وصف جماعة من المتعصّبين لبني أميّة خروج الإمام على يزيد بأنّه كان من أجل الملك والظفر بخيرات البلاد ، وهذا الراي ينمّ عن حقدهم على الإمام بما أحرزه من الانتصارات الرائعة في نهضته المباركة ، التي لم يظفر بمثل معطياتها أيّ مصلح اجتماعي في الأرض .
وقد يكون لبعضهم العذر لجهلهم بواقع النهضة الحسينيّة ، وعدم الوقوف على أسبابها .
لقد كان الإمام على يقين بإخفاق ثورته في الميادين العسكرية ؛ لأنّ خصمه كان يدعمه جند مكثّف ، أولو قوّة ، وأولو بأس شديد ، وهو لم تكن عنده أيّة قوّة عسكرية ؛ ليحصل على الملك ، ولو كان الملك غايته ـ كما يقولون ـ لعاد إلى الحجاز ، أو مكان آخر حينما بلغه مقتل سفيره مسلم بن عقيل ، وانقلاب الكوفة عليه ، ويعمل حينئذ من جديد على ضمان غايته ، ونجاح مهمّته .
لقد كان الإمام على علم بأنّ الأوضاع السائدة كلّها كانت في صالح بني أميّة وليس منها ممّا يدعمه ، أو يعود لصالحه .
يقول ابن خلدون : إنّ هزيمة الحسين كانت أمراً محتّماً ؛ لأنّ الحسين لم تكن له الشوكة التي تمكّنه من هزيمة الأمويّين ؛ لأنّ عصبية مضر في قريش ، وعصبية قريش في عبد مناف ، وعصبية عبد مناف في بني أميّة ، فعرف ذلك لهم قريش وسائر الناس لا ينكرونه .
لقد كانت ثورة الإمام من أجل غاية لا يفكّر بها أولئك الذين فقدوا وعيهم واختيارهم ، فقد كان خروجه على حكم يزيد من أجل حماية المثُل الإسلامية ، والقيم الكريمة من الأمويّين الذين حملوا معول الهدم .
يقول بعض الكتاب المعاصرين : ويحق لنا أن نسأل ماذا كان هدف الحسين (عليه السلام) ، وماذا كانت القضية التي يعمل من أجلها ؟ أمّا لو كان هدفه شخصيّاً يتمثّل في رغبته في إسقاط يزيد ؛ ليتولى هو بنفسه الخلافة التي كان يطمع إليها ، ما وجدنا فيه هذا الإصرار على التقدّم نحو الكوفة ، رغم وضوح تفرّق الناس من حوله واستسلامهم لابن زياد ، وحملهم السلاح في أعداد كثيرة لمواجهته والقضاء عليه .
الصفحة (2)
إنّ أقصر الناس نظراً كان يدرك أنّ مصيره لن يختلف عمّا آل إليه فعله ، ولو كان الحسين بهذه المكانة من قصر النظر لعاد إلى مكة ؛ ليعمل من جديد للوصول إلى منصب الخلافة .
ولو كان هدفه في أوّل الأمر الوصول الى منصب الخلافة ، ثمّ لمّا بلغه مصرع ابن عمّه قرّر مواصلة السفر للثأر من قاتليه ـ كما يزعم بعض الباحثين ـ استجابة لقضية أهله وأقاربه ، لو كان هذا هدفه لأدرك أنّ جماعته التي خرجت معه للثأر وهي لا تزيد على التسعين ؛ رجالاً ونساءً وأطفالاً ، لن تصل إلى شيء من ذلك من دون أن يُقضى على أفرادها جميعاً ، وبغير أن يضحّي هو بنفسه ضحية رخيصة في ميدان الثأر .
ومن ثمّ يكون من واجبه للثأر أن يرجع ؛ ليعيد تجميع صفوف أنصاره وأقربائه ، ويتقدّم في الجمع العظيم من الغاضبين والموتورين .
فالقضية إذاً ليست في الجمع ثأر ، والهدف ليس هدفاً شخصياً ، وإنّما الأمر أمر الأمّة ، والقضية كانت للحقّ ، والإقدام إقدام الفدائي الذي أراد أن يضرب المثل بنفسه في البذل والتضحية ، ولم يكن إصرار الحسين على التقدّم نحو الكوفة بعد ما علم من تخاذل أهلها ونكوصهم عن الجهاد ، إلاّ ليجعل من استشهاده علماً تلتفّ حوله القلّة التي كانت لا تزال تؤمن بالمثل ، وتلتمس في القادة مَنْ ينير لها طريق الجدّ في الكفاح ، وتحريكاً لضمائر المتخاذلين القاعدين عن صيانة حقوقهم ورعاية صوالحهم .
