وقد عملت هذه القوة عملها السحري في عمر نفسه فجذبته الى خطوطها المستقيمة مراراً حتى قال : لولا علي لهلك عمر ، وظهر تأثيرها الجبار في التفاف المسلمين حوله في اليوم الذي اسندت فيه مقدرات الخلافة الى عامة المسلمين ذلك الالتفاف الفذ الذي يقل مثيله في تاريخ الشعوب.
ونعرف من هذا ان علياً بما جهزته السماء به من تلك القوة كان ضرورة من ضرورات الاسلام(1) التي لابد منها وشمساً يدور عليها الفلك الاسلامي بعد النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بحسب طبيعته التي لا يمكن ان تقاوم حتى التجأ الفاروق الى مسايرتها كما عرفت.
ويتجلى لدينا أيضاً ان الانقلاب الفجائي في السياسة الحاكمة لم يكن ممكناً يومئذ لأنه ـ مع كونه طفرة ـ يناقض تلك القوة الطبيعية المركزة في شخصية الامام فكان من الطبيعي أن تسير السياسة الحاكمة في خط منحني حتى تبلغ النقطة التي وصل اليها الحكم الأموي تفادياً من تأثير تلك القوة الساهرة على الاعتدال والانتظام كما ينحني السائق بسيارته عندما ينحرف بها الى نقطة معاكسة تحذراً من القوة الطبيعية التي تفرض الاعتدال في السير. وهذا الفصل الرائع من عظمة الامام يستحق دراسة وافية مستقلة قد نقوم بها في بعض الفرص لنكشف بها عن شخصية علي المعارض للحكم والساهر على قضية الاسلام والموفق بين حماية القوة الحاكمة من الانحراف وبين معارضتها في نفس الوقت.
وان كانت مواقف الامام كلها رائعة ، فموقفه في الخلافة بعد رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من أكثرها روعة.
____________
(1) وعلى ضوء ما بيناه نفهم قول رسول الله «ص» لعلي : لا ينبغي أن أذهب الا وأنت خليفتي ، وقوله له عندما تهيأ للخروج الى غزوة تبوك : لابد من أن أقيم أو تقيم ، راجع خصائص النسائي ص7 ومسند الامام أحمد ج1 ص 331 ومناقب الخوارزمي ص 75 وذخائر العقبى ص 87.
( 73 )
وان كانت العقيدة الآلهية تريد في كل زمان بطلا يفتديها بنفسه فهي تريد أيضاً بطلاً يتقبل القربان ويعزز به المبدأ ، وهذا هو الذي بعث بعلي الى فراش الموت وبالنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) الى مدينة النجاة يوم الهجرة الاغر كما أشرنا اليه قريباً ولم يكن ليتهيأ للامام في محنته بعد وفاة أخيه أن يقدم لها كلام البطلين لأنه لو ضحى بنفسه في سبيل توجيه الخلافة الى مجراها الشرعي في رأيه لما بقي بعده من يمسك الخيط من طرفيه وولدا رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) طفلان لا يتهيأ لهما من الامر ما يريد.
وقف علي عند مفترق طريقين كل منهما حرج وكل منهما شديد على نفسه : ـ
أحدهما : أن يعلن الثورة المسلحة على خلافه أبي بكر.
والآخر ان يسكت وفي العين قذى ، وفي الحلق شجا ، ولكن ماذا كان يترقب للثورة من نتائج هذا ما نريد ان نتبينه على ضوء الظروف التاريخية لتلك الساعة العصيبة.
ان الحاكمين لم يكونوا ينزلون عن مراكزهم بأدنى معارضة وهم من عرفناهم حماسة وشدة في أمر الخلافة. ومعنى هذا انهم سيقابلون ويدافعون عن سلطانهم الجديد ، ومن المعقول جداً حينئذ ان يغتنم سعد ابن عبادة الفرصة ليعلنها حرباً اخرى في سبيل اهوائه السياسية لأننا نعلم انه هدد الحزب المنتصر بالثورة عندما طلب منه البيعة وقال : لا والله حتى أرميكم بما في كنانتي واخضب سنان رمحي واضرب بسيفي وأقاتلكم بأهل بيتي ومن اطاعني ولو اجتمع معكم الانس والجن ما بايعتكم. واكبر الظن انه تهيب الاقدام على الثورة ولم يجرأ على أن يكون أول شاهر للسيف ضد الخلافة القائمة وانما اكتفى بالتهديد الشديد الذي كان بمثابة اعلان الحرب وأخذ يترقب تضعضع الاُوضاع ليشهر
( 74 )
سيفه بين السيوف فكان حرياً به ان تثور حماسته ويزول تهيبه ويضعف الحزب القائم في نظره اذا رأى صوتاً قوياً يجهر بالثورة فيعيدها جذعة ويحاول اجلاء المهاجرين من المدينة بالسيف كما اعلن ذلك المتكلم عن لسانه في مجلس السقيفة.
