وكلمة (الدين) في مجالها اللغوي تلقي أضواءً على كثير مما قدمناه.
وقد ذكرت معاجم اللغة أن لهذه الكلمة مدلولات كثيرة تستعمل فيها، وعدت من معانيها الغلبة والعزة والسلطان والحكم والطاعة والذل والورع والعبادة والعادة والسير والتوحيد والملة، ومفاهيم أخرى غير هذه تستعمل فيها اللفظة أيضاً وتدل عليها.
هكذا تصنع المعاجم، تسرد المعاني سرداً، ثم تمر إلى ضبط مشتقات الكلمة وتعيين صيغ الجمع وكأنها أتت في ذلك بكل ما يرام.
أما أن هذه المذكورة معان تشترك بينها لفظة (الدين) أو هي فروع لمعنى واحد شامل وضعت له الكلمة، أو هي مختلفة فمنها المعنى الحقيقي للكلمة ومنها المعنى المجازي لها، أما هذا فلا تتكلفه كتب اللغة ولا يأبه لتحقيقه اللغويون وليس من دأب أولئك ولا هؤلاء أن يتكلفوا أمراً من هذا القبيل!! كأنه شيء لا يعني علم اللغة، أو كأنه يجب أن يوكل إلى فرع جديد من هذا العلم من شأنه أن يزيل الخبط ويصنف المفاهيم.
ومن يستقرئ موارد الإستعمال لكلمة الدين يجد أنها قد تأتي متعدية بذاتها إلى المفعول، فيقول القائل: دانه يدينه إذا قهره واستعلى عليه. وقد تجيء متعدية باللام فيقال: دان له يدين إذا خضع له وأطاع، وقد ترد متعدية بالباء فيقال: دان يدين إذا التزم بالشيء وتعبد به.
وإذن (فالدين) رابطة بين طرفين متفاوتين في المنزلة، وشيء هو من قبيل العقائد والأعمال يفرضه أقوى الطرفين ويلتزم به أضعفهما، فإذا نسب هذا المعنى إلى الطرف الأعلى كان قهراً واستعلاءً وحكماً وتعدى اللفظ بذاته إلى المفعول، وإذا أسند إلى الطرف الأدنى كان خضوعاً وطاعة وعبادة، وتعدى إلى الطرف الملتزم له باللام وإلى الشيء الملتزم به بالباء.
ففي الدين معنى الحكم والسيطرة والقهر من جانب، وفيه معنى الطاعة والعبودية والمحكومية من الجانب الآخر. والدين بعد كل هذا ملة وعادة وسيرة باعتبار انطباعه في فكرة الشخص المتدين وبروزه في عمله، وتأثيره في سلوكه.
أما ما سوى ذلك من معاني كلمة الدين فيؤول إليه من قريب أو بعيد.
على أنه ليس كل فرض والتزام بين طرفين متفاضلين في المنزلة يسمى ديناً في اللغة، فالقوانين التي تسنها الدولة وتذعن لها الأمة لا تسمى ديناً، والأحكام التي تفرضها الملوك وتطيعها الرعية لا تسمى ديناً، والأوامر التي تصدرها السادة وتمثلها الخدم لا تسمى ديناً. ولذلك فلابد في الدين من عقيدة الربوبية القاهرة في جانب، والعبودية المقهورة في الجانب الآخر ولابد أن يكون الفرض والالتزام من توابع الربوبية والعبودية المعتقدتين.
ومن المخلوقين من يختلق له رباً فيخلع عليه صفات الألوهية، ويضرع إليه بالتقرب، ويفزع إليه بالاستعانة، ثم يؤدي له رسوماً من العبادات ويلتزم صنوفاً من العادات، فتكون له هذه الأمور ديناً يدين به، ويصبح له ذلك الرب المفتري إلهاً يدين له وإن لم يدنه بذلك أحد غير ذاته، فهو المفترض وهو الملتزم، والتسمية حقيقية بعد هذا الاختلاق.
وكلمة ( الإسلام )
أما كلمة (الإسلام) فهي أدل على معنى الانقياد والطاعة من لفظ (الدين).
الإسلام إنقياد المرء بعقله وروحه وقلبه، وبضميره وإرادته وحركته وسكونه، وبجميع أجزاء بدنه وقوى نفسه لله الذي آتاه هذه المنح وبوأه هذه المنزلة. إنقياداً يلتقي فيه شكر النعمة وأداء الحق وتلبية الواجب، ويتصل فيه خضوع التكوين بطاعة التشريع، وباطن السر بظاهر العلانية.
