أما أتباع المدرسة المادية فهم في تناقض فكري في هذا الموضوع :
فهم من ناحية : يحسبون الإِنسان موجوداً مادياً محكوماً بالتقليات الديالكتيكية، فهوعامل غير مؤثر أمام عوامل المحيط وجبرالتأريخ والأوضاع المعينة من قبل ، فاقد الحرية مقهور للطبيعة في اختيار أعماله بل وحتى أفكاره ونهجه في الحياة ، ويقولون : إن كل حركة وتطوّر وثورة اجتماعية إنما هي نتيجة طبيعية للأوضاع المادية للمحيط والبيئة ، من دون أن يكون للإنسان دور في ذلك ، إذ أن إرادة الإنسان محكومة بالأوضاع المادية والاقتصادية للمحيط والبيئة ، وحتى ذهن الإِنسان محكوم بالقوانين القسرية لمسيرة حركة التأريخ الجبرية فهو لابدّ له من اختيار تلك الطريقة التي عينتها له مقتضيات المحيط والتطورات الفكرية القسرية هي بدورها أيضاً ، إذن
فالطريق مسدود أمام الإِنسان لتجلي إرادته واختياره ، ولا دور لمعرفته بمسؤوليته ، هذا من جانب .
ومن ناحية أخرى : يرون أن شخصية الأفراد من الإِنسان مؤثرة في مسيرة المجتمعات ، ولذلك فهم يركزون على الانقياد المبدئي والحزبي أكثر من أيّ مبدأ أو حزب آخر ، ويحملون الشعوب المستعمرة ( بالفتح ) على تنظيم حركات التحرير المسلحة والعسكرية ، ويحاولون تغيير عقائد الناس والقيام بدورهم بالإِفادة من حريتهم واختيارهم .
وهذا الاعتراف بدور الإِنسان حتى الفرد منه ، تناقض صريح مع شمول المادية الديالكتيكية ، فهو اعتراف بوجود قوة الإِرادة والاختيار لدى الإِنسان الفرد فضلاً عن المجتمعات .
فإن قالوا : إن استنهاض الجماهير الكادحة وتأييد ودعم الحركات الثورية ، مما يعجل في انبثاق فجر النظام الجديد والتقدمي من بطن العهد البائد التليد والرجعيّ ! .
قلنا : إن هذا كلام غير منطقي ، إذ لا يتحقق التطور الثوري من الكمية إلى الكيفية في غير موقعه وخارج حدود التدرج التطبيقي الديالكتيكي كما تقولون أنتم ! فدعوا الطبيعة لتعمل عملها على الأسلوب الديالكتيكي كأحسن ما يكون ، وليس حتى استنهاض أفكار الكادحين إلا تدخلاً في أمر الطبيعة كما تزعمون .
والقول : بأن الحرية إنما هي أن يدرك الإنسان الضرورة التأريخية وقوانين الحركة ، وكيفية الإِفادة منها باتجاه الأهداف والمقاصد المعينة وأن استقلال الإِنسان لا يعني مقابلة قوانين الطبيعة ومقاومتها والوقوف أمامها . .
. . إن هذا الكلام لا يرفع الإِشكال في هذا المجال والا الإِبهام الموجود في المقام ، إذ بعد معرفة تلك القوانين والإِفادة الأصولية منها باتجاه الأهداف الخاصة يبقى الإِشكال في : أن المادة والطبيعة هي التي تعيّن تلك
المقاصد الخاصة وتنفذها ؟ أم أن المصمم عليها هو نفس الإنسان ؟ ! .
ولو كان الإِنسان هو المصمم فهل أن تصميماته هي انعكاس لمطاليب الطبيعة فيه ؟ أم هل يمكنه أن يخالفها أيضاً ؟ ! .
إن الماديين تصوروا : أن الإنسان موجود ماديّ ، وحتى أن أفكاره وعقائده إنما هي نتيجة طبيعية للتطورات الاقتصادية والمادية ، وتابعة لمواقفه الطبقية ، ووليدة لعلاقاته الإِنتاجية في المجتمع ، وردود فعل للأوضاع الخاصة والحاجات المادية لحياة الإِنسان .
إن الإِنسان وإن كان بسبب وضعه المادي متأثراً بالعلاقات المادية والأوضاع الطبيعية والجغرافية والفيزيائية للمجتمع الذي يعيش فيه . . إلّا أن هناك عوامل أخرى نابغة من ذات الإنسان وفطرته تؤثر فيه وفي مصيره في طول التأريخ لا محالة ، ولا يمكن أن تكون حياته العقلية والفكرية إلهاماً من المادة والعلاقات المادية الإِنتاجية للمجتمع فقط .
