عربي
Friday 8th of November 2024
0
نفر 0

العقل والروح مسيرة إحيائية واحدة


حين أتحدث عن العقل فإني لا أعني به العلم، لأن العلم ما هو إلا إفراز لحركة العقل ... كما لا أعني به مجرد البديهيات والمواد العقلية الخام التي يستفاد منها في عملية التعقل والتفكير ـ أي أوليات العقل كعدم اجتماع النقائض وبعض المعادلات الرياضية وأشباهها، وإنما أقصد بالعقل ذلك الجهاز الذي يتبنى عملية التفكير وصناعة المفاهيم وتحليل المعاني.
تماماً كما ألمح إليه الإمام علي (ع) في قوله: ((العقل أصل العلم وداعية الفهم)).
كما أني لا أبني في حديثي عن الروح على أنها المعنى الرديف للعاطفة كما يظهر في بعض الأعراف، والتي يمكن أن يقال في تعريفها ـ كما يظهر من بعض الكلمات ـ أنها تلك الحالة التي إذا طغت على النفس البشرية سلبت الإرادة كل قواها، ويمكن أن يستعان في ذلك بما ورد في الأمثلة العربية ((الحب أعمى)) ... فهذه إنما هي حالة تطرأ على الروح وليس الروح ذاتها ... ولا أنها بمعنى الأخلاق والفضائل الروحية كالحب والشجاعة وما أشبه، لأن هذه الأمور قد تكون مواصفات للروح أو صنائع لها، ولهذا فهي تتغير عند الشخص نفسه حيث تنتقل الروح من الحب إلى البغض ومن الشجاعة إلى الجبن ...
وإنما أبني على أن الروح هي ((وجدان الإنسان الداخلي وضميره المستتر)) ... وذلك لا يعني كشفاً لحقيقة الروح فهي أكبر من أن عرفها ونطلع على حقيقتها نحن البشر حيث قال تعالى: (ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً) الإسراء/ 85، وإنما سعيٌ لفهمها ومعرفة حركتها من خلال مظاهرها وتجلياتها المستمرة.
فالروح في اصطلاحنا الذي نسير عليه هي الوجدان الداخلي للإنسان وهي محل الإيمان ومستودعه ... وهو ما يمكن أن نفهمه من قول الرسول (ص): ((إن لله تعالى في الأرض أواني ألا وهي القلوب، فأحبها إلى الله أرقها، وأصغاها، وأصلبها)).
((القلب ملك وله جنود فإذا صلح الملك صلحت جنوده، وإذا فسد الملك فسدت جنوده)).
ثم لا يغيب عنا أن ننبه إلى أن العقل تستخدم له مترادفات في الاصطلاح الديني عامة ـ قرآن وسنة ـ إما بصيغ اسمية أو فعلية: كاللب، والفكر، والحلم، والنهي، والحجر ... كما أن الروح تستخدم لها مترادفات أخرى: كالقلب والنفس والصدر والفؤاد وما أشبه.
وهذا التحديد لعله يتناسب مع ما ذهب إليه ابن سينا في الجملة ـ وإلا فقد نأخذ عليه في فصله العلمي بين العقل والنفس حيث إنه مخالف لما سنتبناه في هذا التأسيس ـ حيث قال: ((الشيء في الإنسان الذي تصدر عنه الأفعال يسمى نفساً ناطقة وله قوتان: إحداهما معدة نحو العمل، ووجهها إلى البدن وبها يميز بين ما ينبغي أن يفعل وبين ما لا ينبغي أن يفعل، ويحسن وينتج من الأمور الجزئية، ويقال له العقل العملي، ويستكمل في الناس بالتجارب والعادات.
والثانية قوة معدة نحو النظر والعقل الخاص بالنفس، وجهها إلى فوق، وبها ينال الفيض الإلهي)).
إذاً هذا هو العقل، وتلك هي الروح ... فما هي طبيعة العلاقة بينهما؟
يمكن استيضاح ذلك من خلال التأمل في آيتين مركزتين، فهما عمدة الإجابة على هذا التساؤل ...
الآية الأولى وردت في سورة الحج، حيث قال تعالى: (أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور) الحج/ 46، والآية الثانية في سورة الأعراف، في قوله تعالى: (ولقد ذرأنا لجهنم كثيراً من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ... ) الأعراف/ 179.
