قبل أن نخوض في التفاصيل لا بُدَّ لنا من معرفة معنى ( الروافض ) في اللغة ، والاصطلاح :
أولاً :
جاء في تاج العروس : الروافض كل جند تركوا قائدهم ، والرافضة فرقة منهم ، والرافضة أيضاً فرقة من الشيعة .
قال الأصمعي : سُمُّوا بذلك لأنهم بايعوا زيد بن علي ، ثم قالوا له : تبرأ من الشيخين ، فأبى وقال : لا ، كانا وزيرَي جَدِّي ، فتركوه ، ورفضوه ، وأرفِضُوا عنه .
ثانياً :
فرَّق القاضي عياض في كتابه ( ترتيب المدارك في أعلام مذهب مالك ) ، بين الشيعة والرافضة ، وذلك حينما قارن مذهب الإمام مالك بغيره فقال : فلم نَرَ مذهباً من المذاهب غيره أسلم منه ، فإن فيهم الجَهَميَّة ، والرافضة ، والخوارج ، والمُرجِئة ، والشيعة ، إلا مذهب مالك ، فإنا ما سمعنا أحداً من نَقَلَة مذهبه قال بشيء من هذه البِدَع .
الفرق بين الرافضة والشيعة :
تبين من جملة القاضي عياض أن الرافضة غير الشيعة ، لمكان التغاير الناتج من العطف ، ومن هذا ومن غيره مما نقله أصحاب المقالات ممَّا لا يخرج عن نفس المضمون ، يتَّضح أن اصطلاح ( الروافض ) مأخوذ بمعناه اللغوي ، في أنه لكل جُندٍ رفضوا قائدهم .
وتطبيقه على أصحاب زيد من باب تطبيق الكُلِّي على أحد مصاديقه ، وإلى هنا فإن المسألة طبيعية ، لكن الذي يلفت النظر أن يكون أصحاب زيد طلبوا منه البراءة من الشيخين ، فإن ذلك مَحلُّ تأمُّل طويل ، للأسباب التالية :
الأول :
إن هؤلاء الذين طلبوا البراءة لو كانوا شيعة فلا بُدَّ أنهم حريصون على نصر زيد ، وكسب المعركة ، ضرورة أن مصيرهم مرتبط بمصير زيد ، فإذا هُزِم فمعنى ذلك القضاء عليهم قضاءً تامّاً ، خصوصاً وأن خصومهم الأمويون الذين يقتلون على الظنَّة والتهمة كل من يميل إلى آل أبي طالب .
فما الذي دفعهم إلى خلق هذه البَلْبَلة التي أدَّت إلى انفضاض جند زيد عنه ، وبالتالي إلى خسارته للمعركة ، فموتُه شهيداً على أيدي الأمويين يجعل من هؤلاء أنهم ليسوا من الشيعة ، وإنما هم جماعة مُندَسَّة ، أرادت إحداث البلبلة للقضاء على زيد ، واحتمال كسبه للمعركة .
الثاني :
وعلى فرض التنزُّل والقول بوجود فرقة خاصَّة من رأيها رفض الشيخين ، فما معنى سحب هذا اللَّقب على كل شيعي يوالي أهل البيت ( عليهم السلام ) ، حتى أصبح هذا الأمر من المُسلَّمات ، فوجدنا الشافعي يقول في أبياته الشهيرة :
أعَلِمتُمُ أنَّ التشـيُّع مَذهَبي ** إنِّي أقولُ بِهِ ولستُ بِناقِضِ
إن كانَ رَفضاً حُبُّ آلِ مُحمَّدٍ ** فَليشهَدِ الثقلان أنِّي رَافِضي
فالبيت الأخير ذكره الزبَيدي في ( تاج العروس ) ، في مادة ( رَفَض ) .
فتعبير الشافعي بـ ( إن كان رفضاً حُبُّ آلِ مُحمَّدٍ ) ، يدلُّ على أن هناك إرادة لِسَحب اللَّقب : ( رافضي ) على كل شيعي مبالغة في التشهير بهم ، وشحن المشاعر ضدهم ، ومما يؤيد على أنها تتمشَّى مع تخطيط شامل ، يستهدف محاصرة التشيع ، والتشهير به ، وبكل وسيلة ، سليمة كانت أم لا .
