1 ـ الصدوق و علّة الخوف على النفس:
قال الصدوق أقول: إنه قد ثبت ان ظهور حُجج الله تعالى في مقاماتهم في دول الباطل، على سبيل التدبير و الامكان لأهل ذلك الزمان; فان كانت الحال ممكنة لوجود الحجة بين الخاص و العام، كان ظهور الحُجّة كذلك.
و إِن كانت الحال غير ممكنة لوجود الحجة بين الخاص و العام، و كان مما توجب الحكمة و يقتضيه التدبير استتاره، ستره الله و حجبه إلى وقت بلوغ الكتاب اجله، كما قد وجدنا ذلك في حجج الله المتقدّمين من عصر آدم (ع) إلى حين زماننا هذا.
فمنهم المستعلنون و منهم المستغفون، و بذلك نطق الكتاب العزيز، و ذلك قوله تعالى: (و رُسلاً قد قصصناهم عليك و رُسلاً لم نقصصهم عليك ).
ثم روى بسنده عن الامام الصادق (ع) قال لعبد الحميد ابن ابى الديلم: يا عبدالحميد، اِنّ لله رسلاً مستعلنين و رسلاً مستخفين، فاذا سألته بحق المستعلنين فسله بحق المستخفين.
ثم قال الصدوق: فكانت حجج الله تعالى كذلك من وقت وفاة آدم (ع) وقت ظهور ابراهيم (ع) أوصياء مستعلنين و مستخفين.
فلما كان وقت تكوين ابراهيم (ع) فإمكان ظهور الحجة كان متعذراً في زمانه (و ذلك أن) نمرود كان يقتل أولاد رعيّته و أهل مملكته في طلبه.. و لذلك لسترالله وجوده و أخفى ولادته.. و بعد أن بلغت الغيبة أمدها دلّهم ابراهيم على نفسه و أظهر لهم أمره
ـــــــــــــــــــــ
(1)1 ـ النساء: 4 /164.
الذى اراده الله من اثبات حجته و اكمال دينه.
فلما كان وقت وفاة ابراهيم (ع) كان له اوصياء حججاً لله عزّوجل في ارضه يتوارثون الوصيّة كذلك مستعلنين و مستخفين، الى وقت موسى (ع).
و في وقت موسى (ع) كان فرعون يقتل أولاد بنى اسرائيل في طلب موسى (ع) الذى كان قد شاع ذكره و خبر وجوده.
فسترالله ولادته حتى قذفت به اُمه في اليم كما أخبرالله عزوجل في كتابه ثم كان من أمره بعد أن اظهر دعوته و دلّهم على نفسه ما قصّه الله في كتابه كذلك.
و لما كان وقت وفاة موسى (ع) كان له اوصياء حُججاً لله كذلك مستعلنين و مستخفين إلى وقت ظهور عيسى (ع).
و عيسى (ع) ظهر منذ ولادته مُعلناً لدلائله مُظهراً لشخصه شاهراً لبراهينه، غير مُخف لنفسه، لأن زمانه كان زمان امكان ظهور الحجة كذلك.
ثم كان له من بعده أوصياء حججاً لله عزوجل كذلك مستعلنين و مستخفين، إلى وقت ظهور نبيّنا (ص).
و بعد ظهور نبينا (ص) كان مما قيل له على سنن من تقدمه من الرسل.
أن يقيم لنفسه اوصياء كإِقامة من تقدمه لأوصيائهم.
فأقام رسول الله أوصياء كذلك.
و من المعروف المتسالم عليه بين الخاص و العام من أهل هذه الملة: أن الإمام الحسن بن على العسكرى والد الإمام زماننا (ع) كان قد وكّل به طاغية زمانه حتى وفاته، فلما توفى وكّل بحاشيته و أهله، و حُبست جواريه و طُلب مولوده هذا أشدّ الطلب.. فجرت السنة في غيبته بماجرى من سنن غيبته من ذكرنا من الحجج المتقدمين، و ثبت من الحكمة فى غيبته ما ثبت من الحكمة في غيبتهم.
ـــــــــــــــــــــ
(1)1 ـ كمال الدين: 20 ـ 22 باختصار و اختيار.
