عربي
Sunday 24th of November 2024
0
نفر 0

تفسير ناقص للقضاء والقدر

تفسير ناقص للقضاء والقدر

إن بعض صغار المثقفين بسبب تصورهم الخاطىء عن القضاء والقدر ، يزعمون أن العقيدة بالقدر عامل من عوامل الجمود والركود وعائق للإِنسان عن أي سعي أو عمل في الحياة .

إن السبب في نشوء هذا التصوّر في الغرب هو عدم اطلاعهم على المعنى الصحيح لمسألة القضاء والقدر ولا سيما في تعاليم الإِسلام ، وإن سراية ذلك التصوّر الغربي الخاطىء عن القدر ألى أفكار شعوب الشرق إنما هو بفعل تأخّر هذه الأمم وانحطاطها وانهزامها أمام الغرب وكل ما هو غربي ، إن كل شخص أو أي شعب لم يصل إلى آماله وأمانيه المادية والمعنوية يحاول أن يسلي خاطرة بكلمات من قبيل : الحظ والمصير والصدقة والتوفيق والقضاء والقدر .

إن الاعتقاد بالقضاء والقدر لا يتنافى مع سعي الإِنسان للوصول إلى أهدافه في الحياة ، بل إن المطلعين على الوعي الديني الضروري في هذه المسألة يعلمون بأن الإِسلام قد دعا الناس إلى بذل غاية الجهد في سبيل تنظيم الحياة المادية إلى جانب الروح والمعنى ، وهي دعوة تؤثر في تسريع مساعي الإِنسان للحياة .

من هؤلاء المفكرين الغربيين الذين فسروا القضاء تفسيراً قاصراً هو

( جان بول سارتر ) فقد تصور هذا المفكر الغربي : أنه لا يمكن الجمع بين العقيدة بالقدر الإِلهي وقبول اختيار الإِنسان وحريته في الانتخاب ، وأن لا بدّ من اختيار أحد الأمرين : إما العقيدة بالله وقضائه أو العقيدة بحرية الإِنسان واختياره . . يقول :

« بما أني أعتقد بالحرية فلا أتمكن من أن أعتقد بالله ، إذ لو آمنت بالله وجب علي الخضوع لقضائه وقدره ، وإن قبلت ذلك كان علي أن أغض النظر عن الحرية . . وبما أني أحب الحرية فلا أؤمن بالله » ! .

في حين أنه لا منافاة بين قضاء الله وقدره العام من ناحية وحرية الإِنسان من ناحية أخرى ، إن القرآن الكريم يعترف للإِنسان بدوره الحر والفعال إلى جانب مشيئة الله العامة ، ويراه قادراً على تربية نفسه تربية واعية بمعرفة الحسن والقبيح واختيار أحدهما ، ويقول :( إنا هديناه السبيل إما شاكراًوإما كفوراً)(1)(ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيهاوهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكوراً )(2) ويلوم من يقول يوم القيامة :( لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا ولا حرّمنا من دونه من شيء )(3) .

ولا نرى في أي آية من الآيات القرآنية نسبة الفساد والضلال ولا منعهم عن إصلاح شؤونهم إلى قضاء الله ، فلا تجد آية أدخلت إرادة الله على إرادة الإِنسان ، أو أن تنسب ابتلاء شخص أو شعب إلى اقتضاء القضاء بالباطل ، أجل ، إن القرآن يذكر بغضب الله وأنه يصيب الطغاة من البشر الفاسدين ، وأن لهم بعد ذلك العذاب الأليم .

بما أن الله رؤوف بعباده رحيم بهم منعم عليهم بما لا يحصى فهو قابل التوبة منهم إن عاد منهم عائد إلى طريق الطهارة والصلاح ، يفتح له طريق العودة ويقبل منه التوبة ، وهذه رحمة عظيمة .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 سورة الدهر : الآية 3 .

2 سورة الإِسراء : الآية 19 .

3 سورة النحل : الآية 35 .

 

إن نطاق نفوذ إرادة الإِنسان وإن كان أوسع وأشمل من إرادة كل الأحياء من الحيوانات المعروفة ، إلّا أن أثر إرادته ودوره إنما هو فيما حدّده له الله من حدود ، فلا يمكنه أن يحقق ما أراد على طول الحياة .

