* د. عادل صادق
قد يكون الرجل محدوداً جداً في إمكانياته وقدرته، أي بلا مواهب. لا شيء يميزه.
لا يتمتع بأي وسامة، أي متواضع جداً في شكله الخارجي وجهاً وجسداً.
متواضع في مظهره. فثيابه بسيطة، وربما غير متناسقة بعضها مع البعض.
متواضع في درجة تعليمه. وبالتالي في مكانته الوظفية. لا يتمتع بطموح كبير، غير براق وغير لامع في موقعه. ولكنه واحد من ضمن ملايين القوى العاملة.
وهو متواضع أيضاً في درجة ذكائه. من الممكن أن نقول إنه متوسط الذكاء. ومتوسطو الذكاء يمثلون 60% من مجموع أي شعب. وهذا الذكاء المتوسط لم يتح له فرص الوثوب اجتماعياً ووظيفياً.. وهذا الذكاء المتوسط لم يتح له فرص اغتنام الفرص أو خلق الفرص، ولم يتح له أن يتنبه إلى الوسائل العصرية أو مقتضيات العصر الممكنة التي تتيح لمن يتنبه إلها أن يثحسن من نفسه وأن يرقى وأن يرتفع وأن يتطور.
ولكل ما سبق فهو محدود في إمكانياته المادية، لم يرث عن أسرته أي شيء. فهو من أسرة متوسطة الحال جداً، ولم يهتم كثيراً في أي وقت من الأوقات بجمع المال.
ولم يكن يمتلك أي موهبة خارقة أو خبرة وبالتالي لم يستطع أن يكون بطلاً رياضياً أو عالماً أو موسيقياً أو كاتباً مؤلفاً أو ممثلاً، كان إنساناً عادياً جداً.
وإذا أردنا باختصار أن نعطيه درجة في السلم الاجتماعي الوظيفي المادي الشكلي فإنه لا يزيد علي 5 / 10 أو 6 / 10.
كان انطوائياً، ولكن كان له عالمه الداخلي. فلديه شعور عميق بالأشياء من حوله ولكن يتجاوب وجدانياً بالقدر الكافي والملائم من فرح وحزن وألم وشفقة وعطف وأسى وندم.
أما أعظم المشاعر فقد كان يحملها لأسرته، وخاصة أمه العجوز المريض والتي كانت تعيش معه بعد وفاة أبيه. كان يسهر على رعايتها لا ينام قبل أن يطمئن لنومها ولا يأكل إلا بعد أن يطعمها ولا يشتري لنفسه أي دواء أمر به طبيب إلا بعد أن يشتري كل أدوية أمه التي تحتاجها شهرياً بشكل منتظم. وكان لا يشتري لنفسه أي ملابس وخاصة في الشتاء إلا بعد أن يطمئن أن أمه تنعم بالدفء الكامل. وكان يفعل نفس الأشياء تقريباً مع شقيقته التي تزوجت من رجل رقيق الحال يصنف مع المعدمين. لذلك كانت أسرة شقيقته معرضة دائماً لأزمات اقتصادية طاحنة وخاصة حين يمرض أحد أبنائها .. ولذلك لم يكن يتبقى معه من مرتبه الشهري إلا مبلغ ضئيل جداً كان يحرص على توفيره تحسباً لأي أزمات مفاجئة. وخاصة انه كان يكره جداً أن يضطر للاقتراض وكانت فكرة الاقتراض تزعجه جداً، كان دائم الدعاء بالستر.
ورغم ميله المعتدل الذي يتناسب مع شبابه ناحية الجنس الآخر إلا أنه كان يغض البصر في كل موقف وخاصة فيما يتعلق بجيرانه وزميلاته في العمل. كان يعرف كيف يكبح جماح رغباته وكان يتغلب على مثل هذه الأحاسيس بالإكثار من الصلاة والصوم.
إلا أن فكرة الزواج كانت تشغل باله في كل وقت. حنين غريب لأن يتزوج وأن يعيش مع امرأة هي زوجته وأن ينجب منها بنات وصبياناً وأن يكون مسئولاً ن هذه الأسرة، لم يكن حنيناً للمرأة وإنما حنين للزوجة. ولم يكن حنينا للجنس وإنما حنين للسكن إلى زوجه، حنين لتبادل الرحمة والمودة مع امرأة صالحة. أدرك أن مشاعره هذه نظرية. شعر أنه خُلق ليعيش مع أسرة، زوجة وأطفال. شعر أن هذا هو حلم حياته. لم يطمع في مركز أو جاه أو سلطان أو مال. لم يعر هذه الأشياء أي اهتمام ولم يكن يرى أنها تساوي أي شيء، بل كان يعتقد اعتقاداً راسخاً أنها أشياء لا قيمة لها. أما ما يساوي حقاً، أما الذي له قيمة كبيرة فهو أن يكون للإنسان أسرة.
