عربي
Saturday 28th of December 2024
0
نفر 0

توازن وانسجام في الطرفين

توازن وانسجام في الطرفين

إن جميع أجزاء الوجود الوموجودات ، تتبع في تركيبها الداخلي وفي علاقاتها بعضها مع بعض نظاماً متيناً ، فإن تركيبها وعلاقاتها منظمة بحيث تساعد كل منها الأخرى في أهدافها وغاياتها وخطوطها ، وبذلك يتمكن كل موجود من السير نحو الهدف والمقصد المعين له بالإفادة من علاقته بسائر الموجودات ، وبتأثيره وتأثره المركوز في تركيبه الخاص .

إن أهم ما تقوم به العلوم المادية هو التعرف على ظواهر وكيفية تركيب هذا العالم ، أما التعرّف على ماهية وحقيقة المخلوقات والظواهر فذلك خارج عن متناول هذه العلوم .

فمثلاً غاية ما لعالم فلكي من الفنّ العلمي هي أن يعرف الكرات الكثيرة في الفضاء الثابت بعضهانسبياً ، والدائر المتحرّك بعضها الآخر ، ويعرف كيف أن قوة الجاذبية تمتعها من اصطدام بعضها بالآخر ، وتصون توازنها فيما بينها . ويقيس الفواصل بينها وبين الأرض وسرعة حركتها ومقدار حجمها بالمقاييس العلمية ، إلاّ أن نتائج هذه المعرفة والتجارب لا تتجاوز تفسير ظواهر الخلقة، فإن التجربة تعجز عن درك حقيقة قوة الجاذبية وماهية الجاذبية المركزية وكيفية حدوثها وخلقة هذا الجهاز العظيم .

إن العلماء الطبيعيين ، يفسرون السيارة أو الماكنة من دون أن يعرفوا

تفسير القوّة المحرّكة لهذه السيارة أو الماكنة ، ولهذا فإن العلوم الطبيعية لا تستطيع أن تفسّر وتحلّل ملايين الحقائق ، المودعة في الطبيعة والنفس الإنسانية ، إن هذا الإنسان الذي توصل حتى إلى باطن الذرّة بقي متحيراً أمام الأسرار المعقدة والغامضة لذرة حيوية ، وأخيراً عجز أبطال العلوم الطبيعية عن تسخير وفتح هذه الغوامض المعقدة .

إن من عجائب الخلقة ذلك الانسجام والتوازن المتبادل بين ظاهرتين من ظواهر الطبيعة غير متعاصرتين ، إن هذا الانسجام هو على نحو التطلق والتهيؤ في جهاز ظاهرة سابقة لحاجات ظاهرة قادمة بعدها .

وبإمكاننا أن نرى أحسن نماذج هذا الانسجام بين الأم وجنينها . إن الأم سواء في الحيوان أو الإنسان تبدأ هرمونات الحليب لديها بالعمل بمحض بدء الحمل لتحضير أعذب غذاء وأجمعه للطفل مجارية لنموّ الجنين في الرحم حتى يوم الميلاد ، فكلما ينمو الجنين تزداد كمية هذا الغذاء عند الأم حتى إذا تهيأ الجنين للدخول إلى هذا العالم الكبير كانت هذه المواد الغذائية المناسبة لجميع حاجات الجنين الجسمية محضرة تماماً .

إن هذا الإنتاج المحضر منسجم تماماً مع مدى قدرة جهاز الهضم لدى الطفل ، وهو مدّخر في مخزن مناسب مستور هو ثدي الأم الحنون ذلك المخزن المعبأ في وجود الأم ، قبل تركيب جسد الجنين في رحم الأم بأعوام عديدة ، ولتيسير أمر تغذية الوليد ثقب موضع الإفادة من هذا المخزن بثقوب صغيرة ظريفة ملائمة لفم الوليد كي لا يدخل الحليب إلى فمه بحيث لا قدرة له على استيعابه ، وكي يقدر الطفل على امتصاص ما يخرج منه .

وكلما نما الطفل حصلت في الحليب تغييرات مناسبة لسنّ الوليد ، ولهذا يرى علماء الطب والصحة أن رضاع الوليد الجديد من امرأة ولدت قبل مدة كثيرة ليس رضاعاً مناسباً .

