مريم الصديقة :
ذكر القرآن الكريم مريم بصفة صديقة وهي مبالغة في التصديق ، بمعنى أنها ليست مصدقة فقط ، ليست فقط صادق وصديق بل هي صديقة .
الصديقون هم جماعة ترافق الأنبياء والصالحين والشهداء وهم معاً في قافلة . هؤلاء هم سادة القافلة السائرة في طريق الله . الأشخاص العاديون سواء النساء أو الرجال يسألون من الله في صلاتهم وأدعيتهم وعباداتهم أن ( أهدنا الصراط المستقيم * صراط الذين أنعمت عليهم ) وقد حدد الله ، المنعم عليهم في سورة النساء فقال :
( ومن يطع الله والرسول فاولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً ) (1) .
الشخص الذي يكون مطيعاً لله ورسوله يلتحق بمسافري القافلة التي أهلها عبارة عن النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ، ثم يقول : ( وحسن أولئك رفيقاً ) . هؤلاء رفاق جيدون لأنه : « سل عن الرفيق قبل الطريق » (2) .
فإذا سقط الإنسان امسكوه ، وإذا سار في طريق الإفراط والتفريط قوموه ، وإذا شعر بالتعب أعانوه ، وإذا شعر بالعجز منحوه قوة ، لذا قال ( وحسن أولئك رفيقاً ) .
وهذا لا يختص بالنساء بان يقلن : إلهي أرنا طريق مريم ، بل أن جميع المصلين يدعون أن يدلهم الله على طريق الصديقين ، ومريم هي جزء من
____________
(1) سورة النساء ، الآية : 69 .
(2) نهج البلاغة ، الرسالة 31 .
(149)
الصديقين أيضاً ، إن الرجال عندما يدعون في جميع الصلوات بأن يهديهم الله صراط الأنبياء والصديقين ، فان مرادهم ليس الصديقين بمعزلٍ عن مريم بل الصديقين الذين منهم مريم ايضاً .
إن سر أن مريم عليها السلام صديقة ليس بسبب أنها صدقت الأخبار العادية ، وأنها تصدق ما يصدقه الآخرون ، بل أنها صدقت بشيء لم يصدقه الآخرون ، وأيدت صحة شيء كان الآخرون يعدونه مستبعداً على أساس هذا الأستبعاد اتهموها ، في حين أن مريم لم تطلب آية وعلامة لقبول هذا الأمر غير العادي .
شبهة تفوق مريم عليها السلام على زكريا عليه السلام :
إن المتطرفين الذين أفتوا بنبوة مريم أرادوا القول : أن مريم أرقى من زكريا ، لأن زكريا عندما سأل الله سبحانه :
( ربّ هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء ) .
أو ما جاء في سورة مريم من أن زكريا قال :
( ربّ إني وهن العظم مني واشتعل الرأس شيباً ولم أكن بدعائك ربّ شقياً ) (1) .
فقد طلب من الله ذرية صالحة ( ذرية أي ابن ، سواء كان هذا الابن بلا فصل أو مع الفصل ، سواء كان واحداً أو أكثر من واحد ، وسواء كان مذكراً أو مؤنثاً ، كل هذه يقال لها ذرية ) ، كما جاء في محل آخر من القرآن أنه قال :
( فهب لي من لدنك ولياً * يرثني ويرث من آل يعقوب واجعله ربّ
____________
(1) سورة مريم ، الآية : 4 .
(150)
رضياً ) (1) .
عند ذلك نادته الملائكة :
( فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب ان الله يبشرك بيحيى مصدقاً ) (2) .
ويحيى هذا :
( مصداقاً بكلمة من الله وسيداً وحصوراً ونبياً من الصالحين ) (3) .
وعندما بشرت الملائكة زكريا كبير السن بأنه أصبح أباً . سأل زكريا من الله :
( ربّ اجعل لي آية ) (4) .
طلب من الله أن يجعل له آية وعلامة حتى يفهم هل هذه البشارة هي حق أم لا ، أو يفهم متى تتحقق هذه البشارة . ولكن مريم عليها السلام عندما سمعت البشارة من الملائكة أطمانت وصدقت لأنها كانت صديقة ، ولم تطلب من الله تعالى علامة بناء على هذا نستنتج أن مقام مريم أعلى من زكريا .
علة طلب آية من قبل زكريا :
هذا الاعتقاد غير صائب ؛ لأنه يجب عدم إنزال نبي من مقامه العظيم لتكريم مقام شخص غيره ـ مريم عليها السلام .
____________
(1) سورة مريم ، الآيتين : 5 ـ 6 .
