عربي
Wednesday 24th of July 2024
0
نفر 0

تاريخ الثورة -3

هذه هي الثورة الفاطمية في لونها العاطفي وهو لون من عدة الوان أوضحها وأجلاها اللون السياسي الغالب على أساليبها وأطوارها.
وأنا حين أقول ذلك لا أعني بالسياسة مفهومها الرائج في أذهان الناس هذا اليوم المركز على الالتواء والافتراء. وانما أقصد بها مفهومها الحقيقي الذي لا التواء فيه فالممعن في دراسة خطوات النزاع وتطوراته والاشكال التي اتخذها لا يفهم منه ما يفهم من قضية مطالبة بأرض بل يتجلى له منها مفهوم أوسع من ذلك ينطوي على غرض طموح يبعث الى الثورة ويهدف الى استرداد عرش مسلوب وتاج ضائع ومجد عظيم وتعديل امة انقلبت على اعقابها.
وعلى هذا كانت فدك معنى رمزياً يرمز الى المعنى العظيم ولا يعني تلك الأرض الحجازية المسلوبة. وهذه الرمزية التي اكتسبتها فدك هي التي ارتفعت بالمنازعة من مخاصمة عادية منكمشة في افقها محدودة في دائرتها الى ثورة واسعة النطاق رحيبة الافق.
ادرس ما شئت من المستندات التاريخية الثابتة للمسألة ، فهل ترى نزاعاً مادياً ؟ أو ترى اختلافاً حول فدك بمعناها المحدود وواقعها الضيق أو ترى تسابقاً على غلات أرض مهما صعد بها المبالغون وارتفعوا ؟ فليست شيئاً يحسب له المتنازعان حساباً.
كلا! . بل هي الثورة على اسس الحكم والصرخة التي ارادت فاطمة ان تقتلع بها الحجر الاساسي الذي بنى عليه التاريخ بعد يوم السقيفة.
ويكفينا لاثبات ذلك ان نلقي نظرة على الخطبة التي خطبتها الزهراء في المسجد امام الخليفة وبين يدي الجمع المحتشد من المهاجرين والانصار فانها دارت اكثر ما دارت حول امتداح علي والثناء على مواقفه الخالدة


( 45 )


في الاسلام وتسجيل حق أهل البيت الذين وصفتهم بأنّهم الوسيلة الى الله في خلقه وخاصته ومحل قدسه وحجته في غيبه وورثة انبيائه في الخلافة والحكم والفات المسلمين الى حظهم العاثر واختيارهم المرتجل وانقلابهم على اعقابهم ، وورودهم غير شربهم ، واسنادهم الامر الى غير أهله ، والفتنة التي سقطوا فيها ، والدواعي التي دعتهم الى ترك الكتاب ومخالفته فيما يحكم به في موضوع الخلافة والامامة.
فالمسألة اذن ليست مسألة ميراث ونحلة الا بالمقدار الذي يتصل بموضوع السياسة العليا ، وليست مطالبة بعقار أو دار ، بل هي في نظر الزهراء مسألة اسلام وكفر ، ومسألة ايمان ونفاق ، ومسألة نص وشورى
وكذلك نرى هذا النفس السياسي الرفيع في حديثها مع نساء المهاجرين والأنصار ، اذ قالت فيما قالت : أين زحزحوها عن رواسي الرسالة. وقواعد النبوة ، ومهبط الروح الأمين والطبين بأمر الدنيا والدين ألا ذلك هو الخسران المبين ، وما الذي نقموا من أبي حسن نقموا والله نكير سيفه ، وشدة وطأته ، ونكال وقعته ، وتنمره في ذات الله ، وتالله لو تكافؤا عن زمام نبذه اليه رسول الله (ص) لاعتلقه وسار اليهم سيراً سجحا لا تكلم حشاشه ، ولا يتعتع راكبه ، ولأوردهم منهلاً نميراً فضفاضاً تطفح فضفاضه ، ولأصدرهم بطانا قد تحير بهم الرأي غير متحل بطائل الا بغمر الناهل وردعه سورة الساغب ، ولفتحت عليهم بركات من السماء والأرض ، وسيأخذهم الله بما كانوا يكسبون ، ألا هلم فاستمع وما عشت أراك الدهر عجباً وان تعجب فقد اعجبك الحادث الى أي لجأ استندوا وبأي عروة تمسكوا ، لبئس المولى ولبئس العشير ، ولبئس للظالمين بدلا استبدلوا والله الذنابى بالقوادم والعجز بالكاهل فرغماً لمعاطس قوم يحسبون انهم يحسنون صنعاً ، ألا انهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون ويحهم أفمن


( 46 )