وألمّ هذا القول بالواقع المشرق الذي ناضل من أجله الإمام الحسين ، فهو لم يستهدف أيّ مصلحة ذاتية ، وإنّما استهدف مصلحة الأمّة وصيانتها من الأمويّين .
تخطيط الثورة
ودرس الإمام الحسين (عليه السلام) أبعاد الثورة بعمق وشمول ، وخطّط أساليبها بوعي وإيمان ، فرأى أن يزجّ بجميع ثقله في المعركة ، ويضحّي بكلّ شيء ؛ لإنقاذ الأمّة من محنتها في ظلّ ذلك الحكم الأسود ، الذي تنكّر لجميع متطلّبات الأمّة .
وقد أدرك المستشرق الألماني ماريين تخطيط الإمام الحسين لثورته ، فاعتبر أن
الصفحة (3)
الحسين قد توخّى النصر منذ اللحظة الأولى ، وعلم النصر فيه ، فحركة الحسين في خروجه على يزيد ـ كما يقول ـ إنّما كانت عزمة قلب كبير عزّ عليه الإذعان ، وعزّ عليه النصر العاجل ، فخرج بأهله وذويه ذلك الخروج الذي يبلغ به النصر الآجل بعد موته ، ويحيي به قضية مخذولة ليس لها بغير ذلك حياة .
لقد أيقن أبو الشهداء (عليه السلام) إنّ القضية الإسلامية لا يمكن أن تنتصر إلاّ بفخامة ما يقدّمه من التضحيات ، فصمّم بعزم وإيمان على تقديم أروع التضحيات وهذه بعضها :
1 ـ التضحية بنفسه : وأعلن الإمام (عليه السلام) عن عزمه على التضحية بنفسه ، فأذاع ذلك في مكّة فأخبر المسلمين إنّ أوصاله سوف تتقطّع بين النواويس وكربلاء ، وكان في أثناء مسيرته إلى العراق يتحدّث عن مصرعه ، ويشابه بينه وبين أخيه يحيى بن زكريا ، وإنّ رأسه الشريف سوف يُرفع إلى بغي من بغايا بني أميّة ، كما رُفع رأس يحيى إلى بغي من بغايا بني إسرائيل .
لقد صمّم على الموت ، واستهان بالحياة ؛ من أجل أن ترتفع راية الحقّ ، وتعلو كلمة الله في الأرض ، وبقي صامداً على عزمه الجبار ، فلم يرتهب حينما أحاطت به الجيوش الهائلة وهي تبيد أهل بيته وأصحابه في مجزرة رهيبة اهتز من هولها الضمير الإنساني ، وقد كان في تلك المحنة الحازبة من أربط الناس جأشاً ، وأمضاهم جناناً ، فلم ير قبله ولا بعده شبيهاً له في شدّة بأسه ، وقوّة عزيمته ، كما لا يعرف التاريخ في جميع مراحله تضحية أبلغ أثراً في حياة الناس من تضحيته (عليه السلام) ، فقد بقيت صرخة مدوية في وجوه الظالمين والمستبدّين .
2 ـ التضحية بأهل بيته : وأقدم أبو الشهداء (عليه السلام) على أعظم تضحية لم يقدمها أيّ مصلح اجتماعي في الأرض ، فقد قدّم أبناؤه وأهل بيته وأصحابه فداءً لما يرتأيه ضميره من تعميم العدل ، وإشاعة الحقّ والخير بين الناس .
وقد خطّط هذه التضحية ، وآمن بأنّها جزء من رسالته الكبرى ، وقد أذاع ذلك وهو في يثرب حينما خفّت إليه السيّدة أمّ سلمة زوج النبي تعذله عن الخروج ، فأخبرها
الصفحة (4)
عن قتله وقتل أطفاله .