هذا، و قد عنون محقق الكتاب هذا المقطع منه بعنوان:
اثبات الغيبة و الحكمة فيها. مقتبساً ذلك من اوّل مقال الصدوق.
اِن الغيبة التى وقعت لصاحب زماننا (ع) قد بان حقّها و فلجت حجتها و لزمت حكمتها من استقامة تدبيرالله و حكمته في حججه المتقدمين عند استعلاء الفراعنة و تظاهر الطواغيت و ائمة الضلال في الأعصار السالفة و القب الخالية، و ما نحن فيه في زماننا هذا من تظاهر أئمة الكفر بمعونة أهل الافك و البهتان و العدوان.
فالشيخ الصدوق هنا يقرّر: ان الحكمة في غيبة الحجة اليوم هو عين ماسبق من الحكمة في استتار حجج الله المتقدمين من المرسلين و الأنبياء و الأوصياء من خوفهم على انفسهم من حيف الفراعنة و الطواغيت والبطشهم بهم و قتلهم قبل اداء أدوارهم.
و لتصديق هذه الحكمة السابقة والثابتة والعامّة لم يستشهد الصدوق بنصّ من أخبارهم (ع) سوى ما مرّ ذكره عن الصادق (ع) في: «أن لله رسلاً مستعلنين و رسلاً مستخفين».
ثم بدأ الجزء الثانى من الكتاب بباب ما روى عن الامام الصادق (ع) من النصّ على القائم (ع) و ذكر غيبته.
و في الخبر الرابع و العشرين روى الخبر السابق عن الامام الصادق (ع) في الخوف على النفس، و بذيل قوله: غير أن الله تبارك و تعالى يحبّ أن يمتحن الشيعة، و يكرّره في الثالث و الثلاثين بلفظ، لأن الله عزّوجلّ يحبّ أن يمتحن خلقه، فعند ذلك يرتاب المبطلون.
2 ـ الصدوق و حكمة التمحيص:
في الخبر الخامس و الثلاثين روى الخبر السابق عن المفضّل بن عمر عن الامام
ـــــــــــــــــــــ
(1)1 ـ كمال الدين: 20.
(2)2 ـ كمال الدين: 342، ح 24 و كذلك في: 346، ح 33.
الصادق (ع) أيضاً في التمحيص(1) و بعده عن عبدالرحمن بن سيابه عنه (ع) أيضاً قال: كيف انتم اذا بقيتم بلا امام هدى، ولاعلم، يتبرأ بعضكم من بعض، فعند ذلك تميزون وتمحصّون و تُغربلون.
و في الخبر الخمسين عاد على المفضل فروى عنه عن الصادق (ع) ايضاً قال: تمتدّ أيام غيبة القائم ليصرّح الحق عن محضه، و يصفو الايمان من الكدر، بارتداد كلّ من كانت طينته خبيثة من الشيعة الذين يُخشى عليهم النفاق اِذا أحسّوا بالاستخلاف و التمكين و الأمن المنتشر في عهد القائم (ع).
ثم عقد باباً بعنوان: باب علة الغيبة، و ذكر فيه احد عشر خبراً، سادسها:
عن سَدير الصيرفى الكوفى عن الصادق (ع) ايضاً قال: اِن للقائم منا غيبة يطول امدها. فقلت له: يابن رسول الله و لِمَ ذلك؟ قال: لأن الله أبى إلا أن تجرى فيه سنن الأنبياء فى غيباتهم.
و ختم الباب بما أسنده إلى عبدالله بن الفضل الهاشمى أنه سمع الامام الصادق (ع) أيضاً يقول: اِن لصاحب هذا الأمر غيبة لابدّ منها، يرتاب فيها كل مبطل، فقلت: جعلتُ فداك.. فما وجه الحكمة فى غيبته؟ قال: وجه الحكمة فى غيبته هو وجه الحكمة فى غيبات من تقدّمه من حجج الله تعالى ذكره(4).
فهذان حديثان لهذه الحكمة.
و فى مقدمته للكتاب و ذكر سبب تأليفه اياه يروى رؤيا رآها فى نيشابور عند عودته من زيارة مشهد الرضا (ع).