وإذا كان الإسلام هو الإنقياد لله فاطر السماوات والأرض، والإطاعة لما وضع من قانون والإتباع لما يسر من سبيل ولما أقام من دليل فإنه- دون ريب- دين كل موجود في هذا الملكوت، وأي شيء لا يضرع لمكونه ولا يعنو لتدبيره، (وله أسلم من في السماوات والأرض طوعاً وكرهاً وإليه يرجعون)(1).
وإذا كان الإسلام هو الإخبات لبارئ الكون والإطاعة لما أمر والتجافي عما زجر، فإنه بلا ريب دين الفطرة الذي يذعن له كل شيء وشرعة الحياة التي ينتهجها كل حي (ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب، ومن يهن الله فماله من مكرم إن الله يفعل ما يشاء)(2).
ضرور للإنسان من شتى نواحيه
وبعد كل ما تقدم فهل استيقن القارئ معي بأن الدين الحق ضرورة لابن آدم من شتى نواحيه؟.
(1) آل عمران:83.
(2) الحج:18.
ضرورة لا مندوحة عنها لإنسانيته. لأنه يشرع له مناهج الكمال، ويوضح له أعلام السبيل، ويبين له رسول الغاية، ثم يأخذ بيده خطوة خطوة ليحقق له النجاح ويؤمنه من الإنزلاق.
وضرورة لا بدل عنها لنفسه. فإنه يغذي رغبتها في التسامي ويوازن بين غرائزها في الحقوق فلا شد يؤدي إلى إرهاق ولا إرخاء يفضي إلى إنزلاق، ولا مناوبة تدعو إلى تهافت.
أجل. لا كبت في غريزة ولا عقدة في نفس، ولا ميوعة في خلق، ولا قلق في شخصية، بل عدل محض في كل إيتاء وقسط خالص في كل منع.
وضرورة لجلبته فهو يلبي الفطرة إذا تطلعت إلى الغيب، ويردها إلى الإستقامة إذا جمحت بها الجوامح. وهو يجيب دعاءها أينما تدعو ويفسر أحكامها حيثما تحكم.
وضرورة لتفكيره، فهو يعلي البصيرة ويفتح أمامها أبواب المعرفة. ويسمو بالعقيدة ويرصد لها قوى البرهان، ثم يقيم للعقل في ميادينه تلك وزراً من العلم، ويجعل له سنداً من اليقين، ولجأ من الطمأنينة.
وهو ضرورة للفرد، يصلح أجهزة نفسه ليؤهله إلى الكمال الأعلى في الحياة ويهذب سلوكه ليبوئه المنزلة الكريمة في المجتمع، ويجلو مواهب روحه ليبلغ به السعادة الموفورة في الدنيا والعاقبة الحميدة في الآخرة.
وضرورة للمجتمع، يوثق علائقه ثم يحفظها عن التفكك، ويقرر الحقوق والتبعات بين أفراده ويمهد لها في النفوس ثم يصونها عن أن تهن، ويؤسس الأخوة العامة بينهم ويقيمها على مبدأ الحب في الله والمساواة في العدل.
والدين ضرورة كونية، يرعى الترابط بين أجزاء الكون حين يشرع، ويلحظ التآلف والإنسجام بينها حين ينفذ؟، ثم هو يشتق قانون الإنسان من قوانين الوجود حتى تنسجم الحركة، وتتواكب النظم وتتواءم الغايات.
والدين كذلك ضرورة خلقية وسياسية واقتصادية، فإن فلسفات الأخلاق. والسياسة والاقتصاد التي ابتدعها الناس، والقوانين التي اشتقوا منها وبنوا عليها لا تبلغ كل أهداف الإنسانية ولا تستوعب حاجاتها. ثم هي لا تقيم العدل التام بين غرائز المرء المتنوعة وبين ضروراته المختلفة. وهي كثيراً ما تحيف على بعض النواحي منه على حساب البعض الآخر، وإن نظرة مستوعبة في تناقض هذه القوانين فيما بينها، وفي حدود مواقع النظر فيها ثم مقايسة هذه التخوم الضيقة بأفق الدين وبنظراته المستقصية، وموازناته الدقيقة، أقول: إن نظرة واحدة مستوعبة في هذه الخصائص توضح للمنصف نتيجة المقارنة.
