ما تفعله الصراعات الحضاريّة بالناس:
اءنّ طبيعة المعارك والصراعات الحضاريّة والعقائديّة انّها تشطر الناساءلي شطرين: شطر مخالف وآخر موافق، ويجري هذا التشطير والانقسامبصورة مستمرّة فيما بعد واءلي ما شاء الله من العصور، وكلّما يكون امتدادالقضيّة اعمق في وجدان الناس، كلّما تكون الا´ثار الحضاريّة المترتّبةعليها واسعةً.
ومعركة الطف في قمّة هذه المعارك والصراعات وذلك نظراً اءلي:
اوّلاً - المواجهة والمقابلة العقائديّة والحضاريّة والسياسيّة التي تمّتفي هذه المعركة.
ثانياً - وضوح الطرفين في اتجاهاتها العقائديّة والحضاريّة، فلم يكنيخفي امر الحسين ابن بنت رسول الله وسيّد شباب اهل الجنة علي أحدمن المسلمين، كما لم يكن يخفي امر يزيد بن معاوية ابن آكلة الاكباد،وسلالة الشجرة الملعونة في القرآن علي أحد، ولم يكن يشكّ أحد (فيذلك التأريخ واءلي اليوم) في ماهيّة وحقيقة الطرفين المتصارعين ومَنمنهما يدعو اءلي الله، ومَن منهما يدعو اءلي النار.
ثالثاً - المأساة الاليمة التي حدثت لسبط رسول الله واهل بيتهوأصحابه في كربلاء يوم عاشوراء.
كلّ هذه العوامل، وغيرها، تجعل قضيّة الطف قضيّة متميّزة فيالتأريخ، تفرض نفسها علي الاءنسان فرضاً، وتشطر الناس تجاههاشطرين متميّزين كذلك، الشطر الموافق والناصر والمنتمي والمرتبطوالموالي، والشطر المخالف والمعادي. ولا تدع أحداً يقف بين الصفينليتفرج علي المعركة من دون ان يصيبه غبار من المعركة من هنا او هناك.
فلابدّ من موقف محدّد ولابدّ من ولاء وبراءة، فاءنّ القضيّة باعتبارأبعادها العقائديّة والحضاريّة تهم كلّ اءنسان، اءذ لا يستطيع اي اءنسان انيقف من قضيّة عقائديّة حضاريّة حسّاسة ومصيريّة موقف اللامبالاةوعدم الاهتمام، وباعتبار وضوح الطرفين في هذه المعركة، فلا يبقيمجال لاحد في التردّد والتأمل، واءنّ الامر لواضح في الطف لكل ذيعينين؛ فلا يلتبس الحق بالباطل في معركة الطف.
يوم الفرقان الاوّل:
ثم اءنّ البعد المأساوي لهذه المعركة يعطي هذه المعركة زخماً عاطفياًقوياً جدّاً في اعماق النفوس. ولذلك قلنا: اءنّ هذه المعركة شطرت الناسفي الولاء والبراءة شطرين متميّزين من سنة اءحدي وستين هجريّة اءلياليوم الحاضر واءلي ما شاء الله من العصور.
وهذه الخاصيّة يسمّيها القرآن الكريم بالفرقان، وهو الامر الذييشطر الناس شطرين متميّزين في الولاء والبراءة.
ولقد كان يوم بدر هو «يوم الفرقان الاول». في تأريخ الاءسلام، يقولتعالي: (يوم الفرقان، يوم التقي الجمعان).
وذلك لانّ هذا اليوم الذي اءلتقي فيه المسلمون بالمشركين فيمواجهة عسكرية، قد شطر الناس شطرين متمايزين في الولاء والبراءة.فهو أوّل مواجهة قتاليّة بين التوحيد والشرك في تأريخ الاءسلام. وعلينتائج هذه الحرب الميدانيّة يتوقف مصير البشريّة جميعاً، واءتجاهالحضارة الانسانيّة. صحيح انّ الذين وقفوا مع رسول الله(ص) في بدر همثلثمائة او يزيدون، وان الذين وقفوا اءلي جانب قريش لقتال رسول اللهألف او يزيدون قليلاً؛ اءلاّ انّ هذه المواجهة كانت اعمق واوسع ممايتراءي لنا لاول مرّة من خلال التاريخ في وادي بدر في السنة الثانيةمنالهجرة.
لقد كان يقف من وراء المشركين من قريش في بدر جبهة عريضةمن الشرك في الجزيرة وخارجها، وتصاعد الاحداث بعد هذا اليوم اثبتتهذه الحقيقة. ولقد كان رسول الله(ص) وقف بهذه العصبة الصغيرة امامجبهة الشرك العريضة. فيوم بدر - اءذن - فرّق البشريّة اءلي شطرينمتمايزين في الولاء: شطر قوامه ثلثمائة مقاتل وخمسة مقاتلين، وشطرآخر قوامه جبهة الشرك العريضة، وبكل اءمكاناتها الواسعة فهو «يومالفرقان الاوّل» حقاً في تأريخ الاءسلام.
