوجود الاختلاف في ذلك، وعدم الاتفاق وما يقوم مقامه في البرهان.

وأما السنة: فانا وجدنا النبي صلى الله عليه وآله استقضى عليا عليه السلام على اليمن وأمره على الجيوش وولاه الأموال وأمره بأدائها إلى بني جذيمة الذين قتلهم خالد بن الوليد ظلما واختاره عليه السلام لأداء رسالات الله عز وجل والإبلاغ عنه في سورة البراءة، واستخلفه عند غيبته على من خلف ولم نجد النبي صلى الله عليه وآله سن هذه السنن في غيره ولا اجتمعت هذه السنن في أحد بعد النبي صلى الله عليه وآله كما اجتمعت في علي عليه السلام، وسنة رسول الله صلى الله عليه وآله بعد موته واجبة كوجوبها في حياته، وإنما تحتاج الأمة إلى الإمام لهذه الخصال التي ذكرناها فإذا وجدناها في رجل قد سنها الرسول صلى الله عليه وآله فيه كان أولى بالإمامة ممن لم يسن النبي صلى الله عليه وآله فيه شيئا من ذلك.

وأما الإجماع فان إمامته تثبت من جهته من وجوه: منها أنهم قد أجمعوا جميعا على أن عليا عليه السلام قد كان إماما ولو يوما واحدا، ولم يختلف في ذلك أصناف أهل الملة ثم اختلفوا، فقالت طائفة: كان إماما في وقت كذا دون وقت كذا، وقالت طائفة: كان إماما بعد النبي صلى الله عليه وآله في جميع أوقاته ولم تجتمع الأمة على غيره أنه كان إماما في الحقيقة طرفة عين، والإجماع أحق أن يتبع من الخلاف.

ومنها أنهم أجمعوا جميعا على أن عليا عليه السلام كان يصلح للإمامة وأن الإمامة تصلح لبني هاشم، واختلفوا في غيره، وقالت طائفة: لم تكن تصلح لغير علي بن أي طالب عليه السلام، ولا تصلح لغير بني هاشم والإجماع حق لا شبهة فيه، والاختلاف لا حجة فيه.

ومنها أنهم أجمعوا على أن عليا عليه السلامكان بعد النبي صلى الله عليه وآله ظاهر العدالة واجبة له الولاية، ثم اختلفوا فقال قوم: إنه كان مع ذلك معصوما من الكبائر والضلال، وقال آخرون: لم يك معصوما ولكن كان عدلا برا تقيا على الظاهر لا يشوب ظاهره الشوائب فحصل الإجماع على عدالته، واختلفوا في نفي العصمة عنه، ثم أجمعوا كلهم جميعا على أن أبا بكر لم يك معصوما واختلفوا في عدالته، فقالت طائفة: كان عدلا وقالت أخرى: لم يكن عدلا لأنه أخذ ما ليس له، فمن أجمعوا على عدالته واختلفوا في عصمته أولى بالإمامة ممن اختلفوا في عدالته وأجمعوا على نفي العصمة عنه.

- شجاعة أمير المؤمنين
- الفصول المختارة- الشيخ المفيد  ص 120، 124:

فصل: ومن حكايات الشيخ أدام الله عزه، وكلامه: حضر الشيخ مجلس أبي منصور ابن المرزبان وكان بالحضرة جماعة من متكلمي المعتزلة فجرى كلام وخوض في شجاعة الإمام، وهل ذلك شرط يجب في الإمامة أم لا يجب؟ ومضى فيه طرف على سبيل المذاكرة، فقال أبو بكر بن صرايا: عندي أن أبا بكر الصديق كان من شجعان العرب ومتقدميهم في الشجاعة.

فقال له الشيخ أدام الله عزه: من أين حصل ذلك عندك وبأي وجه عرفته؟

فقال: الدليل على ذلك أنه رأى قتال أهل الردة وحده في نفر معه وخالفه على رأيه في ذلك جمهور الصحابة وتقاعدوا عن نصرته، فقال: أما والله لو منعوني عقالا لقاتلتهم، ولم يستوحش من اعتزال القوم له ولا ضعف ذلك نفسه ولا منعه من التصميم على حربهم، فلولا أنه كان من الشجاعة على حد يقصر الشجعان عنه لما أظهر هذا القول عند خذلان القوم له.

فقال له الشيخ أيده الله: ما أنكرت على من قال لك إنك لم تلجأ إلى معتمد عليه في هذا الباب وذلك أن الشجاعة لا تعرف بالحس لصاحبها فقط ولا بإدعائها، وإنما هي شيء في الطبع يمده الاكتساب، والطريق إليها أحد أمرين: إما الخبر عنها من جهة علام الغيوب المطلع على الضمائر فيعلم خلقه حال الشجاع وإن لم يبد منه فعل يستدل به عليها، والوجه الآخر أن يظهر منه أفعال يعلم بها حاله كمبارزة الأقران ومقاومة الشجعان ومنازلة الأبطال والصبر عند اللقاء وترك الفرار عند تحقق القتال، ولا يعلم ذلك أيضا بأول وهلة ولا بواحدة من الفعل حتى يتكرر ذلك على حد يتميز به صاحبه ممن حصل له ذلك اتفاقا أو على سبيل الهوج والجهل بالتدبير.

وإذا كان الخبر من الله سبحانه وتعالى بشجاعة أبي بكر معدوما، وكان هذا الفعل الدال على الشجاعة غير موجود للرجل فكيف يجوز لعاقل أن يدعي له الشجاعة بقول قاله هو ليس من دلالتها في شيء عند أحد من أهل النظر والتحصيل لاسيما ودلائل جبنه وهلعه وخوفه وضعفه أظهر من أن يحتاج فيها إلى التأمل. وذلك أنه لم يبارز قط قرنا ولا قاوم بطلا ولا سفك بيده دما، وقد شهد مع رسول الله صلى الله عليه وآله مشاهده فكان لكل واحد من الصحابة أثر في الجهاد إلا له ، وفر في يوم احد ، وانهزم في يوم خيبر، وولى الدبر يوم التقى الجمعان، وأسلم رسول الله صلى الله عليه وآله في هذه المواطن مع ما كتب الله تعالى عليه الجهاد، فكيف تجتمع دلائل الجبن ودلائل الشجاعة لرجل واحد في وقت واحد لولا أن العصبية تميل بالعبد إلى الهوى.

وقال له رجل من طياب الشيعة وكان حاضرا: عافاك الله أي دليل هذا وكيف يعتمد عليه وأنت تعلم أن الإنسان قد يغضب فيقول: لو سامني هذا السلطان لهذا الأمر ما قبلته، وإن عندنا لشيخا ضعيف الجسم ظاهر الجبن يصلي بنا في مسجدنا فلا يحدث أمر يضجره وينكره إلا قال: والله لأصبرن على هذا أو لأجاهدن فيه ولو اجتمعت علي ربيعة ومضر.

فقال: ليس الدلائل على الشجاعة ما ذكرت دون غيره، والذي اعتمدنا عليه يدل كما يدل العقل والخبز ووجه الدلالة منه أن أبا بكر باتفاق لم يكن مؤوف العقل ولا غبيا ولا ناقصا بل كان بالإجماع من العقلاء، وكان بالاتفاق جيد الآراء، فلولا أنه كان واثقا من نفسه عالما بصبره وشجاعته لما قال هذا القول بحضرة المهاجرين والأنصار وهو لا يأمن أن يقوم القوم على خلافه فيخذلونه ويتأخرون عنه ويعجز هو لجبنه أن لو كان الأمر على ما ادعيتموه عليه، فيظهر منه الخلف في قوله وليس يقع هذا من عاقل حكيم، فلما ثبتت حكمة أبي بكر دل مقاله الذي حكيناه على شجاعته كما وصفناه.

فقال له الشيخ أدام الله عزه: ليس تسليمنا لعقل أبي بكر وجودة رأيه تسليما لما ادعيت من شجاعته كما رويت عنه من القول ولا يوجب ذلك في عرف ولا عقل ولا سنة ولا كتاب، وذلك أنه لو كان على ما ذكرت من الحكمة فليس بممتنع أن يأتي بهذا القول مع جبنه وخوفه وهلعه ليشجع أصحابه ويحض المتأخرين عنه على نصرته، ويحثهم على جهاد عدوه ويقوي عزمهم على معونته، ويصرفهم عن رأيهم في خذلانه. وهكذا يصنع الحكماء في تدبيراتهم فيظهرون فن الصبر ما ليس عندهم ومن الشجاعة ما ليس في طبائعهم حتى يمتحنوا الأمر وينظروا عواقبه، فان استجاب المتأخرون عنهم ونصرهم الخاذلون لهم، وكلوا الحرب إليهم وعلقوا الكلفة بهم، وإن أقاموا على الخذلان واتفقوا على ترك النصرة لهم والعدول من معونتهم، أظهروا من الرأي خلاف ما سلف. وقالوا: قد كانت الحال موجبة للقتال وكان عزمنا على ذلك تاما، فلما رأينا أشياعنا وعامة أتباعنا يكرهون ذلك، أوجبت الضرورة إعفاءهم عما يكرهون والتدبير لهم بما يؤثرون، وهذا أمر قد جرت به عادة الرؤساء في كل زمان ولم يك تنقلهم من رأي إلى رأي مسقطا لأقدارهم عند الأنام.

فلا ينكر أن يكون أبو بكر إنما أظهر التصميم على الحرب لحث القوم على موافقته في ذلك ولم يبدلهم جزعه لئلا يزيد ذلك في فشلهم ويقوى به رأيهم، واعتمد على أنهم إن صاروا إلى أمره، ونفع هذا التدبير في تمام غرضه فقد بلغ المراد، وإن لم ينجع ذلك عدل عن الرأي الأول كما وصفناه من حال الرؤساء في تدبيراتهم. على أن أبا بكر لم يقسم بالله في قتال أهل الردة بنفسه، وإنما أقسم في قتالهم بأنصاره الذين اتبعوه على رأيه، وليس في يمينه بالله لينفذن خالدا وأصحابه ليصلوا بالحرب، دليل على شجاعته في نفسه.

وشيء آخر: وهو أن أبا بكر قال هذا القول عند غضبه لمباينة القوم له ولا خلاف بين ذوي العقول أن الغضبان قد يعتريه عند غضبه من هيجان الطباع ما يفسد عليه رأيه حتى يقدم من القول على ما لا يفي به عند سكون نفسه ويعمل من الأعمال ما يندم عليه عند زوال الغضب عنه ولا يكون في وقوع ذلك منه دليل على فساد عقله ووجوب إخراجه عن جملة أهل التدبير وقد صرح الرجل بذلك في خطبته المشهورة عنه التي لا يختلف فيها اثنان، وأصحابه خاصة يقولون بها ويجعلونها من مفاخره حيث يقول: "إن رسول الله خرج من الدنيا وليس أحد من الأمة يطالبه بضربة سوط فما فوق، وكان عليه وآله السلام معصوما عن الخطأ تأتيه الملائكة بالوحي فلا تكلفوني ما كنتم تكلفونه فإن لي شيطانا يعتريني عند غضبي فإذا رأيتموني مغضبا فاجتنبوني لا اؤثر في شعاركم وابشاركم".

فقد أعذر هذا الرجل إلى القوم وأنذرهم فيما يأتيه عند غضبه من قول وفعل ودلهم على الحال فيه، فلذلك آمن من نكير المهاجرين والأنصار عليه مقاله عند غضبه، مع إحاطة العلم منهم بما لحقه في الحال من خلاف المخالفين عليه حتى بعثه على ذلك المقال فلم يأت بشيء.

- في اعتراض الإمامية على مذاهب العامة في ردها على أمير المؤمنين في كثير من المسائل والأخذ بقول غيره
- الفصول المختارة- الشيخ المفيد  ص 132، 135:

فصل: ومن حكايات الشيخ أدام الله عزه أيضا وكلامه، قال أيده الله: حضرت بمجمع لقوم من الرؤساء وكان فيهم شيخ من أهل الري معتزلي يعظمونه لمحل سلفه وتعلقه بالدولة فسئلت عن شيء من الفقه فأفتيت فيه على المأثور عن الأئمة عليه السلام.

فقال ذلك الشيخ: هذه الفتيا تخالف الإجماع. فقلت له: إجماع من تعني عافاك الله؟ فقال: إجماع الفقهاء المعروفين بالفتيا في الحلال والحرام من فقهاء الأمصار فقلت له: هذا أيضا مجمل من القول، فهل يدخل آل محمد عليهم السلام في جملة هؤلاء الفقهاء أم تخرجهم عن الإجماع؟ فقال: بل أجعلهم في صدر الفقهاء ولو صح عنهم ما تروونه لما خالفناه. فقلت له: هذا مذهب لا أعرفه لك ولا لمن أومأت إليه ممن جعلتهم الفقهاء لان القوم بأجمعهم يرون الخلاف على أمير المؤمنين عليه السلام وهو سيد أهل البيت عليهم السلام في كثير مما قد صح عنه من الأحكام فكيف تستوحشون من خلاف ذريته عليهم السلام وتوجبون على أنفسكم قبول قولهم على كل حال؟ فقال: معاذ الله ما نذهب إلى هذا ولا يذهب إليه أحد من الفقهاء، وهذه شناعة منك على القوم بحضرة هؤلاء الرؤساء.

فقلت له: لم أحك إلا ما أقيم عليه البرهان ولا ذكرت إلا معروفا لا يمكن أحدا من أهل العلم دفعي عنه لما هو عليه من الاشتهار لكنك أنت تريد أن تتجمل بضد مذهبك عند هؤلاء الرؤساء، ثم أقبلت على القوم فقلت: لا خلاف عند شيوخ هذا الرجل وأئمته وفقهائه وساداته أن أمير المؤمنين عليه السلام قد يجوز عليه الخطأ في شيء يصيب فيه عمرو بن العاص زيادة على ما حكيت عنه من المقال فاستعظم القوم ذلك وأظهروا البراءة من معتقديه وأنكره هو وزاد في الإنكار.

فقلت له: أليس من مذهبك ومذهب هؤلاء الفقهاء أن عليا عليه السلام لم يكن معصوما كعصمة النبي صلى الله عليه وآله؟. قال: بلى. قلت: فلم لا يجوز عليه الخطأ في شيء من الأحكام؟ فسكت.

ثم قلت له: أليس عندكم أن أمير المؤمنين عليه السلام قد كان يجتهد برأيه في كثير من الأحكام وأن عمرو بن العاص وأبا موسى الأشعري والمغيرة بن شعبة كانوا من أهل الاجتهاد؟ قال: بلى. قلت له: ما الذي يمنع من إصابة هؤلاء القوم ما يذهب على أمير المؤمنين عليه السلام من جهة الاجتهاد مع ارتفاع العصمة عنه وكون هؤلاء القوم من أهل الاجتهاد؟. فقال: ليس يمنع من ذلك مانع.

فقلت له: فقد أقررت ما أنكرت الآن، ومع هذا أفليس من أصلك أن كل أحد بعد النبي صلى الله عليه وآله يؤخذ من قوله ويترك إلا ما انعقد عليه الإجماع؟ قال: بلى. قلت: أفليس هذا يسوغكم الخلاف على أمير المؤمنين عليهم السلام في كثير من أحكامه التي لم يقع عليها الإجماع؟ وبعد فليست بي حاجة إلى هذا التعسف ولا أنا مفتقر فيما حكيت إلى هذا الاستدلال لأنه لا أحد من الفقهاء إلا وقد خالف أمير المؤمنين عليه السلام في بعض أحكامه ورغب منها إلى غيره، وليس فيهم أحد وافقه في جميع ما حكم فيه عليه السلام من الحلال والحرام.

وإني لأعجب من إنكارك لما ذكرت وصاحبك الشافعي يخالف أمير ا لمؤمنين عليه السلام في الميراث والمكاتب ويذهب إلى قول زيد فيهما. ويروي عنه عليه السلام أنه كان لا يرى الوضوء من مس الذكر ويقول هو إن الوضوء منه واجب، وإن عليا عليه السلام خالف الحكم فيه بضرب من الرأي.

وحكى الربيع عنه في كتابه المشهور عنه أنه قال: لا بأس بصلاة الجمعة والعيدين خلف كل أمين وغير مأمون ومتغلب، صلى علي بالناس وعثمان محصور. فجعل الدلالة على جواز الصلاة خلف المتغلب على أمر الأمة صلاة الناس خلف علي عليه السلام في زمن حصر عثمان، فصرح بان عليا عليه السلام كان متغلبا، ولا خلاف أن المتغلب على أمر الأمة فاسق ضال، وقال لا بأس بالصلاة خلف الخوارج لأنهم متأولون وإن كانوا فاسقين.

فمن يكون هذا مذهبه ومقالة إمامه وفقيهه، يزعم معه أنه لو صح له عن أمير المؤمنين عليه السلام شيء أو عن ذريته الطاهرين عليهم السلام لدان به لولا أن الذاهب إلى هذا يريد التلبيس. وليس في فقهاء الأمصار سوى الشافعي إلا وقد شارك الشافعي في الطعن على أمير المؤمنين عليه السلام وتزييف كثير من قوله والرد عليه في أحكامه حتى إنهم يصرحون بأن الذي يذكره أمير المؤمنين عليه السلام في الأحكام معتبر فإن أسنده إلى النبي صلى الله عليه وآله قبلوه منه على ظاهر العدالة كما يقبلون من أبي موسى الأشعري وأبي هريرة والمغيرة بن شعبة مما يسنده إلى النبي صلى الله عليه وآله، بل كما يقبلون من حمال في السوق على ظاهر العدالة ما يرويه مسندا إلى النبي صلى الله عليه وآله وأما ما قاله أمير المؤمنين عليه السلام من غير إسناد له إلى الرسول صلى الله عليه وآله كان موقوفا على صبرهم ونظرهم واجتهادهم فان وضح لهم صوابه فيه قالوا به من حيث النظر لا من حيث حكمه به وقوله، وإن عثروا على خطأ فيه اجتنبوه وردوا عليه وعلى من اتبعه فيه. فزعموا أن آراءهم هي المعيار على قوله عليه السلام.

وهذا لا يذهب إليه من وجد في صدره جز من مودته صلوات الله عليه وسلامه وحقه الواجب له عليه السلام وتعظيمه الذي فرضه الله عز وجل ورسوله، بل لا يذهب إلى هذا القول إلا من رد على رسول الله صلى الله عليه وآله: "علي مع الحق والحق مع علي يدور معه حيثما دار" وقوله: "أنا مدينة العلم وعلي بابها"، وقوله: "علي أقضاكم" وقول أمير المؤمنين عليه السلام: "ضرب رسول الله صلى الله عليه وآله بيده على صدري وقال: اللهم اهد قلبه وثبت لسانه فما شككت في قضاء بين اثنين".

فلما ورد عليه هذا الكلام تحير وقال: هذه شناعات على الفقهاء والقوم لهم حجج على ما حكيت عنهم. فقال له بعض الحاضرين: نحن نبرأ إلى الله من هذا المقال ومن كل دائن به، وقال له أخ إن كان مع القوم حجج على ما حكاه الشيخ فهي حجج على إبطال ما ادعيت أولا من ضد هذه الحكاية، ونحن نعيذك بالله من أن تذهب إلى هذا القول فان كل شيء تظنه حجة عليه فهو كالحجة في إبطال نبوة النبي فسكت مستحيا مما جرى وتفرق الجمع.

- قوله تعالى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ نزلت في أمير المؤمنين وجرى حكمها في الأئمة من ذريته الصادقين
- في فضائل أمير المؤمنين
- الفصول المختارة- الشيخ المفيد  ص 137، 141:

فصل: وسئل الشيخ أدام الله عزه عن قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ}، فقيل له: فيمن نزلت هذه الآية؟ فقال: في أمير المؤمنين عليه السلام وجرى حكمها في الأئمة من ذريته الصادقين عليهم السلام.

قال الشيخ أدام الله عزه: وقد جاءت آثار كثيرة في ذلك، ومما يدل على صحة هذا التأويل ما أنا أذكره بمشيئة الله وعونه.

قد ثبت أن الله سبحانه دعا المؤمنين في هذه الآية إلى اتباع الصادقين والكون معهم فيما يقتضيه الدين، وثبت أن المنادى به يجب أن يكون غير المنادى إليه لاستحالة أن يدعى الإنسان إلى الكون مع نفسه واتباعها. فلا يخلو أن يكون الصادقون الذين دعا الله تعالى إليهم جميع من صدق وكان صادقا حتى يعمهم اللفظ ويستغرق جنسهم أو يكونوا بعض الصادقين، وقد تقدم إفسادنا لمقال من زعم أنه عم الصادقين لان كل مؤمن فهو صادق بإيمانه فكان يجب بذلك أن يكون الدعاء للإنسان إلى اتباع نفسه وذلك محال على ما ذكرناه. وإن كانوا بعض المؤمنين دون بعض فلا يخلو من أن يكونوا معهودين معروفين فتكون الألف واللام إنما دخلا للمعهود أو يكونوا غير معهودين، فان كانوا معهودين فيجب أن يكونوا معروفين غير مختلف فيهم، وتأتي الروايات بأسمائهم والإشارة إليهم خاصة وأنهم طائفة معروفة عند من سمع الخطاب من الرسول صلى الله عليه وآله، وفي عدم ذلك دليل على بطلان مقال من ادعى أن هذه الآية نزلت في جماعة غير من ذكرناه كانوا معهودين. وإن كانوا غير معهودين فلا بد من الدلالة عليهم ليتميزوا ممن يدعي مقامهم وإلا بطلت الحجة لهم وسقط تكليف اتباعهم، وإذا ثبت أنه لا بد من الدليل عليهم ولم يدع أحد من الفرق دلالة على غير من ذكرناه، ثبت أنها فيهم خاصة لفساد خلو الأمة كلها من تأويلها وعدم أن يكون القصد إلى أحد منهم بها.

على أن الدليل قائم على أنها فيمن ذكرناه لأن الأمر ورد باتباعهم على الإطلاق وذلك يوجب عصمتهم وبراءة ساحتهم والأمان من زللهم بدلالة إطلاق الأمر باتباعهم، والعصمة توجب النص على صاحبها بلا ارتياب، وإذا اتفق مخالفونا على نفي العصمة والنص عمن ادعوا له تأويل هذه الآية، فقد ثبت أنها في الأئمة عليهم السلام لوجود النقل بالنص عليهم وإلا خرج الحق عن أمة محمد صلى الله عليه وآله وذلك فاسد.

مع أن في القرآن دليلا على ما ذكرناه وهو أن الله سبحانه قال: {لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} فجمع الله تبارك اسمه وتعالى هذه الخصال كلها ثم شهد لمن كملت فيه بالصدق والتقى على الإطلاق، فكان مفهوم معنى الآيتين الأولى وهذه الثانية أن اتبعوا الصادقين الذين باجتماع هذه الخصال التي عددناها فيهم، استحقوا إطلاق الاسم بصادقين.

ولم نجد أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله اجتمعت فيه هذه الخصال إلا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام فوجب أنه الذي عناه الله سبحانه بالآية وأمر فيها باتباعه والكون معه فيما يقتضيه الدين، وذلك أنه ذكر الإيمان به جل اسمه وتعالى واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين، فكان أمير المؤمنين عليه السلام أول الناس إيمانا به وبما وصف بالأخبار المتواترة بأنه أول من أجاب رسول الله صلى الله عليه وآله من الذكور وبقول النبي لفاطمة عليها السلام: "زوّجتك أقدمهم سلما وأكثرهم علما". وقول أمير المؤمنين عليه السلام: "أنا عبد الله وأخو رسوله لم يقلها أحد قبلي ولا يقولها أحد بعدي إلا كذاب مفتر صليت قبلهم سبع سنين"، وقوله عليه السلام: "اللهم إني لا أقر لأحد من هذه الأمة عبدك قبلي"، وقوله عليه السلام وقد بلغه من الخوارج مقالا أنكره، "لا أم يقولون إن عليا يكذب أفعلى من أكذب أعلى الله فأنا أول من عبده أم على رسول الله صلى الله عليه وآله فأنا أول من آمن به وصدقه ونصره" وقول الحسن عليه السلام صبيحة الليلة التي قبض فيها أمير المؤمنين عليه السلام: "لقد قبض في الليلة رجل ما سبقه الأولون بعمل ولا يدركه الآخرون" في أدلة يطول شرحها على ذلك. ثم أردف الوصف الذي تقدم ، بإيتاء المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفى الرقاب ووجدنا ذلك لأمير المؤمنين عليه السلام بالتنزيل وتواتر الأخبار به على التفصيل. قال الله عزوجل: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} واتفقت الرواة من الفريقين الخاصة والعامة على أن هذه الآية بل السورة كلها نزلت في أمير المؤمنين وزوجته فاطمة وابنيه عليه السلام، وقال سبحانه: {الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ}. وجاءت الرواية أيضا مستفيضة بأن المعني بهذا أمير المؤمنين عليه السلام ولا خلاف أنه أعتق من كد يده جماعة لا يحصون كثرة ووقف أراضي كثيرة وعينا استخرجها عليه السلام وأحياها بعد موتها فانتظم الصفات على ما ذكرناه.

ثم أردف ذلك قوله: {وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ}. وكان هو المعني بها عليه السلام بدلالة قوله: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} واتفق أهل النقل على أنه صلوات الله عليه المزكي في حال ركوعه في الصلاة فطابق هذا الوصف وصفه في الآية المتقدمة وشاركه في معناها. ثم أعقب ذلك قوله: {وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ} وليس أحد من الصحابة إلا من نقض العهد في الظاهر أو تقول ذلك عليه إلا أمير المؤمنين عليه السلام فانه لا يمكن لأحد أن يزعم أنه نقض ما عاهد عليه رسول الله صلى الله عليه وآله من النصرة والمساواة فاختص أيضا بهذا الوصف.

ثم قال سبحانه: {وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ} ولم يوجد أحد صبر مع رسول الله صلى الله عليه وآله عند الشدائد غير أمير المؤمنين عليه السلام فأنه بإتفاق وليه وعدوه لم يول دبرا ولا فر من قرن ولا هاب في الحرب خصما. فلما استكمل عليه السلام هذه الخصال بأسرها قال سبحانه: {أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا} يعني به أن المدعو إلى اتباعه من جملة الصادقين، هو من دل على اجتماع الخصال فيه وذلك أمير المؤمنين عليه السلام، وإنما عبر عنه بحرف الجمع تعظيما له وتشريفا، إذ العرب تضع لفظ الجمع على الواحد إذا أرادت أن تدل على نباهته وعلو قدره وشرف محله، وإن كان قد يستعمل فيمن لا يراد له ذلك إذا كان الخطاب يتوجه إليه ويعم غيره بالحكم.

ولو جعلنا المعنى في لفظ الجمع بالعبارة عن أمير المؤمنين عليه السلام لكان لذلك وجها لأنه وإن خص بالذكر فإن الحكم جار فيمن يليه من أئمة الهدى عليهم السلام على ما قد شرحناه. وهذا بين والله نسأل توفيقا نصل به إلى الرشاد بمنه.

- في أفضلية أمير المؤمنين على من تقدمه
- الفصول المختارة- الشيخ المفيد  ص 167، 169:

فصل: ومن حكايات الشيخ أدام الله عزه قال: سئل الفضل بن شاذان رحمه الله تعالى عما روته الناصبة عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال: "لا أوتي برجل يفضلني على أبي بكر وعمر إلا جلدته جلدة المفتري". فقال: إنما روى هذا الحديث سويد ابن غفلة، وقد أجمع أهل الآثار على أنه كان كثير الغلط، وبعد فان نفس الحديث متناقض لأن الأمة مجمعة على أن عليا عليه السلام كان عدلا في قضيته وليس من العدل أن يجلد حد المفتري من لم يفتر، هذا جور على لسان الأمة كلها وعلي بن أبي طالب عليه السلام عندنا برئ من ذلك.

قال الشيخ أدام الله عزه وأقول: إن هذا الحديث إن صح عن أمير المؤمنين عليه السلام ولن يصح بأدلة أذكرها بعد، فان الوجه فيه أن المفاضل بينه وبين الرجلين إنما وجب عليه حد المفتري من حيث أوجب لهما بالمفاضلة ما لا يستحقانه من الفضل، لأن المفاضلة لا تكون إلا بين متقاربين في الفضل وبعد أن يكون في المفضول فضل، وإن كانت الدلائل على أن من لا طاعة معه لا فضل له في الدين، وأن المرتد عن الإسلام ليس فيه شيء من الفضل الديني، وكان الرجلان بجحدهما النص قد خرجا عن الإيمان، بطل أن يكون لهما فضل في الإسلام، فكيف يحصل لهما من الفضل ما يقارب فضل أمير المؤمنين عليه السلام؟. ومتى فضل إنسان أمير المؤمنين عليه السلام عليهما فقد أوجب لهما فضلا عظيما في الدين. فإنما استحق حد المفتري الذي هو كاذب دون المفتري الذي هو راجم بالقبيح لأنه افترى بالتفضيل لأمير المؤمنين عليه السلام عليهما من حيث كذب في إثبات فضل لهما في الدين، ويجري في هذا الباب مجرى من فضل المسلم البر التقي على الكافر المرتد الخارج عن الدين، ومجرى من فضل جبرئيل عليه السلام على إبليس، ورسول الله صلى الله عليه وآله على أبي جهل بن هشام في أن المفاضلة بين ما ذكرناه توجب لمن لا فضل له على وجه فضلا مقاربا لفضل العظماء عند الله سبحانه، وهذا بين لمن تأمله.