هل استيقن القارئ أن الإنسان يرتبط بالدين من شتى نواحيه، فلا غنى له عنه، ولا صلاح له بدونه، ولا سلام له إلا في ظله؟.
الدين الحق هو الذي يلبي له هذه الضرورات كلها تلبية عادلة لا نقص فيها ولا تزيد، ولا ميل ولا نشوز، أما ما سواه فلابد من أن يقصر ولا بد من أن يحيد، ذلك هو الفارق العظيم بين نتيجة يلدها فكر محدود ونهج يشرعه الله رب العالمين.
هل الدِّين حكر على الوجدان
والوجدان لدى وفرة من الناس مصدر من مصادر التدليل، وقوة من قوى الحكم على الأشياء بالخطأ أو الصواب.
ويغلو بعضهم فيرى أن الدين حكر على الوجدان!.
هذه المنطقة على الخصوص دون غيرها من آفاق النفس الإنسانية هي مولده الحقيقي ومقره الدائم على ما يرى هؤلاء. ويجني الجاني في رأيهم على الدين إذا أراد أن ينقله إلى الفكر أو يتطلبه منه أو يستعين به على إثباته.
وهي دون ريب فكرة غريبة عن هذي البلاد وعن هذا الدين.
فكرة بلاد استعصى عليها أن توفق دينها مع العقل. وعز عليها أن تتبع عقلها بلا دين، فأفردت لكل منهما منطقة من النفس، وطمعت أن تحل المعضلة بهذا التقسيم.
أما أن العقل قد يرى من حقه أن يتمرد على هذه الحدود فيجمع الأسلاك والأشواك ويقتحم منطقة الدين، وأن الدين قد يثأر لقداسته وحرمته من هذه الجرأة فيهاجم العقل.
وأما أن الإنسان يعيش ما يعيش قلق النفس مزدوج الشخصية يحمل في أغوار نفسه خصمين متناحرين لا ينتهي خصامهما ولا يهدأ تناحرهما، ويتنازع قياده طول دهره قلب مؤمن وعقل ملحد!.
أما هذا جميعه فلا ينبغي أن يكترث له المؤمن في رأي هؤلاء ليسلم له الإيمان وتحصل له الطمأنينة وتجب له النجاة!!. إن الدين فوق العقل فليؤمن بهذه الحقيقة وليعمل بموجبها وكفى!.
وأما أنه كيف يسلم له الإيمان وتحصل له الطمأنينة مع هذا القلق. وكيف تجب له النجاة مع تمرد العقل وإبائه عن الخضوع وكيف يكون الدين فوق العقل إذا كانت حدوده من النفس هي منطقة الوجدان وحدها. أما هذا فلا يحسن التفكير فيه لمن يبتغي الإيمان، ليخضع وجدانه للدين إخضاعاً، وليحمله على الإيمان به حملاً.. ثم لاشيء.. ثم الطمأنينة، والقرار النفسي في الدنيا، والنجاة والفوز في الأخرى.
هكذا يقررون وهكذا يفكرون.
والوجدان هذا قد يعنى به الضمير، الحاسة الأدبية التي نحكم بها على أعمالنا وأعمال غيرنا بالخير أو الشر، وتجزي العامل عليها بالتقدير أو الزراية، وبالتشجيع أو التوبيخ.
وهي حاسة لا يجحد أثرها، ولا تجحد أهميتها في توجيه الإنسان. والخلقيون والمثاليون ينيطون عليها آمالاً ويعددون لها آثاراً. وقد ذكرناها نحن لما استعرضنا الذخيرة النفسية لتكامل الإنسان. إلا أنها لا تثمر بذاتها خيراً ولا تملك نفعاً ولا ضراً ما لم تتهيأ لها أقيسة ثابتة عادلة، تنطبع بها روحها وتبتني عليها أحكامها.
