عربي
Wednesday 24th of July 2024
0
نفر 0

أسرار الحج‌ و أعماله‌ الباطنة‌ من‌ شرح‌ نهج‌ البلاغة‌ لكمال‌ الدين‌ ميثم‌ بن‌ علي‌ بن‌ ميثم‌ البحراني‌ من‌ أعلام‌ القرن‌ السابع‌ الهجري‌ و اعلم‌، أنا لما بينا وجوب‌ العبادات‌، و أشرنا إلى‌ وجه‌ الحكمة‌ فيها، فبالحري‌ أن‌ نشير إلى‌ وجه‌ الحكمة‌ في‌ خصوص

أسرار الحج‌ و أعماله‌ الباطنة‌ من‌ شرح‌ نهج‌ البلاغة‌
لكمال‌ الدين‌ ميثم‌ بن‌ علي‌ بن‌ ميثم‌ البحراني‌ من‌ أعلام‌ القرن‌
السابع‌ الهجري‌ و اعلم‌، أنا لما بينا وجوب‌ العبادات‌، و أشرنا
إلى‌ وجه‌ الحكمة‌ فيها، فبالحري‌ أن‌ نشير إلى‌ وجه‌ الحكمة‌ في‌
خصوص‌ الحج‌ من‌ جملتها.
( مقدمة‌ )
فأما الحج‌، فإنك‌ لما عرفت‌ أن‌ الغرض‌ الأول‌ من‌ العبادات‌ هو
جذب‌ الخلق‌ إلى‌ جناب‌ الحق‌، بالتذكير له‌ و دوام‌ إخطاره‌ بالبال‌،
لتجلى‌ لك‌ الاسرار على‌ طول‌ التذكار، و ينتهي‌ في‌ ذلك‌ من‌ أخذت‌
العناية‌ بيده‌ إلى‌ مقام‌ المخلصين‌. فمن‌ جملة‌ أسرار الله‌
سبحانه‌ المنزلة‌ على‌ لسان‌ رسوله‌، تعيين‌ موضع‌ من‌ البلاد،
أنه‌ أصلح‌ المواضع‌ لعبادة‌ الله‌، و أنه‌ خاص‌ له‌. و لابد من‌
تعيين‌ أفعال‌ تفعل‌ في‌ ذلك‌ المكان‌، و أنها إنما تفعل‌ في‌ ذات‌ الله‌
سبحانه‌.
و نحن‌ نذكر فضيلة‌ من‌ جهة‌ السمع‌، ثم‌ نشير إلى‌ ما ينبغي‌ أن‌
يوظ‌ف‌ فيه‌ من‌ الآداب‌ الدقيقة‌( ثم‌ نشير إلى‌ الوظ‌ائف‌ القلبية‌ ) و
الأعمال‌ الباطنة‌ عند كل‌ حركة‌ و ركن‌ من‌ أركان‌ الحج‌، مما يجري‌
من‌ تلك‌ الأركان‌ مجرى‌ الأرواح‌ للأبدان‌.
فإذن‌ ها هنا أبحاث‌:
البحث‌ الاول‌
( فضيلة‌ الحج‌ من‌ جهة‌ السمع‌ )
أما الفضيلة‌، فمن‌ وجوه‌:
الأول‌: قوله‌ تعالى‌:( و أذن‌ في‌ الناس‌ بالحج‌ يأتوك‌ رجالا و
على‌ كل‌ ضامر يأتين‌ من‌ كل‌ فج‌ عميق‌ )، قال‌ قتادة‌: لما أمر الله‌
عزوجل‌ خليله‌ إبراهيم‌ عليه‌ السلام‌ أن‌ يؤذن‌ في‌ الناس‌،( ف )
نادى‌:( أن‌ لله‌ بيتا فحجوه‌ ). و قال‌ تعالى‌:( ليشهدوا منافع‌ لهم‌ )،
قيل‌: التجارة‌ في‌ المواسم‌ و الأجر في‌ الآخرة‌، و لما سمع‌ بعض‌
السلف‌ هذا قال‌: غفر لهم‌ و رب‌ الكعبة‌.
الثاني‌: قال‌ عليه‌ السلام‌: " من‌ حج‌ و لم‌ يرفث‌ و لم‌ يفسق‌ خرج‌
من‌ ذنوبه‌ كيوم‌ ولدته‌ أمه‌". و قد عرفت‌ كيفية‌ نفع‌ العبادات‌ في‌
الخلاص‌ من‌ الذنوب‌.