وقد مضى إلى ساحات الجهاد وهو متسلّح بهذا الإيمان ، فكان يشاهد الصفوة من أصحابه ، الذين هم من أنبل مَنْ عرفتهم الإنسانية في ولائهم للحقّ ، وهم يتسابقون إلى المنيّة بين يديه ، ويرى الكواكب من أهل بيته وأبنائه ، وهم في غضارة العمر وريعان الشباب ، وقد تناهبت أشلاءهم السيوف والرماح ، فكان يأمرهم بالثبات والخلود إلى الصبر ، قائلاً : (( صبراً يا بني عمومتي ، صبراً يا أهل بيتي ، لا رأيتم هواناً بعد هذا اليوم أبداً )) .
واهتزت الدنيا من هول هذه التضحية التي تمثّل شرف العقيدة ، وسموّ القصد ، وعظمة المبادئ التي ناضل من أجلها ، وهي من دون شك ستبقى قائمة على مرّ القرون والأجيال تضيء للناس الطريق ، وتمدّهم بأروع الدروس عن التضحية في سبيل الحقّ والواجب .
3 ـ التضحية بأمواله : وضحى أبيّ الضيم بجميع ما يملك فداءً للقرآن ، ووقاية لدين الله ، وقد هجمت بعد مقتله الوحوش الكاسرة من جيوش الأمويّين على مخيمه فتناهبوا ثقله ومتاعه ، حتى لم يتركوا ملحفة أو إزاراً على مخدّرات الرسالة إلاّ نهبوه ، ومثّلوا بذلك خسّة الإنسان حينما يفقد ذاتياته ويمسخ ضميره .
4 ـ حمل عقائل النبوّة : وكان من أروع ما خطّطه الإمام العظيم (عليه السلام) في ثورته الكبرى حمله لعقائل النبوّة ومخدّرات الرسالة إلى كربلاء ، وهو يعلم ما سيجري عليهنَّ من النكبات والخطوب ، وقد أعلن ذلك حينما عذله ابن عباس عن حملهنَّ معه إلى العراق ، فقال له : (( قد شاء الله أن يراهنَّ سبايا )) .
لقد أراد (عليه السلام) بذلك أن يستكمل أداء رسالته الخالدة في تحرير الأمّة وإنقاذها من الاستبعاد الأموي .
وقد قمنَ تلك السيّدات بدور مشرق في إكمال نهضة أبي الشهداء (عليه السلام)
الصفحة (5)
فأيقظنَ المجتمع بعد سباته ، وأسقطنَ هيبة الحكم الأموي ، وفتحن باب الثورة عليه ، ولولاهنَّ لم يتمكّن أحد أن يتفوّه بكلمة واحدة أمام ذلك الطغيان الفاجر ، وقد أدرك ذلك كلّ مَنْ تأمّل في نهضة الإمام ودرس أبعادها .
وقد ألمع إليها بعض العلماء والكتاب ، وفيما يلي بعضهم :
يقول الإمام الشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء (رحمه الله) في كثير من مؤلفاته إن الغاية من خروج الإمام بعائلته إلى كربلا إكمالاً لنهضته وبلوغاً إلى هدفه في تحطيم دولة الأمويّين ، يقول : ( وهل تشكّ وترتاب في أنّ الحسين (عليه السلام) لو قُتل هو وولده ، ولم يتعقّبه قيام تلك الحرائر في تلك المقامات بتلك التحدّيات لذهب قتله جباراً ، ولم يطلب به أحد ثاراً ، ولضاع دمه هدراً ، فكان الحسين يعلم أنّ هذا علم لابد منه ، وإنّه لا يقوم به إلاّ تلك العقائل ، فوجب عليه حتماً أن يحملهنَّ معه ؛ لا لأجل المظلومية بسببهن فقط ، بل لنظر سياسي وفكر عميق ، وهو تكميل الغرض ، وبلوغ الغاية من قلب الدولة على يزيد ، والمبادرة إلى القضاء عليها قبل أن تقضي على الإسلام وتعود الناس إلى جاهليتها الأولى ) .