إنها قوة غريزية في الإنسان، وليست مكتسبة له من خارج نفسه، وقد وجدت حتى عند البدائيين من الناس، وعند أكلة لحوم البشر منهم. ولمحت آثارها لدى الأطفال، إلا أنها غير معصومة. فكثيراً ما أضلتها الخدعة، وكثيراً ما أخطأها التوفيق. والطوائف التي تتقرب إلى آلهتها بدماء القتلى من البشر تجد لذع الضمير إذا فاتتها هذه القربة، والأبناء الذين تفرض المجتمعات عليهم قتل آبائهم إذا كبروا وشاخوا يؤنبهم الوجدان إذا هم لم يمتثلوا هذه الفريضة، والقبائل التي ترى من الإحسان إلى الموتى أن تحرق جثثهم بالنار وتذريها في الرياح توبخها ضمائرها إذا لم تسدي إليهم هذا الإحسان، والغلاظ الجفاةالذين يئدون أطفالهم صغاراً لا يعدون عملهم هذا إجراماً ولا تحاسبهم ضمائرهم عليها. وقبائل الهند التي ترى من الوفاء للرجل الميت والتكريم لمقامه أن تدفن زوجته الحية معه في قبره لا تأسى لذلك قلوبهم ولا تكترث له وجداناتهم.
فالضمير لا يستقل بالحكم أبداً. ومن أجل ذلك اختلف الناس في أخلاقهم واختلفوا في عوائدهم مع وجود الضمير في كل فرد منهم..
وقد يراد بالوجدان الموهبة التي نفرق بها بين مواقع القبح ومواقع الجمال، وبين درجاتهما لدى التفاوت، فهو إذن خاص بنقد الفنون وما يشبه الفنون، وفي تمييز حظوظها من الإبداع أو الإخفاق، وهو إذن يرادف الذوق الذي نختبر به طعوم الجمال ونتبين خصائصه ونصنف مراتبه، وهو إذن حصيلة تختلف باختلاف ما يدرك الناقد من معاني الجمال ومن درجات التوافق والإنسجام بين أجزاء الشيء وصفاته.
وقد يقصد بالوجدان مجموعة العواطف والإنفعالات التي يجدها الإنسان نحو الشيء ومجموعة الإنطباعات التي يتركها الشيء في الإنسان، فهو إذن مجموعة أهواء ومجموعة صور تختلف من شخص لشخص بل ومن حال لحال.
وأياً كان معنى الوجدان من هذه المعاني فهو لا يصلح لأن يكون ركيزة للدين ولا مقراً ثابتاً له فإن العقيدة الراسخة المتينة والمنهاج الثابت الخالد، والإيمان القوي الصناع، الذي يصوغ الإنسانية ويبني الحياة ويشد الإجتماع يستحيل أن تقوم على سند لا تماسك له ولا قرار، أو تحتبس في مضيق لا رحابة فيه ولا اتساع.
والقرآن يتحدث إلى الوجدان ويحرك ساكنه ويستجيش كامنه، لا ليؤسس على نظرته عقيدة ولا ليقيم عليها شريعة، ولكنه يعلم حق العلم أن الإنسان مجموعة قوى وغرائز وطاقات ونزعات وعواطف وأحاسيس، وقواه المفكرة وإن كانت أهم ما فيه إلا أنها ليست كل ما فيه، وكثيراً ما عصى المرء عقله ليدلل عاطفته، وكثيراً ما وأد فكراً سديداً لأنه يخالف شعوراً يلتذ به أو انفعالاً لا يرضى بتركه. ويعلم القرآن كذلك حق العلم أن الدين منهاج للإنسان كله لا لعقله وحده ولا لروحه وحدها. فمن الحق أن يتحدث إلى الوجدان كما يتحدث إلى العقل، ومن الحق أن يستثير العواطف والنوازع كما يستثير التفكير والتأمل.
من الحق أن توجه الهداية إلى الإنسان كله بعقله وغرائزه ومشاعره وسائر قواه وطاقاته.
ومن الحكمة والحق أن يستثار الضد لتمنع عادية ضده فيحرك حس الرحمة مثلاً عند خوف الشقاق ويثار شعور الخوف عند خشية الإنطلاق، ويلمس وتر خفي من النفس لتأمن عدوى طبع ذميم أو لتعان في بناء خلق كريم.
ومن الحكمة أن يصنع كل ذلك ليستبين للعقل وجه من وجوه الحكمة ويفتح له باب كبير من أبواب التفكير.
من أجل هذه الوجوه وغيرها مما لم نذكره ومما لم نحط به علماً يتحدث القرآن إلى الوجدان ويلمس العاطفة ويحرك النزعة الخفية ويداعب الشعور المرهف ويثير الحمية المغمورة. ويهتم بكل ناحية من نواحي الإنسان ليسير به يقظان الوعي متوقد الشعور ينتظم حسه كل حركاته وسكناته وكل أفعاله وتروكه، ليسير كذلك كتلة واحدة شاعرة متيقظة إلى الغاية التي يبتغيها الإنسان ويدعو إليها رب الإنسان.