مع أنه لو كان هذا الحديث صحيحا وتأويله على ما ظنه القوم لوجب أن يكون حد المفتري واجبا على رسول الله صلى الله عليه وآله وحاشا له من ذلك لأن رسول الله صلى الله عليه وآله قد فضل أمير المؤمنين عليه السلام على سائر الخلق فآخى بينه وبين نفسه، وجعله بحكم الله في المباهلة نفسه، وسد أبواب القوم إلا بابه، ورد كبراء أصحابه عن إنكاحهم ابنته سيدة نساء العالمين عليها السلام وأنكحه وقدمه في الولايات كلها ولم يؤخره، وأخبر أنه يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، وأنه أحب الخلق إلى الله وأنه مولى من كان مولاه من الأنام، وأنه منه بمنزلة هارون من موسى بن عمران، وأنه عليه السلام أفضل من سيدي شباب أهل الجنة، وأن حربه حربه وسلمه سلمه وغير ذلك مما يطول شرحه إن ذكرناه.

وكان يجب أيضا أن يكون عليه السلام قد أوجب الحد على نفسه إذ أبان عن فضله على سائر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله حيث يقول: "أنا عبد الله وأخو رسول الله صلى الله عليه وآله لم يقلها أحد قبلي، ولا يقولها أحد بعدي إلا كذاب مفتر، صليت قبلهم سبع سنين".

وفي قوله عليه السلام لعثمان وقد قال له: أبو بكر وعمر خير منك. فقال: "بل أنا خير منك ومنهما، عبدت الله قبلهما وعبدته بعدهما". وكان أيضا قد أوجب الحد على ابنه الحسن عليه السلام وجميع ذريته وأشياعه وأنصاره وأهل بيته، فإنه لا ريب في اعتقادهم فضله على سائر الصحابة  وقد قال الحسن عليه السلام صبيحة الليلة التي قبض فيها أمير المؤمنين عليه السلام: "لقد قبض في هذه الليلة رجل ما سبقه الأولون بعمل ولا أدركه الآخرون". وهذه المقالة متهافتة جدا.

قال الشيخ أدام الله عزه: ولست أمنع العبارة بان أمير المؤمنين عليه السلام كان أفضل من أبي بكر وعمر على معنى تسليم فضلهما من طريق الجدل، أو على معتقد الخصوم في أن لهما فضلا في الدين، فأما على تحقيق القول في المفاضلة فانه غلط وباطل. قال الشيخ أدام الله عزه: وشاهد ما أطلقت من القول ونظيره قول أمير المؤمنين عليه السلام في أهل الكوفة: "اللهم إني قد مللتهم وملوني وسئمتهم وسئموني، اللهم فأبدلني بهم خيرا منهم وأبدلهم بي شرا مني" ولم يكن في أمير المؤمنين عليه السلام شر وإنما أخرج الكلام على اعتقادهم فيه ومثله قول حسان وهو يعني النبي صلى الله عليه وآله:

أتهجوه ولست له بكفؤ   فشركما لخيركما الفداء

ولم يكن في رسول الله صلى الله عليه وآله شر وإنما أخرج الكلام على معتقد الهاجي فيه.

- أمير المؤمنين أقرب إلى رسول الله من عمه العباس
- الفصول المختارة- الشيخ المفيد  ص 170، 172:

فصل: ومن حكايات الشيخ أدام الله عزه وكلامه، قال الشيخ أيده الله وقد كان الفضل بن شاذان رحمه الله استدل على إمامة أمير المؤمنين عليه السلام بقول الله تعالى: {وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ}. قال: وإذا أوجب الله للأقرب برسول الله صلى الله عليه وآله الولاية وحكم بأنه أولى به من غيره، وجب أن أمير المؤمنين عليه السلام كان أولى بمقام رسول الله صلى الله عليه وآله من كل أحد.

قال الفضل: فإن قال قائل: فإن العباس كان أقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله من علي عليه السلام، قيل له: إن الله تعالى لم يذكر الأقرب في النبي صلى الله عليه وآله دون أن علقه بوصف، فقال: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُوْلُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ} فشرط في الأولى بالرسول الأيمان والهجرة، ولم يكن العباس من المهاجرين، ولا كانت له هجرة بالاتفاق.

قال الشيخ وأقول: إن أمير المؤمنين عليه السلام كان أقرب إلى رسول الله من العباس وأولى بمقامه منه إن ثبت أن المقام موروث، وذلك أن عليا عليه السلام كان ابن عم رسول الله صلى الله عليه وآله لأبيه وأمه، والعباس عمه لأبيه خاصة، ومن تقرب بسببين كان أقرب ممن تقرب بسبب واحد.

وأقول: إنه لو لم تكن فاطمة عليه السلام موجودة بعد رسول الله صلى الله عليه وآله لكان أمير المؤمنين عليه السلام أحق بميراث رسول الله صلى الله عليه وآله وبتركته من العباس ولو ورث مع الولد أحد غير الأبوين والزوج والزوجة لكان أمير المؤمنين عليه السلام أحق بميراث الرسول صلى الله عليه وآله مع فاطمة عليها السلام من العباس لما قدمت من انتظامه القربة من جهتين واختصاص العباس بها من جهة واحدة.

قال الشيخ أدام الله عزه: ولست أعلم بين أهل العلم خلافا في أن عليا عليه السلام كان ابن عم رسول الله صلى الله عليه وآله لأبيه وأمه وأن العباس كان عمه لأبيه خاصة، ويدل على ذلك ما رواه نقلة الآثار وهو أن أبا طالب رحمة الله عليه مر على رسول الله صلى الله عليه وآله وهو يصلي وعلي عليه السلام إلى جانبه فلما سلم قال: ما هذا يا بن أخ؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله شيء أمرني به ربي يقربني به إليه، فقال لابنه جعفر: يا بني صل جناح ابن عمك، فصلى رسول الله صلى الله عليه وآله بعلي وجعفر جميعا يومئذ فكانت أول صلاة جماعة في الإسلام، ثم أنشا أبو طالب عليه السلام يقول:

إن عليا وجعفرا ثقتي  *  عند ملم الزمان والكرب

والله لا أخذل النبي ولا  *  يخذله من بني ذو حسب

لا تخذلا وانصرا ابن عمكما  *  أخي لأمي من بينهم وأبي

ومن ذلك ما رواه جابر بن عبد الله الأنصاري رحمه الله قال: سمعت عليا عليه السلام ينشد ورسول الله صلى الله عليه وآله يسمع:

أنا أخو المصطفى لاشك في نسبي  *  معه ربيت وسبطاه هما ولدي

جدي وجد رسول الله منفرد  *  وفاطم زوجتي لا قول ذي فند

فالحمد لله شكرا لا شريك له  *  البر بالعبد والباقي بلا أمد

صدقته وجميع الناس في بهم  *  من الضلالة والإشراك والنكد

قال: فابتسم رسول الله صلى الله عليه وآله وقال: صدقت يا علي.

وفي ذلك يقول الشاعر أيضا:

إن علي بن أبي طالب  *  جدا رسول الله جداه

أبو علي وأبو المصطفى  *  من طينة طيبها الله

- في فساد عقائد إبراهيم بن سيار ورأيه في أمير المؤمنين والرد عليه
- الفصول المختارة- الشيخ المفيد  ص 210، 239:

قال الشيخ أيده الله: وقد أدخل إبراهيم النظام أمير المؤمنين عليه السلام في جملة من ذكرنا قوله فيه ونظمه معهم في معايب الأقوال عنادا منه له عليه السلام وعصبية لم يلجأ فيها إلى شبهة بل اعتمد في نصرتها على البهت واللجاج، وظن الجاحظ وإخوانه من أهل الاعتزال أن إبراهيم قد أخذ بطائل من ذلك وسوى بين القوم في الحكم عليهم بموجب الضلال وليس الأمر كما ظنوه في استواء الأحوال لكنه مستمر في القول منهم والاعتقاد دون الحجة الموجبة للاتفاق. والدليل على ذلك أن الذي حكى عن النظام عمن ذكرناه متفق عليه عند جماعة أهل الإسلام لا ينازع فيه اثنان من نقلة الآثار، فالطاعنون على القوم ينقونه للحجة عليهم في ارتكاب الضلال، والمتولون لهم ينقونه على وجه المدح لهم بالاجتهاد في الأحكام ويجعلونه أصلا لمذاهبهم في تسويغ الاختلاف، ومن أبى الاجتهاد والقياس من القائلين بسلامة القوم ينقله عنهم على وجه الصلح في الأحكام والقول بمدلول الخطاب واختلاف وجوهه واحتماله في اللسان، فليس في الأمة إلا من يشهد بصحة ذلك على ما حكاه إبراهيم وغيره من أصحاب المقالات.

والذي حكاه عن أمير المؤمنين عليه السلام من اختلاف الأقوال وإظهار القول بالرأي شيء تفرد به فريق وأباه فريق، وادعته شيعة أبي بكر وعمر وعثمان، وأنكرته شيعة علي أمير المؤمنين عليه السلام كافة وأطبقوا على رده وتكذيب الرواة له، وأجمعت ذريته وعترته عليهم السلام على إنكار ذلك وإبطاله فكيف يكون المختلف فيه نظير المتفق عليه؟ أم كيف يتساوى الحكمان في ذلك والقول فيه على ما وصفناه ؟ مع أن الإجماع من فرق أهل الخلاف ومن ذرية أمير المؤمنين عليه السلام وشيعته على نقيض ما تفرد به شيعة عثمان من الحكاية عن أمير المؤمنين عليه السلام في اختلاف الأحكام، وقد نقل ذلك عدو علي عليه السلام كما نقله وليه فكانت الحجة به دامغة لأهل الخلاف.

من ذلك إجماع الخاص والعام عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: "علي أقضاكم" وأقضى القوم لا يختلف قوله في الأحكام، وقال النبي صلى الله عليه وآله: "علي مع الحق والحق مع علي يدور حيثما دار" ومن كان الحق معه بشهادة رسول الله صلى الله عليه وآله لم يرتكب الضلال، وقول أمير المؤمنين عليه السلام: "بعثني رسول الله صلى الله عليه وآله إلى اليمن قاضيا بين أهله فقلت له: أتبعثني وأنا شاب ولا علم لي بكثير من القضاء فضرب بيده على صدري وقال: اللهم اهد قلبه وثبت لسانه فما شككت في قضاء بين اثنين". وهذا القول يضاد الحكاية عنه أنه كان يقول بالرأي لأن القول بالرأي يوجب الشك في الأحكام وقد نفى عن نفسه ذلك فكيف يثبته مع النفي له لولا البهت والعناد.

وهذه أخبار قد سلمها العدو ونقلها على ما ذكرناه وإنما يتأولها من فارقنا في العقد على مدلولها ويختص بها شيئا دون شيء أو زمانا دون زمان، وذلك باطل لظاهر عمومها وما تقتضيه حقائقها في معانيها من كونها مدحا على الأوصاف التي هي عليها عند من عرف اللسان، وليس لخصومنا أخبار تنفي ما حكاه إبراهيم عن أئمتهم من الاختلاف بل الإجماع على صحة ذلك عليهم حاصل حسبما قدمناه.

على أن أكثر ما حكاه إبراهيم عن أمير المؤمنين عليه السلام يمكن مساهلته في بابه وتسليمه له على وجه النظر دون التدين وحمله مع ذلك على خلاف ما توهمه من القول بالاجتهاد، ولأنا نذهب فيه إن سلمناه مذهب التقية والاستصلاح والتأليف والمداراة، وهذا أصل ندين به ونعتقده وليس لخصومنا مثله يلجئون إليه في الخروج من الشناعات.

قال الشيخ أيده الله: وقد أورد الجاحظ الأخبار التي ذكرناها واعتمدنا عليها في بطلان ما أضافه إبراهيم إلى أمير المؤمنين عليه السلام من القول بالرأي ولم يعمل فيها شيئا بل خلط في الكلام عليها وصار إلى الهذيان، وقد ذكر عنا أيضا عمدة وأضرب عن الكلام عليها جانبا للعجز والاضطرار وهي أن العقول عندنا توجب عصمة الإمام والدليل القاهر قائم على إمامة أمير المؤمنين عليه السلام، وليس يجوز أن يعتري الشك في الدين أهل العصمة في الأديان ولا أن يقع الضلال من الإمام السيد الذي هو أفضل الأنام، وهذا يسقط ما حكاه القوم واعتمدوه مما جاءت به الأخبار وليس فيمن خالفنا أحد يدعي العصمة لأئمته ولا لأحد منهم ولا لصحابي ولا لتابعي بإحسان فنسلم مما حكاه إبراهيم عنهم وحكم به عليهم من الضلال في الدين والعناد.

وقد استقصيت القول في إقرار أمير المؤمنين عليه السلام أحكام القوم للتقية والاستصلاح وبينت وجوه ذلك وأوردت الزيادات فيه والمسائل والجوابات في كتابي المعروف بتقرير الأحكام فأغنى عن إعادته هاهنا.

قال الشيخ أيده الله: وقد علم إبراهيم أن الذي أراد به التسوية بين أمير المؤمنين عليه السلام وبين القوم لا يتم له عند أهل النظر والحجاج فاعتمد على السب المحض لأمير المؤمنين عليه السلام والغميزة فيه بمجرد أقوال الرجال، فقال وقد اختلف قول علي بن أبي طالب عليه السلام في أمهات الأولاد فقال بشيء ثم رجع عنه، وحكى عن عبيدة السلماني أنه قال: سالت عليا عليه السلام عن بيع أمهات الأولاد فقال: كان رأي ورأي عمر أن لا يبعن وأنا الآن أرى أن يبعن، فقلت له: رأيك مع رأي عمر أحب إلينا من رأيك وحدك.

قال الشيخ أيده الله: وهذا خبر قد أطبق الفقهاء ونقاد الآثار على بطلانه، ومن صححه منهم فلم يثق بهذه الحكاية من عبيدة وقال: تخرصها وعمل بالكذب فيما ادعى، لان أمير المؤمنين عليه السلام كان أعظم في نفوس المهاجرين والأنصار من أن يقدموا عليه في حكم حكم به هذا الإقدام فكيف بعبيدة مع صغر سنه في الحال وضعة قدره، ولم يكن عبيدة ولا أضرابه في الذين يتجاسرون على أمير المؤمنين عليه السلام بهذا المقال.

وجملة الأمر أنه لو كان عبيدة صادقا لما أخل ذلك بها ذكرناه من عصمة أمير المؤمنين عليه السلام من قبل أنه كان رأيه في أيام عمر أن لا يخالفه في الفتيا خوفا من انتشار الكلمة ووقوع الفساد وذلك هو الذي توجبه الحكمة في تدبير الدين واستصلاح الأنام، فلما أفضي الأمر إليه زال ما كان يخافه فيما سلف من إظهار الخلاف فحكم بما لم يزل يعتقده من جواز بيع أمهات الأولاد كما رأى رسول الله صلى الله عليه وآله في عام الحديبية، إمضاء أحكام الكفار والكف عن الحرب لهم والجهاد ثم زالت العلة الموجبة لذلك في عام الفتح فرأى حربهم وجهادهم وخلاف ما كان رآه قبل من الأحكام.

فأما اعتراض عبيدة قوله بالرد، فذلك نظير رد الخوارج عليه في التحكيم وحرب طلحة والزبير ومعاوية وأهل الشام له، ولم يخل ذلك بكمال عصمته عليه السلام كما لم يقدح خلاف المشركين لرسول الله صلى الله عليه وآله وردهم عليه وحربهم له في نبوته وعصمته ومن اعتمد على ما اعتمد عليه الجاحظ واستاذه وأشياعهما في هذا الباب، فقد وضح جهله وبان عجزه.

ثم قال الجاحظ: وقال إبراهيم: وقد قضى يعني أمير المؤمنين عليه السلام في الحد بقضايا مختلفة، وهذا تخرص منه لا خفاء به لأنه لا يحفظ عنه في الحد إلا قول واحد ولم يختلف من أهل النقل عليه في ذلك اثنان ومن اعتمد على البهت هان أمره.

ثم قال إبراهيم: وندم يعني أمير المؤمنين عليه السلام على إحراق المرتد بعد الذي كان من فتيا ابن عباس. وهذا من أطرف شيء سمع وأعجبه، وذلك أن ابن عباس أحد تلامذته والآخذين العلم عنه، وهو الذي يقول: كان أمير المؤمنين عليه السلام يجلس بيننا كأحدنا ويداعبنا ويبسطنا، ويقول: والله ما ملأت طرفي قط منه هيبة له عليه السلام، فكيف يجوز من مثل من وصفناه التقدم على أمير المؤمنين عليه السلام في الفتيا وإظهار الخلاف عليه في الدين لاسيما في الحال التي هو مظهر له فيها الإتباع والتعظيم والتبجيل.

وكيف يكون ما حكاه إبراهيم من ندمه عليه السلام على إحراق المرتد حقا وقد أحرق في آخر زمانه الأحد عشر الذين ادعوا الربوبية فيه. أفتراه ندم على ندمه الأول؟ كلا! ولكن الناصبة تتعلق بالهباء المنثور.

ثم قال إبراهيم: وودى رجلا جلده في الخمر ثمانين فمات، وقال إنما وديته لان هذا شيء جعلناه بيننا. وهذا شيء لم يسمع به إلا من هذه الجهة ولا رواه أحد من أهل الآثار، كيف وهو عليه السلام يقول: "من ضربناه حدا في حق من حقوق الله فمات فلا دية له علينا ومن ضربناه حدا في حق من حقوق المخلوقين فمات فديته علينا" ولا خلاف في أن حد الخمر من حقوق الله عز وجل خاصة، ولكني أظن أن إبراهيم أراد أن يذكر حد القذف فغلط بحد الخمر لاتفاقهما في العدد.

وقال إبراهيم: رأى -يعني أمير المؤمنين عليه السلام الرجم على مولاة حاطب فلما سمع قول عثمان تابعه ونازعه زيد بن ثابت في المكاتب فأفحمه، وهذا سب صريح بغير حجة وكذب ظاهر بلا شبهة، لأن الاتفاق حاصل على أن أمير المؤمنين عليه السلام كان أعلم القوم وأنهم كانوا يرجعون إليه ولا يرجع إلى أحد منهم، وكيف يكون ما رواه هذا الرجل حقا والخبر المستفيض عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: "علي أقضاكم" وليس يصح أن يكون أقضى الأمة من أفحمه زيد بن ثابت في المكاتب فان كان قد أفحمه على ما ذكره إبراهيم، فقد أكذب النبي بإفحامه من شهد له بأنه أقضى منه، وليس المكاتب من الفرائض في شيء فيصح أن يتعلق بالخبر الذي يروونه "زيد أفرضكم" مع أن الإجماع موجود على مذهب أمير المؤمنين عليه السلام في الرجم والمكاتب خلاف زيد وابن عفان، وهذا يدل على بطلان ما ادعاه هؤلاء القوم.

ثم قال إبراهيم: وروى داود عن الشعبي أن عليا رجع عن قوله في الحرام ثلاثا، ولو لم يحتج في إبطال هذه الرواية إلا بإضافتها إلى الشعبي لكفى، وذلك أن الشعبي كان مشهورا بالنصب لعلي عليه السلام ولشيعته وذريته، وكان معروفا بالكذب سكيرا خميرا مقامرا عيارا، وكان معلما لولد عبد الملك بن مروان وسميرا للحجاج. وروى إسماعيل بن عيسى العطار قال: حدثنا بهلول بن كثير، قال: حدثنا أبو حنيفة، قال: أتيت الشعبي أساله عن مسألة فإذا بين يديه شطرنج ونبيذ وهو متوشح بملحفة مصبوغة بعصفر فسألته عن مسألة، فقال: ما تقول فيها بنو أستها، قال: فقلت: هذا أيضا مع هذا وذهبت إلى كتب لي كنت سمعتها منه فخرقتها ثم صار مصيري هذا أن أسمع عن رجل عنه. وروى أبو بكر الكوفي عن المغيرة قال: كان الشعبي يهون عليه أن تقام الصلاة وهو على الشطرنج والنرد، وقال: مررت بالشعبي وإذا هو قائم في الشمس على فرد رجل وفي فمه بيذق فقال: هذا جزاء من قومر. وروى الفضل بن سليمان عن النضر بن مخارق قال: رأيت الشعبي بالنجف يلعب بالشطرنج وإلى جنبه قطيفة فإذا مر به من يعرفه أدخل رأسه فيها. وبلغ من كذبه أنه قال: لم يشهد الجمل من الصحابة إلا أربعة فان جاءوا بخامس فأنا كذاب، علي وعمار وطلحة والزبير، وقد أجمع أهل السير أنه شهد البصرة مع علي عليه السلام ثمانمائة من الأنصار وتسعمائة من أهل بيعة الرضوان وسبعون من أهل بدر وهو الذي روى أن عليا عليه السلام كان أحمر الرأس واللحية خلافا على الأمة في وصفه، وبلغ من نصبه وكذبه أنه كان يحلف بالله لقد دخل علي بن أبي طالب اللحد وما حفظ القران، وهذا خلاف الإجماع وإنكار الاضطرار، وروى مخالد قال: قيل للشعبي: إنك لتقع في هذه الشيعة وإنما تعلمت منهم. وكان يقول: ما أشك في صاحبنا الحرث الأعور أنه كان كذابا، وكان يشبه في زيه ولباسه وفعاله وكلامه بالشطار وأهل الزعارة، وخالف الأمة في قوله: إن النفساء تربص شهرين. فكيف يحتج برواية هذا على أمير المؤمنين عليه السلام مع أن المشهور عنه أنه كان لا يرى الحرام شيئا ويقول فيه إنه جاء إلى ما أحل الله فحرمه على نفسه يمسك امرأته ولا شيء عليه.

ثم قال إبراهيم: وقال يعني أمير المؤمنين عليه السلام في أمر الحكمين:

لقد عثرت عثرة لا أنجبر        سوف أكيس بعدها وأستمر

وأجمع الرأي الشتيت المنتشر وهذا لا ينضاف إليه عليه السلام بلا شبهة لانا نعلم بالضرورة أنه كان عليه السلام يظهر التدين بصوابه في التحكيم وتضليل من خطاه في ذلك حتى قتل أربعة آلاف على تخطئتهم له في التحكيم، فكيف يسوغ من عاقل أن يضرب الرقاب على قول قيل فيه وهو يشهد به على نفسه؟! هذا ما لا يتوهمه إلا مؤوف العقل غير معدود في جملة المكلفين . وكيف يصح ذلك مع أن الخوارج إنما ساموه أن يعترف لهم بالخطأ فيما صنعه في باب الحكمين ليرجعوا إلى ولايته فرد عليهم ذلك ووجه بابن عباس لمناظرتهم فيه، ولو كان قال هذا الشعر كما حكاه إبراهيم لكان الغاية في بغية القوم منه ولرضوا به عنه ولدخلوا في ولايته إذ صريحه شهادة منه على نفسه بالخطأ والندم على ما صنع. والذي يدل على بطلان جميع ما حكاه هذا الرجل عنه من قرب ويوضحه أنه لو كان له أصل لكان أوكد الحجج لأعدائه من الخوارج وغيرهم ممن رأى حربه بالبصرة أو صفين ومن قعد عن نصرته، ولشيعة عثمان خاصة حتى لم كانوا يحتجون به عليه في المقامات ويشنعون به على رؤوس الجماعات، وقد أحطنا علما باحتجاج جميع من خالفه أو قعد عنه أو نازعه وحاربه، فلم نجد فيه أنهم قالوا له تناقضت أحكامك واختلفت آراؤك ولا فضل لك في العلم لان زيدا نازعك فأفحمك ولأن عثمان خالفك فأسكتك ولأنك تحكم بشيء ثم تندم عليه وتخطئ في أمر وتعترف بخطئك فيه ثم تقيم عليه، بل وجدنا جماعة من ذكرناه معترفين بفضله عليه السلام في العلم والشجاعة والحكم والقرابة بالرسول صلى الله عليه وآله والزهد، وإنما كان بعضهم يتعلق عليه بإيوائه قتلة عثمان وهم أهل البصرة والشام، وبعضهم بتحكيم الرجال وهم أهل النهروان، وبعضهم بقتال أهل القبلة وهم المعتزلة للقتال. وقد اجتهدت بنو أمية وبنو مروان في مثالبه عليه السلام ونفروا العامة عن ولايته فلم يحفظ عن أحد منهم في سلطانه سقط له في العلم ولا تجهيل له في الأحكام، وأكثر ما كانوا يخبطون به في ذلك ويشبهون به على الإغفال، خذلانه لعثمان ونصرته لقتلته والاستبداد بالأمر دون الرجال وما أشبه ذلك.

ولو كان شيء مما حكاه إبراهيم عن أمير المؤمنين عليه السلام محفوظ، لنشره من ذكرناه واعتمد عليه كما وصفناه، وفي عدول الكافة عنه لاسيما الخوارج -وقد جرت بينه وبينهم المناظرات- دليل على وقاحة إبراهيم وبهته وعناده وضعف ما اعتمده من الكذب الذي لا خفاء به.

ثم طعن على أمير المؤمنين عليه السلام أيضا إبراهيم بأن قال: وخالف الجماعة كلها في أمهات الأولاد، وفى الأحياض، وقضائه في قطع اليدين من أصول الأصابع، ودفع السارق إلى الشهود، وجلد الوليد بن عقبة أربعين سوطا في خلافة عثمان، وجهره بتسمية الرجال في قنوت الغداة، وقبول شهادة الصبيان بعضهم على بعض، قال: وقد قال الله عزوجل: {مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاء} وأخذه نصف دية الرجل من أولياء المرأة، وكأخذ نصف دية العين من المقتص من الأعور، وتخليفه رجلا يصلي العيدين بالضعفاء في المسجد الأعظم. قال: وغير ما عددناه مما جعله في سلطانه وحكم به وقاله، وهو خلاف على الأحياء من قضاته ومن فقهاء مصره وعلى جميع الأموات من نظرائه. قال إبراهيم: وهو يقول مع ذلك لقضاته: "اقضوا كما كنتم تقضون حتى يكون الناس جماعة أو أموت كما مات أصحابي فاني أكره الخلاف" فلا يخلو ما ترك من الحكم وأخره من العمل به إلى اجتماع الناس، أن يكون كهذه الأمور في الخلاف أو كخلاف بعضهم على بعض أو كخلاف آخر قال: وأعجب مما مضى، قطعه القدم وترك العقب وقطعه الأصابع وتركه الكف والإبهام. قال: فإن كان الذي أخره من باب الخلاف الذي عددناه فكيف لم يحكم به ولم أخره وقدم مثله؟ وإن كان كخلاف بعض الصحابة لبعض فذلك مما لا يحتشم منه ولا يوحش العامة من صاحبه، وإن كان ضربا آخر من الخلاف فليس يكون إلا خلاف المعروف من دين محمد صلى الله عليه وآله. قال: فعلى أي وجه استجاز ترك الحكم عنده وأمرهم أن يحكموا بالباطل، أفتراه كان في تقية؟ كلا، ما كانت عليه تقية من ذلك لأن أصل الفساد لم يكن عليه من قبل خلافهم له في الفتيا، وإنما كان الخلاف من طلحة والزبير على وجه طلب الشورى وأنهما بايعاه بالمدينة كارهين والطلب بدم عثمان، وانه كان سدى ذلك ولحمته، وأن قاتل عثمان لا يكون للناس إماما، وكان خلاف عبد الله بن وهب على أن من حكم الرجال في واجب الدين وما قد أفصح به الكتاب فغير إمام، فلو كان اضطراب جل الناس من قبل الخلاف على علي عليه السلام في الفتيا كان لما قال وجه، فكيف وقد حكم في كل ما ذكرناه بخلاف ما عليه الجماعة ثم لم يكن في ذلك تنكير ولا تغيير.

ثم قال إبراهيم عقيب هذا الفصل: فكيف تجب طاعة قوم هذه سيرتهم وأقاويلهم ومذاهبهم يعني عليا أمير المؤمنين عليه السلام وأبا بكر وعمر وزيدا و عبد الله بن مسعود و عبد الله بن عباس ومن تقدم ذكره، غير أنه لم يذكر عثمان على التفصيل وأظن أن الجاحظ طوى ذكره لعصبيته للعثمانية والمروانية إلا أنه قد حكى عنه الطعن عليه في الجملة في فصل أنا أورده إن شاء الله.

قال الشيخ أيده الله: وليس في جميع هذا الفصل الذي حكيناه عن إبراهيم كثير طائل ولا معتمد من شبهة فيتعلق بها المبطل غير ألفاظ في جملة ما أورده، أنا أبين عن وهن متضمنها وإن كان في المختصر الذي قدمته من النقض عليه كفاية لولا أنني أريد البيان.

أما ما ذكره من خلافه عليه السلام على جملة القوم فالعار في ذلك على من خالفه دونه والعيب يختص به سواه، لأنه عليه السلام هو الإمام المتبوع والقدوة المتأسى به والمدلول على صوابه والمدعو إلى اتباعه حيث يقول رسول الله صلى الله عليه وآله: "أنا مدينة العلم وعلي بابها فمن أراد المدينة فليأت الباب" وحيث يقول صلى الله عليه وآله وقد قدمناه فيما سلف: "علي أقضاكم" و "هو مع الحق والحق معه" وفي قوله صلى الله عليه وآله: "إني مخلف فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي وانهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض" فلما عدل القوم عن اتباعه كانوا ضلالا بذلك وكان هو عليه السلام المصيب وأهل بيته عليهم السلام وأنصاره وشيعته.