شتم الصحابة :
قد يُقال إنَّه لا شك في وجود جماعة تشتم الصحابة ، فما هو السبب في كونهم من هذا الصنف ، في حين تدَّعون أن الشتم لا تقرّه الشيعة ، ولا أئمتهم ( عليهم السلام ) ؟ وللجواب على هذا السؤال لا بُدَّ من الرجوع إلى مجموعة من الأسباب تشكِّل فعلاً عنيفاً ، استوجَبَ رَدُّ الفعل ، ومن هذه الأسباب ما يلي :
أولاً :
مطاردة الشيعة المروِّعة ، والتنكيل بهم ، وما تعرَّضوا له من قتل وإبادة على الظنَّة والتهمة ، وفي أحسن الحالات الملاحقة لهم ، والمحاربة برزقهم ، ومنعهم عن عطائهم من بيت المال ، وفرض الضرائب عليهم ، وعزلهم اجتماعياً وسياسياً .
وبوسع القارئ الكريم الرجوع إلى التاريخ الأموي في الكوفة وغيرها من المدن الشيعية ، ليقف بنفسه على ما وصلت إليه الحالة ، وما انتهى إليه وُلاة الأمويين ، من قسوة ، ومن هبوط في الإنسانية ، إلى مستويات يتبرأ منها الوحش في العهدَين الأموي ، والعباسي .
إن مثل هذا الاضطهاد يستلزم التنفيس عن الكَبْت ، فقد يكون هذا التنفيس في عمل إيجابي بشكل من الأشكال ، وأحيانا قد يكون سلبيّاً ، فيلجأ إلى هذا الشتم ، ولسنا نبرِّر ذلك بحال من الأحوال ، لما سبق أن ذكرناه من أسباب .
ثانياً :
إن الذي أسَّس هذه الظاهرة هم الأمويون أنفسهم ، لأنهم شتموا الإمام علي ( عليه السلام ) على المنابر ، وشتموا أهل البيت ( عليهم السلام ) أيضاً ، واستمر ذلك لمدة ثمانين سنة ، ومما عمَّق هذه الظاهرة هو الالتواء في معالجة هذه المشكلة ، من قبل أعلام السنة .
فعلى سبيل المثال ، نجد ابن تيميَّة يؤلف كتابه ( الصارم المسلول في كُفرِ من شتم الرسول أو أحد أصحاب الرسول ) ، فيحشد فيه الأدلة على كفر الشاتم ، ولكنه مع ذلك ومع عَلمِه بما قام به معاوية والأمويون لا يقول بِكُفر الأمويِّين ، الذين قاموا بشتم الإمام علي وأهله ( عليهم السلام ) .
إن الإمام علي ( عليه السلام ) هو أخو رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، وضحَّى بكل ذَرَّة من كيانه في خدمة الإسلام والمسلمين ، فلماذا لا يُكفَّر شاتِمُه ؟
وإليك مثالاً آخر : فقد تولَّى يزيد بن معاوية الحكم لمدة ثلاث سنوات ، قَتَل في سَنةٍ منها الإمام الحسين ( عليه السلام ) وأهل بيت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، وسَبَى عيالهم ، وذَبَح أطفالهم ، وعمل فيهم أعمالاً لا تصدر من كسرى وقيصر ، وفي سنة ثانية قتل عشرة آلاف من المسلمين ، وسبعمِائة من الصحابة ، حَمَلَة القرآن .
واستباح المدينة ثلاثة أيام ، وسَمَح لجُندِ أهل الشام أن يَهتكوا أعراض المسلمات ، وذبح الأطفال ، حتى كان الجندي الشامي يأخذ الرضيع من ضرع أمه ، ويقذف به الجدار ، حتى ينتشر مُخَّه على الجدار .
وأجبر الناس على بيعة يزيد على أساس أنَّهم عبيد له ، وأخاف المدينة ، وروَّع الناس ، وأحال أرض المدينة المنوَّرة إلى برك من الدماء ، وتُلُول من الأشلاء .
وفي سنة ثالثة سَلَّط ( المَنجَنِيقَات ) على الكعبة ، وهدَّمها ، وأحرقها ، وزعزَعَ أركانها ، وجعل القتال داخل المسجد الحرام ، وسال الدم حتى في قاع الكعبة .
وقد استعرض ذلك مُفصَّلاً كلٌ من : ( تاريخ الخميس ) للديار بكري ، والطبري ، وابن الأثير في تاريخيهما ، والمسعودي في ( مروج الذهب ) ، وغيرهم من المؤرِّخين في أحداث سَنَة ستين ، حتى ثلاث وستين من الهجرة .
ومع ذلك كلّه تجد كثيراً من أعلام السنة يُخطِّئون من يخرج لقتال يزيد ، وأن الخارج عليه يُحدث فِتنة ، ووصل الأمر إلى حَدِّ تَخطِئَة الإمام الحسين ( عليه السلام ) سيد شباب أهل الجنة .