وكانت شروطه في الزوجة مقارنة أو مطابقة لأي إنسان. وإذا كان يتمنى أن تشعر بقيمة أهمية الزواج والأسرة، وأن تحبه وأن تقدر مشاعره وأن تكون نعم السكن، وأن تبادله المودة والرحمة وأن يتعاونا معاً ويتشاورا في الحلوة والمرة. وأن تكون عارفة بربها مصلية صائمة مزكية، وهذا في تقديره يعني أن تكون فاضلة ويضمن أن تكون مخلصة. ولكن أهم شروطه في الحقيقة هو أن تقبل أمه وترعاها وترحمها.
ومقابل ذلك كان يتعهد أمام الله أن يكون هو أيضاً نعم الزوج حباً وعطفاً وحناناً ومساندة ومشاركة واحتراماً وسماحاً وتحملاً للمسئولية وإخلاصاً لها مدى الحياة.
وتقدم به العمر قليلاً حتى استطاع أن يجمع مبلغاً متواضعاً من المال.
وبدأ في اتخاذ الخطوات العملية الفعلية. وكانت البداية أن ينشرح صدره لفتاة. ليس لجمالها وإنما انشراح رباني ونوراني مثلما يدعو الإنسان ربه أن يشرح صدره. إنه إحساس شامل بالرضا والسرور والقبول والإقبال والحماس، ثم بعد ذلك يطمئن إلى أهلها وخلقها، ثم يتوكل على الله ويأتي البيوت من أبوابها.
ورفض في مرتين، واهتزت ثقته بنفسه، وأصابه بعض اليأس، وكف عن البحث، وطرح حلمه جانباً، وظن أنه لن تقبله فتاة في ظل ظروفه المحدودة شكلاً وموضوعاً.
والحقيقة لابد أن نوضحها أنه لم يكن النموذج الذي يعجب أي فتاة، فهو محدود في كل شيء. ولم يكن أحد يعرف أي شيء عن عالمه الداخلي، وعن عالمه الخاص، فقط الناس يعرفونه بصورته الظاهرية. وهي صورة فقيرة متواضعة.
حتى أرسل الله من السماء فتاة جديدة لتعمل في نفس مكان عمله. وكان بينهما تعامل فيما يقتضيه العمل. وإذا به يجد ـ ولأول مرة في حياته ـ أن هذه الفتاة تتحرك ناحيته. هكذا أخبره إحساسه الداخلي واندهش، فقد كان يعرف قدر نفسه، أو عرف قدر نفسه أخيراً، وأنه من المستحيل أن يثير انتباه أي فتاة.
أي شيء شدها إليه!! أي سر فيه!! أي موهبة خفية!! أي جمال دفين!! أي إمكانيات مخزونة، أي طاقات منه؟!!
وانشرح صدره، وتجرأ، وطرق الباب، وقال له هذا أسعد يوم في حياتي ..
وبعد سنوات من زواج سعيد تجرأ للمرة الثانية وسألها أي شيء أعجبك فيّ؟
قالت: كل شيء، لقد استطعت أن أرى الإنسان داخلك، استطعت أن أصل إلى جوهرك، استطعت أن أنفذ إلى روحك. استطعت أن أصل إلى عمق أعماق ذاتك وأن ألمس جوهر وعيك. وأحسست أنك أيضاً استطعت أن تصل وتنفذ إلى جوهري وأن تلمس ذاتي وأن تحيط بروحي. حدث انكشاف جوهر كل منهما للآخر. فتحول في عيني إلى كيان نوراني يفيض بالجمال والخير والبركة. فأحسست بالطمأنينة، وأكدت الأيام صدق أحاسيسي، فوثقت بك، أدركت صدقك، وشغفت بك، وتمنيت أن أكون زوجة لك وأن تكون زوجاً لي. تمنيت أن تسكن عندي وأن أمنحك حبي ومودتي ورحمتي، أن أعطي، أن أرعاك. فأنت تستحق.
ومع الزواج من هذه الإنسانة الصالحة تكشفت قدرات طيبة لهذا الرجل الصالح. فتحمل مسئولية الحياة بجدية وإخلاص. كان راعياً أميناً وشريفاً، وكان كريماً، وكان مخلصاً، وكان أيضاً حازماً في توجيه زوجته والحفاظ عليها وحمايتها.
ورغم قسوة الحياة وصعوبتها لم يضعف فقط. كافح بشرف وعناء، وبارك الله في القليل، وكانت الزوجة راضية قنوعة.
ومنحها حباً لم تكن تحلم به من أعظم مؤلفي الروايات العاطفية. وكان حبه حناناً مكثفاً وعطفاً زائداً واحتواءً شديداً. هكذا تكون عفويته وشغفه بها وميله الطاغي إليها واحترامها وتقديرها والإحساس بروعتها في كل شيء.
عاش الحياة بحلوها ومرها، وأنجبا صبياناً وبنات. وواجها صعوبات كثيرة وأزمات طاحنة، ولكن إجمالاً سعداً بحياتهما، وتحقق حلم كل منهما، حلم الأسرة. وهو حلم كل إنسان نقي، حتى وإن كان بلا مواهب.