رأى فيها الامام صاحب الزمان(عج) واقفاً بباب الكعبة، فسلّم عليه فرّد عليه السلام ثم قال له:
ـــــــــــــــــــــ
1 ـ المصدر السابق 2: 347 ح 35.
(2)2 ـ المصدر نفسه 2: 348، ح 36.
(3)3 ـ المصدر نفسه 2: 356، ح 50.
4 ـ كمال الدين: 482، ب 10644.
صنّف الآن كتاباً فى الغيبة واذكر فيه غيبات الأنبياء (ع)(1) فذكر غيباتهم فى سبعة ابواب فى زهاء ثلاثين صحيفة تقريباً.
و هو لما يقرّر هذه الحكمة السابقة و الثابتة و العامّة لا يعنى ذلك أنه يحصر حكمة الغيبة فيها ولايصدّق غيرها، و انما يعنى أنه قدّمها هنا على ما سواها من الحِكم، و لعل ذلك للرؤيا التى رآها و الإشارة التى تلقّاها منه (ع).
و هذه الحكمة لا تختلف مع حكمة الخوف على النفس دون اداء الدور بل هى هى بالذات تماماً.
و لهذه الحكمة جاء بأربعة أخبار كلها عن زرارة هى فى الحقيقة خبران عن الباقر و الصادق (ع). فعن الباقر(ع) قال: إن للقائم غيبةً قبل أن يقوم. قال زرارة: قلت: و لِمَ؟ قال(ع): يخاف، و أومَأ إلى بطنه.
و فى الآخر، قال: اِن للقائم غيبةً قبل ظهوره. قال زرارة: قلت: و لِمَ؟ قال: يخاف، و أومَأ بيده إلى بطنه، قال زرارة: يعنى القتل.
و فى خبره عن الامام الصادق (ع) قال: يا زرارة، لابدّ للقائم من غيبة. قلت: و لِمَ؟ قال: يخاف على نفسه، و أومأ بيده إلى بطنه.
و فى الآخر عنه (ع) قال: للقائم غيبة قبل قيامه، قلت: و لِمَ؟ قال: يخاف على نفس الذبح.
و هما الخبران السابقان عن الكلينى.
3 ـ الصدوق و علّة أن لاتكون عليه بيعة:
قدّم الشيخ الصدوق قبل الاخبار بهذه الحكمة خمسة اخبار هى فى الحقيقة اربعة اخبار يتّحد الأول منها و الأخير عن أبى بصير عن الامام الصادق (ع) قال: صاحب هذا
ـــــــــــــــــــــ
1 ـ المصدر السابق: 3.
الأمر يغيب عن هذا الخلق لئلايكون لأحد فى عنقه بيعةً اذا خرج.
الثانى و الثالث عن جميل بن صالح و هشام بن سالم عن الامام الصادق (ع) أيضاً قال: يقوم القائم او يبعث القائم و ليس فى عنقه بيعة لأحد، أو: ليس لأحد فى عنقه بيعة.
و الخبر الأخِر هو السابق عن الكلينى فى «اصول الكافى».
ينفرد خبر آخر عن الحسن بن على بن فضّال عن الامام الرضا (ع) قال: كأنّى بالشيعة عند فقدهم الثالث من ولدى كالنعَم يطلبون الراعى فلا يجدونه، فان امامهم يغيب عنهم. قال: فقلت له، و لِمَ ذاك يابن رسول الله؟ قال: لئلا يكون لأحد فى عنقه بيعة اِذا قام بالسيف.
فهذه الأخبار العشرة العمدة فى باب علة الغيبة قد تشاطرت حكمة الغيبة فى حكمتين: الاولى، الخوف على النفس، و الثانية: ان لا يكون على ذمّته بيعة لأحد، وواضح ان هذه الحكمة الثانية حكمة ثانوية تنزيلية اى على فرض الظهور فانه لاينجو من القتل الا بالبيعة للظالمين.
بفارق أن الخبرين عن الامام الباقر (ع) اقتصرا على حكمة الخوف على النفس وتكررّت فى خبرين آخرين عن الامام الصادق باضافة ثلاثة اخبار اخرى عنه (ع) و آخر عن الامام الرضا (ع) فى حكمة أن لا تكون فى عنقه بيعة.