وما أعجب هذا المقال من النظام وهو في مذهبه هذا الذي نصره بتخطئة الصحابة، مبطل للإجماع راد على من احتج به واعتمده فكيف يشنع على الشيعة بانفراد أمير المؤمنين عليه السلام بالأحكام وهو ركن الأمة وعمادها وملجأها في الدين وإمامها، ثم يقول خالف جميع الأحياء من قضاته وفقهاء مصره، ولو أنصف واستحمى لجعل الخلاف للقضاة والفقهاء عليه وأضافه إليهم دونه وجعل قوله الحجة، إذ قول الإمام هو المعيار على قضاته ورعيته وليس قول الرعية معيارا عليه فقلب القصة تعجرفا.

وأما قوله: إنه عليه السلام قال لقضاته: اقضوا كما كنتم تقضون، فإنما قال لهم هذا القول في أول الأمر وعند فور الناس بالبيعة له، فكره عليه السلام أن يأمرهم بالقضاء بمذاهبه كلها المتضمنة لنقض أحكام من تقدمه والخلاف على جماعتهم، فينفرون عن نصرته ويتفرقون عن الجهاد معه ويشمأزون منه ويظنون أن ذلك مقدمة للبراءة ممن تقدمه فصدف عنه لتآلفهم واستصلاحهم، فلما قتل الله أهل البصرة وفرق جمعهم وأباد أهل الشام وأفنى الخارجة بالنهروان، خمدت نار الفتنة ودرجهم في طول المدة على الخلاف شيئا بعد شيء ولو تمكن عليه السلام على الحد الذي يستطيع معه إظهار جميع الأحكام من غير أن يكون في ذلك عموم الفساد، لأظهر الأحكام المأثورة عن ذريته عليهم السلام مما حفظوها عنه عن الرسول صلى الله عليه وآله فتلك هي الأحكام التي لم يتمكن من إمضائها مع ما حكم به مما ذكره إبراهيم من الأحكام، وليست خلافا لدين محمد صلى الله عليه وآله بل هي أحكامه في الحقيقة بالجلي من البرهان.

وأما قول إبراهيم إن الفساد لم يكن على أمير المؤمنين عليه السلام من قبل خلافهم في الفتيا فان ذلك إنما كان كذلك لأنه عليه السلام لم يفتتح ولايته به بل قال لقضاته: اقضوا كما كنتم تقضون، وقد ذكر هذا إبراهيم لكنه نسيه عن قرب ولو افتتح ولايته بنقض أحكام القوم والخلاف عليهم جملة لكان الفساد عليه أكثر من الفساد بأهل البصرة وصفين والنهروان، لأنه كان يكون تضليلا لأئمتهم وتفسيقا لهم وتخطئة لجمهور الصحابة في الاقتداء بمن سلف والتصويب لهم في الأحكام، لكنه عليه السلام عدل عن ذلك ودرجهم على إظهار الخلاف في شيء بعد شيء وحال بعد حال، وأراهم في الظاهر أنه كخلاف بعضهم على بعض في الاجتهاد فلو أمن عليه السلام من اضطراب الجماعة وتفرقهم عنه وانصرافهم عن نصرته عند الحكم بمحض مذهبه لما أخر ذلك. ودليل ما قلناه قوله عليه السلام لقضاته: "اقضوا كما كنتم تقضون حتى يكون الناس جماعة" فأخر الحكم بجميع مذهبه إلى اتفاق الجماعة، أفلا ترى إلى قوله عليه السلام: "لو ثني لي الوسادة لحكمت بين أهل التوراة بتوراتهم، وبين أهل الإنجيل بإنجيلهم، وبين أهل الزبور بزبورهم، وبين أهل الفرقان بفرقانهم حتى يزهر كل كتاب من هذه الكتب ويقول: يا رب إن عليا قد قضى بقضائك" فدل على أنه لم تستقر به الدار ولم يتمكن من تنفيذ الأحكام. وأما انصرافهم عن النكير عليه فيما حكم به من خلاف أقاويل الجماعة الذين ذكرهم فإنما استقام له ذلك لوفاق جمهور أصحابه له عليه السلام واتباعهم إياه، وتجويزهم الخلاف على من تقدم فيه ولو استجازوا فيما بقي من الاحكام مثل ذلك لأظهر عليه السلام القول فيها ولم يؤخره إلى وقت الاجتماع.

وقول إبراهيم: إن الذي أخره لا يخلو من أن يكون مثل ما أظهره أو خلاف المعروف من دين محمد صلى الله عليه وآله، فانه يقال له: بل هو من جنس ما أظهره وهو من دين محمد صلى الله عليه وآله لا غير وإنما لم يظهر الحكم لأن في إظهاره مباينة القوم بنقض أحكام أئمتهم كلها وإخراج ذلك على وجه التضليل لهم وليس في إظهار البعض ما يدل على إظهار الكل، ولان الاتفاق قد يحصل بتجويز جماعة الخلاف على إمام لهم في شيء، وإن كان الخلاف لهم في مثله ونوعه أو نظيره في باب الخلاف فيكون لأجل ذلك الواجب على المستصلح أن يكف عن إظهاره وليس في الاتفاقات قياس.

وشيء آخر وهو أن يكون الذي عدل أمير المؤمنين عليه السلام عن تغييره من أحكام القوم شيئا قد تكرر العمل به في سلطان الماضين حتى صار دينا ومذهبا، وما خالفه ونقضه لم يكن كذلك بل كان قولهم فيه مجردا من عمل بل كان فتيا مضت في الحال وعمل بها في سلطانهم وقتا من الزمان، فلم يتخوف من إظهار الخلاف فيها وربما كانت الشبهة للاتباع في بعض المنكر أقوى منها في بعض آخر، فعدل الإمام المستصلح للأنام عن تغيير ما قويت عندهم فيه الشبهات إلى ما ضعفت في أنفسهم الشبهة فيه كراهة اختلاف الكلمة والافتتان.

وأما ما تعلق به في إبطال شهادة الصبيان من قوله: {مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاء} ومن قوله: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ} فإن الأمر فيه على خلاف ما توهمه، وذلك أن الله سبحانه أمر بالإشهاد في الديون رجلين أو رجلا وامرأتين ولم يبطل الحكم في ذلك ولا في غيره بشهادة من يخالف ما وصفناه، وليس يتضمن قوله: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ} أن لا تقبلوا إلا شهادة ذوي عدل وقد قبل رسول الله صلى الله عليه وآله شهادة خزيمة بن ثابت وحده وأمضى الحكم بها، وقبل شهادة واحد ويمين المدعي وأمضى الحكم بذلك. فما نرى إبراهيم إلا طاعنا على رسول الله صلى الله عليه وآله بما اعتمده، بل طاعنا على كتاب الله عز وجل ومزريا على أحكامه، وذلك أن الله تعالى قد أمر بقبول شهادة الكفار في الوصية حيث يقول: {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} والكفار ليسوا من أهل العدالة. وإنما قبل أمير المؤمنين عليه السلام شهادة الصبيان في مكان دون مكان وعلى حال دون حال، فقبلها في الجراح وأشباهه من حقوق العباد وأخذ بأول قولهم وأطرح آخره لما دعاه إلى ذلك الاضطرار لتنفيذ أحكام الله عز وجل ومنع أن يبطل حقوق العباد، ولم يصنع عليه السلام ذلك إلا بنص فيه من الرسول صلى الله عليه وآله بأدلة، منها الاتفاق على قوله صلى الله عليه وآله: "أنا مدينة العلم وعلي بابها"، وقوله صلى الله عليه وآله: "علي مع الحق والحق مع علي يدور معه حيثما دار" على أنه قد أخذ بهذا القول عن أمير المؤمنين عليه السلام جماعة لا يتمكن الجاحظ من الطعن عليهم في الفتيا ودان به أئمة في الفقه عنده من التابعين وهو إجماع من فقهاء مدينة الرسول صلى الله عليه وآله. وقد روى مالك عن هشام بن عروة أن عبد الله بن الزبير أجاز شهادة الصبيان بعضهم على بعض في الجراح وقال مالك بهذا القول ما لم يتفرقوا. وروى ابن أبي زياد عن أبيه قال: السنة أن ليفي بشهادة الغلمان ويؤخذ بها في الجراح ولا يلتفت إلى ما أحدثوا. وروى أيضا عن أبيه عن عمر بن عبد العزيز مثل ذلك. وروى يونس عن ابن شهاب قال: كان مروان يجيز شهادة الصبيان ويأخذ بأول قولهم. وروى ابن إسحاق قال: كان ابن شهاب وربيعة يجيزان شهادة الصبيان بعضهم على بعض. وروى مثل ذلك أيضا عن شريح وهو مشهور عنه، وهذا يكشف لك عن جهل الجاحظ واستاذه النظام فيما ادعياه من الإجماع على خلاف أمير المؤمنين عليه السلام في هذا الباب.

وأما تعلقه بضرب الوليد بن عقبة أربعين سوطا في خلافة عثمان فإنه ذهب عليه وجه ذلك لان أمير المؤمنين عليه السلام ضربه بسعفة لها رأسان فكان قد أقام فيه الحد ثمانين على الكمال، وهذا مأخوذ من قوله تعالى في محكم القرآن: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِب بِّهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ}.

وأما تشنيعه على أمير المؤمنين عليه السلام في القنوت في الغداة والجهر فيه بتسمية الرجال فيه، فهذا أدل دليل على جهله وقلة فهمه وأوضح برهان على إلحاده وإرادته الطعن على رسول الله صلى الله عليه وآله، وذلك أنه لا خلاف بين الفقهاء وحملة الآثار أن رسول الله صلى الله عليه وآله كان يقنت في صلاة الغداة ويجهر بتسمية الرجال فيه. وقد نقل الناس ذلك واستفاض حتى ليس يخالف في لفظه من أهل العلم اثنان، وكان قنوته بعد حمد الله تعالى والثناء عليه "اللهم العن رعلا وذكوان، والعن الملحدين من أسد وغطفان، والعن أبا سفيان، والعن سهيلا ذا الأسنان، والعن العصاة الذين عادوا دينك وقاتلوا نبيك" فجعل يلعنهم بهذا الذي ذكرناه أربعين صباحا، وقد روت الرواة عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وآله قنت في الصبح فقال: "اللهم أنج الوليد بن الوليد، وسلمة بن هشام، وعياش ابن أبي ربيعة، والمستضعفين بمكة، اللهم اشدد وطأتك على مضر ورعل وذكوان واجعل عليهم سنين كسني يوسف". فإن كان على أمير المؤمنين عليه السلام في ذلك عار أو نقص في الدين وحاشاه من ذلك بما ذكره إبراهيم في قنوته وجهره بتسمية الرجال، فذلك بعينه عيب على رسول الله صلى الله عليه وآله وعار عليه، وهذا هو الذي أراده النظام وكنى عنه بذكر أمير المؤمنين عليه السلام ولم يذكر بعد هذا وقبله شيئا إلا والوجه فيه معروف واضح البيان وقد قدمت الحجة عليه في الجملة، وإن ذكرت وجه بعضه فأنا أذكر وجوه باقيه لئلا يتوهم متوهم أني إنما عدلت عنه لعدم البرهان عليه.

أما قول أمير المؤمنين عليه السلام في الأحياض فلسنا نعلم فيه خلافا بل قوله في الأقراء وإنها الأطهار مأخوذ من جهة اللغة التي نزل بها القرآن وذلك أن القرء هو الجمع ومن ذلك سميت القرية قرية لجمعها من تحتوي عليه، وقيل قريت الماء في الحوض إذا جمعته ، وسمي الذكر قرانا باجتماع بعضه إلى بعض، ولما كان الطهر فيه تجمع المرأة الدم بالحيض ثبت أنه القرء، فأي شناعة في ذلك؟ وأما قطعه اليد من أصول الأصابع فذلك هو حكم الله عز وجل بنص القران قال الله عز وجل: {فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ} وإنما الكتابة بالأصابع خاصة.

وأما دفعه السارق إلى الشهود فهو كأمره الجزار بقطع يد السارق، وكتأميره بعض الفقهاء في بلد لقطع الأيدي وضرب الرقاب، وإنما رد أمر السارق إلى الشهود استظهارا عليهم في الشهادة ليرهبوا الكذب فيها وليمتحن صدقهم، فان كانوا صادقين لم يتحرجوا من قطع المشهود عليه، وإن كانوا كاذبين جزعوا من ذلك ويخرجوا من ولايته بأنفسهم، فأي شناعة في هذا لولا جهل النظام وضعف عقله.

وأما أخذه نصف الدية من أولياء المرأة إذا أرادوا قود الرجل بها فذلك هو العدل الذي من تخلف عنه لم يصر إلا إلى الجور، وذلك أن دية المرأة خمسة آلاف درهم ودية الرجل عشرة آلاف درهم فإذا قتل أولياء المرأة الرجل قتلوا نفسا ديتها الضعف من دية صاحبتهم فوجب عليهم رد الفاضل من ذلك، ألا ترى أنهم لو أرادوا أخذ الدية لما كان لهم إلا خمسة آلاف درهم فكيف يكون لهم نفس قيمتها في الشريعة عشرة آلاف درهم وإنما لهم من الدية خمسة آلاف درهم.

لكن النظام يجعل المحاسن من غفلته مثالب وهو لا يشعر بذلك، وكذلك القول في أخذ نصف الدية من المقتص من الأعور لان دية عين الأعور عشرة آلاف درهم ودية فرد عين الصحيح خمسة آلاف، وهذا كالأول.

وأما تخليفه رجلا يصلي العيدين بالضعفاء في المسجد الحرام، فذلك من الأدلة على عدله عليه السلام وأنه أعرف الأمة بمعالم الدين وأنواع القضاء لأنه لو كلف الضعفاء بالخروج إلى المصلى لكلفهم فوق الوسع، ولو أنه أسقط عنهم صلاة العيدين لكان قد منعهم فضلا كثيرا فجعل لهم ما يدركون به الفضل ولم يكلفهم ما لا طاقة لهم به، وهذه كلها أمور منصوصة على ما قدمناه.

وأما قوله أنه عليه السلام أمرهم أن يحكموا بالباطل إلى أن تجتمع الناس، فقد تجاهل بذلك من قبل أن الحق كان عند الاختلاف، تنفيذ أحكام القوم، ولو أبدله بالحكم بما يوجب التقية العدول عنه لكان الباطل بعينه، ولم يسلك أمير المؤمنين عليه السلام في هذا الباب إلا مسلك رسول الله صلى الله عليه وآله حيث أمضى أحكام المشركين في الحديبية وكانت ضلالا منهم وشركا وكان إمضاؤه هدى وإيمانا وصوابا وهذا القدر كاف في إسقاط هذه الشناعة.

وأما قوله: إن خلاف طلحة والزبير على أمير المؤمنين عليه السلام إنما كان على وجه طلب الشورى وإنهما بايعاه بالمدينة كارهين فهذا هو نفس ما ادعاه الرجلان وكذبا فيه على الواضح من البيان. وذلك أن أمير المؤمنين عليه السلام لم يدع الناس إلى بيعته وإنما جاءوه فيها على الاختيار وألزموه قبول أمرهم، وكان أول من صفق على يده بالاتفاق طلحة بن عبيد الله، والدلالة على ذلك ما أجمع عليه رواة الآثار من قول الأسدي، وقد رأى يد طلحة أول يد صفقت على يد أمير المؤمنين عليه السلام، فقال: إنا لله، أول يد صفقت على يد أمير المؤمنين يد شلاء يوشك أن لا يتم هذا الأمر فكيف يكون طلحة مكرها وهو أول من صفق على يده بالبيعة؟ ويكشف أيضا عن ذلك قول أمير المؤمنين عليه السلام في خطبته التي هي أشهر من خطبه كلها وقد ذكر بيعته، فقال: "فتداك الناس علي كتداك الأبل على حياضها حتى وطئ الحسنان وشقت أعطافي وقيل لي إن لم تجبنا إلى البيعة ألحقناك بابن عفان" ولا خلاف أن أمير المؤمنين عليه السلام كان عند قتل عثمان مستتر عن جمهور الناس فلما قتل عثمان، تلوذ بحيطان المدينة مخافة أن يقال إنه رغب في الأمر حتى مضى الناس إليه طوعا. وكيف يكون طلحة والزبير مكرهين والعامة تروي أنه قال لهما: "امددا أيديكما أبايعكما فإنني أكون لكما وزيرا خير من أن أكون لكما أميرا". وأما طلبهما الشورى فليس ذلك لهما وقد تمت إمامته وانعقدت بيعته بالمهاجرين والأنصار وبهما أنفسهما، هذا على التسليم للمخالفين أن إمامته كانت باختيار دون النص عليها والدلالة على وجوبها.

وقوله: إنه قتل عثمان وكان سدى ذلك ولحمته وقاتل عثمان لا يكون للناس إماما، فقد علم كل من سمع الأخبار أن أمير المؤمنين عليه السلام لم يحضر قتل عثمان وقد كان أنفذ إليه بابنه الحسن عليه السلام لما منعوه الماء ليسقيه، وأن الذي تولى قتله وحضره طلحة والزبير في أشياعهما وجماعة من المهاجرين والأنصار وقد قال أمير المؤمنين عليه السلام لهما ولغيرهما ممن اشتبه ذلك عليه: "والله ما قتلت عثمان ولا مالأت على قتله" فلم يمكن أحد منهم الرد عليه. وأما خذلانه له فلسنا ننكره وكذلك الديانة كانت توجب ذلك ولو نصره أو رضي بفعاله لما كان يصلح للإمامة. والذي توهمه النظام وشبه به في إبطال إمامته إذا صح كان دليلا على إمامته عليه السلام، ولم يأت فيما أورده بحجة فيحتاج إلى نقضها وإنما اقتصر على الدعوى فأسقطناها بمثلها، ثم لم نقنع بذلك حتى عضدناها ببرهان يعرفه من تأمله والله الموفق للصواب.

قال الشيخ أدام الله عزه: وقد طعن إبراهيم على أمير المؤمنين عليه السلام من وجه آخر فزعم أنه كان يحدث بالمعاريض ويدلس في الحديث، فقال: روى أبو عوانة عن داود بن عبد الله الأزدي عن حميد بن عبد الرحمان الحميري أنه بعث ابن أخ له إلى الكوفة وقال: سل علي بن أبي طالب عن الحديث الذي رواه عنه أهل الكوفة في البصرة فان كان حقا تحولنا عنها، قال: فأتى الكوفة وأتى الحسن بن علي عليه السلام فاخبره بالخبر، فقال له الحسن عليه السلام: ارجع إلى عمك فاقرأه السلام وقل له: قال أمير المؤمنين صلى الله عليه وآله -يعني أباه- إذا حدثتكم بحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله فإني لم أكذب على الله عز وجل ولا على رسوله وإذا حدثتكم برأي فإنما أنا رجل محارب والحرب خدعة.

قال: وروى داود عن الأعمش عن خيثمة عن سويد بن غفلة، قال: سمعت عليا عليه السلام يقول: إذا حدثتكم عن رسول الله صلى الله عليه وآله فهو كما حدثتكم فو الله لأن أخر من السماء أحب إلي من أن أكذب على رسول الله صلى الله عليه وآله، وإذا سمعتموني أحدث فيما بيني وبينكم فإنما أنا رجل محارب والحرب خدعة. قال إبراهيم: وكيف يجوز لمن قد علم أنه إذا قال للناس أمرني رسول الله صلى الله عليه وآله بكذا وكذا أن ذلك عندهم على السماع والمشافهة، فإن كان هذا ونحوه جائزا فالتدليس في الحديث جائز، قال إبراهيم: وفى الجملة إن عليا لو لم يحدثهم عن النبي صلى الله عليه وآله بالمعاريض لما اعتذر من ذلك.

قال الشيخ أدام الله حراسته: وهذا الذي ذكره النظام عن أمير المؤمنين عليه السلام ليس فيه شيء يوجب التدليس ولا الشبهات في الأخبار، بل قد أفصح أمير المؤمنين عليه السلام عن المراد فيه وميز بين ما يقتضي الظاهر منه مثله في الباطن وبين ما له وجه وتأويل في الكلام، فقال لهم: "إذا حدثتكم عن رسول الله صلى الله عليه وآله فهو كما حدثتكم وإذا لم أسند الحديث إلى الرسول فله وجه تأويل" فرفع بذلك التلبيس وأزال عنهم الشكوك والارتياب، ولا معنى لقول النظام كيف يجوز لمن علم أنه إذا قال للناس أمرني رسول الله صلى الله عليه وآله بكذا أن ذلك عندهم على السماع، لأنه قد منعهم من الاعتقاد بما أورده من علامات الإعراض.

مع أنه يمكن أن يقال له: إن الذي يضيفه أمير المؤمنين عليه السلام إلى النبي صلى الله عليه وآله من باب ما باطنه كظاهره في الأحكام، وليس يدخل في باب الخبر عن نفسه وما يراه. فلا تخلط أيها الرجل هذين وميز كل واحد منهما على ما ذكرناه فانه يسقط شناعتك مع أنها قد سقطت بما قدمناه.

وأما قوله: إن أمير المؤمنين عليه السلام لو لم يحدثهم بالمعاريض لما اعتذر من ذلك، فانا لا ننكر أن يتكلم عليه السلام بالمعاريض في حال الاضطرار بعد أن يجعل بينها وبين الحقائق فصلا وقد فعل ذلك أمير المؤمنين عليه السلام، وليس إخباره به اعتذارا على ما ظنه النظام بل بيان وبرهان لهم على وجوه الكلام وهو يجري مجرى الحقيقة في القرآن والمجاز والمحكم منه والآيات المتشابهات، فإن كانت الدلالة من أمير المؤمنين عليه السلام على الفرق بين الإعراض اعتذارا من جناية جناها أو غلط وقع منه -وحاشاه من ذلك- فالدلائل من الله عز وجل على الفرق بين ما ذكرناه اعتذار من خطأ فيه وهذا كفر وإلحاد.

وما رأيت أعجب من رجل يحكي عن متكلم أنه حقق وعرض ولم يخل كلامه من برهان ويميز به بين الأمرين ثم يحكم عليه بالتلبيس والتدليس لوجود البرهان. أفتراه لو عرى كلامه من الدليل لكان يجب على قول النظام أن يكون قد بين وأزال الالتباس، وقد كان ذلك كذلك فهذا هو الجهل المحض والوسواس وإن كان بخلافه فكيف يكون المبرهن مدلسا لولا العناد.

على أن الحديث الذي رواه عن حميد الحميري غير معروف ولا ثابت عند نقلة الآثار وهو سن جملة تخرصه الذي قدمنا حكايته عنه فيما سلف من هذه الأبواب.

ثم قال إبراهيم: وقال عمرو بن عبيد وهاشم بن الأوقص: ألا ترى أن قوله -يعني أمير المؤمنين-  عليه السلام "أمرت أن أقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين" من ذلك القول الذي يقوله برأيه للخدعة، وقوله في ذي الثدية: "ما كذبت ولا كذبت"، من ذلك أيضا قال: ولعل الشيء إذا كان عنده حقا استجاز أن يقول: إن رسول الله صلى الله عليه وآله أمرني به لان الله ورسوله قد أمرا بكل حق.

قال الشيخ أيده الله: يقال لإبراهيم: هذا من جهل عمرو بن عبيد وهاشم ابن الأوقص وضلالهما، وضعف عقلك أنت أيضا يا إبراهيم في اعتمادك على هذا القول منهما وطعنكم وجماعتكم على أمير المؤمنين عليه السلام، وذلك أن قوله: "أمرت بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين" إنما قاله قبل كون القتال من هؤلاء المذكورين وهو متوجه إلى البصرة عند نكث طلحة والزبير بيعته، فجعل هذا القول حجته في قصدهما والمسير إليهما لان قوما أشاروا بالكف عنهما فاعتمد في ترك رأيهم في ذلك على هذا القول وأضافه إلى النبي صلى الله عليه وآله في أقوالي ضمها إليها، نقلها أهل السير جميعا، منها قوله عليه السلام: "أما والله لقد علم أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وهذه عائشة بنت أبي بكر فاسألوها أن أصحاب الجمل والمخدج اليد ملعونون على لسان النبي الأمي وها هذه هاهنا فاسألوها" وقال عليه السلام: "لا أجد إلا قتالهم أو الكفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وآله" فكيف يكون هذا عن رأيه وهو يستشهد بأعدى الناس له ويواجه عائشة بلعنة أصحابها ويستشهدها على خبر ذي الثدية قبل كونه. وهب أنه عليه السلام ذكر قتال أهل البصرة وقال فيه برأيه، من أين علم بحال القاسطين والمارقين ولم يكن ظهر منهم شيء في الحال يستدل به بل المارقون كانوا خاصة أصحابه عند هذا المقال، وكيف عين ذا الثدية بالمقال وقطع عليه بالضلال وجعله رأسا للقوم وهو إذ ذاك من جملة أوليائه. فإن كان رجم بذلك فأصاب، لم ينكر أن يكون ما خبر به المسيح عليه السلام أصحابه من أفعالهم في المأكول والمشروب والمدخر كان ترجيما، وكذلك جميع ما خبرت به الأنبياء قبل كونه وإخبار النبي صلى الله عليه وآله قبل مخبراتها، وهذا طعن في الدين وخروج من قول أهل الملل كافة، ولعمري إنه يليق بمذهب النظام، وإن كان ما خبر به عن النبي صلى الله عليه وآله وكان إخباره به قبل كونه يدل على أنه لم يكن عن رأي ترجيم ولا تحديس وظن وتركين. فقد بطل ما قاله الرجلان، ولا وجه غير الترجيم إلا علم الغيب فترى النظام وابن عبيد والأوقص أرادوا الطعن على أمير المؤمنين عليه السلام فجعلوه إلها يعلم الغيب بغير تعليم، وهكذا يجن الله من عاداه.

ثم قال إبراهيم: وقال عمرو بن عبيد: لولا أن عليا يوم التمس ذا الثدية كان يقول والله ما كذبت ولا كذبت وهو ينظر إلى السماء مرة وإلى الأرض مرة أخرى، ما شككت أن النبي صلى الله عليه وآله قد قال له في ذلك قولا. قال إبراهيم: وهذا القول من عمرو طعن شديد على علي عليه السلام.

قال الشيخ أيده الله: فيقال لإبراهيم: لسنا نشك في نصب عمرو وعداوته لأمير المؤمنين عليه السلام وكما لا نشك في ذلك فلسنا نشك في جهله وضعف عقله وطعنه في الدين ونفاقه، والذي حكيت عنه يدل على ما وصفناه لأن نظر أمير المؤمنين عليه السلام إلى السماء إن لم يدل على صحة ما رواه عن النبي صلى الله عليه وآله ورغبته إلى الله تعالى في التوفيق لتقريب إظهار المخدج ليزول عن قلوب الناس الشبهات، لم يدل على أنه لا نص عنده في ذلك، وأي نسبة بين النظر إلى السماء وبين الكذب وبين النظر إلى الأرض وبين التدليس؟ وهل النظر إلى ذلك إلا كالنظر إلى العسكر أو إلى نفسه أو يمين أو يسار أو أمام أو وراء؟ وهل ذلك إلا كغيره مما عددناه من ضروب الأفعال والتصرف من الإنسان في حركاته وسكناته؟ وهذا الذي حكاه النظام عن عمرو بن عبيد ليس يجب فيه أكثر من التعجب منه، فانه ليس بحجة يجب التسليم لها ولا شبهة يجب النظر فيها، ولولا أنني كرهت إغفاله لئلا يظن ظان أن ذلك لشبهة فيه لما كان الرأي إيراده لأنه محض الهذيان. على أنه إذا تأمل متأمل قصة المخدج عرف أن أمره كان بعهد من رسول الله صلى الله عليه وآله، وذلك أن هذا المخدج لم يكن معروفا عند أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام ولا مشهورا، ولا علموا أنه كان في الخوارج فنجا أو قتل، ولا سمعوا له خبرا فأنبأهم أمير المؤمنين عليه السلام بصفته قبل الوقعة وخبرهم بقتله ومآله، والدليل على ذلك أنه لو كان الرجل معروفا عند القوم وكان قتله معلوما لهم لما كان لاستدلال أمير المؤمنين بالخبر عنه على باطلهم وحقه معنى يعقل وإنما جعل خبره معجزا وبرهانا له على صوابه. فلما انكشف الحرب أمر بطلبه في القتلى فلم يوجد وشك الناس في خبره فقلق عليه السلام لذلك وجعل ينظر إلى السماء تارة يناجي ربه في بيان الأمر وإزالة الغمة عن الخلق، وينظر إلى الأرض أخرى مفكرا في أصحابه خائفا عليهم الضلال عند استبطائهم وجوده، فوفق الله الكشف عنه فركب أمير المؤمنين عليه السلام بغلة رسول الله صلى الله عليه وآله حتى أتى جمعا من القتلى فقال: اكشفوا بعضهم عن بعض فكشفوهم فوجدوا رجلا أسود بادنا له ثديان كثدي المرأة عليها شعرات إذا مدت جذبت يده وإذا أرسلت ردت يده، فكبر عليه السلام عند ذلك زال الريب عن أصحابه، فكيف يكون الخبر عما وصفناه حدسا وترجيما، بل كيف تكون هذه المنقبة الجليلة مثلبة وهذه الفضيلة العظيمة رذيلة لولا أن الله سبحانه قد أعمى قلب عمرو بن عبيد والنظام والحاكي عنه وأصحابهما المعتقدين لفضلهما والله نسال توفيقا برحمته.

فصل: قال الشيخ أيده الله: وجدت جماعة من المعتزلة يدفعون ما حكيت عن النظام بحكاية الجاحظ عنه أن يكون مذهبا له، وتحملهم الحمية للاعتزال والعصبية للرجال على إنكار المعلوم من ذلك وعلى أن يحملوا أنفسهم على البهت المزري بصاحبه المسقط لقدره، حتى آل بهم الأمر إلى تخريج العذر للنظام فيما ذكرناه بأن زعموا أن الذي وصفناه وشرحناه من الفصول عنه إنما خرج مخرج الحجاج لحملة الأخبار ومناقضة خصومه من الفقهاء.