كثيراً ما يتفق أن يصمم الإِنسان على عمل لكنه لا يصل إليه مهما حاول ، وليس سبب ذلك أن إرادة الله قابلت إرادة الإِنسان ومنعته عما أراد من عمل ، بل إن هناك عوامل مجهولة خارجة عن علم وقدرة الإِنسان تقف حائلة دون وصول الإِنسان إلى أهدافه .

إننا حينما ندرك أنه لا يمكن وجود علة بلا معلول ، ومعلول بلا علة ، وأن وسائل إدراكنا محدودة قاصرة ، نعلم أننا لا ندرك كل ما نتمناه قطعاً .

إن الله قد أجرى في نظام هذا الوجود مليارات العوامل ، بعضها مفهومة للإِنسان وكثير منها غير معلومة بل لا تدخل تحت أي حساب . . . وعلى هذا المعنى فإن القدر لا ينتهي إلى سلب اختيار الإِنسان ولا يمنعه عن السعي والمحاولة للاستزادة من المعلومات والاستفادة والإِفادة منها ، ولكي يتعرّف على العوامل التي تمهد طريقه إلى مزيد من التوفيقات في الحياة ، وإن هكذا عقيدة بالقدر لتؤثّر في التقدم بأهداف الإِنسان وحاجاته ، لا بالعكس .

وبضمن هذا البحث والذي سبقه حلت مسألة السعادة والشقاء في الإِنسان أيضاً ، إذ أنهما إنما هما صفتان للأفعال والحركات الإِرادية للإِنسان ، ليستا من الأمور غير الاختيارية والعوامل فوق الطبيعية التي تؤثّر في وجود الإِنسان أو دوره في الحياة .

إن عوامل المحيط والوراثة وكل ظواهر الطبيعة لا تؤثّر في سعادة أو شقاء الأشخاص ( أثراً إلزامياً ) فليست هي التي تقرر مصيره بل الذي يصنع مستقبله ويؤدّي به إلى الرقي أو الهبوط هو اختيار الإِنسان نفسه ، ويتبع كيفية إفادته من عقل وعلمه وملكاته التي يتمتع بها .

إن السعادة والفلاح لا علاقة له بكيفية أو كمية تمتع الإِنسان بمواهب

الطبيعة ، أجل ، لا شك أن الذي يتمتع بكمية أكثر أو كيفية أقوى من مواهب الطبيعة يتحمل مسؤولية أكبر ، وإن الانحراف الصغير منه لا يعادل انحراف آخر أضعف منه وأعجز ، بل يحاسب بنسبة الإِمكانات والاستعدادات التي يتمتع هو بها .

من الممكن للذي لا يتمتع إلّا بقليل من القدرات والطاقات المذخورة في طبيعته أن يلائم بين وضعه ومسؤولياته المكلف هو بها ، فيصل بذلك إلى سعادة تليق بمامه الإِنساني .

إذ أن ما يصل بالإِنسان إلى سعادته وفلاحه هو أن يسعى للإِفادة الصحيحة مما فيه من ذخيرة مودعة ، والعكس ممكن أيضاً ، بأن لا يفيد منها الغني الثري بها بل يسيء استعمالها فيسحق بذلك كرامته وشرفه وإنسانيته فيضل ويشقى ولا يفلح أبداً ( كل نفس بما كسبت رهينة )(1) .

وهكذا يرى القرآن أن سعادة أو شقاء كل شخص تتعلق بأموره الاختيارية لا تركيبة الطبيعي والنفسي ، وهذا من آيات عدل الله سبحانه .

و« البداء » من خصائص عقائد الشيعة ، بمعنى أن المصير قد يتبدل بتبدل عوامله وأسبابه ، وأن ما كان يبدو بحسب الظاهر خالداً قطعياً يتغير بتغير أعمال الإِنسان وأفعاله وسيرته .

فكما أن العوامل المادية تؤثر في مصر الإِنسان أحياناً . كذلك قد تؤثر فيه عوامل معنوية أيضاً ، فمن الممكن أن تبدي لنا هذه العوامل المعنوية ما كان خلف الستار خلاف المجاري الظاهرية للأمور ، والحقيقة أنه يبدو لنا أمر جديد من طريق تغير الأسباب والشروط ، فينتهي دور حكمة الأمر الأول بحدوث مصالح الأمر الثاني كما في النسخ ، وكما ليس نسخ القوانين السابقة باللاحقة دليلاً على جهل أو ندم المشرع بل إنما هو كاشف عن انتهاء حكم التشريعات السابقة ، كذلك البداء في التكوين .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

]

1 سورة المدثر : الآية 38 .