وهنا يطرح هذا السؤال نفسه علينا : هذا التخطيط السابق على أوانه في جسد موجود لرفع حاجات موجود آخر في المستقبل ، ألا يعدّ عملاً معدّاً على أساس من الدقة والتدبير ؟ وأليس هذا التخطيط للمستقبل والظرافة في العمل ، والانسجام المحيّر بين موجودين من عمل قادر عالم على الإطلاق ؟ وأليس سمة بارزة على تأثير قدرة مطلقة في الكون من مخطط يهدف إلى استقرار الحياة واستمرارها وتطورها ؟

إن المحاسبات الدقيقة التي نراها في جميع الوحدات المكانيكية ، والصناعية نعلم بوضوح أنها إنما هي نتائج أفكار عملت في سبيل تنظيمها وتركيبها ، وبموجب نفس هذه المشاهدات العينية نستطيع الوصول إلى نتيجة كلية فلسفية هي : كلما وجد نظام تركيبي على أساس من الحساب والموازنات الدقيقة ، كان علينا أن نفتش خلفه عن عقل وفكر وإرادة .

إننا نجد في الموجودات الطبيعية تركيباً وتأليفاً أدق وأعجب مما نراه من الدقة الخاصة في الوحدات الصناعية ، بل إن التدبير المشهود في الطبيعة على مستوى عال غير قابل للمقارنة والمقايسة المصنوعات الإنسانية ومنتوجات الأفكار البشرية .

إننا حينما نجد ـ من دون شك أو ترديد ـ نظامنا الصناعي نتائج أفكار وإرادات ، ألا ينبغي لنا أن نرى العقل والإرادة والعلم اللانهائي من نافذة الهندسة والمحاسبات الدقيقة في الطبيعة ؟

ظاهرة طبيّة تستحق التقدير

إن علم الطبّ في العصر الحاضر بلغ مرحلة من التقدّم يتمكن فيها على إخراج كلية من جانب إنسان ، ووضعها في جانب إنسان آخر قد سقطت كليته عن العمل وهو في طريق إلى الموت ! إن هذا التقدّم الطبّي ليس نتيجة عمل طبيب واحد لوحده ، بل إنما هو تراث طبي قد تعود أصوله إلى مؤات بل آلاف السنين ! إذن فعملية إيصال الكلية الموضوعة إنما هي نقطة في الواقع في آخر جملة طويلة ، قدم لها العلماء السابقون المقدّمات ، والخلاصة : إن أفكار العلماء في مئات بل آلاف السنين لابدّ أن تتراكم شيئاً فشيئاً كي تصل في النهاية إلى عملية جراحية ناجحة في الكلى .

وهنا نطرح هذا السؤال : هل أن تبديل إطار مطّاطي معطوب لعجلات سيارة ركاب بإطار سالم يحتاج إلى مهارة وعلمية أكثر أم صنع نفسى الإطارات المطاطيّة لعجلات السيارات ؟ وأكرر : هل أن صنع عجلة مطّاطية أهم أم تبديل مكانها أو معطوبها بسالمها ؟

إن تبديل كلية إنسان مهما كان مهماً في عالم الطبّ ، والعلاج والعمليات الجراحية ، لم يكن في المثل بأكثر من تبديل عجلات السيارات فليس لتبديل الكلية أمام صنعها وأسرارها ودقائقها ومحاسباتها العجيبة أيّ قيمة تذكر ! .

من هو ذلك العالم الواقعي الحق ، الذي يتمكن أن يقول : إن تبديل كلية بكلية نتيجة معرفة بشرية لالاف الأطباء في طول قرون متمادية ، ولكن صنع نفس الكلية ليس مظهراً لذلك العقل الخلاّق ، بل هو من نتائج الطبيعة التي ليس لها من العلم والوعي حتى بمقدار طفل في الابتدائية ؟ ! أليس تصور وافتراض وجود عقل مدبر لخلقة الطبيعة ونظامها أقرب إلى العقل والمنطق من افتراض خالقية المادة الفاقدة للعقل والشعور والوعي ، والتي لا ابتداع لها ولا اختراع ؟ ! .

لا شكّ أن الإيمان والاعتقاد بحكمة الخالق أقرب إلى العقل والمنطق من الإيمان بالمادة غير المدركة وغير الواعية التي لا تستطيع أن تقدّر وتدبّر ، إذ لا نتمكن نحن أن نهب كل تلك الخصائص والأوصاف العقلية التي يحملها هذا العالم لخالقه وأههما التدبير والإرادة ، نحن لا نتمكن أن نهب هذه الأوصاف للمادة .

