عربي
Sunday 3rd of November 2024
0
نفر 0

من خصائص التعبير الفنّي والادبيّ في القرآن الكريم

* فالح الربيعي (العراق) 
كلما حاول الاديب أن يحرّر قلمه من التقريرية والمباشرة في الوصف، رفع من قيمة وروعة نتاجه الادبي. 
وقد يعمد القرآن الكريم إلى نفخ الحياة والعقل في الاشياء والجمادات، وهذا النوع من التصوير هو أسمى وأرفع أنواع التصوير الادبي والفنّي. 
وعلى سبيل المثال فلنتأمّل قوله تعالى: (وَلَمّا سَكَتَ عَنْ موسى الغَضَبُ أخَذَ الالْواحَ)[1] وما فيه من جمال وفنيّة وروعة في التصوير; فلقد عمد القرآن الكريم الى استعارة صورة الانسان لحالة فوران الغضب في النفس، وكأنّ الغضب كائن ينمو في نفس الانسان في حالة غياب سيطرة العقل ليحرّضه ويدفعه الى الثورة والانفعال، وكأنّ ـ أيضاً ـ حالة هدوء هذا الغضب تشبه سكون ذلك الكائن وكفّه عن الدفع والتحريض، ونفس هذه الحالة ـ حالة إضفاء الحياة على الجماد ـ نجدها في قوله عزّوجل: (وَلِلّذينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ المَصيرُ * إذا اُلْقُوا فيها سَمِعُوا لها شَهيقاً وَهيَ تَفُورُ * تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الغَيْظِ)[2]. 
فلقد أبدع القرآن الكريم في تصوير وتمثيل حالة سوء العاقبة، والعذاب الشديد الذي سيؤول إليه الخارجون عن طاعة اللّه في يوم القيامة، من خلال تشبيه جهنّم بكائن وحشيّ يكاد يتفجّر ويتميّز غضباً وغيظاً، فإذا له شهيق وفوران. 
تشبيه العاقل بغيره:
وقد يحدث العكس ـ والضابط في ذلك تقديم الصورة الحيّة المؤثّرة في النفس والمساعدة على إدراك المعنى ـ فيعمد القرآن الكريم الى تشبيه العاقل بغير العاقل، كقوله عزّ من قائل في تصوير حالة إعراض الكفّار والمشركين عن التذكرة الالهيّة: (فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضينَ * كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مسْتَنْفِرَةٌ * فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَة)[3]. 
فهذه الصورة تثير في نفوسنا الكثير من التهكّم بالحالة النفسيّة المسيطرة على المعرضين عن هدى اللّه، فهم يهربون من النور والحق هروب الحُمُر الوحشية من الاسد عندما تقع انظارها عليه، فسوء عاقبة الكفار، ومرض قلوبهم، والغشاوة المحيطة بأبصارهم كلّ ذلك هو الذي دفعهم الى الهروب من الحق والهدى وكأنّهم كائنات ألفت العيش في الظلمات حتّى إذا سلّط عليها بصيص من نور استخفت ولاذت بالفرار منه! 
استخدام المألوف:
والقرآن الكريم يوظّف في صوره الادبية والفنيّة كلّ ما هو مألوف في حياة الانسان، زيادة في التأثير، وضماناً في الاقناع; فقد يستمدّ عناصر تلك الصور من الطبيعة; من نباتها وحيوانها وجمادها كالعرجون، وأعجاز النخل، والعصف المأكول، والاشجار الطيّبة، والسنابل، والعنكبوت، والحمار، والكلب، والفراش، والجمال، والانعام، والعهن المنفوش، والجبال، والحجارة، والخشب ... متوخّياً في كلّ ذلك الدّقة الفائقة في التصوير، هذه الدقّة التي تصل الى حدّ الاعجاز، لاحظ ـ مثلاً ـ قوله تعالى: (إنَّ اللّهَ يُحِبُّ الّذينَ يُقاتِلُونَ في سَبيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصوص)[4]. 
فأية دقة ومطابقة أكبر من أن توصف الوحدة والتلاحم اللذان ينبغي أن يسودا التجمّع الايماني عند القتال بالبنيان المرصوص المتلاحم الاجزاء، والمتماسك الى حد (الرصّ)، وعدم السماح لايّ شيء بالنفوذ إلى داخله؟ فهذا التشبيه يثير في أذهاننا تصوّراً دقيقاً لقوّة ومناعة الجماعة المؤمنة وهي تحارب الاعداء. 
وتحقيقاً لعنصر الدّقة في التصوير الذي يعدّ من أهم عناصر التعبير الفنّي يعمد القرآن الكريم في كثير من صوره إلى جعلها صوراً تفصيليّة لا تفوتها الجزئيّات، فهو لا يكتفي بذكر صفة واحدة للمعنى الذي يطرحه، بل يبادر في كثير من الاحيان الى مدّ هذا المعنى بأكثر من تشبيه، توخّياً للدقة التي تعدّ شرطاً ضروريّاً وأساسيّاً لجمال الصورة وتأثيرها، تأمّل قوله تعالى: (وَتَكُونُ الجِبالُ كَالعِهْنِ المَنْفُوشِ)[5]. 
