عربي
Friday 8th of November 2024
0
نفر 0

هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى

هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى

لق الله الإنسان بارادته وقدرته وزوّده بعنصري العقل والإرادة ، فبالعقل يبصر ، ويكتشف الحقّ ويميّزه عن الباطل ، وبالإرادة يختار ما يراه صالحاً له ومحقّقاً لأغراضه وأهدافه.
وقد جعل الله العقل المميِّز حجّةً له على خلقه ، وأعانه بما أفاض على العقول من معين هدايته ؛ فإنّه هو الذي علّم الإنسان ما لم يعلم ، وأرشده إلى طريق كماله اللائق به ، وعرّفه الغاية التي خلقه من أجلها ، وجاء به إلى هذه الحياة الدنيا من أجل تحقيقها.
وأوضح القرآن الحكيم بنصوصه الصريحة معالم الهداية الربّانية وآفاقها ومستلزماتها وطرقها ، كما بيّن لنا عللها وأسبابها من جهة ، وأسفر عن ثمارها ونتائجها من جهةٍ اُخرى.
قال تعالى :
(قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى) (1)
(يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (2)
(وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ) (3)
(وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (4)
(قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلاّ أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) (5)
(وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) (6)
(وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ) (7)
فالله تعالى هو مصدر الهداية ، وهدايته هي الهداية الحقيقية ، وهو الذي يأخذ بيد الإنسان إلى الصّراط المستقيم وإلى الحقّ القويم. وهذه الحقائق يؤيّدها العلم ، ويدركها العلماء ويخضعون لها بملء وجودهم.
ولقد أودع الله في فطرة الإنسان النزوع إلى الكمال والجمال ، ثمّ مَنّ عليه بإرشاده إلى الكمال اللائق به ، وأسبغ عليه نعمة التعرّف على طريق الكمال ، ومن هنا قال تعالى : (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ) (8)
وحيث لا تتحقّق العبادة الحقيقية من دون المعرفة ؛ إذ كانت المعرفة والعبادة طريقاً منحصراً وهدفاً وغايةً موصلةً إلى قمّة الكمال.
وبعد أن زوّد الله الإنسان بطاقتي الغضب والشهوة ؛ ليحقّق له وقود الحركة نحو الكمال ، لم يؤمَن عليه من سيطرة الغضب والشهوة والهوى الناشئ منها والملازم لها ؛ فمن هنا احتاج الإنسان ـ بالإضافة إلى عقله وسائرأدوات المعرفة ـ إلى ما يضمن له سلامة البصيرة والرؤية ؛ كي تتمّ عليه الحجّة ، وتكمل نعمة الهداية ، وتتوفّر لديه كلّ الأسباب التي تجعله يختار طريق الخير والسعادة ، أو طريق الشرّ والشّقاء بملء إرادته.
ومن هنا اقتضت سُنّة الهداية الربّانية أن يُسند عقل الإنسان عن طريق الوحي الإلهي ، ومن خلال الهُداة الذين اختارهم الله لتولِّي مسؤولية هداية العباد ، وذلك عن طريق توفير تفاصيل المعرفة ، وإعطاء الإرشادات اللازمة لكلّ مرافق الحياة.
وقد حمل الأنبياء وأوصياؤهم مشعل الهداية الربّانية منذ فجر التاريخ وعلى مدى العصور والقرون ، ولم يترك الله عباده مهملين دون حجّة هادية ، وعلم مرشد ونور مُضيء ، كما أفصحت نصوص الوحي ـ مؤيّدةً لدلائل العقل ـ بأنّ الأرض لا تخلو من حجّة لله على خلقه ؛ لئلاّ يكون للناس على الله حجّة.
فالحجّة قبل الخلق ومع الخلق وبعد الخلق ، ولو لم يبقَ في الأرض إلاّ اثنان لكان أحدهما الحجّة. و [قد] صرّح القرآن بشكل لا يقبل الريب قائلاً : (إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ) (9)
ويتولّى أنبياء الله ورسله وأوصياؤهم الهداة المهديّون مهمّة الهداية بجميع مراتبها ، والتي تتلخّص في :
١ ـ تلقِّي الوحي بشكل كامل ، واستيعاب الرسالة الإلهية بصورة دقيقة.