ولا يمكن أن نغض الطرف عن أهمية دور العوامل المعنوية والدينية والعواطف الروحية في اختيار البشر لطريقته في الحياة ، وأن إرادته هي بدورها أيضاً حلقة أخرى من سلسلة حلقات العمل والأسباب في الفعل أو الترك لأيّ عمل من أعماله في هذا الحياة الدنيا .
لا ريب في أن البشر متأثر ومؤثر فاعل ومنفعل بالطبيعة ، وأن التأريخ وعوامل الإِنتاج تمهّد الأرضية لظهور الحوادث في المجتمعات البشرية.. ولكن ليس عامل الانتاج هو العامل الوحيد في ظهور الحوادث التأريخية، وليس هو الذي له الدور الأصيل في مصير البشر ، وليس بإمكانه أن يسلب منه إرادته وحريته ، فإن الإِنسان قد بلغ رتبة من الكمال عرف بها قيمته التي تفوق الطبيعة وعواملها ، وقد توصّل بذلك إلى وعى مسؤوليته في الحياة .
ولهذا فهو ليس أسيراً محكوماً بالمادة والعلاقات الإِنتاجية ، بل له سلطان على الطبيعة وحاكمية عليها وله أن يغير العلاقات المادية .
إن ( ماركس ) وإن كان قد أعطى الدور النهائي في نظرياته إلى الاقتصاد بوصفه البنية التحتية والعامل المصيري ، لكن صديقه : ( انجلز ) يعلق على هذا الكلام من ( ماركس ) فيقول :
« إن العامل المصيري في التأريخ ، في آخر نظرية طبق الرؤية المادية التأريخية ، هو تجديد الحياة الواقعية ، ولم نقل نحن ولا ( ماركس ) أيّ شيء أكثر من هذا .
إنهم إذا مسخوا هذا الاقتراح من ( ماركس ) بحيث أدى إلى معنى : أن العامل الاقتصادي هو العامل المصيريّ الوحيد . . فقد بدلوا قوله هكذا إلى مجرد عبارة جوفاء وجزافة فارغة .
أجل ، إن الوضع الاقتصادي هو الأساس ، ولكن هناك عوامل أخرى تشكّل البنية الفوقية : الكيفية السياسية للكفاح الطبقي ونتائجها ، والكوادر الحاكمة التي تظهر بعد الانتصار ، والصور الحقوقية ، وحتى ردود فعل هذا الكفاح في أفكار نفس المكافحين ، والنظريات السياسية والحقوقية والفلسفية والثقافات الدينية ، وتطوّر هذه الأمور إلى الثقافة المسيطرة في الساحة ، مما يؤثر في مجاري الكفاح التأريخي ، وفي كثير من الأحوال قد تكون هي التي تقرر المصير .
جميع هذه العوامل لا تزال في فعل وردّ فعل ، وتستمر الحركة الاقتصادية تفتح طريقها فيما لا ينتهي من التناقضات ، كضرورة حتمية »(1) .
ونحن نقول : لو كانت العوامل الفوقية هي التي تقرر مصير الكفاح التأريخي ، فكيف تركّزون أنتم على الدور المصيري للاقتصاد بصورة متفردة ، ولو كانت العوامل الفوقية هي التي تقرر المصير فهي في الواقع من البنية التحتية على الفرض ، بل لو كان شيئان مرتبطان أحدهما بالآخر ، فما هو معنى إعطاء الأولوية للبنية التحتية ؟ !
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 دعوة لتجديد النظر : ص 281 ـ 282 ( بالفارسية ) .
كما أن التحوّلات في ظواهر الطبيعة تتبع العلل والعوامل الخارجية ، كذلك هناك سنن وقوانين للمجتمعات البشرية يتبعها نموّ الأمم واقتدارها أو انحطاطها وانحدارها ، وعلى هذا فالحوادث التأريخية ليست تتبع الجبر الأعمى ، وليست وليدة الصدفة ، بل إن كل تلك التحوّلات والتطوّرات والتغييرات من سنن الخلق والتكوين ، ولإرادة الإِنسان في هذه السنن دور أساس .
كثير من آيات القرآن الكريم تؤكد على أن الظالم والجور والعدوان والطغيان مما يغيّر تأريخ الأمم ، وهذه هي من السنن الإِلهية الجارية في المجتمعات البشرية ، كما قال :
( وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميراً )(1) .