 

ويخطىء من يقول في معنى البداء : إن الأمر كان مخفياً على الله ثم ظهر فغيّره لله ! إذ إن عقيدة كهذه تتنافى مع علم الله الشامل ، ولا يمكن لمسلم أن يقبل بذلك .

إن الدعاء من العوامل المعنوية التي لا ينبغي التقليل من أهميتها ، إن الله عالم بأسرار الأمور وبواطنها ، إلّا أن دعاه العبد ربّه في عالم الروح والمعنى وعلاقة العبد بربه ، كنظام العمل في علاقة الإِنسان بالطبيعة .

في كل لحظة تبدو في الطبيعة ظواهر جديدة كانت لها عوامل سابقة ، وفي قسم كبير من عالم الوجود يؤثر الدعاء أثره العميق ، فكما جعل اچ لكل عنصر من عناصر الطبيعة دوراً في نظام العلية ، كذلك جعل للدعاء دوراً في الطبيعة .

فعلى الإِنسان حينما يقع في محاصرة المشكلات أن لا يتجه إلى اليأس والقنوط ، إذ إن أبواب الرحمة الإِلهية لا تغلق على وجه أحد أبداً ، ولربما جاء الغد بوضع جديد من حيث لا يحتسب ( كلَّ يوم هو في شأن )(1) .

ولنفس السبب لا ينبغي للإِنسان أن يترك السعى والعمل في أي موقعية جنباً إلى جنب الدعاء والابتهال ، فإن الدعاء بلا عمل كما قال الإِمام علي (عليه السلام) :

« الداعى بلا عمل كالرامي بلا وتر » ، بل عليه أن يضع أمنياته مع ربه ضمن محاولاته ومساعيه بكل إخلاص ورجاء ، يطلب من القادر المطلق إمداده وإعانته ، ولا شك في عون الله لعبده المؤمن كما قال في قرآنه :

( وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون )(2) .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 سورة الرحمان : الآية 29 .

2 سورة البقرة : الآية 186 .

 

أجل ، إن الروح لا يصل إلى أوج كماله ولا يستغرق في بحار السعادة إلا حينما يجد نفسه منقطعاً عن العلل والأسباب متصلاً بربه وحده ـ من دون الوقوع في حضيض اليأس والقنوط ـ وهنا يرى نفسه مع ربه ويلمس منه عنايته الخاصة ، كما يقول الإِمام السجاد زين العابدين في دعائه الذي علمه أبا حمزة الثمالي :

« اللهم إني أجد سبل المطالب إليك مشرعة ، ومناهل الرجاء إليك مترعة ، والاستعانة بفضلك لمن أملك مباحة ، وأبواب الدعاء إليك للصارخين مفتوحة ، وأعلم أنك للراجين بموضع إجابة ، وللملهوفين بمرصد إغاثة » .

وورد في الروايات في أثر الذنوب : « من يموت بالذنوب أكثر ممن يموت بالآجال » ، « ومن يعيش بالإِحسان أكثر ممن يعيش بالأعمار » « موت الإِنسان بالذنوب أكثر من موته بالأجل ، وحياته بالبر أكثر من حياته بالعمر »(1) .

أجل ، إن أثر الدعاء وبركته هي التي لزكريا يحيى ، والابتهال والتوبة إلى الله هي التي أنقذت يونس بن متّى وقومه من الهلكة والعذاب .

إن القوانين التي أجراها الله في نظام الموجودات في هذا العالم ، لا تحدد قدرته سبحانه ، ولا تشلّ شمولها وعموميتها ، فكما كانت له الخيرة في إيجادها كذلك له الخيار في استمرارها أو تغييرها ومحوها أو إثباتها ( يمحو الله ما يشاء ويثبت ) وليس مغلول اليدين أمام ما وضع هو من قوانين ومظاهر مخلوقة .

ولكن ليس معنى قدرة الله على تبديل بعض ظواهر الطبيعة في كل لحظة ، أنه سبحانه يخرق مقرراته التي أثبتها هو في نظام العالم ، وأنه يقلب القوانين والسنن والأصول ، بل إن نفس ذلك التغيير والتبديل أيضاً يتبع

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 سفينة البحار : ج 1 ص 488 .