وهذه المرحلة تتطلّب الاستعداد التام لتلقّي الرسالة ؛ ومن هنا يكون الاصطفاء الإلهي لرسله شأناً من شؤونه ، كما أفصح بذلك الذكر الحكيم قائلاً : (اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ) (10)
و (اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ) (11)
٢ ـ إبلاغ الرسالة الإلهية إلى البشرية ولمَنْ اُرسلوا إليه ، ويتوّقف الإبلاغ على الكفاءة التامّة التي تتمثّل في «الاستيعاب والإحاطة اللازمة» بتفاصيل الرسالة وأهدافها ومتطلّباتها ، و «العصمة» عن الخطأ والانحراف معاً ، قال تعالى : (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ) (12)
٣ ـ تكوين اُمّة مؤمنة بالرسالة الإلهية ، وإعدادها لدعم القيادة الهادية من أجل تحقيق أهدافها وتطبيق قوانينها في الحياة.
وقد صرّحت آيات الذكر الحكيم بهذه المهمّة مستخدمةً عنواني التزكية والتعليم ، قال تعالى : (يُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ) (الجمعة ٢) والتزكية هي التربية باتّجاه الكمال اللائق بالإنسان. وتتطلّب التربية القدوة الصالحة التي تتمتّع بكلّ عناصر الكمال كما قال تعالى : (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) (13)
٤ ـ صيانة الرسالة من الزيغ والتحريف والضياع في الفترة المقرّرة لها. وهذه المهمة أيضاً تتطلّب الكفاءة العلمية والنفسية والتي تُسمّى العصمة.
٥ ـ العمل لتحقيق أهداف الرسالة المعنوية ، وتثبيت القيم الأخلاقية في نفوس الأفراد وأركان المجتمعات البشرية ، وذلك بتنفيذ الاُطروحة الربّانية ، وتطبيق قوانين الدين الحنيف على المجتمع البشري من خلال تأسيس كيان سياسيٍّ يتولّى إدارة شؤون الاُمّة على أساس الرسالة الربّانية للبشرية ، ويتطلّب التنفيذ قيادةً حكيمةً ، وشجاعةً فائقةً ، وصموداً كبيراً ، ومعرفةً تامّةً بالنفوس وبطبقات المجتمع ، والتيارات الفكرية والسياسية والاجتماعية ، وقوانين الإدارة والتربية وسنن الحياة ، ونلخّصها في الكفاءة العلمية لإدارة دولة عالمية دينية ، هذا فضلاً عن العصمة التي تعبّر عن الكفاءة النفسية التي تصون القيادة
الدينية من كلّ سلوك منحرف ، أو عمل خاطئ بإمكانه أن يؤثّر تأثيراً سلبيّاً على مسيرة القيادة وانقياد الاُمّة لها ، بحيث يتنافى مع أهداف الرسالة وأغراضها.
وقد سلك الأنبياء السابقون وأوصياؤهم المصطفون طريق الهداية الدامي ، واقتحموا سبيل التربية الشّاق ، وتحمّلوا في سبيل أداء المهام الرسالية كلّ صعب ، وقدّموا في سبيل تحقيق أهداف الرسالات الإلهية كلّ ما يمكن أن يقدّمه الإنسان المتفاني من أجل مبدئه وعقيدته ، ولم يتراجعوا لحظة ، ولم يتلكأوا طرفة عين.
وقد توّج الله جهودهم وجهادهم المستمرّ على مدى العصور برسالة خاتم الأنبياء محمّد بن عبد الله صلى‌الله‌عليه‌ وآله وسلم ، وحمّله الأمانة الكبرى ومسؤولية الهداية بجميع مراتبها ، طالباً منه تحقيق أهدافها.
وقد خطا الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌ وآله وسلم في هذا الطريق الوعر خطوات مدهشة ، وحقّق في أقصر فترة زمنية أكبر نتاج ممكن في حساب الدعوات التغييرية والرسالات الثورية ، وكانت حصيلة جهاده وكدحه ليل نهار خلال عقدين من الزمن ما يلي :
١ ـ تقديم رسالة كاملة للبشرية تحتوي على عناصر الديمومة والبقاء.
٢ ـ تزويدها بعناصر تصونها من الزيغ والانحراف.
٣ ـ تكوين اُمّة مسلمة تؤمن بالإسلام مبدأً ، وبالرسول قائداً ، وبالشريعة قانوناً للحياة.
٤ ـ تأسيس دولة إسلاميّة ، وكيان سياسيٍّ يحمل لواء الإسلام ، ويطبّق شريعة السّماء.
٥ ـ تقديم الوجه المشرق للقيادة الربّانية الحكيمة المتمثّلة في قيادته صلى‌الله‌عليه‌ و آله و سلم.
ولتحقيق أهداف الرّسالة بشكل كامل كان من الضّروري :