( ألم تر كيف فعل ربك بعاد * إرم ذات العماد * التي لم يخلق مثلها في البلاد * وثمود الذين جابوا الصخر بالواد * وفرعون ذي الأوتاد * الذين طغوا في البلاد * فأكثروا فيها الفساد * فصب عليهم ربّك سوط عذاب * إن ربّك لبالمرصاد )(2) .
إن القرآن يؤكد أن الظلمة الذين يطيعون هوى أنفسهم مهما كانت ، يسببون ظهور الحوادث المؤلفة في التأريخ .
( إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعاً يستضعف طائفة منهم يذبّح أبناءهم ويستحيي نساءهم ، إنه كان من المفسدين )(3) .
( فاستخف قومه فأطاعوه ، إنهم كانوا قوماً فاسقين )(4) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الإسراء : الآية 16 .
2 سورة الفجر : الآيات 6 ـ 14 .
3 سورة القصص : الآية 4 .
4 سورة الزخرف : الآية 54 .
إن الإنسان بوصفه جزءاً يشكل المجتمع البشري يتمتع بالعقل والحكمة والإِرادة الفطرية ، قبل اتصاده بالصفة الاجتماعية ، وليست الروح الفردية فيه مكرهة على تبعية الروح الجماعية .
يتصور القائلون بالجبر أن الأفراد يندكون في المجتمع كالجزء في الكل ويخرجون كحقيقة جديده ، فإما أن نعترف باستقلال وحرية الأفراد وننفي الصورة التركيبية للمجتمع ، وإما أن نرفع اليد عن حرية واستقلال الأفراد حتى نعترف بتركيب المجتمع واقعة ، ولا يمكن الجمع بين أصالة المجتمع واستقلال الفرد وحريته .
في حين أن المجتمع وإن كان يتمتع بقوة أطغى من قوة الأفراد أنفسهم ، إلاّ أن المجتمع لا يقدر أن يجبر الأفراد على شيء في الأمور الإنسانية وحتى الإجتماعية ، فإن أصالة فطرة الإنسان التي هي من صميم الإنسانية تمكّنه من التمتع بحريته واختياره وإرادته ، وبإمكانه أن يعصي ما يفرضه عليه مجتمعه .
والإسلام وإن كان يعترف للمجتمع بالروح والحياة والموت والقوة والقدرة وكأنه شخصية مستقلة ، إلاّ أنه يرى الأفراد منه مقتدرين على اتّخاذ المواقف ومقاومة الفساد في مجتمعهم . ولا يعترف بالموضع الطبقي كعامل جبريّ لفرض فكرة أو عقيدة معيّنة على صاحبها .
وليس الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، إلاّ أمراً بعصيان أوامر المجتمع والخروج على فساد المحيط :
( يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم ، لا يضركم من ضلّ إذا اهتديتم )(1) .
( إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا : فيم كنتم ؟ قالوا :
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة المائدة : الآية 105 .
كنا مستضعفين في الأرض ، قالوا : ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها ، فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيراً )(1) .
هذه الآية تستنكر على الذين يعتذرون باتباع مجتمعاتهم ولا تقبل لهم عذراً .
لا معنى للتقوى إلاّ مع اختيار البشر ، وتقييم الإنسان أيضاً يلازم اختياره ، ولا يجد الفرد استقلاله وكرامته الشخصية إلاّ إذا كان سالكاً طريق الحق خلاف النفس وعلى حسابها ، أما لو وضعنا أنفسنا بحيث تحملنا التطورات الطبيعية أو الأدوار الديالكتيكية على المثل والقيم ، فلا قيمة لذلك ولا كرامة لهذه الشخصية إلاّ معه .
فليس هناك أيّ عامل يحمل الأشخاص على اتّخاذ طريقتهم في الحياة ، وليس هناك أية قوّة تحمله على ترك بعض الأعمال ، وفي هذه الحالة فحسب يجد القويّ معناه .
ولا يحقّ للإنسان أن يدعي التقوى فيما لو كان تصميمه على تغيير وضعه الفاسد جرياً تبعياً لا شعورياً وفق البرامج والأهداف المرسومة من قبل ، وطبقاً للقانون العام السائد ، بل إنما فيما إذا كانت كل أعماله وأفعاله اختياراً لها من صميم نفسه .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة النساء : الآية 97 .