كتب ( آنشتاين ) في كتابه(1) يقول : « إن العالم المصلح يعتقد بقانون العليّة لعالم الوجود ، ولكن ما هو مذهب هذا العالم ؟ إن مذهبه تحيّر غريب من النظام العجيب والدقيق لهذه الكائنات ، هذا النظام الذي قد ترتفع الأستار عن بعض الأسرار بحيث لا يعدّ جميع المساعي والأفكار البشرية المنظمة إلا كصور باهتة لذلك النظام الدقيق » .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 الدنيا التي أراها ( بالفارسية ) .

 

الطبيعة وفنونها الجميلة

انظروا إلى حشرة الملاريا ، ولا يجب أن تمتلكوا لذلك الميكروسكوبات ، بل إنكم ستصلون إلى ذلك النظام الدقيق والمعقد الموجود في هذه الحشرة الصغيرة بنفس هذه النظرة العادية بالعين المجرّدة .

إنكم سوف تجدون الأجهزة والأدوات والوسائل اللازمة والظرافة العجيبة في بواطن وظواهر هذا الموجود الظريف الضعيف ، من جهاز الهضم والدورة الدموية والجهاز العصبي والتنفس ، ولديه مختبر جاهز سريع ودقيق ، والآن نسأل : كم هو حجم مختبركم الكبير ؟ وكم صرف في تكوينه من الطاقات الإنسانية والفكرية والاقتصادية ؟

والآن قايسوا بين مختبركم ومختبر هذه الحشرة الصغيرة ، إنه ليس لمختبركم ما لمختبر هذه الحشرة من الدقة والسرعة والظرافة ، وكم تصرفون أنتم في مختبركم من الزمان والأفكار والطاقات البشرية حتى تصنعوا عقاراً لعلاج لسعة هذه الحشرة ؟ .

حينما تحاولون أن تصنعوا شيئاً كم يجب عليكم أن تصرفوا له من الفكر والمراقبة ؟ أفحينما ترون في هذا العالم المصنوع هذا النظام الحكيم بهذه الدقة والظرافة ، ألا يكفي ما ترونه من الإبداع العقلي الخلاّق سنداً على الحكمة الإلهية البالغة ؟ ! .

أئذا ما حسبنا هذا العالم بكل ما فيه من هندسة ودقة وحركة منظمة وليد مادة جاهلة ، كان ذلك معرفة علمية ؟ ! بل إن هذه الظواهر إنما تفصح عن النظام والانضباط لا عن اللاهدفية العمياء .

إننا إذا ما رأينا أحياناً نقاطاً من الضعف في الطبيعة لم يكن ذلك دليلاً على النقص في كتاب الخلقة الإلهية ، بل إنما نحن نرى تلك النقاط لعجز إدراكنا وأفكارنا عن التوصّل إلى الغايات منها ، ولقصر في أفهامنا عن معرفة الأسرار ورموز عالم الوجود .

أئذا ما عجزنا عن معرفة وظيفة مسمار لولبي خاص في جهاز كبير هل يحق لنا أن نتهم مهندس ذلك الجهاز بالجهل ؟ أم أن ذلك من ضيق رؤيتنا حيث لا قدرة لنا على معرفة الهدف من تلك اللولبة ؟ .

أفيمكن للصدفة أن تعمل عمل العلم ؟ عملاً لا تشوبه أيّ شائبة من جهل أو ريب ، لو كان عالم الطبيعة مخلوقاً من غير إرادة عالمة ـ كما يزعم الماديّون ـ فلماذا الإنسان للتقدّم في مهامه يصرف طاقاته في سبيل الاستزادة من العلوم ، ولماذا لا يجاري الطبيعة فيستزيد جهلاً ؟ ! إن الحقيقة التي تقود وتهدي كل هذه الأفعال والانفعالات الكونية المنظمة اللانهائية لا يمكن أن ينكر منها الهدف والإرادة ، وأن يظن أن حدوث هذه الأفعال والانفعالات المتسلسلة يتحقق بدون أيّ تنظيم إراديّ إلهيّ .

سنون من المساعي المتعبة من قبل علماء الكيمياء وآلاف البرامج العلمية الدقيقة إنما استطاعت أن تصل بهم إلى تركيب عدد من المواد الكيمياوية الآلية التجربية الساذجة البدائية التي لم يكن فيها أيّ أثر من الحياة بالمعنى المعروف .