قالوا: وإنما قال الرجل إن هذه الشناعات على الصحابة تلزمكم على روايتكم عنهم هذه الروايات فأما أنا فإني أتخلص من ذلك باعتمادي على ظاهر القرآن والخبر القاطع للعذر من الأخبار ويسلم بذلك على مقالتي الأئمة من الصحابة والتابعين بإحسان.

قال الشيخ أيده الله: وهذا تمن من هؤلاء الجهال واعتلال فاسد يدل على ضعف عقل معتقده أو على محض العصبية منه والعناد، وذلك أن صريح كلام النظام وظاهره وباطنه بخلاف ما ادعاه هؤلاء القوم الأوغاد، ولا فرق بين من حمل مذهب النظام على ما ذكره القوم وانصرف عن مفهومه وبين من حمل مذهب الخوارج على خلاف المعروف منه، بل ادعى فيه معنى مذهب الشيعة وحمل مذهب الشيعة على مقتضى مذهب الخوارج وصنع ذلك في سائر المذاهب والمقالات.

وأقرب ما يبطل قول هذه الفرقة ويشهد بتخرصها وعنادها في تخريج مذهب النظام على خلاف ما حكيناه، ما شهد به الجاحظ عليه وحكاه عنه نصا لا يشوبه شك ولا ارتياب، وذلك أنه قال: وكان إبراهيم من أشد الناس قولا في الروافض لبغضهم أبا بكر وعمر وأبا عبيدة، وأشد الناس قولا في الخوارج لبغضهم عليا عليه السلام وعثمان وطلحة والزبير وعائشة، ومن أشد الناس قولا في المعتزلة لبغضهم سعدا وابن عمر ومحمد بن مسلمة وأسامة بن زيد وزيد بن ثابت وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل وجميع من كان لا يرى قتال الفئة الباغية ويقول: كن عند الله المقتول ولا تكن القاتل. فإذا صار إلى القول في أصول الفتيا، انتظم جميع المعاني المعيبة عنده والمذهب الذي كان يسخطه من غيره. ولو كان له من يثيره ويسائله لكشف منه ما كان مستورا ولأظهر من تناقض مذهبه ما يسقط قدره ويحط منه، ولكن أصحابه لم يكونوا أصحاب أخبار وآثار وأحكام وفتيا وكانت (المداخلة) إليهم أعجب من علم القرآن، و (الطفرة) أبلغ عندهم من علم الأحكام، وبئس المذهب لعمر الله اجتبى لنفسه واختار لدينه، وسنقول عند الرد عليه بالذي يجب إن شاء الله.

قال الشيخ أيده الله: فأيما أولى بنا الآن أن نصدق على النظام قوله على نفسه وإخباره عن مذهبه وصريح لفظه الدال على مراده وحكاية صاحبه، الجاحظ عمرو بن بحر عنه، أو تصديق هؤلاء النفر المتعصبين بالباطل الحاملين أنفسهم على البهت والعناد والخصومة واللجاج؟ وكيف يحسن مناظرة من ركب هذا المركب في الوقاحة والمكابرة لولا أن قوما من الضعفة الذين لا معرفة لهم بالمقالات ولم يطلعوا على المذاهب ولا عنوا بقراءة الكتب على المشايخ فالتبس عليهم هذا المقال؟.

فصل: مع أن النظام لم يحتج في شاهد مذهبه إلى الشهادة عليه من عمرو بن بحر وغيره من حيث صرح بما مضى وبما أنا مبينه الآن حيث يقول: وقلتم -يعني مخالفيه- إن قولنا هذا -يعني قوله- خلاف على الجماعة وأن النبي صلى الله عليه وآله قال: يد الله على الجماعة، ثم قال حاكيا عن مذهبه: فنحن لا نزعم أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله أطبقوا على الرأي وأجمعوا على القول في الفتيا فيكون كما وصفتم ويخالف ما ادعيتم، وإنما كان يرى الفتيا بالقياس وترك المنصوص عليه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب وابن مسعود وزيد ومعاذ وأبو الدرداء وأبو موسى وناس قليل من أحداث الصحابة دون الأكابر والباقون هم الجماعة، وهؤلاء النفر هم أصحاب الفرقة، ولكن لما كان فيهم عمر بن الخطاب وعثمان وهؤلاء معهم سلطان الرغبة والرهبة، شاع لهم ذلك في الدهماء وانقادت لهم العوام وجاز للباقين السكوت على التقية وعلى أنهم قد علموا أنه غير مقبول منهم ولا مسموع قولهم.

قال الشيخ أيده الله: أفلا ترون وفقكم الله إلى تجريده مذهبه في تمييز الصحابة وتعيين من طعن عليه منهم فبدأ بعمر بن الخطاب وأتبعه الباقين، وقبل هذا قد ذكر أبا بكر وصرح بالطعن عليه في قوله في الكلالة، وطعن على عبد الله ابن عباس بعد هذا وعلى ابن عمر، وذكر في هذا الفصل بعينه علة استفاضة القول في الصحابة بالرأي وأنها هي التمكن والغلبة والسلطان ونحن مصدقوه فيما ذكره عن القوم، ومصوبوه في تعلقه بانغمار الحق بالتقية إلا إدخاله أمير المؤمنين عليه السلام في جملتهم في القول بالقياس والرأي ومكذبوه ورادون عليه بما سلف لنا في ذلك من البيان، وما أعلم أحدا أجسر على البهتان ممن تعلق في مذهب النظام بخلاف ما شرحه هو في مقالته وحكيناه عنه في المواضع المقدمات.

فصل: قال الشيخ أيده الله: وقال الجاحظ في آخر فصل حكاه عن النظام في الفتيا: وكان إبراهيم من حفاظ الحديث مع ذهن حديد ولسان ذرب يتخلص به إلى الغامض، ويحل به المنعقد، ويقرب به ما بعد وهو مع ذلك يخطئ خطأ الغمر ويخبط خبط السكران ويجمع بين التيقظ والغفلة والحزم والإضاعة.

ثم قال عمرو عقيب هذا الفصل: وقول إبراهيم هذا لم يعمل به مسلم وهو وإن طول وكثر فان المأخذ في الكثير عليه قريب، فقد شهد عمرو على النظام بخلافه الأمة في المقال، ووصفه بالجمع بين المتضادات وهو أعرف بمذهبه من هؤلاء الجهال، وبعد فان لم نصدق الجاحظ عليه في هذه الحكايات لم يجب أن نصدقه عليه في جميع ما حكاه من مذاهبه لأنها لم تظهر إلا من جهته، وإذا أكذبناه في ذلك كله لم نعرف للنظام مذهبا في الفتيا فضلا عن أن يحتاج إلى الاحتيال له في التخريجات. على أن هذه الجماعة التي حكينا عنها الإنكار لا بد لها مع إقامتها على ذلك من تكذيب الجاحظ وتضليله وتجهيله في الرد على النظام، لأنه قد رد عليه في هذا الكتاب على ترتيب ما حكيناه من تدينه بما وصفناه، وليست في موضع من يقبل قولها على الجاحظ ويترك ما خبر به وحكاه إلى شهواتها وأمانيها التي تدل على سوء التدبير وقلة الدين وضعف الرأي.

قال الشيخ أيده الله: فهذه جملة ما ثبت عن النظام في الطعن على الصحابة والأئمة الراشدين والتابعين بإحسان، ولو أوردنا جميع ما في هذه الأبواب من مقاله لطال به الكتاب، وقد أضربنا عن مناقضته بين الأخبار وإيراده تكذيب بعض القوم لبعض في الروايات وشهادته عليهم بالبدع في الديانات وقول الزور والبهتان، فمتى أردتم أرشدكم المعرفة ذلك على الكمال فعليكم بكتاب الفتيا لعمرو بن بحر الجاحظ فإنكم تجدونه في ذلك على الاستقصاء والبيان، مع أن إبراهيم في اعتذاره من الإقدام على تخطئة الأمة ملبس في ذلك على الضعفاء لأنه يدين بفساد الإجماع.

وقد ذكر ذلك عنه عمرو بن بحر في هذا الكتاب فقال: وقال إبراهيم: لم يضطرني الخبر أن النبي صلى الله عليه وآله قال: "لا تجتمع أمتي على خطأ" وكان يزعم أنه قد يجوز أن يجتمع المسلمون على ضلالة ولكن لا يجتمعون على خطأ بعينه.

وقال الجاحظ في افتتاح حكاياته عنه: زعم إبراهيم بن سيار أن سبيل القرآن كسبيل التوراة والإنجيل والزبور وجميع كتب الأنبياء، وأن سبيل هذه الأمة في فتياها وأحكامها كسبيل امة موسى وعيسى وجميع الأنبياء عليه السلام، وأن أصحاب محمد صلى الله عليه وآله حين تكلفوا القول في الفتيا وقالوا بالقياس لم يعد أمرهم أحد وجهين: إما أن يكونوا ظنوا أن ذلك جائز لهم بسبب غلطوا فيه ولأمر توهموه، أو يكون ذلك كان منهم على التآمر والتحكم وليكونوا أئمة وقادة وسلفا.

قال الشيخ أيده الله: في هذا -أدام الله توفيقكم- كفاية في الدلالة على مذهب الرجل في جواز تغيير القرآن والزيادة فيه والنقصان والطعن على الإجماع والبراءة من أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله والصحابة جميعا والتابعين بإحسان، وكفى بمعتقد هذا الرجل كفرا وإلحادا وخروجا عن دين الإسلام، والحمد لله على ما من به علينا من هدايته وله الشكر على نعمته في دينه وإياه نسأل سترا جميلا برحمته.

- بحث في طلب بيعة العباس لأمير المؤمنين وحقيقة النص على إمامته
- الفصول المختارة- الشيخ المفيد  ص 249، 252:

فصل: قال الشيخ أيده الله: وما رأيت أوهن ولا أضعف من تعلق المعتزلة ومتكلمي المجبرة بقول العباس بن عبد المطلب رحمه الله لأمير المؤمنين عليه السلام بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله: "امدد يدك يا بن أخ أبايعك فيقول الناس عم رسول الله بايع ابن أخيه فلا يختلف عليك اثنان" وقد ادعوا أن في هذا دليلا على أن رسول الله صلى الله عليه وآله لم ينص على أمير المؤمنين عليه السلام. وقولهم إنه لو كان نص عليه لم يدعه العباس إلى البيعة لان المنصوص عليه لا يفتقر في إمامته وكمالها إلى البيعة فلما دعاه العباس إلى عقد إمامته من حيث تنعقد الإمامة التي تكون بالاختيار دل على بطلان النص.

وهذا الكلام مع وهنه فقد حار قوم من الشيعة عن فهم الغرض فيه وعدلوا عن نقضه من وجهه، وقد كنت قلت لمناظر اعتمد عليه في حجاجه في الإمامة ورام به مناقضتي في مجلس من مجالس النظر أقوالا أنا أورد مختصرا منها وأعتمد على بعضها إذ كان شرح ذلك يطول. وهو أن يقال لهم إن كان دعاء العباس أمير المؤمنين عليه السلامإلى البيعة يدل على ما زعمتم من بطلان النص وثبوت الأمة من جهة الاختيار فيجب أن يكون دعاء النبي صلى الله عليه وآله الأنصار إلى بيعته في ليلة العقبة ودعاؤه المسلمين من المهاجرين والأنصار تحت شجرة الرضوان، دليلا على أن نبوته صلى الله عليه وآله إنما ثبتت له من جهة الاختيار فإنه لو كان ثابت الطاعة من قبل الله عز وجل وإرساله له وكان المعجز دليل نبوته، لاستغنى عن البيعة له تارة بعد أخرى، فان قلتم ذلك خرجتم عن الملة، وإن أثبتموه نقضتم العلة عليكم.

فإن قالوا: إن بيعة الناس لرسول الله صلى الله عليه وآله لم تك لإثبات نبوته وإنما كانت للعهد في نصرته بعد معرفة حقه وصدقه فيما أتى به عن الله عز وجل من رسالته.

قيل لهم: أحسنتم في هذا القول وكذلك كان دعاء العباس أمير المؤمنين عليه السلام إلى بسط اليد إلى البيعة فإنما كان بعد ثبوت إمامته بتجديد العهد في نصرته والحرب لمخالفيه وأهل مضادته ولم يحتج عليه السلام إليها في إثبات إمامته. ويدل على ما ذكرناه قول العباس: "يقول الناس عم رسول الله بايع ابن أخيه فلا يختلف عليك اثنان" فعلق الاتفاق بوقوع البيعة ولم يكن لتعلقه بها إلا وهي بيعة الحرب التي يرهب عندها الأعداء ويحذرون من الخلاف ولو كانت بيعة الاختيار من جهة الشورى والاجتهاد لما منع ذلك من الاختلاف بل كانت نفسها الطريق إلى تشتت الرأي وتعلق كل قبيل باجتهاده واختياره.

أو لا ترى إلى جواب أمير المؤمنين عليه السلام بقوله: "يا عم إن لي برسول الله صلى الله عليه وآله أعظم شغل عن ذلك" ولو كانت بيعته عقد الإمامة لما شغله عنها شاغل ولما كانت قاطعة له عن مراده في القيام برسول الله صلى الله عليه وآله، أو لا ترى أنه لما ألح عليه العباس في هذا الباب قال: "يا عم، إن رسول الله صلى الله عليه وآله أوصى إلي وأوصاني أن لا أجرد سيفا بعده حتى يأتيني الناس طوعا وأمرني بجمع القران والصمت حتى يجعل الله عز وجل لي مخرجا" فدل ذلك أيضا على أن البيعة إنما دعا إليها للنصرة والحرب وأنه لا تعلق لثبوت الإمامة بها وأن الاختيار ليس منها في قبيل ولا دبير على ما وصفناه.

ووجه آخر وهو أن القوم لما أنكروا النص وأظهروا أن الإمامة تثبت لهم من طريق الاختيار، أراد العباس أن يكيدهم من حيث ذهبوا إليه ويبطل أمرهم بنفس ما جعلوه طريقا لهم إلى الظلم وجحد النص، فقال لأمير المؤمنين عليه السلام "ابسط يدك أبايعك فإن سلموا الحق لأهله لم تضرك البيعة وإن ادعوا الشورى والاختيار وأنكروا حقك كان لك من البيعة والاختيار والعقد مثل ما لهم فلم يمكنهم الاستبداد بالأمر دونك" فأبى أمير المؤمنين عليه السلام ذلك وكره أن يتوصل إلى حقه بباطل لا يوصل إليه وبرهان أمره يقهر القلوب بظهور النص عليه. ولأنه كره أن يبسط يده للبيعة فيلزمه بعد ذلك تجريد السيف على دافعيه الأمر فلا يستقيم له مع الاختيار وعقد القوم له أن يلزم التقية وقد تقدمت الوصية له من النبي صلى الله عليه وآله بالكف عن الحرب مخافة بطلان الدين ودرس الإسلام، وقد بين ذلك في مقاله عليه السلام حيث يقول: "أما والله لولا قرب عهد الناس بالكفر لجاهدتهم" فعدل عن قبول البيعة لما ذكرناه.

فان قال بعضهم في هذا الجواب: قد وصل إلى حقه كما زعمتم بعد عثمان بالاختيار ودخل في الشورى فكيف استجاز التوصل إلى الحق بالباطل على ما فهمناه عنكم من الجواب؟

قيل له: يقول القوم إنما ساغ له ذلك في الشورى وبعد عثمان لخفاء النص عليه في تلك الأحوال واندراس أمره بمرور الزمان على دفعه عن حقه فلم يجد إذ ذاك من ظهور فرض طاعته ما كان عند وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله فاضطر إلى التوصل إلى حقه من حيث جعلوه طريقا إلى التأمير على الناس.

على أن القوم جمعوا بين علتين إحداهما ما ذكرناه، والأخرى ما أردفناه المذكور من وجوب الجهاد عليه بعد قبول البيعة ولم يكن في الأول يجوز له ذلك للوصية المتقدمة من النبي صلى الله عليه وآله في الكف عن السيف ولما رآه في ذلك من الاستصلاح وكانت الحال بعد عمر وبعد عثمان على خلاف ما ذكرناه وهذا يبطل ما تعلقتم به.

ووجه آخر وهو المعتمد عندي في هذا الجواب عن هذا السؤال والمعول عليه دون ما سواه، وهو أن أمير المؤمنين عليه السلام لم يتوصل إلى حقه في حال من الأحوال بما يوصل إليه من اختيار الناس له على ما ظنه الخصوم. وذلك أنه عليه السلام احتج في يوم الشورى بنصوص رسول الله صلى الله عليه وآله الموجبة له فرض الطاعة كقوله: "أفيكم أحد قال له رسول الله صلى الله عليه وآله من كنت مولاه فعلي مولاه غيري؟ أفيكم أحد قال له رسول الله صلى الله عليه وآله أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي غيري؟" وأشباه هذا من الكلام الموجب لإمامة صاحبه بدليله المغني له عن اختيار العباد. ولما قتل عثمان لم يدع أحدا إلى اختياره لكنه دعاهم إلى بيعته على النصرة له والإقرار بالطاعة وليس في هذا من معنى الاختيار الذي يذهب إليه المخالفون شيء على كل حال، والجواب الأول لي خاصة والثاني لأصحابنا وقد نصرته بموجز من الكلام.

- بحث في طلب العباس من أمير المؤمنين أن يسأل النبي عن الأمر بعده وحقيقة النص على إمامة أمير المؤمنين
- الفصول المختارة- الشيخ المفيد  ص 252، 253:

فصل: وقد سأل المخالفون في شيء يتعلق بهذا الفصل عن سؤال لم أجد لأحد من أصحابنا فيه جوابا فأجبت عنه بما أسقطه على البيان، وهو أن قالوا: إذا زعمتم أن النبي صلى الله عليه وآله قد نص على أمير المؤمنين عليه السلام بالإمامة وبين عن فرض طاعته ودعا الأمة إلى اتباعه، فما معنى قول العباس بن عبد المطلب رحمة الله عليه لأمير المؤمنين عليه السلام في مرض رسول الله صلى الله عليه وآله: "يا ابن أخ ادخل معي إلى النبي فاسأله عن الأمر من بعده هل هو فينا فتطمئن قلوبنا أم هو في غيرنا فيوصيه بنا" فدخلا عليه فسأله العباس عن ذلك فلم يجبه هل هو فيهم أو في غيرهم فقال لهم:"على رسلكم معشر بني هاشم أنتم المظلومون بي أنتم المقهورون".

فيقال لهم أخطأتم الغرض في معنى هذا المقال وضللتم عن المراد منه، وذلك أن العباس رحمه الله إنما سأل النبي صلى الله عليه وآله عن كون الأمر فيهم بعده على الوجوب وتسليم الأمة لهم وهل المعلوم عند الله عز وجل تمكينهم منه وعدم الحيلولة بينهم وبينه فتطمئن لذلك نفسه ويسكن إلى وصوله إلى غرضه وعدم المنازع وتمكينهم من الأمر أو يغلبون عليه ويحال بينهم وبينه فسأل النبي صلى الله عليه وآله أن يوصي بهم في الإكرام والإعظام ولم يك في شك من الاستحقاق والاختصاص بالحكم.

ألا ترى إلى جواب النبي صلى الله عليه وآله بأنكم المقهورون وأنتم المضطهدون، فجميع هذه الألفاظ جاءت بها الرواية ولولا أن سؤال العباس إنما كان عن حصول المراد من التمكين من المستحق ونفوذ الأمر والنهي لم يكن لجواب النبي صلى الله عليه وآله بما ذكرناه معنى يعقل وكان جوابا عن غير السؤال ورسول الله صلى الله عليه وآله يجل عن صفات النقض كلها لانتظامه صفات الكمال.

ونظير ما ذكرناه قول الرجل لأبيه وهو يعلم أنه وارثه دون الناس كافة: "أترى أن تركتك تكون لي بعد الوفاة أم تحصل لغيري، وهل ما أهلتني له ينفرد لي أم يغلبني عليه إخوتي أو بنو عمي "فيقول له الوالد إذا لم يعلم الحال ما يغلب في ظنه من ذلك أو يجيبه بالرجاء، وليس سؤال الولد لوالده أن يجيبه عن الاستحقاق. وأمثال هذا يكثر وفي الجواب عنه كفاية وغنى عن الأمثال وبالله نستعين.

- بحث في تقدم إيمان أمير المؤمنين على من سواه
- الفصول المختارة- الشيخ المفيد  ص 254، 271:

فصل: ومن كلام الشيخ أيده الله في تقدم إيمان أمير المؤمنين عليه السلام، قال الشيخ أحسن الله توفيقه: أجمعت الأمة على أن أمير المؤمنين عليه السلام أول ذكر أجاب رسول الله صلى الله عليه وآله ولم يختلف في ذلك أحد من أهل العلم إلا أن العثمانية طعنت في إيمان أمير المؤمنين عليه السلام لصغر سنه في حال الإجابة، وقالوا: إنه لم يكن عليه السلام في تلك الحال بالغا فيقع إيمانه على وجه المعرفة، وإن إيمان أبي بكر حصل منه مع الكمال فكان على اليقين والمعرفة، والإقرار من جهة التقليد والتلقين غير مساو للإقرار بالمعلوم المعروف بالدلالة؛ فلم يحصل خلاف من القوم في تقدم الإقرار من أمير المؤمنين عليه السلام للجماعة والإجابة منه للرسول وإنما خالفوا فيما ذكرناه، وأنا أبين عن غلطهم فيما ذهبوا إليه من توهين إقرار أمير المؤمنين عليه السلام وحملهم إياه على وجه التلقين دون المعرفة واليقين بعد أن أذكر خلافا حدث بعد الإجماع من بعض المتكلمين والناصبة من أصحاب الحديث. وذلك أن هاهنا طائفة تنسب إلى العثمانية وتزعم أن أبا بكر سبق أمير المؤمنين عليه السلام إلى الإقرار وتعتل في ذلك بأحاديث مولدة ضعاف. منها أنهم رووا عن أبي نضيرة قال: أبطا علي والزبير عن بيعة أبي بكر قال: فلقي أبو بكر عليا فقال له صلى الله عليه وآله أبطات عن بيعتي وأنا أسلمت قبلك، ولقي الزبير فقال: أبطات عن بيعتي وأنا أسلمت قبلك. ومنها حديث أبي أمامة عن عمر بن عنبسة قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وآله أول ما بعث وهو بمكة وهو حينئذ مستخف، فقلت: من أنت؟ قال: أنا نبي، قلت: وما النبي؟ قال: رسول الله، فقلت: الله أرسلك؟ قال: نعم، فقلت: بماذا أرسلك؟ قال: بأن يعبد الله عز وجل ويكسر الأصنام ويوصل الأرحام، قلت: نعم ما أرسلك به، فمن تبعك على هذا الأمر؟ قال: حر وعبد، يعني أبا بكر وبلالا وكان عمر يقول: "لقد رأيتني وأنا رابع الإسلام" قال: فأسلمت ثم قلت: أنا أبايعك يا رسول الله. ومنها حديث الشعبي قال: سألت ابن عباس عن أول من أسلم؟ قال: أبو بكر ثم قال: أما سمعت قول حسان:

إذا تذكرت شجوا من أخي ثقة  *  فاذكر أخاك أبا بكر بما فعلا

خير البرية أتقاها وأعدلها  *  بعد النبي وأوفاها بما حملا

الثاني التالي المحمود مشهده  *  وأول الناس منهم صدق الرسلا

ومنها حديث رووه عن منصور عن مجاهد قال: أول من أظهر الإسلام سبعة: رسول الله صلى الله عليه وآله وأبو بكر وخباب وعمار وبلال وسمية وصهيب. ومنها حديث رووه عن عمرو بن مرة قال: ذكرت لإبراهيم النخعي حديثا فأنكره وقال: أبو بكر أول من أسلم.

قال الشيخ أيده الله: فيقال لهم: أما الحديث الأول فإنه رواه أبو نضيرة وهذا أبو نضيرة مشهور بعداوة أمير المؤمنين عليه السلام، وقد ضمنه ما ينقض أصلا لهم في الإمامة، ولو ثبت لكان أرجح من تقدم إسلام أبي بكر وهو أن أمير المؤمنين عليه السلام والزبير أبطئا عن بيعة أبي بكر، وإذا ثبت أنهما أبطئا عن بيعته وتأخرا ، نقض ذلك قولهم إن الأمة أجمعت عليه ولم يكن من أمير المؤمنين عليه السلام كراهية لأمره. وإذا ثبت أن أمير المؤمنين عليه السلام قد كان متأخرا عن بيعته على وجه الكراهة لها بدلالة ما رووه من قول أبي بكر له: "أبطأت عن بيعتي وأنا أسلمت قبلك" على وجه الحجة عليه في كونه أولى بالإمامة منه، ثبت بطلان إمامة أبي بكر لان أمير المؤمنين عليه السلام لا يجوز أن يكره الحق ولا أن يتأخر عن الهدى، وقد أجمعت الأمة على أنه عليه السلام لم يوقع خطأ بعد الرسول صلى الله عليه وآله يعثر عليه طول مدة أبي بكر وعمر وعثمان، وإنما ادعت الخوارج الخطأ منه في آخر أيامه عليه السلام بالتحكيم وذهبت عن وجه الحق في ذلك. وإذا لم يجز من أمير المؤمنين عليه السلام التأخر عن الهدى والكراهة للحق والجهل بموضع الأفضل، بطل هذا الحديث. وما زلنا نجتهد في إثبات الخلاف من أمير المؤمنين عليه السلام على أبي بكر والتأخر عن بيعته والكراهة لأمره، والناصبة تحيد عن قبول ذلك وتدفعه أشد دفع حتى صاروا يسلمونه طوعا واختيارا وينظمونه في احتجاجهم لفضل صاحبهم، فهكذا يفعل الله عز وجل بأهل الباطل يخيبهم ويسلبهم التوفيق حتى يدخلوا فيما يكرهون من حيث لا يشعرون.

على أن بإزاء هذا الحديث عن أبي بكر حديثا عنه ينقضه من طريق أوضح من طريق أبي نضيرة، وهو ما رواه علي بن مسلم الطوسي، عن زافر بن سليمان، عن الصلت بن بهرام، عن الشعبي قال: "مر علي بن أبي طالب عليه السلام ومعه أصحابه على أبي بكر فسلم ومضى، فقال أبو بكر من سره أن ينظر إلى أول الناس في الإسلام سبقا وأقرب الناس من نبينا عليه السلام رحما وأعظمهم دالة عليه وأفضلهم غناء عنه بنفسه فلينظر إلى علي بن أبي طالب" وهذا يبطل ما ادعوه على أبي بكر وأضافه أبو نضيرة إليه.

وأما حديث عمر بن عنبسة فإنه من طريق أبي أمامة ولا خلاف أن أبا أمامة كان من المنحرفين عن أمير المؤمنين عليه السلام والمتجبرين عليه، وأنه كان في حيز معاوية، ثم فيه عن عمرو وأنه شهد لنفسه أنه كان رابع الإسلام وشهادة المرء لنفسه غير مقبولة إلا أن يكون معصوما أو يدل دليل على صدقه، وإذا لم تثبت شهادته لنفسه بطل الحديث بأسره. مع أن الرواية قد اختلفت عن عمرو من طريق أبي أمامة، فروى عنه في حديث آخر أنه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وآله بماء يقال له عكاظ فقلت له: يا رسول الله من بايعك على هذا الأمر؟ قال: من بين حر وعبد، فأقيمت الصلاة فصليت خلفه أنا وأبو بكر وبلال وأنا يومئذ رابع الإسلام. فاختلف اللفظ والمعنى في هذين الحديثين والواسطة واحد، فتارة يذكر مكة وتارة يذكر عكاظا، وتارة يذكر أنه وجده مستخفيا بمكة وتارة يذكر أنه كان ظاهرا يقيم الصلاة ويصلي بالناس معه، والحديث واحد من طريق واحد وهذا أدل دليل على فساده.

وأما حديث الشعبي فقد قابله الحديث عنه من طريق الصلت بن بهرام المتضمن لضده، وفي ذلك إسقاطه، مع أنه قد عزاه إلى ابن عباس والمشهور عن ابن عباس ضد ذلك وخلافه. ألا ترى إلى ما رواه أبو صالح عن عكرمة عن ابن عباس وهذان أصدق على ابن عباس من الشعبي لان أبا صالح معروف بعكرمة وعكرمة معروف بابن عباس، قال: قال رسول الله في: "صلت الملائكة على وعلى علي بن أبي طالب سبع سنين"، قالوا: ولم ذلك يا رسول الله؟ قال: "لم يكن معي من الرجال غيره"، ومن طريق عمر بن ميمون عن ابن عباس قال: "أول من أسلم من الناس بعد خديجة بنت خويلد علي بن أبي طالب".

