أتحسب انك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر
ولذا فالإنسان بنفسه يعبّر عن ماهيات أجزاء الكون كلها..وعليه؛ صارت هذه السنن الكونية في النفس الإنسانية سنناً تكوينية بعد رفع القصور الذاتي بالحياة؛ و برز بها عقل الإنسان؛ بعد رقع القصور الحيوي بالروح التي نفخها الله في خلقته
فالإنسان العاقل المتوجه للكمال؛ هو الذي يسعى بذاته للطاعة، ويعزز في نفسه معاني الرحمة، ويطلب العدل، ويريد السيادة، ويعمل لما بعد الموت، ويتجاوز البلاء، بالصبر ويسعى للتوحد والتوحيد، ويتكامل لضمان بلوغ الأحسن بالزمكان.
هذا على الصعيد النظري، فهل من الإسلام كعقيدة تطابق النسق الكوني ما يدعوا لتحقيق ذلك عمليا ؟
والجواب هو نعم؛ وذلك من خلال العقيدة المهدوية التي تقوم على الانتظار للثائر المصلح والتهيؤ لأمره والتهيؤ لدولته، أو على الأقل ألتحاش من بطش عدله وتحري العذر من خذلانه.
فمن ضرورات الانتظار والتهيؤ والاستعداد؛ تبرز عند المعتقد بالمهدي(عج)، جوهرية الحسن في الخلقة، وإدراك الجدية في مهام الرسالة الإنسانية، وعدم العبثية بما يتطلبه ذلك الاعتقاد، من حقيقة التلازم الذاتي بين نسق الفعل في الكون المجبول على السعي للأفضل والأحسن حيث الكمال، وبين خيار الإنسان لفعله الحسن بذات النسق حيث لا غيره. ثم هو بالتالي مسئول عنه خيرا وشرا.
فالذي يعيش بفعله لا ينتظر له نتيجة تقربه لقائده وإمام عصره، بل قد يكون لا يشعر بأن له إمام موجود، ليس كمثل الذي يعيش لرسالة سامية، وهو في حال تهيؤ لمقدم إمامه المنتظر في أي لحظة، فله همّ سياسي يعنى به، ومسئولية امام المنتظر في حال غيابه، واستعدادا يربطه بغايات قائده السامية.
فالمهدوي(المعتقد حقا بالمهدي) ليس إنسانا ضائعا، لأنه في دأب دائم لبلوغ الغايات السامية لخلقه، وليس كغيره؛ يأخذه العبث صباحا وتمسي به الخيبة مساءا!!
فالسياسي الصادق هوالذي في عنقه بيعة لإمام حق، ويستوعب في خياره لفعله، وجود إمامه هذا المعد لإصلاح العالم، والذي يعتقد انه ينظر إليه ويقيم فعله:
(وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ)؛
فالمهدووي؛ يحرص على أن يكون فعله كمأموم يصب في آمال إمامه ولغاياته السامية.وهذا والله كمال السياسة إن كان للسياسة معنى علمي مجرد.
وهكذا يتقوّم فعل المهدوي(المعتقد بالمهدوية)، والعامل بمضامينها بالكمال لتلازمه ذاتيا مع النسق الكوني.
هذا بالنسبة للفرد المهدوي المنتظر.. فكيف تساس امة لها الاعتقاد بالمهدي؟؟؟
ان هذه الأنماط التي نعيشها وندركها وندرك مراتبها ومراتب مخلوقاتها، والتي يتوجه فيها الفعل الكوني دوما إلى الكمال، دون أن يلتفت الكثير منا لحقيقة توجه الفعل في الكون إلى التكامل، سواء في بسطه أو في قبضه، حتى يظن الظّان، أنما الخلق عبث، كما يذهب أصحاب النظريات السياسية المدفوعة بشعار الشيطان(أنا خير منه)، فلا يجد الكثير منهم حرجا في ارتكاب أي فعل، ولا يتعب نفسه في خياره لفعله إذا كان فردا.. ولا يهتم المجتمع المخدر بنشوة التفوق، كثيرا لمن يسوسه وكيف يساس، او فيما إذا كان يتوجه مع النسق الكوني في سعيه للكمال في سياسته أو يكون ضده، بل قد لا يعلم هذا المعنى على الإطلاق.
إن مجرد الإقرار بوجود إمام العصر المتهيئ والمعد لمهام الإصلاح الأكبر، مقابل وجود منتظرين له ممهدين لدولته، يضع اؤلئك المعتقدين، في جوهر الرسالة الإنسانية الحق، ويبقى غيرهم في عدم التزام لمعنى النسق أو الكلام فيه.