(2) سورة آل عمران ، الآية : 39 .
(3) سورة آل عمران ، الآية : 39 .
(4) سورة مريم ، الآية : 10 .
(151)
أما أن زكريا عليه السلام طلب آية ، فإن حق المسألة هو أن هذه الآية لم تكن لشك كان لديه بل كان كما قال إبراهيم عليه السلام :
( ربّ أرني كيف تحيي الموتى قال أو لم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي ) (1) .
أي ، إلهي أرني كيف تحيي الموتى ، فقال تعالى له : ( أو لم تؤمن ) فقال إبراهيم بلى ، ولكن من أجل يصل إلى مقام ارفع ، ويصل إلى درجة فيصبح مظهر ( هو المحيي ) ، وإلا فهو معتقد بالمعاد ويعلم أن الله يحيي الموتى ، ولكنه أراد أن يفهم كيف يحيي الله الموتى ، وطبعاً هذا أيضاً ليس بتلك الصورة التي يريه الله كيف يحيي الموتى ، بل أراد أن يجعله الله مظهراً لـ ( هو المحيي ) فيحيا على يده الموتى ، وهذا هو أعلى مقام سأله إبراهيم الخليل عليه السلام .
هذا الطريق الأبراهيمي علمه إبراهيم عليه السلام لأبنائه في ان يطلبوا أيضاً من الله تعالى آية لحظة بلحظة حتى يصلوا إلى مقام الطمأنينة ويجدوا النفس المطمئنة .
مراحل اليقين :
إذا اتضحت لشخص مسألة بواسطة البرهان ، فلديه مرحلة من الطمأنينة ، وإذا تبدل برهانه من علم اليقين إلى عين اليقين سيرى ماذا يجري في العالم ويرى كيف يحيي الله الموتى ، وهذه مرحلة أيضاً ، ولكن المرحلة الأعلى من عين اليقين هي مرحلة حق اليقين ، أي ان الإنسان يصل إلى درجة بحيث يشاهد ـ هو المحيي ـ في نفسه ، لأن ـ المحيي ـ هو وصف من الأوصاف الفعلية لله ، والأوصاف الفعلية خارجة عن الذات الأقدس ـ على
____________
(1) سورة البقرة ، الآية : 260 .
(152)
عكس الأوصاف الذاتية ـ والشيء الذي هو خارج الذات يكون ممكن الوجود ، وعليه فان الإنسان يستطيع ان يصبح عينه ، لذا رغم أن منطقة الذات هي منطقة ممنوعة ، وكذلك هي حدود الأوصاف الذاتية أيضاً ، ولكن إذا تنزلنا من هاتين المنطقتين الممنوعتين ووصلنا إلى مقام الفعل ، ندخل منطقة ( الفراغ ) وفي هذه المنطقة يكون المكان مفتوحاً للإنسان السالك ويمكنه أن يكون مظهر الأوصاف الفعلية لله ، لذا أصبح عيسى المسيح مظهر الخالق وأمثال ذلك .
أحياناً يفهم الإنسان بالبرهان العقلي أن إحياء الموتى ممكن ، وهذا هو علم اليقين ، وأحياناً يمضي في خدمة المسيح ويشاهد كيف أن روح القدس فيضاً إلى المسيح وأمثاله ، لذا يصل من علم اليقين إلى عين اليقين . ولكن أحياناً يصبح الإنسان مظهر هو المحيي ويحيي الموتى كالمسيح ، وفي كثير من الحالات كالعترة الطاهرة عليها السلام حيث يصبح الإنسان في المرحلة الثالثة أي منطقة الفراغ وفي منطقة الأوصاف الفعلية سالكاً ، ويصل إلى مقام حق اليقين ، أي يصبح مظهر هو الخالق وهو المحيي .
هذا الطريق أوضحه إبراهيم الخليل عليه السلام لجميع السالكين عموماً وللأنبياء ، من ذرية إبراهيم ـ عليهم الصلاة والسلام ـ خصوصاً ، لذا طلب زكريا عليه السلام آية وعلامة حتى يصل أخيراً إلى مقام الطمأنينة ويعلم كيف تتحقق هذه المسألة .
الله تعالى يقول للآباء والأمهات أنهم ليسوا مظهر الخالق ؛ لأن ما يقوم به الأب والأم هو الامناء وليس الخلق .
( أفرأيتم ما تمنون * أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون ) (1) .
____________
(1) سورة الواقعة ، الآيتين : 58 ـ 59 .
(153)
ولكن أحياناً يصل الإنسان إلى درجة يصبح باطنه مظهر هو الخالق .