وأما قول حسان فإنه ليس بحجة من قبل أن حسانا كان شاعرا وقصد الدولة والسلطان وقد كان منه بعد رسول الله انحراف شديد عن أمير المؤمنين عليه السلام وكان عثمانيا وحرض الناس على أمير المؤمنين عليه السلام وكان يدعو إلى نصرة معاوية وذلك مشهور عنه في نثره ونظمه، ألا ترى إلى قوله:

يا ليت شعري وليت الطير  تخبرني  *  ما كان بين علي وابن عفانا

ضحوا بأشمط عنوان السجود به  *  يقطع الليل تسبيحا وقرآنا

ليسمعن وشيكا في ديارهم  *  الله أكبر يا ثارات عثمانا

فان جعلت الناصبة شعر حسان حجة في تقديم إيمان أبي بكر فلتجعله حجة في قتل أمير المؤمنين عليه السلام عثمان والقطع على أنه أحفى الناس بقتله وأن ثاراته يجب أن تطلب منه. فان قالوا: إن حسانا غلط في ذلك. قلنا لهم: وكذلك غلط في قوله في أبي بكر، وإن قالوا: لا يجوز غلطه في باب أبى بكر لأنه شهد به بمحضر من الصحابة فلم يردوا عليه. قيل لهم: ليس عدم إظهارهم الرد عليه دليلا على رضاهم به لأن الجمهور كانوا شيعة أبي بكر وكان المخالفون له في تقية من الجهر بالنكير عليه في ذلك مخافة الفرقة والفتنة. مع أن قول حسان بن ثابت محتمل لان يكون أبو بكر من المتقدمين في الإسلام والأولين دون أن يكون أول الأولين، ولسنا ندفع أن أبا بكر ممن يعد في المظهرين للإسلام أولا وإنما ننكر أن يكون من أول الأولين، فلما احتمل قول حسان ما وصفناه لم ينكر المسلمون عليه ذلك. مع أن حسانا أيضا قد حرض على أمير المؤمنين عليه السلام ظاهرا ودعا إلى مطالبته بثارات عثمان جهرا فلم ينكر عليه في الحال منكر، فيجب أن يكون مصيبا في ذلك. فان قالوا: هذا شيء قاله في مكان دون مكان، فلما ظهر عنه أنكره جماعة من الصحابة. قيل لهم: فان قنعتم بذلك واقترحتم في الدعوى فاقنعوا منا بمثله فيما اعتقدتموه من شعره في أبي بكر وهذا ما لا فصل فيه. على أن حسانا قد شهد في شعره بإمامة أمير المؤمنين نصا وذكر ذلك بحضرة النبي صلى الله عليه وآله فجزاه خيرا في قوله:

يناديهم يوم الغدير نبيهم  *  بخم وأسمع بالنبي مناديا

في أبيات سأذكرها في موضعها إن شاء الله، وشهد لأمير المؤمنين عليه السلام أيضا بسبق قريش إلى الإيمان حيث يقول:

جزى الله خيرا والجزاء بكفه  *  أبا حسن عنا ومن كأبي حسن

سبقت قريشا بالذي أنت أهله  *  فصدرك مشروح وقلبك ممتحن

فشهد بتقديم إيمان أمير المؤمنين عليه السلام الجماعة، وهذا مقابل لما تقدم ومسقط له، فإن زعموا أن هذا محتمل، قيل لهم: أما في تفضيله إياه على الكل فليس بمحتمل، وأما في تقدم الإسلام فإن الظاهر منه يوجبه، وإن احتمل فكذلك ما ذكرتموه عنه أيضا محتمل.

وأما روايتهم عن مجاهد فإنها مقصورة على مذهبه ورأيه ومقاله، وبإزاء مجاهد عالم من التابعين ينكرون عليه مقاله ويذهبون إلى خلافه في ذلك وأن أمير المؤمنين عليه السلام أول الناس إيمانا، وهذا القدر كاف في إبطال قول مجاهد. على أن الثابت عن مجاهد خلاف ما ادعاه هؤلاء القوم وأضافوه إليه وضده ونقيضه، روى ذلك منهم من لا يتهم عليه سفيان بن عيينة عن ابن أبي نجيح عن مجاهد وأثره عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: "السباق أربعة: سبق يوشع ابن نون إلى موسى بن عمران عليه السلام وصاحب ياسين إلى عيسى بن مريم عليه السلام وسبق علي بن أبي طالب عليه السلام إلى رسول الله صلى الله عليه وآله" ونسي الناقل عن سفيان الآخر، وقد ذكر في حديث غير هذا أنه مؤمن آل فرعون، وهذا يسقط تعلقهم بما ادعوه على مجاهد وأما حديث عمرو بن مرة عن إبراهيم فهو أيضا نظير قول مجاهد، وإنما أخبر عمرو عن مذهب إبراهيم والغلط جائز على إبراهيم ومن فوقه، وبإزاء إبراهيم من هو فوقه وأجل قدرا منه يدفع قوله ويكذبه في دعواه كأبي جعفر محمد بن علي الباقر وأبي عبد الله الصادق عليهم السلام، ومن غير أهل البيت قتادة والحسن وغيرهما ممن لا يحصى كثرة، وفي هذا أيضا غنى عن غيره.

قال الشيخ أيده الله: فهذه جملة ما اعتمده القوم فيما ادعوه من خلافنا في تقديم إيمان أمير المؤمنين عليه السلام وتعلقوا به، وقد بينت عوارها وأوضحت عن حالها، وأنا ذاكر طرفا من أسماء من روى أن أمير المؤمنين عليه السلام كان أسبق الخلق إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وأولهم من الذكور إجابة له وإيمانا به.

فمن ذلك الرواية عن أمير المؤمنين عليه السلام نفسه من طريق سلمة بن كهيل عن حبة العرني، قال: سمعت عليا عليه السلام يقول: "اللهم لا أعرف عبدا لك عبدك من هذه الأمة قبلي غير نبيها" يقول ذلك ثلاث مرات، ثم قال: "لقد صليت قبل أن يصلي أحد سبعا". ومن طريق المنهال عن عباية الأسدي عن أمير المؤمنين عليه السلام، قال: "لقد أسلمت قبل الناس بسبع سنين". ومن طريق جابر عن عبد الله بن يحيى الحضرمي عن علي بن أبي طالب عليه السلام قال: "صليت مع رسول الله ثلاث سنين ولم يصل أحد غيري". ومن طريق نوح بن قيس الطاحني عن سليمان بن أبي فاطمة، قال: حدثتني معاذة العدوية، قالت: سمعت عليا عليه السلام يخطب على منبر البصرة فسمعته يقول: "أنا الصديق الأكبر آمنت قبل أن يؤمن أبو بكر وأسلمت قبل أن يسلم". ومن طريق عمرو بن مرة عن أبي البختري عن أمير المؤمنين عليه السلام، قال: "صليت قبل الناس سبع سنين". ومن طريق نوح بن دراج عن خالد الخفاف، قال: أدركت الناس وهم يقولون: وقع بين علي عليه السلام وعثمان كلام، فقال عثمان: والله إن أبا بكر وعمر خير منك، فقال علي عليه السلام: "كذبت والله لأنا خير منك ومنهما عبدت الله قبلهما وعبدت الله بعدهما". ومن طريق الحرث الأعور قال: سمعت أمير المؤمنين عليه السلام يقول: "اللهم إني لا أعترف لعبد من عبادك عبدك قبلي" وقال عليه السلام قبل ليلة الهرير بيوم وهو يحرض الناس على أهل الشام: "أنا أول ذكر صلى مع رسول الله صلى الله عليه وآله ولقد راني أضرب بالسيف قدامه وهو يقول: لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا علي، حياتك حياتي وموتك موتي" وقال عليه السلام وقد بلغه أن قوما يطعنون عليه في الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وآله بعد كلام خطب به عليه السلام: "بلغني أنكم تقولون أن عليا يكذب فعلى من أكذب أعلى الله فأنا أول من آمن به وعبده ووحده أم على رسول الله صلى الله عليه وآله فأنا أول من آمن به وصدقه ونصره" وقال عليه السلام لما بلغه افتخار معاوية عند أهل الشام، شعره المشهور الذي يقول فيه:

سبقتكم إلى الإسلام طرا  *  صغيرا ما بلغت أوان حلمي

وأنا أذكر الشعر بأسره في موضع غير هذا عند الحاجة إليه إن شاء الله تعالى.

ومن ذلك ما رواه أبو أيوب خالد بن زيد الأنصاري صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله من طريق عبد الرحمان بن معمر عن أبيه عن أبي أيوب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: "صلت الملائكة علي وعلى علي بن أبي طالب سبع سنين وذلك أنه لم يصل معي رجل غيره". ومن ذلك ما رواه سلمان الفارسي رضي الله تعالى عنه من طريق علثم الكندي عن سلمان قال: قال رسول الله: "أولكم ورودا علي الحوض أولكم إسلاما علي بن أبي طالب". ومن ذلك ما رواه أبو ذر الغفاري رضي الله تعالى عنه من طريق محمد بن عبد الله بن أبي رافع عن أبيه عن جده عن أبي ذر رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول لعلي عليه السلام: "أنت أول من آمن بي" في حديث طويل، وروى أبو سخيلة عن أبي ذر أيضا قال: سمعت رسول الله وهو آخذ بيد علي عليه السلام يقول: "أنت أول من آمن بي وأول من يصافحني يوم القيامة" وقد رواه ابن أبي رافع عن أبيه أيضا عن أبي ذر رضي الله تعالى عنه قال: أتيته أودعه فقال: "إنها ستكون فتنة فعليك بالشيخ علي بن أبي طالب عليه السلام فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: "أنت أول من آمن بي". ومن ذلك ما رواه حذيفة بن اليمان رضي الله عنه من طريق قيس بن مسلم عن ربعي بن خراش قال: سألت حذيفة بن اليمان: ما تقول في علي بن أبي طالب؟ فقال: "ذاك أقدم الناس سلما وأرجح الناس علما". ومن ذلك ما رواه جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنه من طريق شريك بن عبد الله عن محمد بن عقيل عن جابر قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وآله يوم الإثنين وأسلم علي عليه السلام يوم الثلاثاء. ومن ذلك ما رواه زيد بن أرقم من طريق عمرو بن مرة عن أبى حمزة مولى الانصار قال: سمعت زيد بن أرقم يقول: أول من صلى مع رسول الله صلى الله عليه وآله علي ابن أبي طالب. ومن ذلك ما رواه زيد بن صوحان العبدي من طريق عبد الله بن هشام عن أبيه عن طريف بن عيسى الغنوي، أن زيد بن صوحان خطب في مسجد الكوفة فقال: "سيروا إلى أمير المؤمنين وسيد المسلمين وأول المؤمنين إيمانا". ومن ذلك ما روته أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وآله من طريق مساور الحميري عن أمه قالت: قالت أم سلمة: "والله لقد أسلم علي بن أبي طالب أول الناس وما كان كافرا" في حديث طويل. ومن ذلك ما رواه عبد الله بن عباس بن عبد المطلب من طريق أبي صالح عن عكرمة عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: "صلت الملائكة علي وعلى علي بن أبي طالب سبع سنين"، قالوا: ولم ذاك يا رسول الله؟ قال: "لم يكن معي من الرجال غيره". ومن طريق عمرو بن ميمون عنه ما تقدم ذكره وروى مجاهد عنه أيضا مثل ذلك، وقد سلف لنا فيما مضى. ومن ذلك ما رواه قثم بن العباس بن عبد المطلب من طريق قيس بن أبي حازم عن أبي إسحاق، قال: دخلت على قثم بن العباس فسألته عن علي بن أبي طالب عليه السلام فقال: "كان أولنا برسول الله صلى الله عليه وآله لحوقا وأشدنا به لصوقا". ومن ذلك ما رواه مالك الأشتر رضي الله تعالى عنه من طريق الفضل بن أدهم المزني قال: سمعت مالك الأشتر بن الحرث يقول في خطبة خطبها بصفين: "معنا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وآله وسيف من سيوف الله علي بن أبي طالب صلى مع رسول الله صلى الله عليه وآله صغيرا ولم يسبقه بالصلاة ذكر وجاهد حتى صار شيخا كبيرا". ومن ذلك ما رواه سعيد بن قيس من طريق مالك بن قدامة الأرحبي أن سعيد بن قيس خطب الناس بصفين فقال: "معنا ابن عم نبينا صلى الله عليه وآله صدق وصلى صغيرا وجاهد مع نبيكم كبيرا". ومن ذلك ما رواه عمرو بن الحمق الخزاعي من طريق عبد الله بن شريك العامري، قال: قام عمرو بن الحمق بصفين فقال: "يا أمير المؤمنين أنت ابن عم نبينا وأول المؤمنين إيمانا بالله عز وجل". ومن ذلك ما رواه هاشم بن عتبة بن أبي وقاص من طريق جندب بن عبد الله الأزدي، قال: قال هاشم بن عتبة بن أبي وقاص يوم صفين: نجاهد في طاعة الله مع أبن عم رسول الله صلى الله عليه وآله وأول من آمن بالله وأفقه الناس في دين الله. ومن ذلك ما رواه محمد بن كعب من طريق عمر مولى عفرة عن محمد بن كعب: قال: "أول من أسلم علي بن أبي طالب وأول من أظهر الإسلام أبو بكر". ومن ذلك ما رواه مالك بن الحويرث من طريق مالك بن الحسن بن مالك، قال : أخبرني أبي عن جدي مالك بن الحويرث، قال: "أول من أسلم من الرجال علي بن أبي طالب". ومن ذلك ما رواه أبو مخلد من طريق أبي عوانة عن عمران عن أبي مخلد، قال: "أول من أسلم وصلى علي بن أبي طالب". ومن ذلك ما رواه أبو بكر عتيق بن أبي قحافة، وعمر بن الخطاب، وأنس ابن مالك، وعمرو بن العاص، وأبو موسى الأشعري. والذي رواه أبو بكر، من طريق زافر بن سليمان عن الصلت بن بهرام عن الشعبي، قال: "مر علي بن أبي طالب على أبي بكر ومعه أصحابه فسلم عليه ومضى، فقال أبو بكر: من سره أن ينظر إلى أول الناس في الإسلام سبقا وأقرب الناس برسول الله صلى الله عليه وآله قرابة فلينظر إلى علي بن أبي طالب" في الحديث، وقد قدمناه فيما مضى.

وأما عمر فإن أبا حازم مولى ابن عباس قال: سمعت عبد الله بن عباس يقول: قال عمر بن الخطاب: كفوا عن علي بن أبي طالب فاني سمعت من رسول الله صلى الله عليه وآله فيه خصالا قال: "إنك أول المؤمنين بعدي إيمانا" وساق الحديث. وأما عمرو بن العاص فإن تميم بن جذيم الناجي قال: إنا لمع أمير المؤمنين عليه السلام بصفين إذ خرج إليه عمرو بن العاص فأراد أن يكلمه. فقال عمرو: تكلم فانك أول من أسلم واهتدى ووحد وصلى. ومن ذلك ما رواه أبو موسى الأشعري من طريق يحيى بن سلمة بن كهيل عن أبيه سلمة عن أبي جعفر عن ابن عباس قال: قال أبو موسى الأشعري:" علي أول من أسلم". ومن ذلك ما رواه أنس بن مالك من طريق عباد بن عبد الصمد، قال: سمعت أنس بن مالك يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: "لقد صلت الملائكة علي وعلى علي بن أبي طالب سبع سنين، وذلك أنه لم ترفع إلى السماء شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله إلا مني ومن علي صلوات الله عليه". ومن ذلك ما روي عن الحسن بن أبي الحسن البصري من طريق قتادة بن دعامة السدوسي، قال: سمعت الحسن يقول: "إن عليا عليه السلام صلى مع النبي أول الناس، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله صلت الملائكة علي وعلى علي سبع سنين". ومن ذلك ما روي عن قتادة من طريق سعيد بن أبي عروبة قال: سمعت قتادة يقول: "أول من صلى من الرجال علي بن أبي طالب". ومن ذلك ما روي عن ابن إسحاق من طريق يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق، قال: "كان أول ذكر آمن وصدق علي بن أبي طالب وهو ابن عشر سنين ثم أسلم بعده زيد بن حارثة". ومن ذلك ما روي عن الحسن بن زيد من طريق إسماعيل بن عبد الله بن أبي أويس قال: أخبرني أبي عن الحسن بن زيد أن عليا عليه السلام كان أول ذكر أسلم.

وأما الرواية عن آل أبي طالب في ذلك فإنها أكثر من أن تحصى، وقد أجمع بنو هاشم وخاصة آل علي عليه السلام لا تنازع بينهم على أن أول من أجاب رسول الله صلى الله عليه وآله من الذكور علي بن أبي طالب عليه السلام، ونحن أغنياء بشهرة ذلك عن ذكر طرقه ووجوهه. وأما الأشعار التي تؤثر عن الصحابة في الشهادة له عليه السلام بتقدم الإيمان وأنه أسبق الناس إليه فقد وردت عن جماعة منهم وظهرت عنهم على وجه يوجب العلم ويزيل الارتياب ولم يختلف فيها من أهل العلم والنقل والآثار اثنان. فمن ذلك قول خزيمة بن ثابت ذي الشهادتين رحمه الله:

إذا نحن بايعنا عليا فحسبنا أبو حسن مما نخاف من الفتن

وجدناه أولى الناس بالناس إنه  *  أطب قريش بالكتاب وبالسنن

وإن قريشا لا تشق غباره  *  إذا ما جرى يوما على الضمر البدن

ففيه الذي فيهم من الخير كله  *  وما فيهم مثل الذي فيه من حسن

وصي رسول الله من دون أهله  *  وفارسه قد كان في سالف الزمن

وأول من صلى من الناس كلهم  *  سوى خيرة النسوان والله ذو المنن

وصاحب كبش القوم في كل وقعة  *  يكون لها نفس الشجاع لدى الذقن

فذاك الذي تثنى الخناصر باسمه  *  إمامهم حتى أغيب في الكفن

ومنه قول حسان بن ثابت، وقد قدمنا هذين البيتين فيما سلف:

جزى الله خيرا والجزاء بكفه  *  أبا حسن عنا ومن كأبي حسن

سبقت قريشا بالذي أنت أهله  *  فصدرك مشروح وقلبك ممتحن

ومنه قول كعب بن زهير:

صهر النبي وخير الناس كلهم  *  وكل من رامه بالفخر مفخور

صلى الصلاة مع الأمي أولهم  *  قبل العباد ورب الناس مكفور

ومنه قول ربيعة بن الحرث بن عبد المطلب حيث يقول عند بيعة الناس لأبي بكر:

ما كنت أحسب أن الأمر منتقل  *  عن هاشم ثم منها عن أبي حسن

أليس أول من صلى لقبلتهم  *  وأعلم الناس بالآثار والسنن

وآخر الناس عهدا بالنبي ومن  *  جبريل عون له في الغسل والكفن

من فيه ما فيهم لا تمترون به  *  وليس في القوم ما فيه من الحسن

ماذا الذي ردكم عنه فنعلمه  *  ها إن بيعتكم من أول الفتن

وفي هذا الشعر قطع من قائله على إبطال إمامة أبي بكر وإثبات الإمامة لأمير المؤمنين عليه السلام.

ومنه قول الفضل بن أبي لهب فيما رد به على الوليد بن عقبة من مديحه لعثمان ومرثيته له وتحريضه على أمير المؤمنين عليه السلام في قصيدته التي يقول في أولها:

ألا إن خير الناس بعد ثلاثة  *  قتيل التجيبي الذي جاء من مصر

فقال الفضل رحمه الله:

ألا إن خير الناس بعد محمد  *  مهيمنه التاليه في العرف والنكر

وخيرته في خيبر ورسوله  *  بنبذ عهود الشرك فوق أبي بكر

وأول من صلى وصنو نبيه  *  وأول من أردى الغواة لدى بدر

فذاك علي الخير من ذا يفوقه  *  أبو حسن حلف القرابة والصهر

وفي هذا الشعر دليل على تقدم إيمان أمير المؤمنين عليه السلام، وعلى أنه كان الأمير في سنة تسع على الجماعة، وكان في جملة رعيته أبو بكر على خلاف ما ادعته الناصبة من قولهم أن أبا بكر كان الأمير على الجماعة، وأن أمير المؤمنين عليه السلام كان تابعا له. ومنه قول مالك بن عبادة النافقي حليف حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه:

رأيت عليا لا يلبث قرنه  *  إذا ما دعاه حاسرا أو مسربلا

فهذا وفى الإسلام أول مسلم  *  وأول من صلى وصام وهللا

ومنه قول عبد الله بن أبي سفيان بن الحرث بن عبد المطلب:

وكان ولي الأمر بعد محمد  *  علي وفي كل المواطن صاحبه

وصي رسول الله حقا وجاره  *  وأول من صلى ومن لان جانبه

وفي هذا الشعر أيضا دليل على اعتقاد هذا الرجل في أمير المؤمنين عليه السلام أنه كان الخليفة لرسول الله صلى الله عليه وآله بلا فصل. ومنه قول النجاشي بن الحرث بن كعب:

فقل للمضلل من وائل  *  ومن جعل الغث يوما سمينا

جعلت ابن هند وأشياعه  *  نظير علي أما تستحونا

إلى أول الناس بعد الرسول  *  أجاب النبي من العالمينا

ومنه قول جرير بن عبد الله البجلي:

فصلى الإله على أحمد  *  رسول المليك تمام النعم

وصلى على الطهر من بعده  *  خليفتنا القائم المدعم

عليا عنيت وصي النبي  *  يجالد عنه غواة الأمم

له الفضل والسبق والمكرما  *  ت وبيت النبوة لا المهتضم

وفي هذا الشعر أيضا تصريح من قائله بإمامة أمير المؤمنين عليه السلام بعد الرسول وأنه كان الخليفة له دون من تقدم. ومنه قول عبد الله بن حكيم التميمي حيث يقول:

دعانا الزبير إلى بيعة  *  وطلحة من بعدما أثقلا

فقلنا صفقنا بأيماننا  *  فان شئتما فخذا الأشملا

نكثتم عليا على بيعة  *  وإسلامه فيكم أولا

ومنه قول عبد الرحمان بن حنبل حليف بني جمح:

لعمري لئن بايعتم ذا حفيظئة  *  على الدين معروف العفاف موفقا

عفيفا على الفحشاء أبيض ماجدا  *  صدوقا وللجبار قدما مصدقا

أبا حسن فارضوا به وتبايعوا  *  فليس كمن فيه لذي العيب منطقا

علي وصي المصطفى ووزيره  *  وأول من صلى لذي العرش واتقى

ومنه قول أبي الأسود الدؤلي:

وإن عليا لكم مفخر  *  يشبه بالأسد الأسود

أما إنه ثاني العابدين  *  بمكة والله لم يعبد

منه قول زفر بن زيد بن حذيفة الأسدي:

فحوطوا عليا واحفظوه فإنه  *  وصي وفى الإسلام أول أول

ومنه قول قيس بن سعد بن عبادة بصفين:

هذا علي وابن عم المصطفى

أول من أجابه ممن دعا

هذا الإمام لا نبالي من غوى

ومنه قول هاشم بن عتبة بن أبي وقاص بصفين:

أشلهم بذي الكعوب شلا

مع ابن عم أحمد يجلي

أول من صدقه وصلى

- بحث في الرد على قول الناصبة إن إيمان أمير المؤمنين لم يقع على وجه المعرفة وإنه كان ابن سبع سنين
- الفصول المختارة- الشيخ المفيد  ص 271، 282:

فصل: قال الشيخ أيده الله: فأما قول الناصبة إن إيمان أمير المؤمنين عليه السلام لم يقع على وجه المعرفة وإنما كان على وجه التقليد وبحفظ التلقين ومن كان بهذه المنزلة لم يستحق صاحبه المدحة ولم يجب له به الثواب، وادعاؤهم أن أمير المؤمنين عليه السلام كان في تلك الحال ابن سبع سنين ومن كانت هذه سنه لم يكن كامل العقل ولا مكلفا، فانه يقال لهم:

إنكم قد جهلتم في ادعائكم أنه كان في وقت مبعث النبي صلى الله عليه وآله ابن سبع سنين وقلتم قولا لا برهان عليه يخالف المشهور ويضاد المعروف. وذلك أن جمهور الروايات جاءت بأنه عليه السلام قبض وله خمس وستون سنة، وجاء في بعضها أن سنه كانت عند وفاته ثلاثا وستين سنة، فاما ما سوى هاتين الروايتين فشاذ مطروح لا يعرف في صحيح النقل ولا يقبله أحد من أهل الرواية والعقل، وقد علمنا أن أمير المؤمنين عليه السلام صحب رسول الله صلى الله عليه وآله ثلاثا وعشرين سنة منها ثلاث عشرة قبل الهجرة وعشر بعدها وعاش بعده ثلاثين سنة، وكانت وفاته في سنة أربعين من الهجرة، فإذا حكمنا في سنه على خمس وستين بما تواترت به الأخبار، كانت سنه عند مبعث النبي صلى الله عليه وآله اثنتي عشرة سنة وإن حكمنا على ثلاث وستين كانت سنه عند المبعث عشر سنين، فكيف يخرج من هذا الحساب أن يكون سنه عند المبعث سبع سنين؟ اللهم إلا أن يقول قائل إن سنه كانت عند وفاته ستين سنة فيصح له ذلك إلا أنه يكون دافعا للمتواتر من الأخبار منكرا للمشهور من الآثار معتمدا على الشاذ من الروايات، ومن صار إلى ذلك كان الأولى بمناظرته البيان له عن وجه الكلام في الأخبار والتوقيف على طريق الفاسد من الصحيح فيها دون المجازفة في المقالة.

وكيف يمكن عاقل سمع الأخبار أو نظر في شيء من الآثار أن يدعي أن أمير المؤمنين عليه السلام توفي وله ستون سنة، مع قوله عليه السلام الشايع عنه الذايع في الخاص والعام عندما بلغه من إرجاف أعدائه في التدبير والرأي: "بلغني أن قوما يقولون أن علي بن أبي طالب شجاع لكن لا بصيرة له بالحرب لله أبوهم وهل فيهم أحد أبصر بها مني لقد قمت فيها وما بلغت العشرين وها أنا ذا قد ذرفت على الستين ولكن لا رأي لمن لا يطاع" فخبر عليه السلام بأنه قد ذرف على الستين في وقت عاش بعده دهرا طويلا وذلك في أيام صفين. وهذا يكذب قول من زعم أنه صلوات الله عليه توفي وله ستون سنة، مع أن الروايات قد جاءت مستفيضة ظاهرة بأن سنه كانت عند وفاته بضعا وستين سنة، وفي مجيئها بذلك على الانتشار دليل على بطلان مقال من أنكر ذلك. فممن روى ما ذكرناه علي بن عمرو بن أبي سبرة عن عبد الله بن محمد بن عقيل قال: سمعت محمد بن الحنفية يقول في سنة الجحاف حين دخلت سنة إحدى وثمانين: هذه لي خمس وستون سنة وقد جاوزت سن أبي، قلت: وكم كانت سنه يوم قتل؟ قال: ثلاثا وستين سنة. ومنهم أبو القاسم نعيم قال: حدثنا لشريك عن أبي إسحاق، قال: توفي علي صلوات الله عليه وهو ابن ثلاث وستين سنة. ومنهم يحيى ابن أبي كثير عن سلمة، قال: سمعت أبا سعيد الخدري يقول، وقد سئل عن سن أمير المؤمنين صلوات الله عليه يوم قبض قال: كان قد نيف على الستين، ومنهم ابن عائشة من طريق أحمد بن زكريا، قال: سمعته يقول بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وعلي عليه السلام ابن عشر سنين وقتل علي وله ثلاث وستون سنة، ومنهم الوليد بن هشام الفحدمي من طريق أبي عبد الله الكواسحي، قال: أخبرنا الوليد بأسانيد مختلفة: أن عليا عليه السلام قتل بالكوفة يوم الجمعة لتسع عشرة ليلة خلت من شهر رمضان سنة أربعين وهو ابن خمس وستين سنة.

فأما من روى أن سنه كانت عند البعثة أكثر من عشر سنين فغير واحد منهم عبد الله بن مسعود من طريق عثمان بن المغيرة عن وهب عنه قال: إن أول شيء علمته من أمر رسول الله صلى الله عليه وآله أننا قدمنا مكة فأرشدونا إلى العباس بن عبد المطلب فانتهينا إليه وهو جالس إلى زمزم، فبينا نحن جلوس إذ أقبل رجل من باب الصفا عليه ثوبان أبيضان على يمينه غلام مراهق أو محتلم تتبعه امرأة قد سترت محاسنها حتى قصدوا الحجر فاستلمه والغلام والمرأة معه، ثم طاف بالبيت سبعا والغلام والمرأة يطوفان معه، ثم استقبل الكعبة وقام فرفع يديه وكبر وقام الغلام على يمينه وكبر وقامت المرأة خلفهما فرفعت يديها وكبرت فأطال الرجل القنوت، ثم ركع فركع الغلام والمرأة معه، ثم رفع رأسه فأطال القنوت ثم سجد وهما يصنعان ما يصنع. فلما رأينا شيئا ننكره ولا نعرفه بمكة أقبلنا على العباس فقلنا: يا أبا الفضل إن هذا الدين ما كنا نعرفه فقال: أجل والله ما تعرفون هذا، قلنا: ما تعرفه؟ قال: هذا ابن أخي محمد بن عبد الله وهذا علي بن أبى طالب وهذه المرأة خديجة بنت خويلد والله ما على وجه الأرض أحد يعبد الله بهذا الدين إلا هؤلاء الثلاثة. وروى قتادة عن الحسن وغيره قال: كان أول من آمن علي بن أبي طالب وهو ابن خمس عشرة سنة أو ست عشرة. وروى شداد بن أوس قال: سألت خباب بن الارت عن إسلام علي: فقال: أسلم وهو ابن خمس عشرة سنة ولقد رأيته يصلي مع النبي وهو يومئذ بالغ مستحكم البلوغ، وروى علي بن زيد عن أبي نضرة قال: أسلم علي وهو ابن أربع عشرة سنة وكان له يومئذ ذؤابة يختلف إلى الكتاب. وقد روى عبد الله بن زياد عن محمد بن علي قال: أول من آمن بالله علي وهو ابن إحدى عشرة سنة. وروى الحسن بن زيد قال: أول من أسلم علي بن أبي طالب وهو ابن خمس عشرة سنة، وقد قال عبد الله بن أبي سفيان بن عبد المطلب:

وصلى علي مخلصا بصلاته  *  لخمس وعشر من سنين كوامل

وخلى أناسا بعده يتبعونه  *  له عمل أفضل به صنع عامل

وروى سلمة بن كهيل عن أبيه عن حية بن جوين قال: أسلم علي وكان له ذؤابة يختلف إلى الكتاب.