اءنّ النظرة الساذجة الاُولي لساحة بدر في السنة الثانية من الهجرة لاتلتقي اءلاّ بهذين الجمعين المتقاتلين، ولكن النظرة العميقة الممعنة تلتقيفي هذه الساحة بحضارتين وعقيدتين، تتصارعان علي الوجود، وليسعلي حنفةٍ من تجارة قريش، وتلتقي بجهات عريضة وواسعة، وليس منالف من المقاتلين او يزيدون علي ذلك.
ولم يكن يوم بدر هو يوم الفرقان الذي يشطر الناس في الولاءوالبراءة اءلي شطرين في السنة الثانية من الهجرة فقط، واءنّما يظل يوم بدرهو يوم الفرقان في تأريخ الاءسلام.
يوم الفرقان الثاني:
واءذا كان «يوم بدر» هو «يوم الفرقان الاوّل» في تاريخ الاءسلام، فاءنّيوم عاشوراء هو يوم الفرقان الثاني في تأريخ الاءسلام.
فكان يقف فيه الحسين(ع) مع ثلّة صغيرة مناهل بيته وأصحابه اءليجانب في هذه المعركة المصيريّة، ويقف ابن زياد في جيش واسع فيالطرف الا´خر من المعركة ومن ورائه يزيد وسلطانه وملكه الواسعوامواله الكثيرة وجيشه واءمكاناته، وكلّ الموالين له، وكلّ المستفيدينمنه وكلّ المضلّلين به، وكلّ المقاتلين معه وقفوا اءلي جانبه وحتّي كلّالمتفرّجين علي الساحة السياسيّة من الذين آثروا العافية، وانتظرواالنتيجة، فوقفوا يتفرّجون علي ساحة الصراع وميدان القتال، وكلّ اشياعهؤلاء واتباعهم.
ففي يوم عاشوراء اءذن تتوفّر خاصية (الفرقان) بشكل واضح، فقدشطر الناس اءلي شطرين متمايزين في الولاء والاخلاق والفكر والخطوالعقيدة.
ولا يزال هذا اليوم (فرقاناً) في تأريخ الاءسلام يفرق الناس في الولاءوالبراءة اءلي اليوم الحاضر واءلي ما شاء الله من العصور.
يوم الفرقان الثالث:
ومادمنا قد اشرنا اءلي يومين من أيام الفرقان في التأريخ الاءسلاميهما: «يوم بدر» و «يوم عاشوراء»؛ فلا نستطيع ان نتجاوز هذا الحديثدون ان نشير اءلي اليوم الثالث من أيام الفرقان في التأريخ الاسلامي،والذي يأتي امتداداً ليوم بدر ويوم عاشوراء.
وهو يوم انتصار الثورة الاءسلامية المعاصرة من سنة 1399 ه والذيهو من ايام الله الكبري في التأريخ، والذي سقط فيه نظام بهلوي،وانتصرت فيه الثورة الاءسلامية المعاصرة الكبري بقيادة الاءمامالخميني؛.
اءن هذا اليوم لا يعني فقط سقوط نظام اُسرة بهلوي في تأريخ اءيران،وأنّما يعني اءنتهاء مرحلة من تأريخ الاءسلام، وبداية مرحلة جديدة منالتأريخ.
فاءنّ القيمة التأريخية لسقوط اُسرة بهلوي وقيام الجمهورية الاءسلاميةتكمن في كونها:
اوّلاً - نهاية لعصر من الخمول والركود والاءستضعاف واليأسوالارتماء في احضان الغرب والشرق، والتخلّف الفكري والسياسيوالعسكري والاقتصادي، والرضوخ لسيادة الاستكبار العالمي، والهزيمةالنفسية أمام موجة الحضارة الغربية.
ثانياً - بداية عصر جديد من التحرك باتجاه الاءسلام وحاكمية دين اللهعلي وجه الارض، وفكّ القيود والاغلال من الايدي والاقدام، وكسرالطوق السياسي والاقتصادي والعسكري والعلمي والحضاري الذيفرضه علينا الاستكبار الغربي والشرقي، والعودة اءلي الله واءلي الاءسلام،وتعبيد الاءنسان لله وتحكيم شريعة الله في حياة الاءنسان، واءعادة الاعرافوالقيم والاخلاق والحدود الاءسلامية اءلي صلب الحياة من جديد.وبالاءجمال فاءنّه بداية لمرحلة جديدة للتأريخ.
فيوم 22 بهمن - اءذن - هو امتداد حقيقي ليوم عاشوراء، كما كان يومعاشوراء امتداداً واقعياً ليوم بدر.
واءنّ هذا اليوم يوم مصيري في تأريخ الاءسلام وللاجيال المقبلة، كماكان يوم عاشوراء يوماً مصيرياً في تأريخ الاءسلام.