أيّاً كان معنى الوجدان فهو لا يكون ركيزة للدين
وإذا لم يكن محيد من أن ننظر الدين بمنظار الوجدان.
وإذا لم يكن محيص من أن نحتكم إليه في أمر الدين كما حكمنا العقل وحكمنا الفطرة في أمره من قبل.
وإذا انبرى من يقول لنا من الناس: الدين منهاج للإنسان كله فلا بد من أن تقتنع به العاطفة كما يقتنع به العقل ولا بد من أن يذعن به الشعور الغامض كما يؤمن به التفكير الصريح.
على أن الوجدان يقول كذلك : لا بد من الدِّين
لقد استجوبنا فطرة الإنسان من قبل واستجوبنا غريزته، واستنطقنا أشواقه القوية الملحة وضروراته الكثيرة المتنوعة، وفحصنا ذخائره النفسية التي أعد بها لبلوغ الكمال واتجاهاته الطبيعية التي تدفع به إلى التسامي.
لقد جربنا كل أولئك فوجدناها تؤمن بالدين وتحكم بأنه ضرورة وبأنه قانون كقوانين الحياة في الأحياء والنمو في الناميات لا غنى عنه ولا بديل له..
ودلالة تلك البدائة على نتائجها وإن تك فكرية منطقية، من حيث أن الفكر المجرد هو الذي ينظر في هذه وفي صلتها بتلك، ثم في اسياقها معها واستتباع تلك لها إلا أن لها كذلك دلالة واقعية وجدانية هي هذا الهوى الداخلي الذي يشد الطالب بالمطلوب ويحول وجهه إليه. وهي هذا الولوع الذي يتجه بإبرة الملاح إلى القطب الشمالي ويوقف حركتها بين يديه..
أرأيت الشجيرة التي يسمونها زهرة الشمس قمر؟ أعرفت السر الذي يميل بزهرتها نحو الشمس أنى مالت ويولعها بقرصها حتى يغيب؟ إنه السبب الذي يعقد المحتاج بمكان حاجته، ويولع الناقص بمصدر كماله. وأنه بذاته السبب الذي يعلق ذخائر الاستكمال في الإنسان بالمنهاج الذي به يكتمل وبالغاية التي إليها يسمو.
إنه بذاته السبب الذي يحول أوجه هذه الركائز في الإنسان إلى الدين.
وهي دلائل واقعية يعتمدها دعاة الدين كما يعتمدون دلالة البرهان. وأسميها وجدانية من حيث ان المرء يشعر بدعوتها في أعماقه. ولعل الوجدانيين يطلبون نوعاً آخر من حكم الوجدان، ولا يفقد الدين سنداً من النوع الذي يطلبون ما دامت ركائزه قد ملأت آفاق الإنسان، آفاق نفسه وآفاق حياته.
وبحسب الدين أن تحرز له الثقة المطلقة من الناس أجمعين.
من الناس أجمعين حتى من الذين لا يعترفون به ولا يخضعون لأحكامه، أفرأيت أعجب من هذا؟ ثم هل تريد أن تمتحن بنفسك صدق هذه الدعوى؟.
هب أنك اضطررت في يوم ما إلى إيداع شيء كريم، وهب أنك لم تصب في موضع ضرورتك هذه محلاً معداً للوديعة، ولا شخصاً معروفاً بالأمانة. وأنك وقفت في حالك هذه على رجلين. أحدهما ثري شريف الأرومة نابه الشأن يذكر بصفات من الخير تضاعف من شرفه وتزيد في نباهة شأنه، وثانيهما يحرم من غالب هذه الصفات، بل من جميعها سوى أن له شريعة إلهية تصده عن أن يرتكب، وضميراً مؤمناً يزعه عن أن يخون، ونفساً مطمئنة ترفعه عن أن يتدنس.
بل وهب ان الرجلين يتفقان في أهلية الوثوق فكلاهما مشهود له بالصلاح وكلاهما مذكور بالعفة والتجنب عن الخيانة. ولكن سند الوثوق في أحد الرجلين دين تشرق به نفسه، وعقيدة يمتلئ بها عقله، وإيمان يعمر به قلبه. ومبعثه في الرجل الآخر عادة مرن عليها لينال بها جمال الأحدوثة بين الناس أو طيب المعاشرة منهم أو أي مبتغى آخر سوى الدين.