على أنا لو سلمنا لخصومنا ما ادعوه من أنه عليه السلام كان له عند المبعث سبع سنين، لم يدل ذلك على صحة ما ذهبوا إليه من أن إيمانه كان على وجه التلقين دون المعرفة واليقين وذلك أن صغر السن لا ينافي كمال العقل، وليس دليل وجوب التكليف بلوغ الحلم فيراعى ذلك، هذا باتفاق أهل النظر والعقول وإنما يراعى بلوغ الحلم في الأحكام الشرعية دون العقلية. وقد قال الله سبحانه في قصة يحيى عليه السلام: {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا} وقال في قصة عيسى عليه السلام: {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا * قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا} فلم ينف صغر هذين النبيين عليهما السلام كمال عقلهما والحكمة التي أتاهما الله تعالى، ولو كانت العقول تحيل ذلك لأحالته في كل أحد وعلى كل حال. وقد أجمع أهل التفسير إلا من شذ منهم في قوله تعالى: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ * وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِن الصَّادِقِينَ} أنه كان طفلا صغيرا في المهد أنطقه الله تعالى حتى برأ يوسف عليه السلام من الفحشاء وأزال عنه التهمة. والناصبة إذا سمعت هذا الاحتجاج قالت: إن هذا الذي ذكرتموه فيمن عددتموه كان معجزا بخرقه العادة ودلالة لنبي من أنبياء الله عز وجل، فلو كان أمير المؤمنين عليه السلام مشاركا لمن وصفتموه في خرق العادة لكان معجزا له عليه السلام أو للنبي صلى الله عليه وآله، وليس يجوز أن يكون المعجز له، ولو كان للنبي صلى الله عليه وآله لجعله في معجزاته واحتج به في جملة بيناته ولجعله المسلمون من آياته، فلما لم يجعله رسول الله صلى الله عليه وآله لنفسه علما ولا عده المسلمون في معجزاته علمنا أنه لم يجز فيه الأمر على ما ذكرتموه. فيقال لهم: ليس كل ما خرق الله به العادة وجب أن يكون علما ولا لزم أن يكون معجزا ولا شاع علمه في العام ولا عرف من جهة الاضطرار وإنما المعجز العلم هو خرق العادة عند دعوة داع أو براءة مقذوف وتجري براءته مجرى التصديق له في مقاله بل هي تصديق في المعنى وإن لم يكن تصديقا بنفس اللفظ والقول. وكلام عيسى عليه السلام إنما كان معجزا لتصديقه له في قوله: {إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا} مع كونه خرقا للعادة وشاهدا لبراءة أمه من الفاحشة ولصدقها فيما ادعته من الطهارة وكانت حكمة يحيى عليه السلام في حال صغره تصديقا له في دعوته في الحال ولدعوة أبيه زكريا عليه السلام فصارت مع كونها خرقا للعادة دليلا ومعجزا وكلام الطفل في براءة يوسف عليه السلام إنما كان معجزا بخرق العادة لشهادته ليوسف عليه السلام بالصدق في براءة ساحته ويوسف عليه السلام نبي مرسل. فثبت أن الأمر على ما ذكرناه، ولم يك كمال عقل أمير المؤمنين عليه السلام شاهدا في شيء مما ادعاه ولا استشهد هو عليه السلام به فيكون مع كونه خرقا للعادة معجزا، ولو استشهد عليه السلام به أو شهد على حد ما شهد الطفل ليوسف عليه السلام وكلام عيسى عليه السلام له ولأمه وكلام يحيى عليه السلام لأبيه بما يكون في المستقبل والحال، لكان لخصومنا وجه في المطالبة بذكر ذلك في المعجزات ولكن لا وجه له على ما بيناه.

على أن كمال عقل أمير المؤمنين عليه السلام لم يكن ظاهرا للحواس ولا معلوما بالاضطرار فيجري مجرى كلام المسيح عليه السلام وحكمة يحيى عليه السلام وكلام شاهد يوسف عليه السلام، فيمكن الاعتماد عليه في المعجزات وإنما كان طريق العلم به قول رسول الله صلى الله عليه وآله أو الاستدلال الشاق بالنظر الثاقب والسبر بحاله عليه السلام على مرور الأوقات لسماع كلامه والتأمل لاستدلالاته والنظر إلى ما يؤدي إلى معرفته وفطنته. ثم لا يحصل ذلك إلا لخاص من الناس، ومن عرف وجه الاستنباطات، وما جرى هذا المجرى فارق حكمه حكم ما سلف للأنبياء من المعجزات وما كان لنبينا صلى الله عليه وآله من الاعلام، إذ تلك بظواهرها تقدح في القلوب أسباب اليقين ويشترك الجميع في علم الحال الظاهرة منها المنبئة عن خرق العادات، دون أن تكون مقصورة على ما ذكرناه من البحث الطويل والاستبراء للأحوال على مرور الأوقات والرجوع فيه إلى نفس قول الرسول صلى الله عليه وآله الذي يحتاج في العلم به إلى النظر في معجز غيره والاعتماد على ما سواه من البينات، فلا ينكر أن يكون الرسول صلى الله عليه وآله إنما عدل عن ذكر ذلك واحتجاجه به في جملة آياته لما وصفناه.

وشيء آخر وهو أنه لا ينكر أن يكون الله عز وجل علم من مصلحة خلقه الكف من الرسول صلى الله عليه وآله عن الاحتجاج بذلك والدعاء إلى النظر فيه وأن اعتماده على ما ظاهره خرق العادة أولى في مصلحة الدين.

وشيء آخر وهو أن رسول الله صلى الله عليه وآله وإن لم يحتج به على التفصيل واليقين فقد فعل ما يقوم مقام الاحتجاج به على البصيرة واليقين، فابتدأ عليا عليه السلام بالدعوة قبل الذكور كلهم ممن ظاهره البلوغ وافتتح بدعوته أداء رسالته واعتمد عليه في إيداعه سره وأودعة ما كان خائفا من ظهوره عنه. فدل باختصاصه بذلك على ما يقوم مقام قوله عليه السلام إنه معجز له وإن بلوغ عقله علم على صدقه، ثم جعل ذلك من مفاخره وجليل مناقبه وعظيم فضائله ونوه بذكره وشهره بين أصحابه واحتج له به في اختصاصه، وكذلك فعل أمير المؤمنين عليه السلام في ادعائه له فاحتج به على خصومه وتمدح به بين أوليائه وأعدائه وفخر به على جميع أهل زمانه، وذلك هو معنى النطق بالشهادة بالمعجز له بل هو الحجة في كونه نائبا في القول بما خصه الله تعالى منه ونفس الاحتجاج بعلمه ودليل الله وبرهانه، وهذا يسقط ما اعتمدوه.

ومما يدل على أن أمير المؤمنين صلوات الله عليه كان عند بعثة النبي بالغا مكلفا وأن إيمانه به كان بالمعرفة والاستدلال وأنه وقع على أفضل الوجوه وآكدها في استحقاق عظيم الثواب، أن رسول الله صلى الله عليه وآله مدحه به وجعله من فضائله وذكره في مناقبه ولم يك بالذي يفضل بما ليس بفضل ويجعل في المناقب ما لا يدخل في جملتها ويمدح على ما لا يستحق عليه الثواب. فلما مدح رسول الله صلى الله عليه وآله بين أمير المؤمنين عليه السلام بتقدم الإيمان فيما ذكرناه آنفا من قوله صلى الله عليه وآله لفاطمة عليها السلام: "أما ترضين أني زوجتك أقدمهم سلما" وقوله صلى الله عليه وآله في رواية سلمان رضي الله عنه: "أول هذه الأمة ورودا على نبيها الحوض أولها إسلاما علي بن أبي طالب" وقوله: "لقد صلت الملائكة علي وعلى علي سبع سنين وذلك أنه لم يكن أحد من الرجال يصلي غيري وغيره"، وإذا كان الأمر على ما وصفناه، فقد ثبت أن إيمانه عليه السلام وقع بالمعرفة واليقين دون التقليد والتلقين، لاسيما وقد سماه رسول الله صلى الله عليه وآله إيمانا وإسلاما. وما يقع من الصبيان على وجه التلقين لا يسمى على الإطلاق الديني إيمانا وإسلاما. ويدل على ذلك أن أمير المؤمنين عليه السلام قد تمدح به وجعله من مفاخره واحتج به على أعدائه وكرره في غير مقام من مقاماته حيث يقول: "اللهم إني لا أعرف عبدا لك من هذه الأمة عبدك قبلي"، وقوله عليه السلام: "أنا الصديق الأكبر آمنت قبل أن يؤمن أبو بكر وأسلمت قبل أن يسلم" وقوله عليه السلام لعثمان: "أنا خير منك ومنهما عبدت الله قبلهما وعبدت الله بعدهما" وقوله عليه السلام: "أنا أول ذكر صلى" وقوله عليه السلام: "على من أكذب أعلى الله وأنا أول من آمن به وعبده". فلو كان إيمانه على ما ذهبت إليه الناصبة من جهة التلقين ولم يكن له معرفة ولا علم بالتوحيد لما جاز منه عليه السلام أن يتمدح بذلك، ولا أن يسميه عبادة، ولا أن يفتخر به على القوم، ولا أن يجعله تفضيلا له على أبي بكر وعمر ولو أنه فعل من ذلك ما لا يجوز لرده عليه مخالفوه واعترضه فيه مضادوه وحاجه في بطلانه مخاصموه، وفي عدول القوم عن الاعتراض عليه وتسليم الجماعة له ذلك دليل على ما ذكرناه وبرهان على فساد قول الناصبة الذي حكيناه.

وليس يمكن أن يدفع ما رويناه في هذا الباب من الأخبار لشهرتها وإجماع الفريقين من الناصبة والشيعة على روايتها، ومن تعرض للطعن فيها مع ما شرحناه لم يمكنه الاعتماد على تصحيح خبر وقع في تأويله الاختلاف، وفي ذلك إبطال جمهور الأخبار وإفساد عامة الآثار وهب أن من لا يعرف الحديث ولا خالط حملة العلم يقدم على إنكار بعض ما رويناه أو يعاند فيه بعض العارفين به ويغتنم الفرصة بكونه خاصا في أهل العلم، كيف يمكن دفع شعر أمير المؤمنين عليه السلام في ذلك وقد شاع من شهرته على حد يرتفع فيه الخلاف وانتشر حتى صار مذكورا مسموعا من العامة فضلا عن الخواص في قوله عليه السلام:

محمد النبي أخي وصنوي  *  وحمزة سيد الشهداء عمي

وجعفر الذي أضحى وأمسى  *  يطير مع الملائكة ابن أمي

وبنت محمد سكني وعرسي  *  منوط لحمها بدمي ولحمي

وسبطا أحمد ولداي منها  *  فأيكم له سهم كسهمي

سبقتكم إلى الإسلام طرا  *  على ما كان من فهمي وعلمي

وأوجب لي ولايته عليكم  *  رسول الله يوم غدير خم

فويل ثم ويل ثم ويل  *  لمن يلقى الإله غدا بظلمي

وفي هذا الشعر كفاية في البيان عن تقدم إيمانه عليه السلام وأنه وقع مع المعرفة بالحجة والبيان، وفيه أيضا أنه كان الإمام بعد الرسول صلى الله عليه وآله بدليل المقال الظاهر في يوم الغدير الموجب للاستخلاف.

ومما يؤيد ما ذكرناه ما رواه عبد الله بن الأسود الكندي عن محمد بن عبد الله ابن أبي رافع عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وآله صلى يوم الاثنين وصلت خديجة رضوان الله عليها معه ودعا عليا عليه السلام إلى الصلاة معه يوم الثلاثاء، فقال له: أنظرني حتى ألقى أبا طالب، فقال له النبي صلى الله عليه وآله: إنها أمانة، فقال علي عليه السلام: فإن كانت أمانة فقد أسلمت لك، فصلى معه وهو ثاني يوم المبعث.

وروى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس مثله، وقال في حديثه: إن هذا دين يخالف دين أبي حتى أنظر فيه وأشاور أبا طالب. فقال له النبي صلى الله عليه وآله: أنظر واكتم، قال: فمكث هنيأة ثم قال: بل أجيبك وأصدق بك، فصدقه وصلى معه. وروى هذا المعنى بعينه وهذا المقال من أمير المؤمنين عليه السلام على اختلاف في اللفظ واتفاق في المعنى، جماعة كثيرة من حملة الآثار. وهو يدل على أن أمير المؤمنين عليه السلام كان مكلفا عارفا في تلك الحال بتوقفه واستدلاله وتميزه بين مشورة أبيه وبين الإقدام على القبول والطاعة للرسول صلى الله عليه وآله من غير فكرة ولا تأمل، ثم خوفه إن ألقى ذلك إلى أبيه أن يمنعه منه مع أنه حق فيكون قد صد عن الحق فعدل عن ذلك إلى القبول وعلم من النبي صلى الله عليه وآله مع أمانته وما كان يعرفه من صدقه في مقاله وما سمعه من القرآن الذي نزل عليه وأراه الله من برهانه أنه رسول محق فآمن به وصدقه، وهذا بعد أن ميز بين الأمانة وغيرها وعرف حقها وكره أن يفشي سر رسول الله صلى الله عليه وآله وقد ائتمنه عليه وهذا لا يقع اتفاقا من صبي لا عقل له ولا يحصل ممن لا تمييز معه. ويؤيد أيضا ما ذكرناه أن النبي صلى الله عليه وآله بدأ به في الدعوة قبل الذكور كلهم وإنما أرسله الله تعالى إلى المكلفين، فلو لم يعلم أنه عليه السلام عاقل مكلف لما افتتح به أداء رسالته وقدمه في الدعوة على جميع من بعث إليه لأنه لو كان الأمر على ما ادعته الناصبة لكان قد عدل عن الأولى وتشاغل بما لم يكلفه عن أداء ما كلفه ووضع فعله في غير موضعه ورسول الله صلى الله عليه وآله عن ذلك. وشيء آخر وهو أنه دعا عليا عليه السلام في حال كان مستترا فيها بدينه كاتما لأمره خائفا إن شاع من عدوه، فلا يخلو أن يكون قد كان واثقا من أمير المؤمنين عليه السلام بكتم سره وحفظ وصيته وامتثال أمره وحمله من الدين ما حمله، أو لم يكن واثقا بذلك، فان كان واثقا فلم يثق به عليه السلام إلا وهو في نهاية كمال العقل وعلى غاية الأمانة وصلاح السريرة والعصمة والحكمة وحسن التدبير لان الثقة بما وصفناه دليل على جميع ما شرحناه على الحال التي قدمنا شرحها، وإن كان غير واثق من أمير المؤمنين عليه السلام بحفظ سر وغير آمن من تضييعه وإذاعة أمره فوضعه عنده من أعظم الجهل والتفريط وضد الحزم والحكمة والتدبير حاشا الرسول صلى الله عليه وآله من ذلك ومن كل صفة نقص، وقد أعلى الله تعالى عز وجل رتبته وأكذب مقال من ادعى ذلك فيه.

وإذا كان الأمر على ما بيناه فما نرى الناصبة قصدت الطعن في إيمان أمير المؤمنين عليه السلام إلا عيب الرسول صلى الله عليه وآله والذم لأفعاله ووصفه بالعبث والتفريط ووضع الأشياء غير مواضعها والإزراء عليه في تدبيراته، وما أراد مشايخ القوم ومن ألقي هذا المذهب إليهم إلا ما ذكرناه والله متم نوره ولو كره الكافرون.

- فيما نظمه الكميت في أحقية آل محمد بمقام النبي والرد على قول الجاحظ فيه
- طرف فيما احتج به من المتقدمين على إمامة أمير المؤمنين بالنص
- الفصول المختارة- الشيخ المفيد  ص 286، 290:

فصل: وسمعت الشيخ أدام الله عزه يقول: ومما يشهد بان آل محمد صلوات الله عليهم أحق بمقام النبي صلى الله عليه وآله ممن عداهم من سائر الناس في النظم الذي قد ضمن أوفى الاحتجاج، قول الكميت بن زيد الأسدي رحمه الله:

يقولون لم يورث ولولا تراثه  *  لقد شركت فيه بكيل وأرحب

وعك ولخم والسكون وحمير  *  وكندة والحيان بكر وتغلب

ولا انتشلت عضوين منها يحابر  *  وكان لعبد القيس عضو مورب

ولا انتقلت من خندف في سواهم  *  ولا اقتدحت قيس بها ثم أثقبوا

ولا كانت الأنصار فيها أذلة  *  ولا غيبا عنها إذ الناس غيب

هم شهدوا بدرا وخيبر بعدها  *  ويوم حنين والدماء تصبب

وهم رئموها غير ظئر وأشبلوا  *  عليها بأطراف القنا وتحدبوا

فان هي لم تصلح لحي سواهئم  *  فان ذوى القربى أحق وأوجب

وقد كان الجاحظ قال في بعض كتبه بجهله وتعصبه على الشيعة وعناده: إنه لولا الكميت وما احتج به في هذا القول لم تعرف الشيعة وجه الحجة في تقديم آل محمد عليه السلام، وهذا ينضاف إلى حماقاته في الديانة واختياراته الملائمة لسخف عقله، وكيف يجوز أن يذهب مثل هذا على الشيعة وأمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام إمام الشيعة قد احتج به على معاوية في جواب كتابه إليه الذي يقول فيه: "لكل الخلفاء حسدت وعلى كلهم بغيت تقاد إلى بيعتهم وأنت كاره كما يقاد الجمل المخشوش" فأجابه أمير المؤمنين عليه السلام عن هذا الفصل بان قال له: "حاشا لله أن يكون الحسد من خلقي والبغي من شيمتي بل ذلك من خلقك وخلق أبيك وأهل بيتك وشيمتهم إذ حسدتم رسول الله صلى الله عليه وآله على ما آتاه الله من فضله، فنصبتم له الحرب وكنتم أصحاب رايات أعدائه في كل موطن وبغيتم عليه حتى أظفره الله بكم" في كلام يتصل بهذا. ثم قال عليه السلام: "أما كراهتي لأمر القوم فإني لست أتبرأ منه ولا أنكره وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وآله قبضه الله إليه ونحن أهل بيته أحق الناس به فقلنا لا يعدل الناس عنا ولا يبخسونا حقنا، فما راعنا إلا والأنصار قد صارت إلى سقيفة بني ساعدة يطلبون هذا الأمر فصار أبو بكر إليهم وعمر فيمن تبعهما، فاحتج أبو بكر عليهم بان قريشا أولى بمقام رسول الله صلى الله عليه وآله منهم لان رسول الله صلى الله عليه وآله كل من قريش وتوصل بذلك إلى الأمر دون الأنصار، فان كانت الحجة لأبي بكر بقريش فنحن أحق الناس برسول الله ممن تقدمنا لأننا أقرب من قريش كلها إليه وأخصهم به، وإن لم يكن لنا حق مع القرابة فالأنصار على دعواهم" في كلام يتلو هذا لا حاجة بنا إلى إيراده في هذا المكان. وإنما نظم الكميت معنى كلام أمير المؤمنين عليه السلام في منثور كلامه في الحجة على معاوية فلم يزل آل محمد عليهم السلام بعد أمير المؤمنين عليه السلام يحتجون بذلك ومتكلموا الشيعة قبل الكميت وفي زمانه وبعده وذلك موجود في الأخبار المأثورة والروايات المشهورة. ومن بلغ إلى الحد الذي بلغه الجاحظ في البهت سقط كلامه ولم يجد فرقا بينه وبين من قال: إن أول من فتح باب الحجة للمعتزلة في مذاهبها بشر بن المعتمر في شعره وأنهم كانوا قبل ذلك مقلدة ومن تعاطى منهم الكلام كان سخيف الحجة ضعيف الشبهة حتى اتفق لهم بشر وبنى الناس على شعره . فان قالوا: هذا بهت لأن كتب القوم موجودة قبل بشر تتضمن الحجج والبراهين.

قيل لهم: وما أتى به جاحظكم بهت وعناد لأن أصول الشيعة ورواياتهم وكتب السيرة والمصنفات في الأثر قبل الكميت موجودة فيها احتجاج آل محمد عليهم السلام بالقرابة واعتمادهم في اللصوق بالرسول صلى الله عليه وآله والاختصاص به في النسب، ومن نظر في كتب السقيفة وقول شيعة الصحابة، عرف ذلك وأغناه عن غيره. مع أن من زعم أن احتجاج العلوية والشيعة بالقرابة شيء محدث، لم يكن في منزلة من يناظر لأنه يدفع الاضطرار إذ الجماعة كلها مطبقة على ذلك وقد صار سبقها إليه من جهة العادة كالطبع الذي لا يتوهم من صاحبه خلاف موجبه لاتفاقها بلسان واحد على التعلق به والاعتماد عليه.

وسمعت الشيخ أيده الله تعالى يقول: ومما يشهد لإمامة أمير المؤمنين عليه السلام ويؤيد القول بصحة وجود السلف للشيعة في الصدر الأول من النظم المتفق على نقله أيضا قول أمير المؤمنين عليه السلام بصفين وهو يرتجز للمبارزة:

أنا علي صاحب الصمصامة  *  وصاحب الحوض لدى القيامة

أخو نبي الله ذي العلامة  *  قد قال إذ عممني العمامة

أنت أخي ومعدن الكرامة  *  ومن له من بعدي الإمامة

وهذا مع ما فيه من الدلالة على ما قدمناه دليل على أن أمير المؤمنين عليه السلام قد ذكر النص واحتج به، وفيه إبطال قول الناصبة إنه لم يذكره في مقام من مقاماته.

قال الشيخ أيده الله: ومما جاء في هذا المعنى ما قد تقدم ذكره في الأشعار السابقة في تقدم إيمانه عليه السلام، وأنا أذكر المواضع منها دون جملتها وإن كنت قد شرحت ذلك فيما مضى وتكراره هنا للتأكيد والبيان.

فمنه قول عبد الله بن أبي سفيان بن الحرث بن عبد المطلب:

وكان ولي الأمر بعد محمد  *  علي وفي كل المواطن صاحبه

فشهد بان أمير المؤمنين عليه السلام كان خليفة رسول الله صلى الله عليه وآله دون من تقدم عليه، بشهادته أنه كان ولي الامر من بعده.

ومنه قول جرير بن عبد الله:

فصلى الإله على أحمد  *  رسول المليك تمام النعم

وصلى على الطهر من بعده  *  خليفته القائم المدعم

عليا عنيت وصي النبي  *  يجالد عنه غواة الأمم

وهذا قطع على إمامة أمير المؤمنين عليه السلام لا ريب فيه على عاقل في قصد قائله وغرضه والإبانة عن معتقده في أنه الخليفة للرسول صلى الله عليه وآله بلا فصل والإمام من بعده، فأما الأشعار بأنه الوصي دون الجماعة والإطباق من الكافة على ذلك، يغنى عن تفصيله بتسمية الرجال وفي ثبوته دليل على القول بإمامته عليه السلام إذ كان وصي النبي صلى الله عليه وآله في أهله وتركاته هو الخليفة له لاستحالة أن يكون إمامان في زمان واحد وخليفتان للنبي صلى الله عليه وآله على أمته في وقت واحد.

- ما جاء به الأثر من النظم مما يشهد لقول الشيعة في معنى المولى وأن النبي أراد به يوم الغدير الإمامة
- الفصول المختارة- الشيخ المفيد  ص 290، 291:

فصل: قال الشيخ أيده الله: ومما يشهد لقول الشيعة في معنى المولى وأن النبي صلى الله عليه وآله أراد به يوم الغدير الإمامة، قول حسان بن ثابت على ما جاء به الأثر أن رسول الله صلى الله عليه وآله لما نصب عليا عليه السلام يوم الغدير للناس علما وقال فيه ما قال، استأذنه حسان بن ثابت في أن يقول شعرا في ذلك المقام فأذن له فأنشا يقول:

يناديهم يوم الغدير نبيهم  *  بخم وأسمع بالنبي مناديا

يقول فمن موليكم ووليكم  *  فقالوا ولم يبدوا هناك التعاديا

إلهك مولانا وأنت ولينئا  *  ولن تجدن منا لك اليوم عاصيا

فقال له قم يا علي فإنني  *  رضيتك من بعدي إماما وهاديا

فمن كنت مولاه فهذا وليه  *  فكونوا له أنصار صدق مواليا

هناك دعا اللهم وال وليه  *  وكن للذي عادى عليا معاديا

فلما فرغ من هذا القول قال له النبي صلى الله عليه وآله: "لا تزال يا حسان مؤيدا بروح القدس ما نصرتنا بلسانك" فلولا أن النبي صلى الله عليه وآله أراد بالمولى الإمامة لما أثنى على حسان بإخباره بذلك ولأنكره عليه ورده عنه.

ومنه قول قيس بن سعد بن عبادة رحمه الله وهو متوجه إلى صفين قصيدته اللامية التي أولها:

قلت لما بغى العدو علينا  *  حسبنا ربنا ونعم الوكيل

حسبنا ربنا الذي فتح البص‍  *  رة بالأمس والحديث طويل

إلى قوله:

وعلي إمامنا وإمام  *  لسوانا أتى به التنزيل

يوم قال النبي من كنت مو  *  لاه فهذا مولاه خطب جليل

إنما قاله النبي على الأمـ‍  *  ـة حتما ما فيه قال وقيل

وهذه الأشعار مع تضمنها الاعتراف بإمامة أمير المؤمنين عليه السلام فهي دلائل على ثبوت سلف الشيعة وإبطال عناد المعتزلة في إنكارهم ذلك.

- ما جاء به الأثر من النظم مما يشهد للشجاعة أمير المؤمنين وعظم بلائه في الجهاد ونكايته في الأعداء
- الفصول المختارة- الشيخ المفيد  ص 292، 95:

فصل: قال الشيخ أيده الله: ومما يشهد بشجاعة أمير المؤمنين عليه السلام وعظم بلائه في الجهاد ونكايته في الأعداء من النظم الذي يشهد بصحة النثر في النقل، قول أسيد بن أبي أياس بن زنيم بن محمد بن عبد العزى يحرض مشركي قريش على أمير المؤمنين عليه السلام:

في كل مجمع غاية أخزاكم  *  جذع أبر على المذاكي القئرح

لله دركم ألما تنكروا  *  قد ينكر الحر الكريم ويستحي

هذا ابن فاطمة الذي أفناكم  *  ذبحا ويمسي سالما لم يذبح

أعطوه خرجا واتقوا بضريبة  *  فعل الذليل وبيعة لم تربح

ابن الكهول وابن كل دعامة  *  في المعضلات وابن زين الأبطح

أفناهم قعصا وضربا يفتري  *  بالسيف يعمل حده لم يصفح

ومما يشهد لذلك قول أخت عمرو بن ود العامري وقد رأته قتيلا فقالت: من قتله؟ فقيل لها: على بن أبي طالب فقالت:كفو كريم ثم أنشات تقول:

لو كان قاتل عمرو غير قاتله  *  لكنت أبكي عليه آخر الأبد

لكن قاتله من لا يعاب به  *  من كان يدعى قديما بيضة البلد

أفلا ترى إلى قريش كيف تحرض عليه بذكر من قتله وكثرتهم وفناء رؤسائهم بسيفه وقتله لشجعانهم وأبطالهم ثم لا يجسر أحد من القوم أن ينكر ذلك ولا ينفع في جماعتهم التحريض لعجزهم عنه عليه السلام، أو لا ترى أنه عليه السلام قد بلغ من فضله في الشجاعة أنها قد صارت تفخر بقتله من قتل منها وتنفي العار عنه بإضافته إليه، وهذا لا يكون إلا وقد سلم الجميع له واصطلحوا على إظهار العجز عنه. وقد روى أهل السير أن أمير المؤمنين عليه السلام لما قتل عمرو بن عبد ود، نعي إلى أخته فقالت:

لم يعد يومه على يد كفو كريم لأرقات دمعتي إن هرقتها عليه قتل الأبطال وبارز الأقران وكانت منيته على يد كفو كريم ما سمعت بأفخر من هذا يا بني عامر ثم أنشات تقول:

أسدان في ضيق المكر تصاولا  *  وكلاهما كفو كريم باسل

فتخالسا مهج النفوس كلاهما  *  وسط المدار مخاتل ومقاتل

وكلاهما حفر القراع حفيظة  *  لم يثنه عن ذاك شغل شاغل

فاذهب علي فما ظفرت بمثله  *  قول سديد ليس فيه تحامل

فالثار عندي يا علي فليتني  *  أدركته والعقل مني كامل

ذلت قريش بعد مقتل فارس  *  فالذل مهلكها وخزي شامل

ثم قالت:

والله لا ثأرت قريش بأخي ما حنت النيب.