فكأنَّ النبي ( صلى الله عليه وآله ) عندما قال : ( الحَسَنُ والحُسَين سَيِّدا شَباب أهلِ الجنَّة ) .
ما كان يعلم ( صلى الله عليه وآله ) بأنه ( عليه السلام ) يقاتل يزيد ، وحينما قال ( صلى الله عليه وآله ) : ( إنَّ الحُسينَ وأصحابه يدخُلُون الجنَّة بغير حِسَاب ) ، لم يأخذ ( صلى الله عليه وآله ) في حسابه أنهم خارجون على يزيد .
وكأن ابن العربي المالكي أعرف بمصائر الأمور من النبي ( صلى الله عليه وآله ) نفسه الذي يرسم للإمام الحسين ( عليه السلام ) مصيره ، ويأمره بتنفيذ ذلك .
وهذا الغزالي ، أمام عينيه عشرات من كتب السيَر والتاريخ ، التي تؤكد بالطرق الموثوقة بَشَاعة الأحداث التي تمَّت بأمر يزيد ، وبفعله المباشر لبعضها ، لكنه يقول في كتابه ( إحياء علوم الدين ) ، باب ( اللعن ) : ( فإن قيل : هل يجوز لعن يزيد لأنه قاتل الحسين ، أو أمَرَ به ، قلنا : هذا لم يثبت أصلاً ، فلا يجوز أن يُقال : إنه قتله ، أو : أمر به ، ما لم يثبت ، فضلاً عن لعنه ، لأنه لا يجوز نِسبة مُسلمٍ إلى كبيرة من غير تحقيق ) .
إلى أن قال : ( فإن قيل : إن يقال : قاتل الحسين لعنه الله ، أو الآمر بقتله لعنه الله ، قلنا : الصواب أن يقال : قاتل الحسين إن مات قبل التوبة لعنه الله ) .
فهل كل كتب السيَر والتاريخ عند المسلمين ، والتي نصَّت على صدور هذه الأحداث أمراً ومباشرة من يزيد ، كلّها لا تُثبِتُ أفعال يزيد ، ولا تدينه ؟! وعنده أنَّ يزيد ، وأمثاله من قتلة الأنبياء ( عليهم السلام ) ، وأبناء الأنبياء ( عليهم السلام ) ، مِمَّن يوفَّقون للتوبة .
ويصل الأمر إلى رمي أهل البيت ( عليهم السلام ) بالشذوذ ، فضلاً عن عدم ترتيب الأثر على شَتمهم ، فيقول ابن خلدون في المقدَّمة : ( وشَذَّ أهل البيت بِمَذاهب ابتدعوها ، وفقه انفردوا به ، وبنوه على مذهبهم ، في تناول بعض الصحابة بالقدح ، وعلى قولهم بعصمة الأئمة ورفع الخلاف عن أقوالهم ، وهي كلّها أصول واهية ) .
يقول ذلك ونصب عينيه أحاديث النبي ( صلى الله عليه وآله ) في أهل بيته ، كما رواه ابن حجر بصواعقه ( في كل خلف من أمتي عدول من أهل بيتي ينفون عن هذا الدين تحريف الضالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين ألا وإن أئمتكم وفدكم إلى الله تعالى فانظروا من توفدون ) ، ونصب عينه أيضا ما قاله النبي ( صلى الله عليه وآله ) كما رواه الحاكم في ( المستدرك ) :
( ومن أحب أن يَحيا حياتي ، ويَمُوت ميتتي ، ويدخل الجنة التي وعدني بها رَبِّي ، وهي جَنَّة الخلد ، فليتوَلَّ عَليّاً وذريَّته من بعدي ، فإِنَّهم لم يُخرجوكم من هُدىً ، ولن يُدخلوكم باب ضلالة ) .
ونحن - والله يعلم - إذ نورد أمثال هذه المقاطع ، فإنَّما نريد وضع اليد على الدملة التي أهلكنا التهابها عبر السنين ، لأن أمثال هذه المواقف إنما تُعمِّق جذور الخلاف ، فيكون التنفيس عنها سلبياً أحياناً ، كما نحمِّل كُتَّاب المسلمين مسؤولية شَجب هذه المواقف التي رحل واضعوها ، وبقيَتْ مصدر بلاءٍ على المسلمين .
وإن مما يَبعثُ على الاستغراب أن يَسكُت علماء وكُتَّاب المسلمين على أقوال ابن خلدون وأمثاله ، مع قيام الأدلة على أن أهل البيت ( عليهم السلام ) هم الامتداد المضموني للنبي محمد ( صلى الله عليه وآله ) .
source : www.tebyan.net