بناء على هذا إذا كان لزكريا مقام رفيع بحيث يستطيع أن يربي أبنا مثل يحيى ، وإذا هيّأ الله تعالى زكريا وزوجته لتربية وظهور يحيى الشهيد ، يجب عدم القول : أن مقام مريم هو أعلى من مقام زكريا ؛ لأن زكريا طلب آية وان مريم صدقت بلا علامة .
لذا لا محل لإفراط السقر طبيين ولا محل لتفريط الزمخشريين ، بل الاعتقاد الوسط والمعتدل هو أن هذه المرأة قطعت جميع المقامات ؛ كما أن نوع الإنسان ـ من النساء والرجال ـ يستطيع الوصول إلى تلك المقامات ، لأن النبوة الأنبائية ممكنة لغير الأنبياء أيضاً ، ولكن النبوة التشريعية والرسالة وهي أمر تنفيذي خاصة بالرجال الأولياء .
ان مقام الطمأنينة واليقين هو نتيجة تهذيب النفس وتزكية القلب والنفس ، وهو طريق جامع بين المرأة والرجل ، إن نتيجة تهذيب النفس هي أن يأنس الإنسان بما وراء الطبيعة ويصبح من أهل الشهود وكما ينجح الرجال في هذا المسير في التكلم مع الملائكة تنجح النساء أيضاً في التكلم مع الملائكة وتلقي بشارتها ، وهذه المسألة عرضت علاوة على القرآن ، في صحف الأنبياء السابقين ـ عليهم السلام بشكل كامل أيضاً ، وهي مسالة كلامية ، ولا يوجد في هذه الناحية أي اختلاف بين الشرائع الإلهية ولا أي تمايز بين الكتب الإلهية .
النساء الأسوة في القرآن (3) :
بشارة الملائكة لإبراهيم عليه السلام وزوجته :
في مسألة إبراهيم عليه السلام كما يتكلم خليل الله مع الملائكة ، ويتلقى بشارة الملائكة فان زوجته أيضاً تتكلم مع الملائكة وتتلقى بشارة الملائكة
(154)
وليس ان المرأة لا تستطيع الوصول إلى مقام بحيث يتكلم معها الملك .
لقد بشر الله تعالى في زمن كهولة وشيخوخة خليل الله ، بشره بغلام ، وهذه البشارة أعلنت لزوجة إبراهيم بنفس الشكل الذي أبلغ لإبراهيم بواسطة الملائكة ، أي أن أبا إسحاق تلقى البشارة وأم إسحاق تلقت أيضاً بشارة الملائكة . جاء في قضية خليل الرحمن أن الملائكة حين بشرت إبراهيم عليه السلام بغلام قالت : ( فبشرناه بغلام حليم ) (1) .
فقال إبراهيم عليه السلام :
( أبشرتموني على أن مسني الكبر فبم تبشرون ) (2) .
إن إبراهيم عليه السلام لم يقل هذا الكلام بعنوان ( استبعاد ) ، بل بعنوان ( تعجب ) . هنا قال إبراهيم الخليل مندهشاً :
( أبشرتموني على أن مسّني الكبر ) (3) .
فقالت الملائكة :
( بشّرناك بالحق فلا تكن من القانطين ) (4) .
عند ذلك قال إبراهيم الخليل :
( ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون ) (5) .
إن معنى اليأس هو إن يفكر الإنسان انه وصل إلى درجة لا يستطيع الله ـ معاذ الله ـ حل مشكلته . وهذا اليأس هو في حد الكفر ، ولا يحق لأي
____________
(1) سورة الصافات ، الآية : 101 .
(2) سورة الحجر ، الآية : 54 .
(3) سورة الحجر ، الآية : 54 .
(4) سورة الحجر ، الآية : 55 .
(5) سورة الحجر ، الآية : 56 .
(155)
أحد أن يكون يائساً ؛ لأن الله وعد ان يعفو عن الذنب ويتجاوز عن المذنب ، كما ان الإنسان يجب أن لا يصبح مغروراً ، ويلزم أن يمضي دائماً بين الخوف والرجاء .
كان هذا خلاصة الكلام في مسألة بشارة الملائكة لإبراهيم عليه السلام ، وقد طرح ما يعادل هذا التعامل مع زوجة إبراهيم في سورة هود :
( وامرأته قائمة فضحكت فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب ) (1) .
فقالت زوجة إبراهيم عليه السلام :
( قالت يا ويلتي أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخاً إن هذا لشيء عجيب * قالوا أتعجبين من أمر الله رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد ) (2) .