ألف ـ أن تستمرّ القيادة الكفوءة في تطبيق الرسالة وصيانتها من أيدي العابثين الذين يتربّصون بها الدّوائر.
ب ـ أن تستمرّ عملية التّربية الصّحيحة باستمرار الأجيال على يد مربٍّ كفوء ؛ علميّاً ونفسيّاً ، حيث يكون قدوة حسنة في الخلق والسّلوك ، كالرّسول صلى‌الله‌عليه‌ وآله وسلم يستوعب الرّسالة ويجسّدها في كلّ حركاته وسكناته.
ومن هنا كان التّخطيط الإلهيّ يحتّم على الرّسول صلى‌الله‌عليه‌ وآله وسلم إعداد الصّفوة من أهل بيته ، والتّصريح بأسمائهم وأدوارهم ؛ لتسلّم مقاليد الحركة النّبويّة العظيمة ، والهداية الربّانية الخالدة بأمر من الله سبحانه ، وصيانة للرّسالة الإلهية التي كتب الله لها الخلود من تحريف الجّاهلين وكيد الخائنين ، وتربية الأجيال على قيم ومفاهيم الشّريعة المباركة التي تولّوا تبيين معالمها ، وكشف أسرارها وذخائرها على مرّ العصور ، وحتى يرث الله الأرض ومَنْ عليها.
وتجلّى هذا التّخطيط الربّاني في ما نصّ عليه الرّسول صلى‌الله‌عليه‌ وآله وسلم بقوله :
«إنّي تارك فيكم الثقلين ما إن تمسّكتم بهما لنْ تضلّوا ؛ كتاب الله وعترتي ، وإنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض».
وكان أئمّة أهل البيت (صلوات الله عليهم) خير مَنْ عرّفهم النّبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌ وآله وسلم بأمر من الله تعالى لقيادة الاُمّة من بعده.
إنّ سيرة الأئمّة الاثني عشر من أهل البيت عليهم‌السلام تُمثّل المسيرة الواقعية للإسلام بعد عصر الرّسول صلى‌الله‌عليه‌ وآله وسلم ، ودراسة حياتهم بشكل مستوعب تكشف لنا عن صورة مستوعبة لحركة الإسلام الأصيل الذي أخذ يشقّ طريقه إلى أعماق الاُمّة بعد أن أخذت طاقتها الحرارية تتضاءل بعد وفاة الرّسول صلى‌الله‌عليه‌ وآله وسلم ، فأخذ الأئمّة المعصومون عليهم‌السلام يعملون على توعية الاُمّة وتحريك طاقتها باتّجاه إيجاد وتصعيد الوعي الرساليِّ للشّريعة ولحركة الرّسول صلى‌الله‌عليه‌ وآله وسلم وثورته المباركة ، غير خارجين عن مسار السّنن الكونية التي تتحكّم في سلوك القيادة والاُمّة جمعاء.
وتبلورت حياة الأئمّة الرّاشدين في استمرارهم على نهج الرّسول العظيم صلى‌الله‌عليه‌ وآله وسلم ، وانفتاح الاُمّة عليهم والتفاعل معهم كأعلام للهداية ، ومصابيح لإنارة الدّرب للسّالكين المؤمنين بقيادتهم ، فكانوا هم الأدلاّء على الله وعلى مرضاته ، والمستقرّين في أمر الله ، والتامّين في محبّته ، والذّائبين في الشّوق إليه ، والسّابقين إلى تسلّق قمم الكمال الإنسانيّ المنشود.
وقد حفلت حياتهم بأنواع الجّهاد والصبر على طاعة الله وتحمّل جفاء أهل الجفاء حتّى ضربوا أعلا أمثلة الصمود لتنفيذ أحكام الله تعالى ، ثمّ اختاروا الشّهادة مع العزّ على الحياة مع الذّل فيها حتّى فازوا بلقاء الله سبحانه بعد كفاح عظيم وجهاد كبير.
ولا يستطيع المؤرّخون والكتّاب أن يلمّوا بجميع زوايا حياتهم العطرة ، ويدّعوا دراستها بشكل كامل ؛ ومن هنا فإنّ محاولتنا هذه إنّما هي إعطاء قبسات من حياتهم ، ولقطات من سيرتهم وسلوكهم ومواقفهم التي دوّنها المؤرّخون .
المصادر :
1- الأنعام : ٧١
2- البقرة : ٢١٣
3- الأحزاب : ٤
4- آل عمران : ١٠١
5- يونس : ٣٥
6- سبأ : ٦
7- القصص : ٥٠
8- القصص : ٥٦
9- الرعد : ٧
10- الانعام ١٢٤
11- آل عمران ١٧٩
12- البقرة ٢١٣
13- الأحزاب ٢١

0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

الشيعة غير الروافض
لكي نتخلّص مِن الكسل العبادي
في قول النبي لأهل بيته: (أنا حرب لمن حاربكم) ...
خير العمل
مشاركة الجن للانس في شريعة الاسلام
هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى
هل للدين نهاية؟
حديث المنزلة ق(8)
المشروع الفضائي الشيعي هل هو ضرورة ؟
تجرد الروح

 
user comment