وقد كان حسان بن ثابت افتخر للإسلام بقتل عمر بن عبد ود فقال في ذلك أقوالا كثيرة منها:

أمسى الفتى عمرو بن عبد يبتغى  *  بجنوب يثرب غارة لم تنظر

فلقد وجدت سيوفنا مشهورة  *  ولقد رأيت جيادنا لم تقصر

ولقد لقيت غداة بدر عصبة  *  ضربوك ضربا غير ضرب الحسر

أصبحت لا تدعى ليوم عظيمة  *  يا عمرو أو لجسيم أمر منكر

فلما بلغ شعره بني عامر قال فتى منهم يرد قوله في ذلك:

كذبتم وبيت الله لم تقتلوننا  *  ولكن بسيف الهاشميين فافخروا

بسيف ابن عبد الله أحمد في الوغى  *  بكف علي نلتم ذاك فاقصروا

فلم تقتلوا عمر بن ود ولا ابنه  *  ولكنه الكفو الهزبر الغضنفر

علي الذي في الفخر طال بناؤه  *  فلا تكثروا الدعوى علينا فتفخروا

ببدر خرجتم للبراز فردكم  *  شيوخ قريش جهرة وتأخروا

فلما أتاهم حمزة وعبيدة  *  وجاء علي بالمهند يخطر

فقالوا نعم أكفاء صدق وأقبلوا  *  إليهم سراعا إذ بغوا وتجبروا

فجال علي جولة هاشمية  *  فدمرهم لما عتوا وتكبروا

فليس لكم فخر علينا بغيرنا  *  وليس لكم فخر يعد ويذكر

وقد جاء الأثر من طرق شتى بأسانيد مختلفة عن زيد بن وهب قال: سمعت عليا عليه السلام يقول وقد ذكر حديث بدر فقال: قتلنا من المشركين سبعين وأسرنا سبعين، وكان الذي أسر العباس رجل قصير من الأنصار فأدركته فألقى العباس علي عمامته لئلا يأخذها الأنصاري وأحب أن أكون أنا الذي أسرته، وجيء به إلى رسول الله صلى الله عليه وآله فقال الأنصاري: يا رسول الله قد جئتك بعمك العباس أسيرا، فقال العباس: كذبت ما أسرني إلا ابن أخي علي بن أبي طالب، فقال له الأنصاري: يا هذا أنا أسرتك. فقال: والله يا رسول الله ما أسرني إلا ابن أخي علي بن أبي طالب ولكأني بجلحته في النقع تبين لي، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: صدق عمي ذاك ملك كريم، فقال العباس: لقد عرفته بجلحته وحسن وجهه، فقال له: إن الملائكة الذين أيدني الله بهم على صورة علي بن أبي طالب ليكون ذلك أهيب لهم في صدور الأعداء، قال: فهذه عمامتي على رأس علي فمره فليردها علي فقال: ويحك إن يعلم الله فيك خيرا يعوضك أحسن العوض.

أفلا ترون أن هذا الحديث يؤيد ما تقدم ويؤكد القول بان أمير المؤمنين كان أشجع البرية وأنه بلغ من بأسه وخوف الأعداء منه عليه السلام أن جعل الله الملائكة على صورته ليكون ذلك أرعب لقلوبهم وإن هذا المعنى لم يحصل لبشر من قبله ولا بعده.

ويؤيد ما رويناه ما جاء من الأثر عن أبى جعفر محمد بن علي عليه السلام في حديث بدر، قال: لقد كان يسأل الجريح من المشركين فيقال له من جرحك؟ فيقول: علي بن أبي طالب فإذا قالها مات.

وفي بلاء أمير المؤمنين عليه السلام يوم بدر يقول أبو هاشم السيد إسماعيل بن محمد الحميري رحمه الله:

من كعلي الذي تبارزه الأ  *  قران إذ بالسيوف تصطلم

إذا لوغى نارها مسعرة  *  تحرق فرسانها إذا اقتحموا

في يوم بدر وفي مشاهده ال‍ـ  *  ـعظمى ونار الحروب تضطرم

بارز أبطالها وسادتها  *  قعصا لهم بالحسام قد علموا

دعوه كي يدركون غرتئه  *  فما تملوا منه ولا سلموا

جد بسيف النبي هامات أقـ‍  *  وام هم سادة وهم قدم

سيدنا الماجد الجليل أبوالس‍  *  بطين رأس الأنام والعلم

إن عليا وإن فاطمة  *  إن سبطيهما وإن ظلموا

لصفوة الله بعد صفوته  *  لا عرب مثلهم ولا عجم

- أمير المؤمنين أعلم الصحابة وما رواه العام بخلاف ذلك ساقط
- الفصول المختارة- الشيخ المفيد  ص 337، 340:

فصل: ومن حكايات الشيخ وكلامه قال: سألني أبو الحسن علي بن نصر الشاهد بعكبرا في مسجده وأنا متوجه إلى سر من رأى فقال: أليس قد ثبت عندنا أن أمير المؤمنين عليه السلام كان أعلم الصحابة كلها وأعرفها بمعالم الدين وكانوا يستفتونه ويتعلمون منه لفقرهم إليه، وكان غنيا عنهم لا يرجع إلى أحد منهم في علم الدين ولا يستفيده عليه السلام منهم؟

فقلت: نعم هذا قولنا وهذا الواضح الذي لا خفاء به ولا يمكن عاقل دفعه ولا يقدم أحد على إنكاره إلا أن يرتكب البهت والمكابرة.

فقال أبو الحسن: فإن بعض أهل الخلاف قد احتج علي في دفع هذا بأن قال: قد وردت الرواية عن علي عليه السلام أنه قال: "ما حدثني أحد بحديث إلا استحلفته عليه ولقد حدثني أبو بكر وصدق أبو بكر"، فلو كان يعلم صلوات الله عليه جميع الدين ولا يفتقر إلى غيره لما احتاج إلى استحلاف من يحدثه ولا الاستظهار في يمينه ليصح عنده علم ما أخبر به.

وقد روي أيضا أنه عليه السلام حكم في شيء فقال له شاب من القوم: أخطأت يا أمير المؤمنين. فقال عليه السلام له: صدقت أنت وأخطأت، فماذا يكون الجواب عن هذا الكلام وكيف الطريق إلى حله؟.

فقلت له: أول ما في هذا الكلام أن الأخبار لا تتقابل ويحكم ببعضها على بعض حتى تتساوى في الصفة فيكون الظاهر المستفيض مقابلا لمثله في الاستفاضة والمتواتر مقابلا لمثله في التواتر والشاذ مقابلا لمثله في الشذوذ. وما ذكرناه عن مولانا عليه السلام مستفيض قد تواتر به الخبر على التحقيق، وما ذكره هذا الرجل عنه عليه السلام من الحديثين، فأحدهما شاذ وارد من طريق الآحاد غير مرضي الإسناد، والآخر ظاهر البطلان لانقطاع إسناده وعدم وجوده في نقل معروف من الثقات، وليس يجوز المقابلة في مثل هذه الأخبار بل الواجب إسقاط الظاهر منها الشاذ وإبطال المتواتر ما ضاده من الآحاد.

والثاني إن لما ذكره الخصم من الحديث الأول عن أمير المؤمنين عليه السلام غير وجه يلائم ما ذكرناه من فضل مولانا أمير المؤمنين عليه السلام في العلم على سائر الأنام: منها أنه عليه السلام إنما كان يستحلف على الأخبار لئلا يجتري مجتر على الإضافة إلى رسول الله صلى الله عليه وآله بالسماع ما لم يسمعه منه وإنما ألقي إليه عنه فحصل عنده بالبلاغ.

ومنها أنه كان يستحلف مع العلم بصدق المخبر ليتأكد خبره عند غيره من السامعين فلا يشك فيه ولا يرتاب.

ومنها أنه عليه السلام استحلف فيما عرفه يقينا ليكون ذلك حجة له إذا حكم به على أهل العناد ولا يقول قائل منهم عند حكمه بذلك قد حكم بالشاذ.

ومنها انه يكون استحلافه عليه السلام للخبر بما لا يتضمن حكما في الدين ويتضمن أدبا وموعظة أو لفظة حكمة أو مدحة لإنسان أو مذمة فلا يجب إذا علم ذلك من غيره أن يكون فقيرا في علم الدين إليه وناقصا في العلم عن رتبته.

على أن لفظ الحديث "ما حدثني أحد بحديث إلا استحلفته" فهذا يوجب بالضرورة أنه كان يستحلف على ما يعلم لانه محال أن يكون كل من حدثه حدثه بما لا يعلم، وإذا ثبت أنه قد استحلف على علم لأحد ما ذكرناه أو لعلة من العلل بطل ما اعتمده هذا الخصم.

وأما الحديث الثاني فظهور بطلانه أوضح من أن يخفى وذلك أنه قال فيه: إن شابا قال له: ليس الحكم فيه ذلك، فقال أمير المؤمنين عليه السلام على ما زعم الخصم: أصبت أنت وأخطأت، وهذا واضح السقوط على ما بيناه لانه لا يخلو عليه السلام أن يكون حكم بالخطأ مع علمه بأنه خطأ، أو يكون حكم بالخطأ وهو يظن أنه صواب فإن كان حكم بالخطأ على علم بأنه خطأ عاند في دين الله وضل بإقدامه على تغيير حكم الله وهو عليه السلام يجل عن هذه الرتبة ولا يعتقد مثل هذا فيه الخوارج فضلا عمن دونهم في عداوته من الناصبة، وإن كان حكم بالخطأ وهو يظن أنه صواب فكيف زال ظنه عن ذلك وانتقل عنه بقول رجل واحد لا يعضده برهان وهذا مما لا يتوهم على أحد من أهل الأديان. على أنه لو كان لهذا الحديث أصل أو كان معروفا عند أحد من أهل الآثار لكان الرجل معروفا مشهورا بالعين والنسب مشهور القبيلة والمكان، ولكان أيضا الحكم الذي جرى فيه هذا الأمر مشهورا عند الفقهاء ومدونا عند أصحاب الأخبار، وفي عدم معرفة الرجل وتعيين الحكم وعدمه من الأصول دليل على بطلانه كما بيناه. على أن الأمة قد اتفقت عنه عليه السلام أنه قال: "ضرب رسول الله صلى الله عليه وآله بيده على صدري وقال: اللهم اهد قلبه وثبت لسانه فما شككت في قضاء بين اثنين" وهذا مضاد لوقوع الخطأ منه عليه السلام في الأحكام ومانع من دخول السهو عليه في شيء منها والارتياب.

وأجمعوا أن النبي صلى الله عليه وآله قال: "علي مع الحق والحق مع علي يدور حيث ما دار" وليس يجوز أن يكون من هذا وصفه يخطئ في الدين أو يشك في الأحكام. وأجمعوا أن النبي صلى الله عليه وآله قال: "علي أقضاكم" وأقضى الناس لا يجوز أن يخطف في الأحكام، ولا أن يكون غيره أعلم منه بشيء من الحكم، فدل بذلك على بطلان ما اعترض به الخصم وكشف عن وهنه على البيان وبالله التوفيق وإياه نستهدي إلى سبيل الرشاد.

وأما التعلق من الخبر بقوله "وصدق أبو بكر" في تعديله وإثبات الإمامة له، فليس بصحيح لانه قد يصدق من لا يستحق الثواب، وقد يحكم بالصدق في الخبر لمن يستحق العقاب، فلا وجه لتعلقه بذلك، مع أن الخبر باطل لا يثبت بأدلة قد ذكرناها في مواضعها والحمد لله.

- كلام في الإمام بعد رسول الله
- الفصول المختارة- الشيخ المفيد  ص 341، 342:

فصل: وحضر الشيخ أبو عبد الله أيده الله بسر من رأى واجتمع عليه من العباسيين وغيرهم جمع كثير فقال له بعض مشايخ العباسيين: أخبرني من كان الإمام بعد رسول الله صلى الله عليه وآله؟ فقال له: كان الإمام من دعاه العباس إلى أن يمد يده لبيعته على حرب من حارب وسلم من سالم.

فقال له العباسي: ومن هذا الذي دعاه العباس إلى ذلك؟ فقال له الشيخ: هو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام حيث قال له العباس في اليوم الذي قبض فيه رسول الله صلى الله عليه وآله بما اتفق عليه أهل النقل: "ابسط يدك يا بن أخ أبايعك فيقول الناس عم رسول الله بايع ابن أخيه فلا يختلف عليك اثنان".

فقال له شيخ من فقهاء أهل البلد: فما كان الجواب من علي؟ فقال له: كان الجواب أن قال له: "إن رسول الله صلى الله عليه وآله عهد إلي أن لا أدعو أحدا حتى يأتوني ولا أجرد سيفا حتى يبايعوني ومع هذا فلي برسول الله شغل".

فقال العباسي: فقد كان العباس رحمه الله إذن على خطأ في دعائه له إلى البيعة.

فقال له الشيخ: لم يخطئ العباس فيما قصد لأنه عمل على الظاهر وكان عمل أمير المؤمنين عليه السلام على الباطن وكلاهما أصاب الحق ولم يخطئه والحمد لله.

فقال له العباسي: فان كان علي بن أبى طالب هو الإمام بعد النبي صلى الله عليه وآله فقد أخطأ أبو بكر وعمر ومن اتبعهما وهذا أعظم في الدين.

فقال له الشيخ: لست أنشط الساعة للفتيا بتخطئة أحد وإنما أجبتك عن شيء سألت عنه، فإن كان صوابا وضمن تخطئة إنسان فلا تستوحش من اتباع الصواب، وإن كان باطلا فتكلم على إبطاله فهو أولى من التشنيع بما لا يجدي نفعا. مع أنه إن استعظمت تخطئة من ذكرت فلابد لك من تخطئة علي والعباس من قبل أنهما قد تأخرا عن بيعة أبي بكر ولم يرضيا بتقدمه عليهما، ولا عملا له ولا لصاحبه عملا، ولا تقلدا لهما ولاية ولا رآهما أبو بكر وعمر أهلا أن يشركاهما في شيء من أمورهما، وخاصة ما صنعه عمر بن الخطاب فإنه ذكر من يصلح للإمامة في الشورى ومن يصلح للنظر في الاختيار فلم يذكر العباس في إحدى الطائفتين ولما ذكر عليا عليه السلام عابه ووصفه بالدعابة تارة وبالحرص على الدنيا أخرى، وأمر بقتله إن خالف عبد الرحمان بن عوف وجعل الحق في حيز عبد الرحمان دونه وفضله عليه. هذا وقد أخذ منه ومن العباس ومن جميع بني هاشم الخمس الذي جعله الله تعالى لهم وأرغمهم فيه وحال بينهم وبينه وجعله في السلاح والكراع، فإن كنت أيها الشيخ أيدك الله تنشط للطعن على علي والعباس بخلافهما للشيخين وكراهتهما لأمارتهما وتأخرهما عن بيعتهما، وترى من العقد فيهما ما سنه الشيخان من أمرهما من التأخير لهما عن شريف المنازل والغض منهما والحط من أقدارهما، فصر إلى ذلك فانه الضلال بغير شبهة، وإن كنت ترى ولايتهما والتعظيم لهما والاقتداء بهما، فاسلك سبيلهما ولا تستوحش من تخطئة من خالفهما، وليس هاهنا منزلة ثالثة.

فقال العباسي عند سماع هذا الكلام: اللهم أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون.

- حوار في معنى المولى في حديث رسول الله في غدير خم من كنت مولاه فعلي مولاه
- أهل اللغة يقرون بتضمن لفظة مولى معنى الإمامة وظهر ذلك وانتشر في أشعارهم وكلامهم
- رسالة في معنى المولى - الشيخ المفيد  ص 16، 17:

بسم الله الرحمن الرحيم

قال الشيخ المفيد رضي الله عنه: أنكر رجل من البهشمية -ضمنا وإياه وجماعة من المعتزلة والمجبرة مجلس- أن يكون قول رسول الله صلى الله عليه وآله: "من كنت مولاه فعلي مولاه" يحتمل الإمامة، أو فرض الطاعة والرئاسة. وقال: غير معروف في اللغة، ولا معلوم عند أهلها، أن (المولى) إمام، ولا مفترض الطاعة، ولا يعبر أحد منهم عن الإمام ب‍  (المولى) ولا عن المفترض الطاعة، إلا إذا كان فرض طاعته من جهة الملك.

وقال: إن أهل اللغة هم الأصل في هذا الباب، وإليهم يرجع في صحته وفساده، وإذا ثبت عنهم ما ذكرناه في نفي معناكم في (مولى) من لفظه، سقط تعلقكم.

فقلت له: ما أنكرت على من قال، لك إنك لم تزد على الدعوى في جميع ما ذكرته شيئا، وأن اللغة وأهلها بخلاف وصفك من إقرارهم بتضمن لفظة (مولى) الإمامة، وعلمهم بذلك وظهوره وانتشاره في أشعارهم، وكثرته في استعمالهم.

- المولى في شعر الأخطل
- رسالة في معنى المولى - الشيخ المفيد  ص 17، 18:

فمن ذلك قول الأخطل وهو يمدح عبد الملك بن مروان، حيث يقول:

فما وجدت فيها قريش لأمرها  *  أعف وأوفى من أبيك وأمجدا

فأورى بزنديه ولو كان غيره  *  غداة اختلاف الناس أكدى وأصلدا

فأصبحت مولاها من الناس كلهم  *  وأحرى قريش أن تهاب وتحمدا

فوصفه بأنه أصبح إمامها ورئيسها من بين كل الناس بلفظة (مولاها). والأخطل من لا يطعن عليه في العربية، ولا يمكن تخطئته فيما علم من جهة اللغة، كان أحد شعراء العرب وفصحائهم، والمبرزين في معرفة العربية...

- رسالة في معنى المولى - الشيخ المفيد  ص 21:

فقال: جميع ما ذكرت لا دليل فيه على صحة ما ذهبت إليه، وذلك أن ما بدأت فيه من شعر الأخطل فإن المكنى عنه ب‍  (الهاء) التي في مولاها هي الأمة ، لأنه عنى بقوله: (فأصبحت مولاها) ناصر الأمة، والذاب عنها بولايتك، هي دون أن يكون عنى الإمامة. وكيف يكون مراده في هذا الباب الإمامة، و (الهاء) على ما قدمنا كناية عن الأمة، ولو كان أراد ذلك لكان معنى كلامه فأصبحت إمام الأمة، وهذا مما لا يتلفظ به عاقل...

- رسالة في معنى المولى - الشيخ المفيد  ص 22:

فقلت: ما أنكرت على من قال لك: إن ما تأولت به شعر الأخطل، ورمت بالالتجاء إليه إفساد تعلقنا به واضح البطلان، وذلك أن (الهاء) إنما هي كناية عمن تقدم وصفه دون ما لم يتقدم، بل لم يجر ذكره ألبتة. ألا ترى أنه قد بدأ بذكر قريش فقال: فما وجدت فيها قريش لأمرها. إلى آخر كلامه. ثم قال على النسق: فأصبحت مولاها، من غير خلط للأمة بذكر قريش أو غيرها، مما يصح أن يكنى ب‍  (الهاء) عنه. فكيف يمكن تأويلك على ما تأولت مع أنه لو كان على ما ذهبت إليه ، لخرج الكلام من حد المدح المخصص أو تناقض في اللفظ، ودل على فساد الغرض، وذلك أن نصرة الأمة لم تكن مقصورة عليه دون غيره كما ليست مقصورة على سائر الأئمة دون جماعة المسلمين، بل قصرها على مذهبك يجب أن يكون على غير الإمام من العاقدين له، لأنها بعقدهم يثبت، وباختيارهم يصح، مع كونهم من وراء الإمام، لتأديبه عند الغلط، وتقويمه عند الاعوجاج والزلل، فكان لا يبين منهم مما خصه به من المدح، بل يكون الخاص له بذلك سفيها في قصده، جاهلا في غرضه مع استحالة قوله: "فأصبحت مولاها" مبينا له ذلك بعد العقد دون ما قبله، وهو على ما ذهبت إليه عنى أمرا قد كان حاصلا له لا محالة عند الخلق قبل العقد من النصرة التي يشترك فيها جميع أهل الإسلام، وهذا باب يكشف عن صحة القول فيه تأمل شعر المادح، ويستدل على أغراضه، ويعرف به حقيقة ما قلناه عند الإنصاف دون ما تأولت.

- المولى في شعر الكميت بن زيد
- رسالة في معنى المولى - الشيخ المفيد  ص 18، 19:

والكميت بن زيد، وهو ممن استشهد بشعره في كتاب الله عز وجل، وأجمع أهل العلم على فصاحته ومعرفته باللغة، ورئاسته في النظم، وجلالته في العرب، حيث يقول في قصيدته المشهورة:

ويوم الدوح دوح غدير خم  *  أبان له الولاية لو أطيعا

ولكن الرجال تبايعوها  *  فلم أر مثلها خطرا مبيعا

فلم أبلغ به لعنا ولكن  *  أساء بذاك أولهم صنيعا

وأوجب له الإمامة بخبر الغدير، ووصفه بالرئاسة من جهة (المولى). وليس يجوز على الكميت مع جلالته في اللغة والعربية وضع عبارة على معنى لم يوضع عليه قط في اللغة، ولا استعملها قبله فيه أحد من أهل العربية، ولا عرفتها شيء عنه (كذا) كما وصفت أحد منهم، لأنه لو جاز ذلك عليه جاز على غيره ممن هو مثله، وفوقه، ودونه حتى يفسد اللغة بأسرها، ولا يكون لنا طريق إلى معرفة لغة العرب على الحقيقة، وينغلق الباب في ذلك...

- رسالة في معنى المولى - الشيخ المفيد  ص 22:

فأما شعر الكميت الذي ذكر فيه (مولى)، فإنه لا حجة فيه، من قبل إنه خبر عن اعتقاده في معنى خبر الغدير، والعرب ليس يعصمها فصاحتها من الغلط في الاعتقاد، وإنما كان يسوغ لك التعلق بالكميت لو ضمن شعره الذي ذكر خبرا عن العرب، فأما وهو عن عقده كما شاء فليست فيه حجة.

وكذلك أيضا ما ذكرته عن قيس إن صح، فهو خبر عن عقده دون العرب كافة، وأهل الفصاحة عامة...

- رسالة في معنى المولى - الشيخ المفيد  ص 23، 25:

فأما اعتذارك في شعر الكميت بذكر عقده، وجواز الغلط في العقد، فإنه من أعجب شيء، وذلك أن عقده في معنى اللفظ لم يكن من طريق العقول ولا القياس، فتجيز عليه الغلط فيه، وإنما كان من جهة اللغة إذ كانت معاني الألفاظ لا يرجع أحد من أهل العقل في عبارتها المستحقة لها إلى غير اللسان، فلو جاز أن يتوهم على الكميت أن يغلط في اعتقاده معنى لفظ (المولى) حتى يجعله عند نفسه ما لم يجعله عربي قبله قط مع جلالته في اللغة لجاز أن يتوهم على جرير والأخطل، والفرزدق. بل على من تقدمهم مثل امرئ القيس، وزهير ونحوهما من شعراء الجاهلية وضع (رجل) و (فرس) و (حمار) على ما لم يضعه أحد من العرب قبلهم عليه، بل لا ينكر أن يكون من تقدم هؤلاء أيضا قد فعلوا ذلك ومثله، وهذا هو الذي قدمناه من غلق باب اللغة والحيلة من إفساد الشريعة ، وهو يكفي في إسقاط ما ذكرته عن القيس إذ كان شيئا واحدا.

- المولى في شعر قيس بن سعد بن عبادة
- رسالة في معنى المولى - الشيخ المفيد  ص 19، 20:

ثم من تقدم هذين الرجلين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله، وفصحاء العرب الذين تحدوا بالقرآن، وكان علامة إعجازه عجزهم عنه، وقد شهدوا رسول الله صلى الله عليه وآله يقول هذا الكلام في أمير المؤمنين عليه السلام، ووصفه به، وفهموا معناه، واضطروا إلى قصده فيه، لمشاهدتهم مخارج ألفاظه ومعاينتهم إشاراته، واضطرارهم بتحصيل ذلك إلى مراده، كقيس بن سعد بن عبادة رحمه الله حيث يقول في قصيدته التي لا يشك أحد من أهل النقل فيها، والعلم بها من قوله كالعلم بنصرته أمير المؤمنين عليه السلام وحربه أهل صفين والبصرة معه، وهي التي أولها:

قلت لما بغى العدو علينا  *   حسبنا ربنا ونعم الوكيل

حسبنا ربنا الذي فتح البصرة  *  بالأمس والحديث طويل

حتى انتهى إلى قوله:

وعلي إمامنا وإمام  *  لسوانا أتى به التنزيل

يوم قال النبي من كنت مولا  *  ه فهذا مولاه خطب جليل

إن ما قاله النبي على الأمة  *  حتم ما فيه قال وقيل

فيشهدها هكذا شهادة قاطعة بإمامة أمير المؤمنين عليه السلام من جهة خبر يوم الغدير، ويصرح بأن المقول فيه يوجب رئاسته على الكل، وإمامته عليه. هذا مع صحبته رسول الله صلى الله عليه وآله، ورئاسته في الأنصار ومشاهدته الحال كما قدمنا بدءا.

- المولى في شعر حسان بن ثابت
- رسالة في معنى المولى - الشيخ المفيد  ص20:

ثم حسان بن ثابت وشعره المشهور في ذلك، وهو شاعر رسول الله صلى الله عليه وآله المقدم في الفصاحة في الجاهلية والإسلام، وقد قال له رسول الله صلى الله عليه وآله: "لا تزال مؤيدا بروح القدس ما نصرتنا بلسانك"...

- رسالة في معنى المولى - الشيخ المفيد  ص 22:

فأما حسان فقد كفينا التعلق به لشهرة مذهبه في أبي بكر وعمر وعثمان مما ينفي ما يدعى عليه في القول بإمامة علي بعد رسول الله صلى الله عليه وآله...

- رسالة في معنى المولى - الشيخ المفيد  ص 25:

فأما ما دفعت به حكايتنا عن حسان بمذهبه المشهور، فليس بشيء يعتمد عليه، وذلك أنه لا يمتنع عندي وعندك، بل عند كل أهل العقل أن يعتقد الإنسان مذهبا في وقت، ثم ينصرف عنه إلى غيره في وقت آخر، ويظهر قولا في زمان، ثم يظهر ضده في زمان آخر، وهو قول حسان المتضمن للشهادة على إمامة علي عليه السلام بخبر الغدير بعينه عند القول، وذلك أن الرواية جاءت بأنه استأذن رسول الله صلى الله عليه وآله عندما سمع منه في أخيه أمير المؤمنين عليه السلام أن يقول شعرا، فأذن له فقال ذلك الشعر، وليس بمنكر أن يؤثر الدنيا بعده، ويرغب عن الآخرة فيمدح أعداءه ويذمه هو بعد أن مدحه. وقد كان زياد بن مرجانة بلا خلاف بين الأمة من شيعة أمير المؤمنين عليه السلام، ومن أشد الناس حبا له وولاية في الظاهر، ثم آل أمره إلى التشيع لعثمان والإغراق في مدحه، وذم أمير المؤمنين عليه السلام والإغراق في سبه، فما ينكر أن يكون حال حسان كحاله، ولا يستحيل صحة هذا الشعر منه.

- روت الشيعة بأجمعها عن أسلافها إلى أن ينتهي إلى عصر رسول الله إن الذي جعله رسول الله لعلي في يوم الغدير هو الإمامة وفي جملتهم أهل بيت رسول الله جميعا يدعون ذلك ويصححونه ويعتمدون عليه في إمامة أبيهم أمير المؤمنين
- رسالة في معنى المولى - الشيخ المفيد  ص 21:

هذا مع رواية الشيعة بأجمعها عن أسلافها، إلى أن ينتهي إلى عصر رسول الله صلى الله عليه وآله إن الذي جعله رسول الله صلى الله عليه وآله لعلي عليه السلام في يوم الغدير هو الإمامة، فإن الذي ضمنه لفظة (مولى) هو الرئاسة، وفي جملتهم أهل بيت رسول الله عليهم السلام جميعا يدعون ذلك، ويصححونه ويعتمدون عليه في إمامة أبيهم أمير المؤمنين عليه السلام، وليس يمكن عاقلا دفع أحد منهم عن العلم بالعربية، والاضطلاع باللغة، إذ كانوا أهلها، وعنهم أخذ أكثرها، فلو لم يكن مع أصحابنا غير النقل في هذا الباب لأغناهم عن الأشعار، واستشهاد أقوال أعيانهم من أهل اللغة، فكيف ومعهم جميع ذلك، وهذا يكشف عن خطأ دعواك على أهل اللغة، واعتمادك على فساد قولنا من جهتهم...

- رسالة في معنى المولى - الشيخ المفيد  ص 22:

فأما ما ذكرت عن الشيعة فلسنا ندفع أكثرهم عن الفصاحة، ولكنا ندفع جميعهم عن صحة عقد في معنى لفظة (مولى) إذا اعتقدوا فيها الإمامة، وإذا كان الأمر على ذلك، فقد صح ما ذهبنا إليه في هذا الباب...

- رسالة في معنى المولى - الشيخ المفيد  ص 26:

فأما قولك: إن الشيعة ليس يدفع فصاحة أكثرها، غير أن ما تدعيه في لفظ (مولى) غلط منها من جهل العقد، فالكلام فيه كالكلام في باب قيس والكميت حرفا بحرف. مع أنك قد أغفلت موضع الاعتماد، وهو أنا اعتمدنا انتشارها عن سلفها من أهل الفصاحة، وعن أهل بيت نبيها عليهم السلام خلفا عن سلف، إلى أن ينتهي إلى من حضر منهم يوم الغدير، أنهم اعتقدوا إمامة أمير المؤمنين عليه السلام بالقول، وفهموها منه، وعلموها يقينا بقصد رسول الله صلى الله عليه وآله إلى أفهامهم، وإشارته إليها عليهم، وليس هذا مما يقع الغلط فيه قياسا ولا عقلا، بل إنما يقع إن وقع حسا وسماعا، وهذا باطل لا محالة، فيعلم أنك لم تعلم مما قلناه شيئا ألبتة.

