الكسل العبادي حالة من الاسترخاء والضجر في ممارسة العبادة: قال تعالى: “وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُواْ كُسَالَى”. (النساء/ ۱۴۲)، والذي ينتج خشوعًا وانصهارًا وذوبانًا مع العبادة: قال تعالى: “قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ، الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ”. (المؤمنون/ ۱-۲)، وهناك نص قرآني يجمع بين النوعين من العبادة: ﴿وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ﴾. (البقرة/ ۴۵)
والسؤال الذي يطرح: كيف نتخلّص من الكسل العبادي وكيف نعطي لعبادتنا خشوعًا وانصهارًا وذوبانًا؟ المسألة ليست مجرد قرار يفرض نفسه على صلاتي وعبادتي، والخشوع ليس أمرًا متكلّفًا، وقد أضغط على جوارحي في الصلاة لتكون خاشعة، إلّا أنّ ذلك لا يصنع خشوعًا حقيقيًّا، ما دام القلبُ لا يعيش الخشوع “إذا خشع القلب خشعت الجوارح”. لكي نتخلَّص مِن الكسل العبادي، يجب أن نتعرَّف على العوامل التي تؤدِّي إلى هذا الكسل، وبعد ذلك نمارس عملية التحرُّر من تلك العوامل. أهم العوامل التي تنتج الكسل العبادي:
العامل الأول: قسوة القلب.
“ألَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ”. (الحديد/ ۱۶).
هكذا حينما تقسو القلوب يموت الخشوع، ولا يقف الأمر عند هذا، بل ينزلق الإنسان في خطِّ الانحراف عن الدين والابتعاد عن منهج الله ﴿وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ﴾. (الحديد/۱۶). وإذا تحجَّرت القلوب لم تعد تُصغي إلى وعظٍ أو نُصحٍ أو إرشاد، أو إنذار “فلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾. (الأنعام/ ۴۳) وعندها تحلّ عليهم لعنة الله.. “فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً”. (المائدة/ ۱۳) – وفي الحديث عن رسول الله صلّى الله عليه وآله: “إنّ أبعدَ النّاسِ من الله القاسي القلب”. – وقال صلّى الله عليه وآله: “مِن الشَّقاءِ جمود العين، وقسوة القلب، والحرص في طلب الدنيا، والإصرار على الذنب”. – وقال الإمام الباقر عليه السَّلام: “ما ضُرب عبدٌ بعقوبةٍ أعظم من قسوة القلب”. وكيف تتشكَّل القسوة في القلوب؟ لذلك أسبابٌ كثيرةٌ منها:
السبب الأول: ارتكاب الذنوب والمعاصي:
– قال تعالى: “كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ”. (المطفِّفين/ ۱۴). – وقال أمير المؤمنين عليه السَّلام لرجلٍ شكى إليه جمود العين: “ما جفَّت الدموع إلَّا لقسوة القلوب، وما قست القلوبُ إلَّا لكثرة الذنوب”. – وجاء عن الإمام الباقر عليه السَّلام: “ما مِن عبدٍ إلَّا وفي قلبه نكتة [يعني نقطة] بيضاء، فإذا أذنب ذنبًا خرج في النكتةٌ نكتةٌ سوداء، فإن تاب ذهب ذلك السواد، وإن تمادى في الذنوب زاد ذلك السواد حتّى يُغطِّي البياض، فإذا تغطَّى البياضُ لم يرجع صاحبه إلى خيرٍ أبدًا وهو قول الله عزّ وجل: ﴿كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ (المطفِّفين/ ۱۴)”. – وفي حديثٍ للإمام الصَّادق عليه السَّلام: “وكان أبي عليه السَّلام يقول: ما مِن شيئٍ أفسد للقلب مِن خطيئة، إنَّ القلب ليواقع الخطيئة فما تزال به حتى تغلب عليه، فيصير أعلاه أسفله”. – وقال عليه السَّلام: “إذا أذنب الرجل خرج في قلبه نكتةٌ سوداء، فإن تاب انمحت، وإن زاد زادت حتَّى تغلب على قلبه فلا يفلح بعدها أبدًا”. فالذين يمارسون الذنوب والمعاصي لا يمكن أن تخشع قلوبهم لذكر الله.. ولا يمكن أن يجدوا لذَّة العبادة «كيف يجد لذة العبادة من لا يصوم عن الهوى”. فلكي نعيد لقلوبنا الخشوع، ولعباداتنا الروحانية فلنبدأ بالتحرّر مِن المعاصي والذنوب كبائِرها وصغائرها. العوامل التي تنتج الكسل العبادي كثيرة، وأول هذه العوامل (قسوة القلب)، وقلنا إنّ لهذه القسوة أسبابًا متعدّدة، تناولنا – فيما تقدّم من حديث – السبب الأول وهو (ارتكاب الذنوب والمعاصي) وهذا السبب كما يؤثّر في إنتاج الكسل العبادي من خلال ما يوجده في القلب من قسوة، فهو كذلك عامل مباشر في حدوث الكسل العبادي… نتابع الحديث فيما هي أسباب قسوة القلب:
السبب الثاني: أكل الحرام:
حينما نتحدّث عن (الأكل الحرام) نتحدّث عن الأكل والشرب.. وهذه بعض أحاديث تتناول (أكل الحرام): – قال رسول الله صلّى الله عليه وآله: “مَنْ أكل لقمةً مِن حرام لم تقبل له صلاة أربعين ليلة”. وربّما يفهم من هذه الحديث أنّ أكل الحرام سببٌ مباشر في عدم قبول الصلاة لمدة أربعين ليلة… وهنا احتمال آخر وهو: إنّ أكل الحرام له أثر كبير في خلق (القسوة في القلب)، والقسوة تسبّب (إدبار القلب) في الصلاة لمدة أربعين ليلة، والإدبار – كما يأتي ذلك – يمنع قبول الصلاة. – وقال صلّى الله عليه وآله: “العبادة مع أكل الحرام كالبناء على الرمل” [وقيل: على الماء]”. تصوّروا بناءً يُقام على رملٍ أو على ماءٍ، هل يثبت هذا البناء، كلّا، وإذا ثبت بعض الوقت فسرعان ما ينهار، فعبادة مع أكل الحرام عبادة ليس لها ثبات وليس لها استقرار، عبادة تسقط وتنهار، بمعنى لا قيمة لها عند الله تعالى… فكما الجهد ضائع في البناء على الرمل أو الماء، فكذلك الجهد في الصلاة جهد ضائعٌ وخاسرٌ ما دام الإنسان مصّرًا على أكل الحرام… وفي الحديث: “مَنْ أكل الحرام أسود قلبه، وضعفت نفسه، وقلّت عبادته، ولم تستجب دعوته”. من خلال هذا الحديث تتّضح بعض الآثار الخطيرة لأكل الحرام، من هذه الآثار:
اسوداد القلب:
وهو تعبير عن (ظلمة القلب) و(عمى القلب) فإذا اسوّد القلب أو أظلم أو عمي أصيب بالقسوةِ والتحجّر بل أشدّ قسوة من الحجارة “ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ المَاء وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ”. (البقرة/ ۷۴). فالحجارة وهي تبدو صلبةً قاسيةً، إلّا أنّها تتفجّر أنهارًا تنشر الخصبَ والجمالَ، وتتشقّق ينابيع صغيرة تسقي ما حولها، ومَنْ حولها، وتهبط خاضعة خاشعة لله تعالى، أمّا القلوب القاسية فهي: – متحجّرة كلّ التحجّر لا تنفتح على الهدى والصلاح والخير والاستقامة، عمياء لا تملك الوعي والبصيرة.. – وهي خاوية خالية من الرحمة، والرفق، والمشاعر الإنسانية النبيلة.. يملؤها الحقد والكراهية والعداوة والأنانية.. – وهي ناضبة كلّ النضوب من خشية والخشوع لله تعالى..
القلوب المتحجِّرة:
إنّ النماذجَ البشريةَ التي تملكُ تلك القلوبَ المتحجِّرةَ العمياءَ، الخاليةَ من الرحمةِ، المملوءةَ بالعدوانية الناضبةَ مِن خشية الله، نماذجُ تدمّرُ، تُشرّدُ، تسجنُ، تُعذّبُ، تقتل، تمارسُ العنفَ، تنشر الفساد، تزرع الخوف في الأرض، تصادر العدل والحرية والكرامة، تعبث بكلّ القيم…
ضعف الإرادة الإيمانية:
الأثر الثاني من آثار الحرام (ضعف الإرادة الإيمانية) في داخل النّاس، فيسقط أمام شهوات النفس، وأمام إغراءات الشيطان، وأمام مضلَّات الفتن، كما يعيش الانهزام حينما يواجه التحدِّيات النفسية والفكرية والأخلاقية والاجتماعية والسّياسية.
أخطر ما تصاب به الشعوب:
إنّ أخطر ما يصاب به الإنسان، وما تصاب به الشعوب هو (انهزام الإرادة) أو (انسحاق الإرادة) وهذا ما تسعى لإنتاجه الأنظمة السّياسية الحاكمة ولكي تستمر في هيمنتها على الشعوب فيجب أن تبقي هذه الشعوب (مكسورة الإرادة)، (مسلوبة الإرادة) خانعة مستسلمة، مقهورة، لأنّ تحرّر الإرادة، وصحوة الإرادة يجعلها تتمرّد على الواقع المأسور، ويجعلها تثور وتغضب، وتكسر كلّ القيود.. أمّا الأنظمة العادلة والديمقراطية، والمتصالحة مع شعوبها، فلا تخشى حينما تمنح للشعوب كلّ الحرية في التعبير عن إرادتها، وعن مطالبها، وعن مواقفها، وعن محاسباتها لكلّ سياسات الأنظمة.. إنّ شعوبًا تملك الإرادة في أن تقول الكلمة، وأن تحاسب الأنظمة، وأن تدافع عن حقوقها المشروعة، بلا أن تواجه البطش، والقمع، والقتل، إنّ هذه الشعوب لن تعادي الأنظمة، ولن تتمرّد عليها، ولن تثور ضدّها، ولن تدفع أثمانًا باهضة من دماء وأرواح وأعراض وأموال، ومن أوضاع مأزومة، ومن غياب مرعب للأمن والأمان(…).