 

أصولاً وموازين أخرى لا ندركها أحياناً ، وإن حساب الاحتمالات وبعد النظر فيها تمنع الإِنسان عن التنبؤ القطعي بالحوادث وفق مجاري الطبيعة وأصولها في أي زمان .

ما نعلمه إنما هو صورة من مظاهر الطبيعة في بعض أبعادها وليس كلها ، وهي قاصرة عن درك الأجزاء والعلاقات وكيفياتها ومقاديرها ، ولا تدخل كل إمكاناتها وضروراتها في حدود ما نعي وندرك ، وإن دعوى معرفتها وإظهار النظريات الحتمية بشأن المسائل الطبيعية المعقدة وأبعادها المختلفة ونظام الوجود العظيم ، إنما هي مجرد دعوى بلا دليل .

مهما كانت نظرياتنا بشأن الحياة ، فليس في علم الله أيضاً كذلك كي يؤدّي التغيير فيه إلى الاختلاف في علم الله أيضاً ، بل إن كل الأجزاء والشؤون لهذا الجهاز الوجودي العظيم من الأزل إلى الأبد ومجموعة الحوادث المتحققة والتي ستتحقق ، لا تشكل أي تبد أو تغيير في علم الله الأزلي ، أقل تغيير أو تبدل .

لقد تم ـ والحمدلله ـ الجزء الأول من هذا الكتاب : ( أصول العقائد في الإِسلام ) الذي قد حوى بين جناحيه البحث عن موضوعي : ( توحيد الله وعدله ) .

 

 

محتويات الكتاب

الموضوع   الصفحة

مقدمة المؤلف   …5

الأصل الأول : معرفة الخالق   …9

   دوافع التدين بالأديان   …11

   الاتّجاه الإِلهي في أعماق الوجود الإِنساني   …21

   الله ومنطق العلوم التجربية   …35

   إن الاعتقاد بالموجود غير المرئي لا يختص بالله   …45

   أصل العلية لا يختص بالله   …53

   الأصالة في الحياة   …59

   مظاهر قدرة الله في الطبيعة   …63

   المادة وقوانين الوجود   …67

   توازن وانسجام في الطرفين   …71

   ظاهرة طبيّة تستحق التقدير   …75

   الطبيعة وفنونها الجميلة   …77

   تصوّر الموجود المطلق   …81

   أما مبدأ الوجود فهو غني عن علة لوجوده   …85

   الموجود الفقير يحتاج إلى علّة   …89

الموضوع   الصفحة

   تتبع سلسلة العلل   …91

   العلم يرد على أزلية العالم   …95

   محدودية الإنسان وعجزه   …99

   الخداع العلمي   …103

   دوافع الإنكار واللادينية   …109

   صفات الخالق وخصائصه القرآن كيف يصف الله ؟   …121

   أوصاف المعبود الكامل المطلق   …129

   الدعاء أعلى سمات الشاكرين   …133

   لا سبيل للقياس بصفاته   …137

   وحدانية الله   …143

   القدرة الإِلهية المطلقة   …151

   علم الله الشامل   …159

الأصل الثاني عدلُ اللهِ الشّاملْ   …167

   نظرات حول العدل   …169

   تحليل حول الشرور في العالم   …177

   الآلام منبهات لليقظة والحركة   …185

   صور من التفاوت   …193

   تحقيق حول الجبر والاختيار ( نظرة بدائية إلى أصل الموضوع )   …203

   القائلون بالجبر   …207

   القائلون بالاختيار   …221

   الأمر بين الأمرين   …227

   القضاء والقدر ( كيف تتحق إرادة الله )   …237

   تفسير ناقص للقضاء والقدر   …247

   محتويات الكتاب   …255

0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

الآيات الدالّة على الشفاعة التكوينية
بعض اقوال علماء اهل السنة والجماعة في يزيد ابن ...
الله سبحانه وتعالى احيا الموتى لعزير
کيف نشأة القاديانية و ماهي عقيدتها
وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكرَى تَنفَعُ ...
العلاقة بين رجل الدين والمجتمع
مسؤوليات الشباب في كلام القائد
ما تفسیر آیة "ما یَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ ...
ارضاء الروح
تنصيص النبي السابق على نبوة اللاحق

 
user comment