أما إذا كانت للإنسان بيعة والتزام لهذا الإمام المنتظر، فإنما يكونون في سبيلهم إلى إتباع الكمال الذي يمثله الإمام المعصوم.
ونجد أن الذين عاشوا الوهم في الدنيا، يوم يرون الواقع من البسط في التجرد، وفي ساحة اللقاء مع البارئ العظيم، إنهم لم يكونوا على شيء في الدنيا؛ كانوا على الهامش ضائعون، الكون يجري لغايته، وهم يعيشون لا غاية لهم:
(الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يعْلَمُونَ * إِذِ الأغْلاَلُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاَسِلُ يسْحَبُونَ * فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يسْجَرُونَ * ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَينَ مَا كُنتُمْ تُشْرِكُونَ * مِن دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَل لَّمْ نَكُن نَّدْعُو مِن قَبْلُ شَيئًا كَذَلِكَ يضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ)[28].
وهذا الجوهر الذي يفتقده اغلب الناس في وجودهم وحياتهم وعقلهم مما لم يفت الفلاسفة الكبار من الأولين والآخرين.
فمثلا هذا هيجل، يشير إلى هذا الجوهر ومعنى الوجود والباعث له وفيه.
يعتقد هيجل؛ أن الروح المطلق،؛ هو الباعث على الديالكتيك، الذي يسميه العملية المنطقية وان،
العقل هو الوسيلة التي لابد منها لإدراك الديالكتيك؛ الذي هو التطور من وحدة إلى تعارض ومن تعارض إلى وحدة؛
(وان مهمة الدين هي بلوغ المطلق؛ (الله)، وان الله هو نظام الصلات الذي تتحرك به جميع الأشياء وتعيش.إن المطلق ينهض في الإنسان إلى وعي ذاتي، ويصبح الفكرة المطلقة، وذلك إن الفكرة تدرك نفسها كجزء من المطلق).[29]
وقول هيجل هذا كله مجرد نظر لا يغني ولا يسمن من جوع، فالمهم هو الوسيلة التي تضع أقدام الإنسان على خطى الروح المطلق، وفي خياراته من اجل بلوغ الله تعالى في إرادته. ولد كان قاصرا كما يبدو من وضع النقاط على الحروف، بسبب شغفه بنفسه كغاية نهائية وبأوربا كمركز لهذه الغاية ودين أوربا هو غاية الدين!!!
12. علمية الإسلام في مبناه السياسي
إن الحسن والقبح ليسا مجرد معاني نستحضرها بألفاظ تدل عليها؛ إنما الحسن والقبح حادثات وأفعال؛ تدرك من خلال استحضار القوى المنجزة لها، فالقوة هي التي تبطن الفعل وتدل عليه.. والفعل ظاهر لمعنى القوة دوما.
وإن كان الناس يتداولون ألفاظا لمعاني الفضائل، ويجادلون مثلا، بقولهم؛ إن الكرم حسن، والبخل قبيح، والصدق حسن، والكذب قبيح…وهذا ما يستغله الساسة الشياطين.
إن الواقع غير هذا تماما، بل واعقد؛ فهذه المعاني لا تكون حسنة أو قبيحة، إلا بملاحظة علتها الدافعة لفعلها المنجز لها، فتكون حسنة إذا أتت معلولة لجوهر الكون وعلة الكينونة وهي الرحمة، التي يجسدها في الواقع الإمام المعصوم، فهي متطابقة مع النسق الكوني.
فلكي تكون المعاني فضائلا حقيقية، لابد أن تتطابق في أدائها السنة الكونية، مع السنة التكوينية للنفس الإنسانية التي يصدر عنها الفعل.
فالكرم الفضيلة؛ هو الكرم الذي يأتي مدفوعا بعلة الرحمة وتجسيد لروح الحسن الكوني الساري.
أما إذا كان هذا الكرم يأتي لعلة غير هذا؛ كالرياء والسمعة أو العجب أو التفاخر… فانه قبح.
فاللفظ ـ الذي يتعامل به الساسة الشياطين ويحسنون استعماله ـ ليس فيه حسن أو قبح، وكذا المعنى؛ وما يأتي على الألسن مما يقوله الناس، ألفاظا لمعا ني ويظنون أن الحسن والقبح، يقترن بتلك المعاني؛ فالحقيقة هي أن اللفظ ومعناه، لا حسن لهما ولا قبح، إنما الحسن والقبح يترتبان على الفعل الموافق لذلك المعنى وليس على المعنى وحده، إنما حسنه وقبحه يتوقف على العلة الدافعة للفعل الذي يبرز به ذلك المعنى.