يهدي الى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدي إلا أن يهدى ؟ فما لكم كيف تحكمون.
ولم يؤثر عن نساء النبي ( صلى الله عليه وآله ) انهن خاصمن أبا بكر في شيء من ميراثهن أكن أزهد من الزهراء في متاع الدنيا ، وأقرب الى ذوق أبيها في الحياة ؟ أو أنهن اشتغلن بمصيبة رسول الله ولم تشتغل بها بضعته ؟ أو أن الظروف السياسية هي التي فرقت بينهن فأقامت من الزهراء معارضة شديدة ، ومنازعة خطرة دون نسوة النبي اللاتي لم تزعجهن اوضاع الحكم.
وأكبر الظن ان الصديقة كانت تجد في شيعة قرينها ، وصفوة أصحابه الذين لم يكونوا يشكون في صدقها من يعطف شهادته على شهادة علي وتكتمل بذلك البينة عند الخليفة أفلا يفيدنا هذا ان الهدف الأعلى لفاطمة الذي كانوا يعرفونه جيداً ليس هو اثبات النحلة أو الميراث ، بل القضاء على نتائج السقيفة وهو لا يحصل باقامة البينة في موضوع فدك ، بل بان تقدم البينة لدى الناس جيمعاً على انهم ضلوا سواء السبيل. وهذا ما كانت تريد ان تقدمه الحوراء في خطتها المناضلة.
ولنستمع الى كلام الخليفة بعد أن انتهت الزهراء من خطبتها وخرجت من المسجد فصعد المنبر وقال : أيها الناس ما هذه الدعة الى كل قالة لأن كانت هذه الأماني في عهد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ألا من سمع فليقل. ومن شهد فليتكلم انما هو ثعالة شهيده ذنبه مرب لكل فتنة كام طحال أحب اهلها اليها البغي. ألا أني لو اشاء أن أقول لقلت ولو قلت لبحت اني ساكت ما تركت ، ثم التفت الى الانصار وقال : قد بلغني يا معشر الانصار مقالة سفهائكم واحق من لزم عهد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) انتم فقد جاءكم فآويتم ونصرتم ، ألا أني لست باسطاً يداً ولا لساناً على من لم يستحق ذلك.


( 47 )


وهذا الكلام يكشف لنا عن جانب من شخصية الخليفة ، ويلقي ضوءاً على منازعة الزهراء له ، والذي يهمنا الآن ما يوضحه من أمر هذه المنازعة وانطباعات الخليفة عنها ، فانه فهم حق الفهم ان احتجاج الزهراء لم يكن حول الميراث أو النحلة ، وانما كان حرباً سياسية كما نسميها اليوم وتظلماً لقرينها العظيم الذي شاء الخليفة وأصحابه أن يبعدوه عن المقام الطبيعي له في دنيا الاسلام ، فلم يتكلم الا عن علي فوصفه بانه ثعالة وانه مرب لكل فتنة وانه كام طحال وان فاطمة ذنبه التابع له ، ولم يذكر عن الميراث قليلاً أو كثيراً.
ولنلاحظ ما جاءت به الرواية في صحاح السنة من ان علياً والعباس كانا يتنازعان في فدك في أيام عمر بن الخطاب فكان علي يقول ان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) جعلها في حياته لفاطمة ، وكان العباس يأبى ذلك ويقول هي ملك رسول الله وأنا وارثه ويتخاصمان الى عمر فيأبى أن يحكم بينهما ويقول انتما أعرف بشأنكما اما أنا فقد سلمتها اليكما.
فقد نفهم من هذا الحديث اذا كان صحيحاً ان حكم الخليفة كان سياسياً موقتاً وان موقفه كان ضرورة من ضرورات الحكم في تلك الساعة الحرجة والا فلما أهمل عمر بن الخطاب رواية الخليفة وطرحها جانبا وسلم فدكاً الى العباس وعلي وموقفه منهما يدل على انه سلم فدكاً اليهما على اساس انها ميراث رسول الله لا على وجه التوكيل ، اذ لو كان على هذا الوجه لما صح لعلي والعباس ان يتنازعا في أن فدكاً هل هي نحلة من رسول الله لفاطمة او تركة من تركاته التي يستحقها ورثته وما اثر هذا النزاع ولو فرض انها في رأي الخليفة مال للمسلمين وقد وكلهما في القيام عليه ، ولفض عمر النزاع وعرفها انه لا يرى فدكاً مالاً موروثاً ولا من املاك فاطمة وانما اوكل امرها اليهما لينوبا عنه برعايتها وتعاهدها كما ان عدم حكمه بفدك لعلي وحده معناه انه لم يكن واثقاً بنحلة رسول


( 48 )