هب أنك وقفت في ضرورتك إلى إيداع ذلك الشيء الكريم عليك بين رجلين هذه خصائصهما، فأي الرجلين تأتمن؟.
وهب أنك رغبت في عقد معاملة مع أحد الشخصين، فأيهما تختار؟.
وهب أنهما اختلفا لديك في الشهادة على أمر فبأي الشهادتين تثق؟.
قد يسف عاقل فيتردد أيجب أن يكون للبشر دين أم لا يجب. وقد يتردد أيجب أن يكون الدين شاملاً لجميع أصناف الناس أو أن يكون متسعاً لجميع شؤونهم أم لا يجب أن يكون كذلك. ولكن لن يتردد أحد من الناس في أن التدين أقوى سبب يوجب الوثوق بالمعاملة، وأملك باعث يقتضي الطمأنة بالصدق، وأمنع وازع يحدو على الوفاء بالحقوق والأداء للأمانة. ومحاكم الدنيا كافة وقضاة العالم أجمع تتفق على هذا الرأي، فمن الأمور التي لا ريب فيها عندهم أن شهادة الرجل المتدين- وأن يكن وثنياً- أدنى إلى الصدق من شهادة أي سواه.
والتفسير المقبول لهذه الثقة أن الدين هو الطب الواقعي من أدواء الخلق، والدواء الناجع لعلل المجتمع، فالمستمسك بهداياته والسائر في أضوائه يكون أبعد الخلق عن الأدواء وأقربهم إلى الصحة، وأحراهم بالسيطرة على أهواء النفس، والإرتفاع بالغرائز الدنيا. وتأريخ الأديان بينة أخرى على صحة هذه الدعوى.
أقول هذا واعني تأريخ الأديان عامة لا خصوص أديان السماء، وأي دين من الأديان مهما كان مختل الأركان فاسد الأجهزة سقيم التعاليم- لم يبعث إلى الخير، لم يدع إلى البر، ولم ينهج بأتباعه إلى الصلاح؟ أي دين من الأديان لم يرم إلى هذا الهدف، ولم يجر نحو هذا المدى، وإن يكن سعيه في نطاق ضيق وفي مجال محدود؟.
مدد للوجدان وسند للبرهان
والآيات الكونية منتشرة ملئ الأكوان وملئ الزمان، أترى أنها سند للتفكير العقلي وحده في الدلالة على الله، والإبانة عن شمول قدرته وسبوغ نعمته ووجوب ارتباط بدينه؟.
والنظرات العميقة الحالمة في مظاهر الجمال ومشاهد الإبداع من هذا الملكوت أترى أنها مدد للبرهان المنطقي خاصة على وجود الله وعلى باهر جماله وعظيم جلاله ولا حظ فيها للعاطفة، ولا نصيب للوجدان؟.
يبدوأن جمهور علماء الكلام في الإسلام يرون هذا الرأي، فقد استدلوا بهذه المعلولات على وجود علتها. كما يستدلون بأثر يجدونه في التراب على قدم وضعته سواء بسواء.
أما الرحمة التي لا تزايل ذلك الأثر مادام موجوداً.
أما الحب الذاتي الخالص الذي يعلق الأثر بمؤثره، ويولهه به، ويحول وجهه إليه.
أما الرعاية الدائمة التي تقتضيها الربوبية المطلقة والإنقياد الكامل الذي تقتضيه العبودية المطلقة، أما التعاطف والتحابب الذي يربط الآثار بعضها ببعض من حيث اتصالها بمبدأ الرحمة ومصدر الحب وينبوع الخير، الذي يتعالى على السدود والحدود.
أما هذه المعاني وما يشبهها فهي بعيدة عن طرائقهم في البرهنة. ولو أنهم قدموا التوحيد للناس كما قدمه القرآن، ولو أنهم اتبعوا طريقتهم بالتدليل عليه، لكانوا أدنى إلى استيفاء أغراض القرآن وأجدر ببلوغ غايته.