ومع ذلك عدّ هذا انتصاراً علمياً موفقاً وقيماً لهؤلاء العلماء واستحق تحسين وتقدير المحافل العلمية ، لم يدّع أحد منهم أن هذه الـتركيبات البدائية الناقصة التجريبية إنما حدثت على أساس الصدفة من دون برنامج

دقيق موجه في حين أن جماعة من نفس هؤلاء العلماء ـ الماديين ـ ينسبون جميع الموجودات والأجهزة المعقدة فيها وأسرارها إلى عوامل عمياء مادية ! الحقيقة والواقع أن هكذا أسلوب من الفكر ليس إلاّ ظلماً للعقل والمنطق والفكر وعداء للحقيقة .

أمعنوا النظر في عمل مرتبي الحروف في المطابع كيف يجيدون النظر في ترتيب حروف صفحة من كتاب ثم يعثرون على أغلاط جزئية نسبياً حينما يجددون النظر فيها للتصحيح ، فلو كان مرتّب الحروف بدل أن يرتب الحروف بالترتيب الدقيق يأخذ حفنة منها فينثرها على الصفحة ، أفهل يمكن أن تظهر لنا من هذا العمل صفحة منظمة من حيث الحروف والكلمات والمعاني بدون أيّ غلطة ؟ ! .

وأوهى من هذه الدعوى من يقول : خرج بالدفق مئة كيلو من الرصاص الذائب من فوهة حديدية وجدت منها حروف ، ثم ترتبت هذه الحروف على صفحة معدنية بترتيب خاص منظم على أثر عاصفة هو جاء ، وعلى أثر ذلك وجد لنا كتاب في ألف صحفة فيه مباحث علمية دقيقة بأسلوب عذب وجذاب من دون أي غلط ؟ ! .

أفهل يمكن لأحد أن يدافع عن هذه الفكرة ؟ ! .

فماذا يقول الماديون بشأن ظهور هذه الصور المختلفة والمتنوعة من حروف هذه الطبيعة ، وبشأن العلاقات المعقدة والدقيقة السائدة على الكرات السماوية والموجودات الطبيعية وجميع المواد السابحة ؟ ! .

يقول عالم الأحياء والبيئة المعروف : ( رذر فورد ) : « إن تحقق الصدفة لتجمع ذرات الكاربون والأوكسجين والآزوت والهيدروجين لتركيب وحده بروتينية غير قابل للتصور ، كما هو الشأن فيما إذا نشرنا في الفضاء رزمة من أوراق اللعب ثم قلنا إنها ترتب على الطاولة منتظمة من حيث النجوم والألوان ! هذا محال قطعاً ، وحتى لو تكرر هذا العمل لمرتين في طول تأريخ

البشرية في ثانية واحدة لم يكن من الممكن تحقيق الصدفة فيما مضى »(1) .

هل أن حروف التكوين ( الذرات ومركباتها ) أقلّ أهمية من حروف المطابع ؟ وهل يمكن الإذعان بأن هذه الحروف الطبيعية المنظمة والهادفة بهذه الهندسة الدقيقة وهذه الصور المحيّرة لكتاب الطبيعة كلها وليدة مادة جاهلة غير هادفة ؟ ! وليس في هذا الوجود قدرة قاهرة حكمية منظمة ؟ ! كلا بل إن جميع ظواهر الوجود إنما هي مصنوعة لتلك القدرة الشاعرة والواعية في الطبيعة الحية .

إن هذه القوة المودعة في باطن المادة لو لم تكن أثراً من ذلك العقل الحاكم على العالم فما الذي يهدي هذه المادة إلى الانضباط والانسجام المحيّر ؟ ! .

لو كانت تلك القوة غير مريدة وغير واعية فلماذا لا تصل إلى مرحلة غير منظمة ؟ ولماذا لا تجر تركيب هذه المواد إلى الاصطدامات المحطمة ؟ .

إن الإيمان بالخالق يعطي المعنى لجميع هذه الموجودات ، ويهب المعى لجميع هذا العالم ، وإن أولى الالباب والأفكار العميقة يدركون أن هناك قدرة مطلقة عظيمة للغاية تحكم هذا الوجود وتحفظ نظامه عن الانفراط .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 معارف دنيا العلم ( بالفارسية ) .

0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

إمامة الأئمة الأطهار
احداث كانت وراها قريش
والشاهد في خلقي، وأميني على وحيي، اخرج منه ...
المُناظرة السادسة والسبعون /مناظرة الدكتور ...
المُناظرة الثامنة والاربعون /مناظرة الشيخ ...
خصائص الأنبياء
المرجعية الشيعية
في القدم والحدوث وأقسامهما
فكرنا السياسي إسلامي أم سلطوي ؟
الرجال

 
user comment