الله ( صلى الله عليه وآله ) فدكا لفاطمة فليس من وجه لتسليمها الى علي والعباس الا الارث.
واذن ففي المسألة تقديران ( أحدهما ) ان عمر كان يتهم الخليفة بوضع الحديث في نفي الارث ( والآخر ) انه تأوله وفهم منه معنى لا ينفي التوريث ولكن لم يذكر تأويله ولم يناقش به أبا بكر حينما حدث به وسواء أصح هذا أو ذاك ، فالجانب السياسي في المسألة ظاهر والا فلماذا يتهم عمر الخليفة بوضع الحديث اذا لم يكن في ذلك ما يتصل بسياسة الحكم ، يومئذ ، ولماذا يخفي تأويله وتفسيره ، وهو الذي لم يتحرج عن ابداء مخالفته للنبي أو الخليفة الاول فيما اعترضهما من مسائل.
واذا عرفنا ان الزهراء نازعت في أمر الميراث بعد استيلاء الحزب الحاكم عليه ، لأن الناس لم يعتادوا ان يستأذنوا الخليفة في قبض مواريثهم او في تسليم المواريث الى أهلها ، فلم تكن فاطمة في حاجة الى مراجعة الخليفة ولم تكن لتأخذ رأيه وهو الظالم المنتزي على الحكم في رأيها فالمطالبة بالميراث لابد انها كانت صدى لما قام به الخليفة من تأميمه للتركة على ما نقول اليوم والاستيلاء عليها.
(
أقول ) : اذا عرفنا هذا وان الزهراء لم تطالب بحقوقها قبل ان تنتزع منها : ـ تجلى لدينا ان ظرف المطالبة كان مشجعاً كل التشجيع للمعارضين على أن يغتنموا مسألة الميراث مادة خصبة لمقاومة الحزب الحاكم على اسلوب سلمي كانت تفرضه المصالح العليا يومئذ واتهامه بالغصب والتلاعب بقواعد الشريعة والاستخفاف بكرامة القانون.

* * *


واذا أردنا ان نفهم المنازعة في اشكالها واسبابها على ضوء الظروف المحيطة بها وتأثيرها كان لزاماً علينا ان نعرض تلك الظروف عرضاً


( 49 )


مستعجلاً ونسجل صورة واضحة الالوان للعهد الانقلابي بالمقدار الذي يتصل بغرضنا.
ولا أعني بالانقلاب حين أصف عهد الخليفة الاول بذلك الا مفهومه الحقيقي المنطبق على تلون السلطة الحاكمة بشكل جمهوري يتقوم بالثورة ويكتسب صلاحياته من الجماعات المنتخبة ونزعها لشكلها الاول الذي يستمد قوته وسلطته من السماء.
فقد كانت تلك اللحظة التي ضرب بها بشير بن سعد على يد الخليفة نقطة التحول في تأريخ الاسلام التي وضعت حداً لأفضل العهود وأعلنت عهداً آخر نترك تقريضه للتاريخ.
وقد كان ذلك في اليوم الذي حانت فيه الساعة الاخيرة في تاريخ النبوات التي قطعت اقدس اداة وصل بين السماء والارض وابركها وأفيضها خيراً ونعمة واجودها صقلاً للانسانية اذ لفظ سيد البشر نفسه الاخير وطارت روحه الى الرفيق الاعلى فكان قاب قوسين أو أدنى فهرع الناس الى بيت النبوة الذي كان يشرق باضوائه لتوديع العهد المحمدي السعيد وتشييع النبوة التي كانت مفتاح مجد الامة وسر عظمتها واجتمعوا حوله تتقاذفهم شتى الخواطر وترتسم في افكارهم ذكريات من روعة النبوة وجلال النبي العظيم وقد خيل اليهم ان هذه السنوات العشر التي نعموا فيها برعاية خير الأنبياء وأبر الآباء كانت حلماً لذيذاً تمتعوا به لحظة من زمان وازدهرت به الانسانية برهة من حياتها وهاهم قد افاقوا على أسوا ما يستيقظ عليه نائم.
وبينما كان المسلمون في هذه الغمرة الطاغية ، والصمت الرهيب لا ينطق منهم أحد بكلمة ، وقد اكتفوا في تأبين الراحل العظيم بالدموع والحسرات والخشوع والذكريات يفاجؤون بصوت يجلجل في الفضاء ويقطع خيط الصمت الذي لف المجتمعين وهو يعلن أن رسول الله (ص)


( 50 )

0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

واقع ﺍﻏﺘﻴﺎﻝ ﻋﺎﺋﺸﺔ
خالد بن ولید يقتل الصحابي مالك بن نويرة طمعاً في ...
الغلاة في نظر الإمامية
قبول الخلافة
تأملات وعبر من حياة يوسف (ع) - ج 2
أقوال علماء السنة في المذهب الشيعي
الثورة الحسينية اسبابها ومخططاتها القسم الاول
الكمالات المحمدية تصنيف مبتكر في الإعجاز الخلقي
صور التقية في كتب العامة
غزوة بدر تكسر شوكة الكفر والشرك

 
user comment