هذا التدبير الدائم القائم في كل آية آية، وهذا الجمال البهيج النضير في كل مظهر مظهر، وهذا الصنع المحكم المتقن في كل صغير وكبير، هذا جميعه ليس مددأً للفكر وحده، ولا مدداً للوجدان وحده بل هو مدد لهما على السواء. والتدبر الصادق والنظرات العميقة في ظواهره وخوافيه تملأ العقل اقتناعاً بالبرهان، وتملأ القلب إشراقاً بالإيمان، وتملأ النفس شعوراً بالحب وإحساساً بالرحمة واستمساكاً بالإخلاص، وتوقظ في المرء أحاسيس الخير ومشاعر الإنسانية وتصله أولاً وآخراً بالله الذي أنطق الأشياء كلها بالدلالة عليه وألهمهما أن تسبح بحمده وأن تسلم وجهها إليه.
كل ما هنا أثر.
أجل. كل ما هنا أثر، وقانون السببية- الذي أودع في فطر العقول ثم أثبته الإستقراء وسار على خطواته العلم- يقتاد العقل ليحكم في كل شيء يقف عليه أنه أثر له مؤثر، وتقدير له مقدر.
ولكن هنا جمالاً رائعاً يبدو في كل مجلى من مجالي الكون.
وإتقاناً عظيماً في كل صنعة من صنائعه.
وحكمة بالغة في كل شيء من أشيائه.
وعناية رحيمة في كل تدبير وفي كل تقدير.
والذوق المرهف والشعور الدقيق والإحساس العميق بل والعاطفة الحية المتطلعة، هذه العدة الوجدانية التي يملكها الإنسان هي التي يستطيع أن يتبين بها كل أولئك ويدرك مزاياه ويتعرف حدوده.
وقد لفت القرآن نظرة المرء إلى كل أولئك، وحثه أن يستشف معاني الجمال فيما يرى، وأن يستجلي فيه دقائق الحكمة وينظر آثار الرحمة، واقرأ إذا شئت هذه الآيات الكريمة: ( أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج. والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي. وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج تبصرة وذكرى لكل عبد منيب. ونزلنا من السماء ماءً مباركاً فأنبتنا به جنات وحب الحصيد. والنخل باسقات لها طلع نضيد. رزقاً للعباد وأحيينا به بلدة ميتاً كذلك الخروج)(1).
وكل ذلك أثر. والجمال المبثوث الرائع أيضاً أثر، والحكمة والإتقان والرحمة الشاملة الواسعة كلها آثار، ودلالتها على مؤثرها لا تنهض إلا بالفكر، وإلا بقانون السببية الذي تفتقر إليه دلالة الآثار، إلا أن هذه آثار يشترك فيه التدليل بها الفكر والروح والقلب، ويعمم الإيمان بها والإطمئنان إليها جميع آفاق النفس ومنافذ الشعور.
وللقرآن أساليبه الأخاذة المثيرة في تنبيه الشعور وتوجيهه إلى هذه الآيات، والاعتبار بها والإفادة منها.
وهو يطيل ويقصر في عرض الآيات ويجمل ويفصل حسب اقتضاء الموقف وحسب اقتضاء الأسلوب، فيقول مثلاً في بعض مواقفه مع الإنسان، وفي أحد أساليبه في توجيهه:
( هو الذي أنزل من السماء ماءً لكم منه شراب ومنه شجر فيه تسيمون، ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون. وسخر لكم اليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون. وما ذرأ لكم في الأرض مختلفاً ألوانه إن في ذلك لآية لقوم يذكرون. وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحماً طرياً وتستخرجوا منه حلية تلبسونها وترى الفلك مواخر فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون. وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم وأنهاراً وسبلاً لعلكم تهتدون. وعلامات وبالنجم هم يهتدون)(2).
جميع ما في هذا الملكوت مسخر لابن آدم، وجميع ما في الأرض مخلوق له، أفليس من الحق أن يعرف هذه الأشياء ويعلم كيف سخرت له؟ فيفيد من هذه المعرفة ومن هذا التسخير؟ واليد القديرة التي خلقت له ذلك وسخرته أليست حرية بأن تعرف وحرية بأن تشكر؟!.
كل ما في الملكوت مسخر لابن آدم وكل ما في الأرض مخلوق له، وما من شيء في الكون إلا وله منهج مقرر ثابت، ومنهجه هذا يسهم من قريب أو من بعيد في إسعاد الإنسان وتوفير موجبات الهناء له وتيسير مطاليب الحياة عليه. فمن الحق أن لا يمر عليها لاهياً عابثاً كمن لا يعنيه من أمرها شيء وان لا تصده عن التفكير فيه إلفة.