هاتان الآيتان هما المحور الأساسي الذي يمكن من خلاله فهم العلاقة الدائرة بين العقل والروح ... وذلك في قوله تعالى في الآية الأولى (قلوب يعقلون بها) ... وفي الثانية (قلوب لا يفقهون بها).
ينبغي في البدء أن نلاحظ بأن القلوب هنا هي ذاتها القلوب المصطلحة، ولا يراد منها العقول المصطلحة، وما ورد في بعض الروايات ـ على فرض صحتها ـ التي عرّفت القلوب في الآية بالعقول يمكن حمله على ما سنذهب إليه.
وإنما أقول بأن القلوب في الآيتين هي عينها القلوب المصطلحة، والتي ترادف الروح والنفس، لما ورد في عجز الآية الأولى، في قوله تعالى: (ولكن تعمى القلوب التي في الصدور).
فتأكيد الآية عن موطن القلب وهو الصدر يؤكد هذا المعنى، إذ إن العقل موطنه الرأس وليس الصدور.
فإذا كان المقصود في الآية ذلك، فكيف للقلوب أن تعقل أو تفقه، مع أن عملية التعقل والتفقه إنما هي من اختصاصات العقل وليس القلب؟
الآية تقول: (قلوب يعقلون بها) و (قلوب لا يفقهون بها) ... أي بالقلب تتم عملية التعقل والتفقه ...
وهنا قد يتبادر إلى الذهن أن عملية التعقل أساساً محلها القلب وليس العقل ... ولكنه تبادر غير تام وذلك لكثرة الآيات التي تملأ القرآن المتحدثة عن العقل إما بالصيغ الاسمية كـ ((لب ونهي))، أو بالصيغ الفعلية كـ ((عقل وفكر))، وكلها يأمر بالتعقل والتفكر.
فتكون النتيجة أن الآيتين تؤكدان على حقيقة أخرى وهي أن القلب يمكن أن يتداخل مع العقل في السعي نحو العلم والتعرف على الحقائق، بمعنى أن العقل يمكن أن يؤثر في القلب والقلب يؤثر في العقل ليؤديا نتيجة واحدة وهو ذاته الأمر المطلوب في الآيتين.
فالآيتان كلتاهما تؤكدان على أن المطلوب الأسمى هو التزاوج بين العقل والقلب، في عملية التفكير والسعي نحو الحقائق، لأنهما بذلك يمكن أن يقتربا من الصواب ويحرزا الحقيقة، أما إذا انفصلا فإن النتيجة قد تكون معاكسة ...
وذلك يوصلنا إلى أن كل الدعوات القرآنية الحاثة على التعقل والتفكر، لها صلة وثيقة بهاتين الآيتين، من جهة أن كل عملية تعقل يقوم بها العقل ينبغي أيضاً عرضها على القلب ... فكل الآيات التي ورد فيها ((يعقلون)) أو ((يتفكرون)) وأمثال ذلك محكومة بهاتين الآيتين، أي أن هاتين الآيتين حاكمتان ـ بالمعنى الأصولي ـ على سائر الآيات الداعية للتعقل والتفكر، ولكن ليس بمعنى أن التعقل محله القلب دائماً، وإنما التعقل أساساً محله العقل، إلا أن تعقل العقل ينبغي أن يتصل مع القلب في مسيرة واحدة ولا يسير بمفرده، حرصاً على الوصول إلى الصواب.
وهذا ما تؤكده الآيتان حيث تدعو الأولى للسير في الأرض والتعقل، ولكن بحيث يتلاحم العقل مع القلب في عملية التعقل وتلاحمهما كما يظهر من الآية هو الكفيل بقيادتهما إلى الاستنتاجات السليمة ... والثانية تبين أن العاقبة السيئة لكثير من الجن والإنسان كانت سبباً لعدم التلاحم بين العقل والقلب في عملية التفقه ... فتكون النتيجة بذلك ضرورة التلاحم فإنه هو المنهج الصحيح في عملية التفكير والسعي نحو الحقائق.
وهذا التلاحم يؤدي إلى ما يصطلح عليه دينياً باسم ((البصيرة))، فالبصيرة هي ثمرة هذا التلاحم ... وذلك أن القلب إذا انفتح وسار مع العقل في حركاته فإنه سيدرك الحقائق وتنكشف له الأمور، أما إذا طبع عليه فإنه لن يرى شيئاً ... يقول تعالى: (ومنهم مَن يستمع إليك حتى إذا خرجوا من عندك قالوا للذين أوتوا العلم ماذا قال آنفاً أولئك الذين طبع الله على قلوبهم واتبعوا أهواءهم) محمد/ 16.