ولا ننسى بعد ذلك الأمويين وتكتلهم السياسي في سبيل الجاه والسلطان وما كان لهم من نفوذ في مكة في سنواتها الجاهلية الأخيرة فقد كان أبو سفيان زعيمها في مقاومة الاسلام والحكومة النبوية وكان عتاب بن أسيد بن أبي العاص بن أمية أميرها المطاع في تلك الساعة.
واذا تأملنا ما جاء في تاريخ تلك الأيام(1) من أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لما توفي ووصل خبره الى مكة وعامله عليها عتاب بن أسيد بن أبي العاص بن أمية استخفى عتاب وارتجت المدينة وكاد اهلها يرتدون فقد لا نقتنع بما يعلل به رجوعهم عن الارتداد من العقيدة والايمان كما أني لا أؤمن بأن مرد ذلك التراجع الى أنهم رأوا في فوز أبي بكر فوزهم وانتصارهم على أهل المدينة كما ذهب اليه بعض الباحثين لأن خلافة أبي بكر كانت في اليوم الذي توفي فيه رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وأكبر الظن ان خبر الخلافة جاءهم مع خبر الوفاة بل تعليل القضية في رأيي ان الامير الاموي عتاب بن أسيد شاء أن يعرف اللون السياسي الذي اتخذته أسرته في تلك الساعة فاستخفى واشاع بذلك الاضطراب حتى اذا عرف ان أبا سفيان قد رضي بعد سخط وانتهى مع الحاكمين الى نتائج في صالح البيت الاموي ظهر مرة اخرى للناس واعاد الامور الى مجاريها وعليه فالصلة السياسية بين رجالات الامويين كانت قائمة في ذلك الحين. وهذا التقدير يفسر لنا القوة التي تكمن وراء
____________
(1) راجع تأريخ الكامل ج 2 ص 123.
( 75 )
أقوال أبي سفيان حينما كان ساخطاً على أبي بكر وأصحابه اذ قال : اني لأرى عجاجة لا يطفيها الا الدم ، وقال عن علي والعباس : اما والذي نفسي بيده لأرفعن لهما من أعضادهما. فالامويون قد كانوا متأهبين للثورة والانقلاب وقد عرف علي منهم ذلك بوضوح حينما عرضوا عليه أن يتزعم المعارضة ولكنه عرف أنهم ليسوا من الناس الذين يعتمد على تأييدهم وانما يريدون الوصول الى اغراضهم عن طريقه فرفض طلبهم وكان من المنتظر حينئذ ان يشقوا عصا الطاعة اذا رأوا الأحزاب المسلحة تتناحر ولم يطمئنوا الى قدرة الحاكمين على ضمان مصالحهم ومعنى انشقاقهم حينئذ اظهارهم للخروج عن الدين وفصل مكة عن المدينة.
واذن فقد كانت الثورة العلوية في تلك الظروف اعلاناً لمعارضة دموية تتبعها معارضات دموية ذات أهواء شتى وكان فيها تهيئة لظرف قد يغتنمه المشاغبون ثم المنافقون.
ولم تكن ظروف المحنة تسمح لعلي بأن يرفع صوته وحده في وجه الحكم القائم بل لتناحرت ثورات شتى وتقاتلت مذاهب متعددة الأهداف والاغراض ويضيع بذلك الكيان الاسلامي في اللحظة الحرجة التي يجب ان يلتف فيها المسلمون حول قيادة موحدة ويركزوا قواهم لصد ما كان يترقب أن تتمخض عنه الظروف الدقيقة من فتن وثورات.
ان علياً الذي كان على أتم استعداد لتقديم نفسه قرباناً للمبدأ في جميع ادوار حياته منذ أن ولد في البيت الالهي والى انت قتل فيه قد ضحى بمقامه الطبيعي ومنصبه الالهي في سبيل المصالح العليا التي جعله رسول الله (ص) وصياً عليها وحارساً لها.