(1) ق:6-11.
(2) النحل:10-16.
واخيراً هذه المناهج كافة إنما قررت من أجله فلا يتصور أن يحيى هو ويموت هكذا سدى دون منهاج، ودون غاية. ويقول في بعض مواقفه:
( قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أنداداً ذلك رب العالمين. وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها فيها أربعة أيام سواء للسائلين. ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض أئتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين. فقضاهن سبع سماوات وأوحى في كل سماء أمرها وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظاً ذلك تقدير العزيز العليم. فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود)(1).
هؤلاء قوم يكفرون بالحق ويعرضون عن آياته أفليس من الحكمة أن يلقى لهم هذا الإنذار الذي تقشعر له الجلود وتجف منه القلوب؟ فلعل وطأة الخوف تحملهم على إعادة النظر والإفادة من الفكرة.
شكوك تثار حول الدِّين
أما الظنن التي أثارها بعض الغربيين حول الدين، وقلدهم من الشرقيين عبيد الغرب في العقول، وأجراؤه في العقيدة، ومستعمروه في الضمائر!!.
أما التهم التي استمسك بها المتحاملون على الدين من هؤلاء وهؤلاء، والتي خلخلت أركانه في أنظارهم على السواء فهي أن الدين ( على ما زعموا) عقبة في طريق العلم، وسد في سبيل التقدم، وأن الدين بيئة تربو فيها النقائص، ففي كنفه يتغلغل الجمود، وفي تربته تترعرع الأوهام وتحت ظلاله تستمكن الرجعية، وفي ميادينه تنجم الفروق وتكثر الفرق، وتنشعب الكلمة، وأن الدين مجال لسخف قوم من المحترفة يقدس الدين آراءهم ويحرم مناقشتهم!!.
بأمثال هذه الوصمات يصمون الدين وبنظائر هذه الطعون يضعون من قدره وينالون من قدسه، وما أيسر الأقوال إذا لم يحفل قائلوها الصدق، وما أخف الدعاوى إذا لم يكترث مدعوها بالبينات..
نشأ الغربي بين جدران بلاده وفي ظل سقوفها، فألفى بين يديه ديناً يحجر العقول أن تنطلق، ويحبس الألسنة أن تقول، ويحظر المواهب أن تستقل!. ووجد كنيسة تعبد سدنتها باسم عبادة الله، وتقدس أقوالهم باسم تقديس الوحي، وتزكي أعمالهم باسم تزكية الحق، وتحترم شهواتهم باسم احترام الدين!. وشهد أساقفة وكهنة يوجبون على الضعيف أن يذل للقوي، وعلى الفقير أن يستكين للغني، وعلى المحكوم أن يستنيم للحاكم المستبد، وأبصر مجتمعاً محروباً منكوباً يؤمن دون تفكير، ويقلد عن غير رشد، ويساق إلى غير سداد.
(1) فصلت:9-13.
نشأ الغربي هناك في بلاده فرأى الدين سلسلة من الموبقات ووجد علم الدين مجموعة من السخف، وألقى كتاب الدين ديواناً من الأباطيل وألفى سدنة الدين طائفة من المشعوذين، ووجد شعار الدعوة إلى الدين ( أن الإيمان فوق العقل، وأن النجاة لمن آمن دون روية، ولمن صدق دون برهان)، أبصر الغربي كل هذا بعينه وأدركه بحسه، فكان من الطبيعي له أن يظن سوءاً وكان من الحق له أن يتهم.
ولكن كان من الحق عليه أن يقتصد في اتهامه وأن يشخص الموضوع لسوء ظنه.
من الحق عليه أن ينظر ملياً قبل أن يبدي حكمه عاماً لا تخصيص فيه، مرسلاً لا تقييد معه.
كان عليه متى أراد أن يتهم الدين في جميع صوره واشكاله أن ينظر إليه في أفقه المتسع الذي تجتمع فيه شتى الديانات، وفي صفاته الجامعة التي تشترك بها عامة المذاهب. أو أن يتقصى الأديان كلها شريعة شريعة ويقلب خواصها طبيعة طبيعة، فإذا وجد في سماتها العامة ما يوجب التهمة، أو رأى في خصائصها الشاملة ما يستدعي النقد فليتهم غير ملوم، ولينقد غير جائر.
source : http://zainealdeen.com