فلأن الله سبحانه وتعالى طبع على قلوبهم فإنهم لم يدركوا شيئاً مما سمعوه لتوهم من الرسول (ص).
وهكذا كل انسان يُطبع على قلبه، كما أكدت على ذلك آيات قرآنية عدة، منها قوله تعالى: (ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل ولئن جئتهم بآية ليقولن الذين كفروا إن أنتم إلا مبطلون، كذلك يطبع الله على قلوب الذين لا يعلمون) الروم/ 58 ـ 59. ومنها قوله سبحانه: (ثم بعثنا من بعده رسلاً إلى قومهم فجاءوهم بالبينات فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل كذلك نطبع على قلوب المعتدين) يونس/ 74.
وهناك آيات كثيرة غيرها تمتلئ بها صفحات القرآن الكريم، كلها تسير في هذا الاتجاه وتؤكد هذا المعنى المهم، أن عملية التفكير والتعقل لابد لها من ارتباط مع القلب حتى تحقق البصيرة، وهذا هو مفاد عجز الآية الأولى السابقة (فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور).
وبالمناسبة فقد أجاد فضيلة الشيخ محمد علي الجوزو في تحليله لهذا المقطع حيث قال: ((إذاً هناك بصر وبصيرة، هناك رؤية عينية ورؤية قلبية، فقد يمر الإنسان ببصره على كثير من الآيات والدلائل على القدرة الإلهية ولا يحس بها ولا يدرك حقيقتها لأن بصيرته مظلمة، لأنق لبه أعمى، وقد تتكشف له الحقائق فيراها أمامه جلبّة واضحة كضوء الشمس يراها بقلبه، يراها ببصيرته التي في أعماق نفسه، فيدرك أبعادها، ويفهم دقائقها، فيعرف ما وراءها من حكمة.
إنها ((البصيرة)) إذاً، إنها القلب، ولكن القلب هنا قلب مبصر، قلب مشرق ومضيء، قلب يعقل ويدرك، قلب تتكشف أمامه الحقائق كما يسلط النور على الأشياء فتتضح وسط الظلمة.
إنه عقل من ناحية، وإنه وجدان من ناحية ثانية، أو إنه تلك القوة التي تقف وراء العقل ولا نستطيع تحديدها تحديداً مادياً، والتي نسميها الإلهام أحياناً، ويعرفها الشعراء والأدباء والملهمون والعباقرة، وكذلك يعرفها المؤمنون الذين رزقوا شفافية النفس ورِقّة الشعور.
إنها لدى ((المؤمنين)) تلك ((الرؤية الإيمانية)) التي تضيء القلب بنور الإيمان فيرى الوجود بعين البصيرة لا بعين البصر، ويدرك الحقيقة إدراكاص من الداخل لا من الخارج أو الظاهر)).
وقد مال إلى هذا الاتجاه في تحليل هذه الآية الدكتور محمد الصادقي في تفسيره ((الفرقان))، وإن كنتُ أتحفظ على تفريقه بين الصدر والقلب حيث لم يعتبرهما شيئاً واحداً وإنما جهازان مستقلان، والذي يظهر لي من الآيات القرآنية عدم الفارق بينهما ـ لا أقل في الاصطلاح القرآني ... فقد قال: ((رغم أن العقل هو الذي يعقل في البداية، فقد يعقل العقل والصدر ضيق لا ينشرح به ـ وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ـ فإنه استيقان العقول فقط.
أم يعقل الصدر وينشرح بما عقله العقل، والقلب بعد غير عاقل كما يحق، فهو عوان بين الكفر والإيمان، فقد يفسق وقد لا يفسق.
وأما إذا عقل القلب ما عقله الصدر عن معقول العقل، فهنالك الإيمان القمة المرموقة)).