ويقول الأستاذ السيّد أحمد فهمي : ( وقد أدرك الحسين أنّه مقتول ؛ إذ هو يعلم علم اليقين قبح طوية يزيد ، وإسفاف نحيزته ، وسوء سريرته ، فيزيد بعد قتل الحسين ستمتد يده إلى أن يؤذي النبي (صلّى الله عليه وآله) في سلالته ، من قتل الأطفال الأبرياء ، وانتهاك حرمة النساء ، وحملهنَّ ومَنْ بقي من الأطفال من قفرة إلى قفرة ، ومن بلد إلى بلد ، فيثير مرأى أولئك حفيظة المسلمين ، فليس ثمة أشنع ولا أفظع من التشفّي والانتقام من النساء والأطفال بعد قتل الشباب والرجال ، فهو بخروجه بتلك الحالة أراد أن يثأر من يزيد في خلافته ، ويقتله في كرامته .
وحقّاً لقد وقع ما توقّعه ، فكان لما فعله يزيد وعصبته من فظيع الأثر في نفوس المسلمين ، وزاد في أضعانهم ما عرّضوا به سلالة النبوّة من هتك خدر النساء ، وهنَّ اللاتي ما عرفنَ إلاّ بالصيانة والطهر ، والعزّ والمنعة ، ممّا أطلق ألسنة الشعراء بالهجاء والذمّ ، ونفّر أكثر المسلمين من خلافة الأمويّين ، وأسخط عليهم
الصفحة (6)
قلوب المؤمنين ، فقد قتله الحسين أشدّ من قتله إيّاه ) .
ويقول الدكتور أحمد محمود صبحي : ( ثمّ رفض ـ يعني الحسين ـ إلاّ أن يصحب أهله ؛ ليشهد الناس على ما يقترفه أعداؤه بما لا يبرّره دين ولا وزاع من إنسانيّة ، فلا تضيع قضيته مع دمه المراق في الصحراء ، فيفترى عليه أشدّ الافتراء حين يعدم الشاهد العادل على كلّ ما جرى بينه وبين أعدائه .
تقول الدكتورة بنت الشاطئ : أفسدت زينت أخت الحسين على ابن زياد وبني أميّة لذّة النصر ، وسكبت قطرات من السمّ الزعاف في كؤوس الظافرين ، وإنّ كلّ الأحداث السياسية التي ترتّبت بعد ذلك من خروج المختار ، وثورة ابن الزبير ، وسقوط الدولة الأموية ، وقيام الدولة العباسية ، ثمّ تأصّل مذهب الشيعة إنّما كانت زينب هي باعثة ذلك ومثيرته .
ونقول : ماذا يكون الحال لو قُتل الحسين ومَنْ معه جميعاً من الرجال إلاّ أن يسجّل التاريخ هذه الحادثة الخطيرة من وجهة نظر أعدائه ، فيضيع كلّ أثر لقضيته مع دمه المسفوك في الصحراء ) .
هذه بعض الآراء التي تدعم ما ذكرناه من أنّ خروج الحسين (عليه السلام) بعائلته لم يكن الغرض منه إلاّ بلورة الراي العام ، وإيضاح المقاصد الرفيعة التي ثار من أجلها ، ومن أهمها القضاء على دولة الأمويّين التي كانت تشكّل خطراً مباشراً على العقيدة الإسلامية .
وهناك رأي آخر أدلى به العلاّمة المغفور له الشيخ عبد الواحد المظفر ، وهو إنّ الحسين إنّما خرج بعائلته خوفاً عليها من اعتقال الأمويّين وزجها في سجونهم . قال : ( الحسين لو أبقى النساء في المدينة لوضعت السلطة الأمويّة عليها الحجر ، لا بل اعتقلتها علناً وزجتها في ظلمات السجون ، ولابد له حينئذ من أحد أمرين خطيرين ، كلّ منهما يشلّ أعضاء نهضته المقدّسة ؛ إمّا الاستسلام لأعدائه وأعطاء صفقته لهم طائعاً ؛ ليستنقذ العائلة المصونة ، وهذا خلاف الإصلاح الذي ينشده ، وفرض على
الصفحة (7)
نفسه القيام به مهما كلّفه الأمر من الأخطار ، أو يمضي في سبيل إحياء دعوته ، ويترك المخدّرات اللواتي ضرب عليهنَّ الوحي ستراً من العظمة والإجلال ، وهذا ما لا تطيق احتماله نفس الحسين الغيور ، ولا يرادع بني أميّة رادع من الحياء ، ولا يزجرها زاجر من الإسلام .
إنّ بني أميّة لا يهمّها اقتراف الشائن في بلوغ مقاصدها ، وإدراك غاياتها فتتوصّل إلى غرضها ولو بارتكاب أقبح المنكرات الدينية والعقلية .