فقد كان بإمكان التعبير القرآني أن يكتفي بوصف الحالة التي ستؤول إليها الجبال يوم القيامة بأنّها «عهن» أي صوف، ولكنّه أضاف إلى هذه الصفة صفة اُخرى زادت من دقّة هذه الصورة، وأضافت إليها العمق والقدرة على التأثير فوصف هذا (العهن) بأنّه (منفوش) لكي ترتسم في أذهاننا صورة أقرب إلى الحقيقة عن مصير الجبال يوم القيامة. 
الاستعانة بالمجاز والكناية:
وكما استعان القرآن الكريم بأساليب بلاغيّة من مثل التشبيه والاستعارة، فقد استند أيضاً إلى (الكناية) و(المجاز) مفضّلاً هذا الاُسلوب في كثير من المواضع على التعبير الحقيقي الصريح الذي يقلّل من القيمة الادبية والفنيّة للتعبير، ويحدّ من قوّة تأثيره في النفوس.  
والكناية تعني التعبير عن معنىً حقيقي من خلال استخدام صورة غير حقيقيّة تبدو لا علاقة لها بذلك المعنى الحقيقي المقصود، ولكنّها تمتلك قدرة فائقة على تجسيد المعنى الذي يريد الاديب طرحه، لاحظ ـ مثلاً ـ قوله عزّوجل: (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ البَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً)[6]. 
فواضح أنّ القرآن الكريم استخدم هنا الكناية في التعبير عن حالة البخل والاسراف، فالانسان البخيل هو في الحقيقة إنسان غُلّت يده الى عنقه فلا يمدّها للانفاق على نفسه، وعلى الاخرين، والانسان المسرف انبسطت يده كلّ البسط فإذا به يتلف أمواله، ويبذّرها في التوافه من الامور دون أن يحكّم عقله في هذا الانفاق. 
ولنلاحظ أيضاً روعة الكناية، وقوّة تأثيرها في النفوس في قوله سبحانه: (يا اَيُّها الّذينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثيراً مِنَ الظَنّ إنَّ بَعْضَ الظَنِّ إثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أيُحِبُّ أحَدُكُمْ أنْ يَأكُلَ لَحْمَ أخيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُموهُ)[7]. 
إنّها كناية لها أضعاف قدرة الحقيقة على تصوير بشاعة وقبح الغيبة، وإنّها لتمثّل لوناً من الادب القرآني في تهذيب الاخلاق، والنهي عن الصفات الذميمة; فغيبة الانسان المؤمن من قبل أخيه هي بمثابة أكل لحمه وهو ميّت، لانّه كالميّت في حالة غيبته إذ لا يستطيع الدفاع عن نفسه، فما الفرق إذاً بين اغتيابه، وبين أكل لحمه ميتاً؟ وأيّ عمل أبشع وأفظع من أن يأكل الانسان لحم أخيه في العقيدة ميتاً؟ 
صور حافلة بالحياة:
وهكذا نرى أنّ القرآن الكريم يسعى دائماً في نهجه الاخلاقي والتربوي لان يقدّم للانسان صوراً ماديّة محسوسة حافلة بالحركة والحياة، ونابضة بكلّ ما يألفه هذا الانسان لكي يتاح له إدراك واستيعاب تلك المفاهيم، والمعاني الاخلاقيّة، ومن ثم العمل بها في حياته، وعكسها على سلوكه. 
وفي الحقيقة إنّ هذا هو المنهج الصحيح والسليم في التربية، لانّ هذا اللون من المعرفة يعتبر من الموضوعات العملية المتصلة بأسباب وثيقة بسلوك الانسان وحياته، فكان من الطبيعي أن تكون وسائل إيصال هذه التربية إلى الانسان عملية ملموسة أيضاً. 
وقد أثبت علم النفس التربوي الحديث أنّ التمثيل المادّي الملموس، والاساليب العمليّة هي من أنجع وسائل التربية، وأكثرها تأثيراً ورسوخاً في نفس الانسان، ولذلك فليس من العجيب أن يركّز الخالق تعالى في كتابه الكريم على التعبير الادبي والفنّي المستند بالدرجة الاولى الى العناصر الحسيّة الملموسة والمألوفة لدى الانسان في حياته; تمشّياً منه تعالى مع طبيعة هذا الانسان المجبولة على الفهم، والادراك في حدود تجاربها، ومعارفها المستمدّة من البيئة التي يعيش فيها. 

* * * 

________________________________________
([1]) الاعراف: 154. 
([2]) الملك: 6 ـ 8 . 
([3]) المدثر: 49 ـ 51 . 
([4]) الصف: 3. 
([5]) الحاقة: 4 . 
([6]) الاسراء: 29 
([7]) الحجرات:12

0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

سيرة الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام)
فضائل الحسين على لسان الصحابة
طبيبٌ دَوَّارٌ بطبه
حجّ الإمام محمّد الباقر(عليه السلام)
السبع المثاني
المقام العلمي للامام الرضا عليه السلام
المسلخ النووي
الآيات المؤولة بقيام القائم ع
الإمام الباقر (ع) عطاء علمي مبارك
الصراط المستقيم‏

 
user comment