هذا هو مؤدى التلاحم بين العقل والقلب أو ((الروح)) الذي يظهر من الآية المباركة، حيث ينتج عنه البصيرة أو الرؤية الإيمانية، وذلك المآل الصحيح للعمل والنتيجة الأعمق لحركة العقل، وهو تماماً ما أشار إليه الكسيس كاريل في قوله: ((فالحقيقة المستمدة من العلم تختلف اختلافاً تاماً عن تلك المستمدة من الإيمان: فالأخيرة أكثر عمقاً ولا يمكن التشكيك فيها بالمجادلات. إنها تشبه الحقيقة التي يعطيها البصر المغناطيسي، ولكن مما يدعو للغرابة أن هذه الحقيقة ليست غريبة على العمل. إذ من الواضح أن الاكتشافات الكبيرة ليست نتاج العقل فقط. فإن العباقرة يملكون إلى جانب قوتهم على الملاحظة والفهم ـ صفات أخرى مثل البصيرة والخيال المبتدع ـ فعن طريق البصيرة يتعلمون أشياء يجهلها الآخرون، ويدركون العلاقات بين الظواهر شبه المنفصلة، كما يحسون بطريقة لا شعورية بوجود الكنز غير المعروف، وجميع عظماء الرجال وهبهم الله بصيرة، فهم يعرفون دون تحليل أو تفكير ما هي الأشياء الهامة التي يجب عليهم أن يعرفوها)).
إذاً فما تؤدي إليه الآيتان السابقان هو ضرورة التلاحم والتزاوج بين العقل والروح في مسيرة واحدة بحيث لا ينفصل أحدهما عن الآخر ... وللتأكيد على هذه الحقيقة لا بأس باستعراض عدة من الآيات القرآنية التي نطقت بهذا المعنى في مناسبات ومواقف مختلفة، ولكن بدون تحليل لأنها بأجمعها تندرج في سياق التحليل السابق ... من بين تلك الآيات قوله تعالى: (إنما السبيل على الذين يستأذنونك وهم أغنياء رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطبع الله على قلوبهم فهم لا يعلمون) التوبة/ 93، (وإذا ما أنزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض هل يراكم من أحد ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم بأنهم قوم لا يفقهون) التوبة/ 127، (وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه ... ) الإسراء/ 47، (ومَن أظلم ممن ذكِّر بآيات ربه فأعرض عنها ونسي ما قدمت يداه إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقراً وإن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذاً أبداً) الكهف/ 57، (أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها) محمد/ 24، (ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون) المنافقون/ 3.
فلو نلاحظ جميع هذه الآيات، نجد أنها تسير في نفس الخط الذي عبّرت عنه الآيتان السابقتان، إذ إن جميعها يؤكد على أن سبب الضلال والتيه الذي وقع فيه المعنيون في هذه الآيات يعود إلى انفصال القلب عن العقل وهو ((الطبع)) بعينه.
بهذا نفهم أن العلاقة القائمة بين العقل والروح هي علاقة التزاوج، والتي تعني التلاحم في مسيرة تأملية واحدة لإفراز نتيجة واحدة، ليس من الصواب انفكاك أحدهما عن الآخر.
هذا هو العمق الذي يؤكد عليه القرآن الكريم ... وإننا نجد هذا العمق يتجلى تفصيلياً في مقدمات عديدة، بحيث لو قمنا بعمل عكسي وجمعنا تلك المقدمات مع بعضها لأعطت نفس النتيجة التي عبرت عنها الآيات السابقة الملخصة في قوله تعالى: (قلوب يعقلون بها) ... وهذه المقدمات هي كالتالي:
1 ـ إن الخطاب الديني بمختلف أصنافه يؤكد لنا دائماً على أن العقل لابد له من نور روحاني حتى يهتدي بالطريق ... فمجرد أن يكون لدى الإنسان عقل لا يكفي، ما لم يؤيد بالهداية، والهداية نتيجة الإيمان، كما قال تعالى: (ومَن يؤمن بالله يهد قلبه) التغابن/ 11.
فلابد من الإيمان كيما يسير العقل في طريقه الصحيح، وإلا ضلَّ الطريق، كما هو شأن الكثير من الأمم والناس الذين ملكوا العقول ولم ينالوا الهداية، فكانت عاقبتهم سيئة ... ولعله لهذا الأمر أشار إمامنا جعفر الصادق (ع) في تحليله لعقلية معاوية في مرفوعة الكافي، الواردة عن محمد بن إدريس عبدالجبار عن بعض أصحابنا رفعه إلى أبي عبدالله (ص)، قال: قلنا له: ما العقل؟ قال: ما عبد به الرحمن واكتسب به الجنان. قال: قلت: فالذي كان عند معاوية؟ فقال: تلك النكراء تلك الشيطنة وهي شبيهة بالعقل وليست بالعقل)).