ألم يطرق سمعك سجن الأمويّين لزوجة عمرو بن الحمق الخزاعي ، وزوجة عبيد الله بن الحرّ الجعفي ، وأخيراً زوجة الكميت الأسدي ؟ ) .
وعلى أيّ حال ، فقد حطّم الإمام بخروجه لعائلته جميع مخطّطات السياسة الأموية ، ونسف جميع ما أقامه معاوية من معالم الظلم ؛ فقد قمنَّ عقائل الوحي بدور فعّال ببث الوعي الاجتماعي ، وتعريف المجتمع بواقع الأمويّين وتجريدهم من الإطار الديني ، ولولاهنَّ لاندرثت معالم ثورة الحسين ، وذهبت أدراج الرياح .
إنّ من ألمع الأسباب في استمرار خلود مأساة الإمام الحسين (عليه السلام) واستمرار فعّالياتها في بث الإصلاح الاجتماعي على امتداد التاريخ ، هو حمل ودائع الرسالة وعقائل الوحي مع الإمام ، فقد قمنَّ بدور مشرق ببلورة الرأي العام ، فحملنَ راية الإيمان التي حملها الإمام العظيم ، ونشرنَ مبادئه العُليا التي استشهد من أجلها .
فقد انبرت حفيدة الرسول (صلى الله عليه وآله) وشقيقة الحسين ، السيّدة زينب بنت أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى ساحات الجهاد ، وهي تدكّ حصون الظالمين ، وتدمّر جميع ما أحرزوه من الانتصارات في قتل أخيها ، وتلحق بهم الهزيمة والعار ، وتملأ بيوتهم مأساة وحزناً .
لقد أقبلت قائدة المسيرة الحسينية عقيلة الوحي زينب (عليه السلام) إلى ساحة المعركة ، وهي تشقّ صفوف الجيش ، تفتّش عن جثمان أخيها الإمام العظيم ، فلمّا وقفت عليه شخصت لها أبصار الجيش ، واستحال إلى سمع ، فماذا تقول أمام هذه
الصفحة (8)
الخطوب المذهلة التي تواكبت عليها ؟ إنّها وقفت عليها غير مدهوشة ، لم تذهلها الرزايا التي تميد منها الجبال ، فشخصت ببصرها إلى السماء ؟ وهي تقول بحماسة الإيمان وحرارة العقيدة ، قائلة : ( اللّهمّ تقبل منّا هذا القربان ) .
وأطلقت بذلك أوّل شرارة للثورة على الحكم الأموي بعد أخيها ، وودّ الجيش أن تسيخ به الأرض ؛ فقد استبان له عظم ما اقترفه من الإثم ، وإنّه قد أباد عناصر الإسلام ، ومراكز الوعي والإيمان .
ولمّا اقتربت سبايا أهل البيت (عليه السلام) إلى الكوفة خرجت الجماهير الحاشدة لاستقبال السبايا ، فخطبت فيهم عقيلة الوحي خطاباً مثيراً ومذهلاً ، وإذا بالناس حيارى لا يعون ولا يدرون ، قد استحالت بيوتهم إلى مآتم ، وهم يندبون حظّهم التعيس ، ويبكون على ما اقترفوه من الجرم ، وحينما انتهت إلى دار الإمارة استقبلها الطاغية متشفّياً بأحطّ وأخسّ ما يكون التشفّي ، قائلاً : كيف رأيتِ صنع الله بأخيك ؟ .
وانطلقت عقيلة بني هاشم ببسالة وصمود ، فأجابته بكلمات النصر والظفر ، قائلة : ( ما رأيت إلاّ جميلاً ، هؤلاء قوم كتب الله عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم ، وسيجمع الله بينك وبينهم ، فتحاج وتخاصم فانظر لمَنْ الفلج يومئذ ، ثكلتك أمّك يابن مرجانة ) .
وأخزت هذه الكلمات ابن مرجانة ، فكانت أشقّ عليه من ضرب السيوف وطعن الرماح ، ولمّا انتهت إلى الشام هزّت العرش الأموي بخطابها المثير الرائع ، وحقّقت بذلك من النصر ما لم تحقّقه الجيوش .
لقد كان حمل الإمام الحسين لعائلته قائماً على أساس من الوعي العميق ، الذي أحرز به الفتح والنصر .