وفقدت بذلك الرسالة المحمدية الكبرى بعض معناها فان رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لما أمره ربه بتبليغ دعوته والانذار برسالته جمع بني عبدالمطلب وأعلن عن نبوته بقوله : ( اني والله ما اعلم شاباً في
العرب جاء قومه بأفضل مما قد جئتكم به ) وعن امامة أخيه بقوله : ( ان هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم فاسمعوا له وأطيعوا )(1) ومعنى ذلك أن امامة علي تكملة طبيعية لنبوة محمّد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وان الرسالة السماوية قد اعلنت عن نبوة محمّد الكبير (ص) وامامة محمّد الصغير في وقت واحد.
ان علياً الذي رباه رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وربى الاسلام معه فكانا ولديه العزيزين كان يشعر باخوته لهذا الاسلام وقد دفعه هذا الشعور الى افتداء أخيه بكل شيء حتى أنه اشترك في حروب الردة التي أعلنها المسلمون يومذاك(2) ولم يمنعه تزعم غيره لها عن القيام بالواجب المقدس ، لأن أبا بكر ان كان قد ابتزه حقه ونهب تراثه فالاسلام قد رفعه الى القمة وعرف له اخوته الصادقة وسجلها بأحرف من نور على صفحات الكتاب العزيز :
وصمد الامام على ترك الثورة ولكن ماذا يفعل ؟ وأي أسلوب يتخذه لموقفه ؟ هل يحتج على الفئة الحاكمة بنصوص النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وكلماته التي أعلنت ان علياً هو القطب المعد لأن يدور عليه الفلك الاسلامي والزعيم الذي قدمته السماء الى أهل الأرض.
تردد هذا السؤال في نفسه كثيراً ثم وضع له الجواب الذي تعينه ظروف محنته وتلزمه به طبيعة الاوضاع القائمة فسكت عن النص الى حين.
ونحن نتبين من الصورة المشوشة التي عرفناها عن تلك الظروف والاوضاع ان الاعتراض بتلك النصوص المقدسة والاحتجاج بها في ساعة
____________
(1) أخرجه الطبري في تاريخ وابن الاثير في الكامل وابن ابي الحديد في شرح نهج البلاغة .
(2) راجع شرح النهج لابن أبي الحديد ج 4 ص 165
( 77 )
ارتفع فيها المقياس الزئبقي للافكار المحمومة والأهواء الملتهبة التي سيطرت على الحزب الحاكم الى الدرجة العالية كان من التقدير المعقول افتراض النتائج السيئة له لأن أكثر النصوص التي صدرت من رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في شأن الخلافة لم يكن قد سمعها الا مواطنوه في المدينة من مهاجرين وأنصار فكانت تلك النصوص اذن الامانة الغالية عند هذه الطائفة التي لابد ان تصل عن طريقهم الى سائر الناس في دنيا الاسلام يومئذ والى الاجيال المتعاقبة والعصور المتتالية. ولو احتج الامام على جماعة أهل المدينة بالكلمات التي سمعوها من رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في شأنه وأقام منها دليلاً على امامته وخلافته لكان الصدى الطبيعي لذلك ان يكذب الحزب الحاكم صديق الامة في دعواه وينكر تلك النصوص التي تمحو من خلافة الشورى لونها الشرعي وتعطل منها معنى الدين.
وقد لا يجد الحق صوتاً قوياً يرتفع به في قبال ذلك الانكار لأن كثيراً من قريش وفي مقدمتهم الامويون كانوا طامحين الى مجد السلطان ونعيم الملك وهم يرون في تقديم الخليفة على اساس من النص النبوي تسجيلاً لمذهب الامامة الالهية ، ومتى تقررت هذه النظرية في عرف الحكم الاسلامي كان معناها حصر الخلافة في بني هاشم آل محمّد الاكرمين وخروج غيرهم من المعركة خاسراً. وقد نلمح هذا اللون من التفكير في قول عمر لابن عباس معللاً اقصاء علي عن الامر : ان قومكم كرهوا ان يجمعوا لكم الخلافة والنبوة(1) فقد يدلنا هذا على أن اسناد الامر الى علي في بداية الامر كان معناه في الذهنية العامة حصر الخلافة في الهاشميين وليس لذلك تفسير اولى من أن المفهوم لجمهرة من الناس يومئذ من الخلافة العلوية تقرير شكل ثابت للخلافة يستمد شرعيته من
____________
(1) راجع تاريخ الكامل ج 3 ص 24.
( 78 )