وفي هذا الاتجاه أيضاً سارت الآيات المتحدثة عن النور الإلهي في سورة النور ... فبعد أن أكدت الآيات على حقيقة النور الإلهي أنهت بالقول: (نور على نور يهدي الله لنوره مَن يشاء) النور/ 35.
ثم بينت بأن مَن لم يحظ بشيء من هذا النور لن يهتدي للحق، وهذا سبب تخبط الكافرين في التيه والظلام، وذلك في قوله تعالى بعد عدة آيات من تلك الآية: (والذين كفروا أعمالهم كسرابٍ بقيعةٍ يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاء لم يجده شيئاً ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب، أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها ومَن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور) النور/ 39 ـ 40.
ويؤيد ذلك أيضاً قوله تعالى: (أومَن كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها ... ) الأنعام/ 122.
2 ـ التأكيد المستمر في النصوص الشرعية على تأثير الهوس على العقل ... فقد تضافرت الروايات في تأكيد هذا الأمر، ويكفينا منها روايتان لعدم الحاجة للتوسع في هذا الأمر البيِّن لكل مَن له أنسٌ بالآيات القرآنية والروايات ...
جاء في كتاب لأمير المؤمنين لشريح بن الحارث قاضيه لما بلغه أنه ابتاع داراً بثمانين ديناراً، بعد التقريع والتوبيخ: ((شهد على ذلك العقل إذا خرج من أسر الهوى، وسلم من علائق الدنيا)).
كما ورد في كلمة مفصلة للإمام الصادق (ع): ((والهوى عدو العقل)).
وهذا الأمران يختصان ((بحركة العقل))، وما سيأتي يختص بحركة الروح.
3 ـ إشعار النصوص بالعلاقة بين الروح والعلم، أي إن الروح ليست مجرد محطة للنوازع النفسية، وإنما هي أيضاً محطٌ للعلم والمعارف.
فبالإضافة لما مرّ ذكره في مثل هذه الآية من قوله تعالى: (إنما السبيل على الذين يستأذنوك وهم أغنياء، رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطبع الله على قلوبهم فهم لا يعلمون) التوبة/ 93.
وهي توضح بأن سبب عدم علمهم ((طبع القلب)) أي عماه، وذلك يعني بالمفهوم بأنهم لو فتحوا قلوبهم لعلموا .. وهكذا تكون للروح علاقة واضحة مع العلم.
بالإضافة إلى ذلك تأتي الروايات لتؤكد هذه الحقيقة بطرق شتى، منها مثلاً ما ورد في خبر يونس بن عمار، عن أبي عبدالله الصادق (ع)، قال: لا يستيقن القلب أن الحق باطل أبداً، ولا يستيقن أن الباطل حق أبداً)).
وهي تبين أن الروح قابلة لأن تتدخل في اتخاذ المواقف العلمية، وليس أي مواقف وإنما مواقف تعبر عن صميم الحق، حيث إن الرواية تعرض الروح على أنها أشبه بالميزان العلمي الدقيق لاعتباره أنها قادرة على التمييز بين الحق والباطل بدقة شديدة.
ومنها أيضاً ما ورد عن ابن سعد، عن الأزدي، عن أبي عبدالله الصادق (ع)، قال: قال أمير المؤمنين (ع): ... إن قلوب المؤمنين لمطوية بالإيمان طياً، فإذا أراد الله إنارة ما فيها فتحها بالوحي فزرع فيها الحكمة زارعها وحاصدها)).
فالروح يمكن أن تكون محلاً للحكمة إذا اتصلت بالوحي.
ومن هنا يمكن أن نحمل ما ورد في إرشادات الإمام الكاظم (ع) لهشام بن الحكم، من تعريف القلب بالعقل ... حين قال (ع): ((يا هشام إن الله تعالى يقول في كتابه: (إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب) ق/ 37، يعني: عقل، وقال: (ولقد آتينا لقمان الحكمة) لقمان/ 12، قال: الفهم والعقل)).