- تتمة الحديث في معنى المولى في حديث رسول الله من كنت مولاه فعلي مولاه عند أهل اللغة وفي شعر الكميت وحسان والأخطل
- رسالة في معنى المولى - الشيخ المفيد  ص 26، 36:

فقال صاحب المجلس حين انتهيت إلى هذا الموضع: وأن شيخنا -أعزه الله- قد اعتمد أصلا صحيحا، وهو أن ما طريقه اللغة فسبيل التوصل إليه سلوك طريقه دون التجاوز إلى غيره. وقد رأينا جماعة ممن لا يختلف الناس في معرفتهم باللغة، ولا يطعن عليهم في علمها، وقد صنفوا الكتب المرجوع إليها من هذا الباب، كالخليل بن أحمد، وأبي زيد، وفلان وفلان، ثم لم يذكروا في موضع من كلامهم ولا تصنيفاتهم إن (المولى) إمام، فعلم أن ما ذكره من دخول الشبهة على الشيعة في معنى اللفظ صحيح، إذ لم يكونوا راجعين فيها إلى أحد من عددناه، وهم أئمة اللغة. فأما أمر الكميت فإنه يحتمل ثلاثة أوجه: أحدها: أن يكون عبر عن الإمامة بلفظ (المولى) لاعتقاد الإمامة بها، ولا يكون ذلك معروفا عند أهل اللسان. والوجه الآخر: أن يكون اتقى الله في معنى الإمامة من لفظة (مولى) يومئ إلى أنه تعمد الكذب في ذلك على أهل اللغة فلم يتق الله على القلب والصدر. والوجه الآخر: أن يكون اعتقد أن ما جرى يوم الغدير يوجب له التفضيل على الكل، والتفضيل علامة الإمامة على ما ذهب إليه جماعة الراوندية واعتقدوا إمامة أمير المؤمنين عليه السلام من جهة فضله فيما زعموا على الكل، لا من جهة النص. فأما حسان، فما سمعنا منك قولا عنه فكنا نتأمله، وننظر معناه، غير أنك أضفت إليه في الجملة مثل ما أضفت إلى الكميت، وهلم ما قال حسان لكي ننظره كما نظرنا ما تقدم.

فقلت له: ما أنكرت على من قال لك: إن الذين وصفتهم بمعرفة اللغة، وجعلتهم أئمة فيها، وأشرت إلى وجوب الرجوع إليهم فيما تعلق بها، ليس هم الحجة بانفرادهم دون غيرهم، ولا كل من عداهم من أهل اللغة راجعا إليهم، بل لو قالوا قولا بأجمعهم، وخالفهم عليه مثلهم في العدد أو دونهم، ممن قد اشتهر أيضا بمعرفة اللغة وإن لم يكن له مصنف يأتي به، لوجب الترجيح عندك بين القولين، والنظر في المذهبين، حتى لو أنهم أنكروا شيئا فجاء بصحته رجل من أهل البادية لشاع لمحبه، ولم يمتنع بإنكارهم. وإنما كان يسلم لك ما تعلقت به، لو كان من عددت وذكرت جميع أهل اللغة المرجوع إليهم، كيف والذين عددت، إنما هم في جملة أهل اللغة كالجزء الذي لا يتجزأ في أكثر العالم، فليس لك بهم تعلق مع أنك لم تجد عنهم النكير على من جعل (المولى) إماما وبمعنى الإمام، ولم ترجع في ذلك إلى شيء من كتبهم ومصنفاتهم، وإنما رجعت خلو الكتب والمصنفات من تسطير ذلك، وليس خلوها منه دليلا على فساده، لا سيما وقد بينا إثبات من لا يطعن عليه من أهل اللغة، إن الإمامة بلفظة (مولى) واستشهدنا بأشعارهم التي هي أشهر عنهم من أن يجحد لو أمكن إنكارها ولا خلاف بين أهل العلم أن المثبت في هذا الباب وإشكاله أولى من النافي.

فأما ما قسمته من أمر الكميت، فإن القسم الأول منه قد أتينا عليه بما لم نسمع له جوابا. والثاني: قد مضى أيضا ما هو إسقاط له، وهو أنه إن جاز أن يتوهم على الكميت وهو أحد من استشهد بشعره في كتاب الله عز وجل، وفاق في النظم شعر أهل عصره، وبلغ في الفصاحة الرتبة التي لم يخف على أحد من أهل الأدب أن يكون حملته العصبية والعناد على أن يتقي الله تعالى على ما وصفت بالقلب، ويستعمل عبارة لم يستعملها أحد قبله، ويضع لفظا على غير معناه، حتى يسيره في الشعر، ويظهر التدين به، لم يأمن أن يكون كثير من فصحاء الجاهلية الذين لم يعتقدوا الإيمان فيحجزهم عن الكذب دون أن يكونوا كالكميت في الديانة، قد وضعوا أكثر هذه الألفاظ الذي نضعها نحن على المعاني الآن، ولم يكن لها قبل، بل كانت على غيرها، ومعهودة في سواها لعصبية على طائفة منهم لغرض من الأغراض، أو محبة الإبداع، ليعرفوا بالخلاف أو عنادا لبعض منهم، أو لسبب من الأسباب فاتقوا الله تعالى في ذلك على حسب اتقاء الكميت في لفظة (مولى) ويكونوا به أخلق وفعلهم له أجدر، وهو عليهم ومنهم أجوز، وهذا هدم للأصل بأسره، وإفساد اللغة جميعا، وتشكيك فيها جملة، وهو باب الإلحاد. فأما الوجه الثالث: فإنه تأويل فاسد بين الإحالة، وذلك أنه لو كان كما وصفت جعلت إماما باعتقاد الفضل لا بالقول، لعلق ما يعنيه به من الولاية على الجميع والرئاسة بذكر الفضل بعينه دون القول الذي لم يوجبه ألبتة وإنما كان على ما زعمت عنده كاشفا عن رتبة بها يستحق ذلك الوصف، أو كان إذ ذكر القول لا يقتصر عليه في باب الرئاسة دون ما يوجبه من الفضل، بل يضم أحدهما إلى الآخر. فلما أفرد القول نفسه، دل على أنه لم يرد إيجاب الإمامة بغيره، كيف وهو مع هذا يعدد في جميع قصائده المشهورة في مدائح بني هاشم فضله، الذي بان به من الكل شيئا بعد شيء، وخصلة بعد خصلة، ولا يوجب له الإمامة عند ذكر شيء فيه بلفظه، حتى إذا انتهى إلى يوم الغدير بعينه. فالإمامة بنفس القول الواقع فيه دون ما سواه، فهل يخفى هذا الباب على أحد، أو يمكن تأويله مع ما وصفنا إلا عند إمكان تأويل جميع أقوال الشعراء على غير أغراضهم، وصرفها بأسرها عن مراداتهم.

وأما استشراحك إياي شعر حسان، فإني لم أنصرف عنه إلى الإجمال إلا لعلمي بشهرته عندكم واستفاضته، فكان اقتصاري على ما مضى من نظيره في الشهرة من الشعر يغني عن ذكره معينا. فأما إذا رمتم شرحه، فهو قوله عند نصب رسول الله صلى الله عليه وآله عليا عليه السلام في يوم الغدير بعد استئذانه في قول الشعر والإذن له في ذلك على ما جاء في الأخبار.

يناديهم يوم الغدير نبيهم        بخم وأسمع بالرسول مناديا

فقال:

فمن مولاكم ووليكم  *  فقالوا ولم يبدوا هناك التعاديا

إلهك مولانا وأنت ولينا  *  ولن تجدن منا لك اليوم عاصيا

فقال له قم يا علي فإنني  *  رضيتك من بعدي إماما وهاديا

فمن كنت مولاه فهذا وليه  *  فكونوا له أنصار صدق مواليا

هناك دعا اللهم وال وليه  *  وكن للذي عادى عليا معاديا

وهذا صريح في الإقرار منه بإمامة أمير المؤمنين عليه السلام، من جهة القول الكائن في يوم الغدير، من رسول الله صلى الله عليه وآله لعلي عليه السلام، لا يمكن تأويله، ولا يسوغ صرفه إلى غير حقيقته.

فقال صاحب المجلس: هكذا قال رسول الله صلى الله عليه وآله في يوم الغدير: "قم يا علي فإنني رضيتك للعالم إماما" كما قال حسان فيما أضفته [إليه، فإن كان قال ذلك فقد سقطت الخصومة، ولا حاجة بك إلى التعلق] بلفظة (مولى) مع احتمالها. وإن كان إنما قال: "من كنت مولاه فعلي مولاه" على ما تقدم القول فيه فهذا القول الذي حكيته عن حسان كذب لا محالة، والكذب سبيلنا جميعا أن نطرحه.

فقلت له: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وإن لم يكن قال هذا القول مفصلا، حتى حسب تفصيل حسان له، فقد أتى بمعناه بأخصر لفظ وأفهمه، فافتقر حسان في شرحه إلى ما حكيناه عنه من القول، وليس كل حكاية تضمنت غير لفظ المحكي وإن أفادت المعنى مطرحة ولا مستدلا بها على كذب الحاكي، ولا غلطه. ولو كان ما اعتمدت عليه اعتمادا لاستحال حكاية العربي بالفارسي، والفارسي بالنبطي، والعبراني بالسرياني، وبطلت جميع الحكايات المنظومة إذ كان ما حكى بها غير منظوم، وهذا يوجب أن لا يكون أحد من الشعراء المتقدمين ولا المتأخرين صدق في حكاية قضية مضت، وحكمة نقلت، وذكر كرم وجد، وفعل عجيب وقع، إلا إذا حكوه بألفاظه الجلية عينا، وذكروه على ترتيب التعبير سواء، وهذا ما لا نذهب إليه، ولا أحد من أهل النظر فنشتغل في الإطناب فيه.

فعاد صاحبي المتكلم أولا فقال: إن الذي أتيت به من شعر الأخطل فإنه وإن لم يكن أراد بقوله: "فأصبحت مولاها" الخلافة على ما قلت، وأراد قريشا على ما وصفت، فليسن أيضا فيه دلالة على ما ذهبت إليه، وذلك أنه أراد ب‍  (مولى) أي ناصر قريش، ومن يجب أن ينصره قريش، والكميت فقد قلنا إنه لا يستحيل أن يكون اعتقد فضل أمير المؤمنين عليه السلام على الكل بما جرى يوم الغدير، فأوجب له الإمامة به لا من جهة القول.

فراسله الكلام صاحب المجلس ها هنا فقال: ويمكن أن يكون غلط وإن كان من أهل اللغة، وإن امرء القيس مع جلالته في معنى صاحبه قد غلطه جماعة في شيء ذكره عنه لم أحفظه في وقت أتياني هذه المسألة، وهو نفسه -أعني الكميت- قد غلط في قوله:

أبرق وأرعد يا يزيد  *  فما وعيدك لي بضائر

فلم ينكر غلطه في لفظة (مولى) وإن كان على الصفة التي هو عليها في اللغة.

فقال المتكلم أولا: الأمر كما وصفه سيدنا -أدام الله عزه- يعني صاحب المجلس ويمكن أيضا ما قلناه.

وتكلم رجل منهم من آخر المجلس فقال: وكيف وهم يدعون -يعني أصحابنا- أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال في ذلك لعلي عليه السلام: "أنت أمير المؤمنين" فلا يستحيل أن يكون الكميت عمل على هذا فقال ما قال في شعره من جهته، ولم يقله من جهة لفظة (مولى).

وتكلم قوم من جنبات المجلس، واختلط كلامهم، فسكتهم، ثم أقبلت على صاحبي المتكلم الأول منهما: ما [أنكرت على من] قال لك: إن ما لجأت إليه أيضا في هذه النوبة مع تسليم أن (الهاء) كناية عن قريش من أن (المولى) هو الناصر، وإنما أراد نصرته لقريش، ونصرتهم له يسقط من قبل إن نصرة قريش لم يتجدد وجوبها عليه بالعقد له بالإمامة، بل هي لازمة [نصرتهم له] قد تقدم وجوبها عليهم قبل العقد له من جهة السنة والكتاب والإجماع على وجوب نصرة المسلم للمسلم، والمتدين أخاه في الدين. فلم يك يحتاج في وجوبها إلى طلب كرم أبيه وفضله كما زعم الشاعر في طلب قريش ذلك حيث يقول ما ذكره:

فما وجدت فيها قريش لأمرها  *  أعف وأوفى من أبيك وأمجدا

وأورى بزنديه ولو كان غيره  *  غداة اختلاف الناس أكدى وأصلدا

تجدد حال بعد أن لم تكن

فأصبحت مولاها من الناس كلهم  *  وأحرى قريش أن تهاب وتحمدا

ولولا أن الأمر على ما قلناه دون ما قلت، ما كان وجوب نصرته لهم ونصرتهم له مما يوجب تهنئته وحمده دون سائر الناس الناصرين والمنصورين، اللهم إلا أن يكون نصرة إمامة، وسلطان رئاسته، فيعود الأمر إلى ما قلناه وقد قدمت أن تأمل الشعر بعين الإنصاف يؤكد قولنا، ويبطل ما خالفه دون النظر والاحتجاج وقد بان ذلك والحمد لله.

ثم أقبلت على صاحب المجلس فقلت: ما قاله سيدنا -أدام الله عزه- في غلط امرئ القيس عند من غلطه والكميت في بيته من الشعر الذي طعن فيه فقد رضينا به شاهدا وذلك أن الذي غلطهما من منتحلي اللغة شذ بتغليطهما من سائر أهلها وتفرد في الحكم بما لم يوافقه عليه أحد من رؤساء علمائها وصار في ذلك فردا من بيتها ومسنا في الشذوذ من جملتها ولم يكن كذلك إلا لرئاستهما في المعرفة وتقديمها في الصناعة وكونها قدوة لمن نشأ بعدهما. وإذا كان كذلك فواجب أن تكون هذه الحال حال من غلط من عددناه في لفظة (مولى) وما عبر بها وهذا يؤكد ما قلناه ويزيده بيانا ويسقط ما خالفه وضاده في معناه على أن البيت الذي حكى عن الأصمعي الطعن فيه على الكميت -رحمة الله عليه- بخلاف بيته المتضمن النص على أمير المؤمنين عليه السلام بخبر الغدير في الحكم وذلك أنه إنما ساغ لمن طعن فيه الطعن لتفرده دون متقدم متبوع، ولا قرين مماثل مذكور، مع ما في ظاهر اللغة المشهورة في خلافه، وإن كانت له فيه حجج يعتمد عليها ودلائل يلجأ في جوازه إليها. وما تأوله من خبر الغدير وصرح به فيه، فقد سبقه إليه من يعتمد في باب القول عليه ممن عددناه من أهل الفصاحة من الصحابة وأهل البيت عليهم السلام، وحكموا فيه بمثل ما حكم، وطابقه عليه وسائر أهل عصره من الشيعة، ومن [نشأ بعده] من أهل الفصاحة، فلم يك عروضا لذلك، ولا نظيرا له من وجه من الوجوه.

ثم شرعت في إفساد ما تعلق به الرجل الذي حكيت اعتراضه بالخبر الوارد في يوم الغدير في السلام على علي بإمرة المؤمنين، فامتنعوا من استماعه.

وقال صاحبي المتكلم: الكلام معي لونه، وليس يجب أن تكلم كل من كلمك، فيذهب الزمان، وفروا من الكلام عليه كل الفرار، ثم شرع في كلام أورده لم أحفظ فيه زيادة على ما تكلم بعدم موافقته على معاني ما أسقطته به مما تقدم من كلامي، وانقضى المجلس وانصرفنا.

فصل: اعلم أرشدك الله: أن نفس ما اعتمدوا عليه في دفعنا عن معنى لفظة (مولى) يفسد عليهم بالذي راموا به فساد دليلنا في صحته من الشعر والرواية بعينه، وذلك أنه يقال لهم: إذا كنتم قد تركتم حال من ذكرناه من أهل الفصاحة، وجعلنا اعتمادنا ثلاثة منازل: أحدها : الجهل والغلط. والثاني: العصبية والعناد. والثالث: التأويل المتعلق بالاعتقاد. فما أنكرتم أن تكون هذه الثلاثة المنازل حال من دعوتمونا إلى الرجوع إليه وإلى كتبه ومصنفاته، وزعمتم أنهم العماد في هذا الباب، إذ لم يكونوا معصومين من ذلك، ولا مبرأين منه، ولا علم عليهم في دفع جوازه منهم، بل كانت أحوالهم داعية إليه، وأسبابهم مقربة منه، ودواعيهم موقعة فيه، لأنه قد فصلت لهم الرئاسة لا شك من جهة من كان يدفع نص النبي صلى الله عليه وآله على أمير المؤمنين عليه السلام بالإمامة، ويتدين بذلك، ويلبث عليه معاقب، وقد علم كل عاقل تأثير الرغبة والرهبة في الحق وستره، والباطل وقسره، وهذا ما لا يجدون فيه فصلا.

- أبو عبيدة في كتابه غريب القرآن يفسر كلمة المولى بما يوافق تفسير الشيعة لها
- رسالة في معنى المولى - الشيخ المفيد  ص 37 :

فصل: وقد كنت ذكرت بعد انصرافي من المجلس شيئا من كتاب غريب القرآن لأبي عبيدة معمر بن المثنى، يبطل دعواهم التي اعتمدوها، وتغلطهم فيها، ذاكرت بها بعضهم بعد ذلك، وهو أن أبا عبيدة وظاهر أمره ومذهبه المشهور الخلاف على الشيعة، والمضادة لهم، قال في كتاب غريب القرآن، في تفسير قوله عز وجل، في سورة الحديد: {هِيَ مَوْلاكُمْ} أي أولى بكم، قال لبيد:

فغدت كلا الفرجين تحسب أنه  *  مولى المخافة خلفها وأمامها

هذا لفظه بعينه، في كتابه بعينه، لا زيادة فيه ولا نقصان منه، ولولا أن أبا عبيدة لم يخطر بباله عند تفسير هذه اللفظة بهذا التفسير ما للشيعة من التعلق في إمامة أمير المؤمنين عليه السلام ما صرح به ولكتمه كسلفه وإخوانه ومضى على سنتهم، والله ولي الحمد في إتمام نوره ولو كره المشركون.

- استدلال آخر على المعترض في شعر الكميت بن زيد في معنى الولاية في حديث الغدير
- رسالة في معنى المولى - الشيخ المفيد  ص 38:

فصل: ويقال لمن اعترض فقال: ما أنكرتم أن يكون الكميت بن زيد رحمة الله عليه إنما عنى بقوله:

ويوم الدوح دوح غدير خم  *  أبان له الولاية لو أطيعا

ما جاء في الخبر أن رسول الله صلى الله عليه وآله أمر الناس في ذلك اليوم بالسلام على علي بإمرة المؤمنين، فتوهمه صحيحا يعمل عليه، ولم يعن قوله: "من كنت مولاه فعلي مولاه" لأنه كان من أهل الفصاحة، ولم يك يجهل مثل هذا، فبطل ما تعلقتم به.

أول ما في هذا الباب أنه لو كان على ما وصفت، لكان من أدل دليل على تكذيب أصحابك جميعا، أو بطلان دعواهم على الشيعة أنه لم يك أحد منهم فيما مضى يدعي الإمامة لأمير المؤمنين عليه السلام من جهة القول الصريح، حتى قذفه إليه ابن الراوندي وافتعله ورتبه، فتعلقوا به، وأحدثوا الاحتجاج والذب عنه، وهذا إسقاط لكافتهم، وطعن لا شبهة فيه على سائر شيوخهم ممن تأخر وكان في عصر ابن الراوندي وبعده، كأنهم بأجمعهم يدعون ذلك ويقولون به، ويستغرون الجهال، لا سيما وشيخهم الأجل أبو علي اعتماده عليه، وهذا مما لا به نفس الذي قدمت حكاية الاعتراض عنه، ولا أحد منهم كافة الآن.

- إنما أمر رسول الله الأمة بأن تسلم على علي بأمرة المؤمنين بعد أن قرر الأمة على فرض طاعته وقال فمن كنت مولاه فعلي مولاه إنما كان كشفا عن معنى لفظ المولى وجاريا مجرى التفسير وأخذا بالإقرار بالمعلوم وتأكيد المقصود
- قوله عليه السلام من كنت مولاه فعلي مولاه مجمعا على أنه كان في يوم الغدير حتى لا يذكر الغدير إلا ويراد بذكره مقدمة القول ولا يقال القول إلا وسائر مستمعيه ذاكرون به المقام
- الشيعة لم تقتصر في إثبات إمامة أمير المؤمنين في النص عليه يوم الغدير بل قد روته في يوم الدار عند دعوة بني هاشم وفي أماكن شتى ومقامات أخر
- رسالة في معنى المولى - الشيخ المفيد  ص 39 :

فصل: ثم يقال له: إن الروايات التي جاءت بأن رسول الله صلى الله عليه وآله أمر الأمة أن تسلم في يوم الغدير على أمير المؤمنين عليه السلام بإمرة المؤمنين، إنما جاءت بأنه لما قرر الأمة على فرض طاعته، ثم قال عقيب ذلك (فمن كنت مولاه فعلي مولاه) واستوفى الكلام فيه أمر الأمة حينئذ أن تقر له بمعنى ما جعله له بلفظة (مولى) فقال لهم: سلموا عليه بإمرة المؤمنين، كان أمره عليه السلام إياهم بذلك كشفا عن معنى اللفظ، وجاريا مجرى التفسير، وأخذا بالإقرار بالمعلوم، وتأكيد المقصود، وهذا موضح عن صحة ما قلناه نحن في لفظة (مولى) له.

وشيء آخر: هو أن المقام إذا وجد فيه شيئان أجمع على أحدهما، واختلف في الآخر، وكتم التعلق به في مدح إن كان ما وقع فيها مدحا، أو ذما إن كان ذما ونظم المتعلق به شعرا، أو تكلم فيه نثرا، فمحال أن يقصد إلى المختلف منه دون المتفق عليه، والمكتوم دون المشهور، إلا أن يكون في غاية الجهل والعناد والنقص. وليس يتوهم بالكميت رحمه الله هذه المنازل وإن كان يطعن عليه في الغلط من جهة الرأي والقياس، وما يقع من العقلاء الألباب بالشبهات.

وإذا كان الأمر على ما وصفناه، وكان قوله عليه السلام: "من كنت مولاه فعلي مولاه" مجمعا على أنه كان في يوم الغدير وظاهر ذلك عام في الكل، حتى لا يذكر الغدير إلا ويراد بذكره مقدمة القول، ولا يقال القول إلا وسائر مستمعيه ذاكرون به المقام، ولم يك ما اختصت به الشيعة من قوله عليه السلام في ذلك اليوم: سلموا على علي بإمرة المؤمنين يجري هذا المجرى، بل كان على ما تقدم وصفه من المختلف فيه، المجحود المختص بطائفة دون أخرى، دل ذلك على أنه لم يرده الكميت، وقد أجمل التعلق بالغدير ويومه، ولم يفصل ما فيه.

وشيء آخر وهو: أن الشيعة لم تقتصر في ادعاء النص على يوم الغدير بدون غيره، بل قد روته في يوم الدار عند دعوة بني هاشم، ووافقها على ذلك جمهور أصحاب الحديث من العامة وغيرهم، وفي أماكن شتى، ومقامات أخر، فكيف يصح أن يكون أراد ذلك الكميت، فلم يعلقه بيوم الدار، مع استفاضته في الطائفتين ولا بغيره مما عددناه، وعلقه بيوم الغدير، وهو يرى الشيعة كلها تعتمد من يوم الغدير في الإمامة على لفظة (مولى) للإجماع خاصة، دون ما كان بعدها مما رووه وأقلوا من الاحتجاج به لموضع الخلاف، وهذا ما لا يتوهم أحد، وبالله نستعين، وصلى الله على سيدنا محمد النبي وآله الطاهرين وسلم تسليما كثيرا كثيرا.

- في تزويج أمير المؤمنين ابنته من عمر
- الخبر الوارد بتزويج أمير المؤمنين ابنته من عمر غير ثابت وطريقه من الزبير بن بكار ولم يكن موثوقا به في النقل وكان متهما فيما يذكره وكان يبغض أمير المؤمنين وغير مأمون فيما يدعيه على بني هاشم
- الاختلاف في الخبر الوارد بتزويج أمير المؤمنين ابنته من عمر يبطله
- لو صح الخبر الوارد بتزويج أمير المؤمنين ابنته من عمر فالوجه في ذلك إن التزويج تم بمن هو على ظاهر الإسلام الذي هو الشهادتان والصلاة إلى الكعبة والإقرار بجملة الشريعة
- لو صح الخبر الوارد بتزويج أمير المؤمنين ابنته من عمر فالوجه في ذلك أن أمير المؤمنين كان مضطرا إلى مناكحة الرجل لأنه يهدده ويواعده فلم يأمنه على نفسه وشيعته
- المسائل السروية- الشيخ المفيد  ص 86 ، 92:

المسالة العاشرة: في تزويج أم كلثوم وبنات الرسول صلى الله عليه وآله:

ما قوله أدام الله تعالى علاه في تزويج أمير المؤمين علي بن أبي طالب عليه الصلاة والسلام ابنته من عمر بن الخطاب. وتزويج النبي صلى الله عليه وآله ابنتيه: زينب ورقية من عثمان؟

الجواب: إن الخبر الوارد بتزويج أمير المؤمنين عليه السلام ابنته من عمر غير ثابت، وطريقه من الزبير بن بكار، ولم يكن موثوقا به في النقل، وكان متهما فيما يذكره، وكان يبغض أمير المؤمنين عليه السلام، وغير مأمون فيما يدعيه على بني هاشم.

وإنما نشر الحديث إثبات أبي محمد الحسن بن يحيى صاحب النسب ذلك في كتابه، فظن كثير من الناس أنه حق لرواية رجل علوي له، وهو إنما رواه عن الزبير بن بكار. والحديث بنفسه مختلف، فتارة يروى: أن أمير المؤمنين عليه السلام تولى العقد له على ابنته. وتارة يروى أن العباس تولى ذلك عنه. وتارة يروى: أنه لم يقع العقد إلا بعد وعيد من عمر وتهديد لبني هاشم. وتارة يروى أنه كان عن أختيار وإيثار. ثم إن بعض الرواة يذكر أن عمر أولدها ولدا أسماه زيدا. وبعضهم يقول: إنه قتل قبل دخوله بها. وبعضهم يقول: إن لزيد بن عمر عقبا. ومنهم من يقول: إنه قتل ولا عقب له. ومنهم من يقول: إنه وأمه قتلا. ومنهم من يقول: إن أمه بقيت بعده. ومنهم من يقول: إن عمر أمهر أم كلثوم أربعين ألف درهم. ومنهم من يقول: مهرها أربعة آلاف درهم. ومنهم من يقول: كان مهرها خمسمائة درهم . ويبدو هذا الاختلاف فيه يبطل الحديث، فلا يكون له تأثير على حال.

فصل: تأويل الخبر

ثم إنه لو صح لكان له وجهان لا ينافيان مذهب الشيعة في ضلال المتقدمين على أمير المؤمنين عليه السلام: أحدهما: أن النكاح إنما هو على ظاهر الإسلام الذي هو: الشهادتان، والصلاة إلى الكعبة، والإقرار بجملة الشريعة. وإن كان الأفضل مناكحة من يعتقد الإيمان، وترك مناكحة من ضم إلى ظاهر الإسلام ضلالا لا يخرجه عن الإسلام، إلا أن الضرورة متى قادت إلى مناكحة الضال مع إظهاره كلمة الإسلام زالت الكراهة من ذلك، وساغ ما لم يكن بمستحب مع الاختيار . وأمير المؤمنين عليه السلام كان محتاجا إلى التأليف وحقن الدماء، ورأى أنه إن بلغ مبلغ عمر عما رغب فيه من مناكحته ابنته أثر ذلك الفساد في الدين والدنيا، وأنه إن أجاب إليه أعقب صلاحا في الأمرين، فأجابه إلى ملتمسه لما ذكرناه.

والوجه الآخر: أن مناكحة الضال كجحد الإمامة، وادعائها لمن لا يستحقها حرام، إلا أن يخاف الإنسان على دينه ودمه، فيجوز له ذلك، كما يجوز له إظهار كلمة الكفر المضاد لكلمة الإيمان، وكما يحل له أكل الميتة والدم ولحم الخنزير عند الضرورات، وإن كان ذلك محرما مع الاختيار. وأمير المؤمنين عليه السلام كان مضطرا إلى مناكحة الرجل لأنه يهدده ويواعده، فلم يأمنه أمير المؤمنين عليه السلام على نفسه وشيعته، فأجابه إلى ذلك ضرورة كما قلنا إن الضرورة تشرع إظهار كلمة الكفر، قال تعالى: {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ}.


source : http://aqaedalshia.com
0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

الحثّ على الجهاد
الارتباط بين الفكر الأصولي والفلسفي
الآيات الدالّة على الشفاعة التكوينية
بعض اقوال علماء اهل السنة والجماعة في يزيد ابن ...
الله سبحانه وتعالى احيا الموتى لعزير
کيف نشأة القاديانية و ماهي عقيدتها
وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكرَى تَنفَعُ ...
العلاقة بين رجل الدين والمجتمع
مسؤوليات الشباب في كلام القائد
ما تفسیر آیة "ما یَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ ...

 
user comment