ونُلخّص فيما يلي أبرز النقاط والعناصر التي تشكّل القيمة الحضاريةللاءنقلاب الاءسلامي الشامل والكبير الذي تحقق في هذا اليوم، وللثورةالاءسلامية الكبري التي انتصرت في هذا اليوم علي الاستكبار العالمي:
1 ـ هذه الثورة ثورة مبدئية بكل معني الكلمة، وهي نوع جديد منالعمل والحركة الثورية في تأريخنا المعاصر، وفي الاجواء السياسيّةالمعاصرة التي لم نألف هذا النوع من العمل والحركة، فهي ثورة التوحيدعلي الشرك، بالمعني الذي فسّرناه في هذا الحديث وهو:
توحيد الولاء والشرك في الولاء؛ فهي تتجه بفك ارتباط الاءنسانالمسلم عن الطاغوت المتمثّل في الاستكبار الشرقي والغربي وعملائهمافي المنطقة. هذا الارتباط الذي يتمثّل في الطاعة والانقياد والاستسلاموالركون اءلي الظالمين والحبّ والنصرة. وفك ارتباطه بمحاور الولاءالمصطنعة (القوميّة - الوطنيّة - العشائريّة الحزبيّة...) وربط ولائه باللهتعالي ورسوله واوليائه، وتوحيد الولاء لله تعالي، ومقاطعة ومحاربة كلّالمحاور الاُخري التي تعمل لاءنتزاع الولاء من الناس. تلك طبيعة الثورةومحتواها.
ومن هنا فاءنّها كانت ثورة العبوديّة لله علي عبودية الطاغوت.
واءنّ من المهم ان نفهم نحن مسار الثورة الاءسلامية المعاصرةومحتواها، ومن دون ذلك لا نستطيع ان نساهم في دعم واءسنادهذهالثورة.
اءنّها ليست بثورة علي التخلّف العلمي والتقني، ولا هي بثورة عليالتخلّف الاقتصادي والفقر، ولا هي بثورة علي الاستعمار والاستغلال،ولا هي بثورة من اجل تحرير آبار النفط من قبضة ملوك النفط، ولا هيبثورة طبقة علي طبقة اُخري (ثورة طبقية)، ولا هي بثورة المستضعفينعلي المستكبرين، كما حدث في ثورة الزنج في تأريخ الاءسلام. واءنكانت تحتوي علي هذه الاُمور جيمعاً، وتحقّق هذه النتائج كلّها.
واءنّما هي في جوهرها شيء آخر، اءذ انّها ثورة الولاء لله علي المحاورالمصطنعة للولاء، وانّها ثورة التوحيد علي الشرك، وثورة الاءسلام عليالجاهليّة.
وهذه الثورة اءذا حقّقت غايتها علي وجه الارض فلسوف تقضي عليالتخلّف العلمي والثقافي والتقني، وتقضي علي الفقر والتخلّفالاقتصادي، وتقضي علي الاستغلال والاستعمار.
وتقضي علي استثمار آبار النفط من قبل الشركات الاستعمارية.وتقضي علي التلاعب بأموال المسلمين وثرواتهم، وتقضي عليالاستضعاف والاستكبار، وعلي استضعاف طبقة من قبل طبقة اخريوممارسة السيادة لطبقة علي اُخري.
اءنّ هذه الثورة سوف تحقق كلّ هذه الغايات، وتحقّق غايات اُخريابعد من هذه الاُمور واسمي منها. ولكن علي ان تحافظ علي جوهرهاومحتواها الحقيقي، فتبقي ثورة التوحيد علي الشرك، ولا تندفع اءليالغايات الفرعية التي تتفرع عنها.
اءنّ السمة البارزة والاُولي لهذه الثورة هي «الربّانيّة»، وهذه السمة هيالتي تربطها ببدر وعاشوراء، وبحركة الانبياء: وبمسار الصالحين مناولياء الله. ومتي أفُرغت الثورة من هذه السمة، وتشبعت بالاهدافوالشعارات الجانبية فقدت كلّ قيمتها وفقدت تأييد الله تعالي لها.
اءنّ هذه الثورة تختلف اختلافاً جوهرياً عن كلّ الثورات المعاصرة لنا،كالثورة الفرنسية وثورة اكتوبر والثورات التي قامت في القارة الافريقيةوفي آسيا فيما بعد الحرب العالمية الثانية اءلي اليوم الحاضر.
حيث اءنّ هذه الثورات - جميعاً - في افضل الفروض - كانت ذاتصفة طبقيّة (ثورة طبقة علي طبقة) او صفة تحررّية (التحرر من نفوذوسيطرة الاستعمار الاجنبي او التحرر من سيطرة حاكم ظالم). ولانستطيع ان نستثني ثورة معاصرة اءلينا عن هذه المنطلقات. واما الثورةالاءسلامية فهي الثورة الوحيدة التي انطلقت من منطلق آخر يختلفاختلافاً نوعيّاً عنها جميعاً؛ فانطلقت باتجاه تحرير الاءنسان من المحاورالبشرية للولاء، مهما كان نوع هذا المحور - ان لم يكن مرتبطاً ولاؤه باللهتعالي -، وتعبيد الاءنسان لله تعالي وتحكيم شريعته في حياة الاءنسان،وترسيخ محور الولاية الاءلهية بكل اءمتداداتها في حياة الاءنسان