فالعقل الذي يعنيه الإمام (ع) ـ بناءً على ما تم تأصيله ـ ليس خارجاً عن معنى القلب المشار إليه في الآية، وإنما هو ذاته، لكن ليس القلب الجامد وإنما القلب الذي يعقل، تماماً كما مرّ في الحديث عن قوله تعالى: (لهم قلوب يعقلون بها) ـ كل ذلك بناءً على صحة الرواية وهي مرسلة يصعب الاعتماد عليها.
وبهذا فإذا كان القلب هنا هو القلب الذي يعقل وبالتالي فإنه يمكن أن تشمله الذكرى (إن في ذلك لذكرى)، اتضح وجه العلاقة بين القلب (الروح) والعلم.
4 ـ تأكيد النصوص على أن الروح في حاجة إلى تعقيل، بمعنى تحريك القوة العقلية فيها.
فقد ورد عن رسول الله (ص): ((إن العقل عقال من الجهل، والنفس مثل أخبث الدواب، فإن لم تعقل حارت)).
كما ورد عن الإمام علي (ع): ((النفوس طلقة لكن أيدي العقول تمسك أعنّتها من النحوس)).
وورد عنه (ع) أيضاً: ((أفضل القلوب قلب حُشي بالفهم)).
إن هذه المقدمات الأربع إذا اتحدت مع بعضها، أورثت نفس النتيجة التي أكدتها الآيات القرآنية السابقة وهي ضرورة التزاوج والتلاحم بين العقل والروح في مسيرة واحدة.
ولعل هذا النوع من العلاقة بين العقل والروح هو السبب في حدوث الاختلاط عند بعض العلماء أثناء تعريفهم للمسميات الأربعة ((الروح والقلب والنفس والعقل))، كما أشار إلى ذلك المجلسي في البحار في قوله: ((وأكثر العلماء قد التبس عليهم اختلاف هذه الألفاظ وتواردها، فتراهم يتكلمون في الخواطر، ويقولون هذا خاطر العقل، وهذا خاطر الروح، وهذا خاطر النفس، وهذا خاطر القلب، وليس يدري الناظر اختلاف معاني هذه الأسماء)).
ويبدو لي أن ممن اختلط عليه الأمر أيضاً هو نفسه العلامة المجلسي وذلك حين قال: ((فإذا عرفت ذلك فاعلم أن النفس والروح والقلب والعقل ألفاظ متقاربة المعاني))، ثم استرسل في تعريفها بتعريفات متقاربة جداً وكأنها شيء واحد ... والحق أن الروح والقلب والنفس تعبر عن شيء واحد في الاصطلاح الديني وهو ما سبق أن عرفناه بوجدان الإنسان الداخلي ومستودع الإيمان، بينما يعبّر العقل عن شيء آخر مستقل وهو الجهاز المتكفل بعملية التفكير ... فالروح ((القلب والنفس)) شيء والعقل شيء آخر، إلا أن بين هاتين القوتين المستقلتين نوع اتحاد وتزاوج، وذلك في أزمنة العمل، فمع أنهما مختلفان ذاتاً إلا أنهما يشتركان في مهمة علمية واحدة ليفرزوا نتيجة واحدة ... ولا يمكن لأحدهما الحركة والعمل بعيداً عن الآخر.
لكن لماذا لا يمكن لأحدهما العمل مستقلاً؟
يمكن استخلاص الإجابة من التأسيس الذي سبق، وحاصله أن العقل لابد له من صفاء روحي حتى يؤدي دوره بشكل صحيح، والروح أيضاً لابد لها من عقلنة حتى تستقيم في حركتها ... وبهذا يتكامل العقل والروح في مسيرة الإحياء الاجتماعي، فلا يمكن لنا في هذه المسيرة التركيز على منشطات العقل وتناسي الروح، كما لا يمكن إيلاء الروح كل الاهتمام وتغافل العقل.
ولإيضاح ذلك يمكن لنا مراجعة أي تجربة تركز على أحدهما دون الآخر، فإننا لا محالة سنجد الاضطراب نتيجة طبيعية لذلك ...

0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

موقف ابن تيمية من مناقب علي بن أبي طالب عليه ...
الشيعة غير الروافض
لكي نتخلّص مِن الكسل العبادي
في قول النبي لأهل بيته: (أنا حرب لمن حاربكم) ...
خير العمل
مشاركة الجن للانس في شريعة الاسلام
هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى
هل للدين نهاية؟
حديث المنزلة ق(8)
المشروع الفضائي الشيعي هل هو ضرورة ؟

 
user comment