الثالث‌: قال‌ صلى‌ الله‌ عليه‌ و آله‌ و سلم‌: " ما رؤى‌ الشيطان‌ في‌
يوم‌ هو أصغر و لا أحقر و لا أغيض‌ منه‌ يوم‌ عرفة‌". و ما ذلك‌ إلا
لما يرى‌ من‌ نزول‌ الرحمة‌، و تجاوز الله‌ عن‌ الذنوب‌ العظ‌ام‌، إذ
يقال‌: " من‌ الذنوب‌ ما لا يكفرها إلا الوقوف‌ بعرفة‌"، أسنده‌
الصادق‌ عليه‌ السلام‌ إلى‌ الرسول‌ صلى‌ الله‌ عليه‌ و آله‌ و سلم‌.
و كان‌ سر ذلك‌: ما يحصل‌ من‌ رحمة‌ الله‌، و يفاض‌ على‌ أسرار
العبادة‌ التي‌ قد صفت‌ بشدة‌ الاستعداد الحاصل‌ من‌ ذلك‌ الموقف‌
العظ‌يم‌، الذي‌ يجتمع‌ فيه‌ العالم‌ أشد إجتماع‌، فإن‌ ا+جتماع‌ سبب‌
عظ‌يم‌ فى‌ الانفعال‌ و الخشية‌ لله‌ و قبول‌ أنواره‌، كما سنبينه‌ إن‌
شاء الله‌.
البحث‌ الثانى‌:
فى‌ الآداب‌ الدقيقة‌ و هى‌ عشرة‌:
الأول‌: أن‌ تكون‌ النفقة‌ حلالا، و يخلو القلب‌ عن‌ تجارة‌ تشغله‌
سوى‌ الله‌ تعالى‌. و فى‌ الخبر من‌ طريق‌ أهل‌ البيت‌: " إذا كان‌ آخر
الزمان‌ خرج‌ الناس‌ إلى‌ الحج‌ على‌ أربعة‌ أصناف‌: سلاطينهم‌
للنزهة‌، و أغنياؤهم‌ للتجارة‌، و فقراؤهم‌ للمسألة‌، و قراؤهم‌
للسمعة‌". و فى‌ الخبر إشارة‌ إلى‌ جملة‌ أغراض‌ الدنيا التى‌
يتصور أن‌ تتصل‌ بالحج‌، فكل‌ ذلك‌ مانع‌ لفضيلة‌ الحج‌ و
مقصود الشارع‌ منه‌.
الثانى‌: أن‌ لا يساعد الصادين‌ عن‌ سبيل‌ الله‌ و المسجد الحرام‌
بتسليم‌ المكوس‌ إليهم‌، فان‌ ذلك‌ إعانة‌ على‌ الظ‌لم‌، و تسهيل‌
لأسبابه‌، و جرأة‌ على‌ سائر السالكين‌ إلى‌ الله‌، وليحتل‌ فى‌
الخلاص‌، فان‌ لم‌ يقدر فالرجوع‌ أولى‌ من‌ إعانة‌ الظ‌المين‌ على‌
البدعة‌ و جعلها سنة‌.
الثالث‌: التوسع‌ فى‌ الزاد، و طيب‌ النفس‌ فى‌ البذل‌، و الانفاق‌
بالعدل‌، دون‌ البخل‌ و التبذير، فان‌ بذل‌ الزاد فى‌ طريق‌ مكة‌ إنفاق‌
فى‌ سبيل‌ الله‌. قال‌ صلى‌ الله‌ عليه‌ و آله‌ و سلم‌: " الحج‌ المبرور
ليس‌ له‌ أجر إلا الجنة‌"، فقيل‌: يا رسول‌ الله‌ ما بر الحج‌؟ قال‌: "
طيب‌ الكلام‌، و إطعام‌ الطعام‌". الرابع‌: ترك‌ الرفث‌ و الفسوق‌ و
الجدال‌، كما قال‌ تعالى‌:( فلا رفث‌ و لا فسوق‌ و لا جدال‌ فى‌ الحج‌ ).
و الرفث‌: كل‌ لغو و فحش‌ من‌ الكلام‌، و يدخل‌ فى‌ ذلك‌ محادثة‌
النساء بشأن‌ الجماع‌ المحرم‌، فانها تهيج‌ داعيته‌، و هى‌ مقدمة‌ له‌،
فتحرم‌، و من‌ لطف‌ الشارع‌ إقامة‌ مظ‌نة‌ الشى‌ء مقام‌ الشى‌ء
حسما لمادته‌. و الفسوق‌: الخروج‌ عن‌ طاعة‌ الله‌. و الجدال‌: هو
المماراة‌ و الخصومة‌ الموجبة‌ للضغائن‌ و الأحقاد و افتراق‌
كلمة‌ الخلق‌. و كل‌ ذلك‌ ضد مقصود الشارع‌ من‌ الحج‌، و شغل‌
عن‌ ذكر الله‌.
الخامس‌: أن‌ يحج‌ ماشيا مع‌ القدرة‌ و نشاط النفس‌، فان‌ ذلك‌
أفضل‌ و أدخل‌ للنفس‌ فى‌ الاذعان‌ لعبودية‌ الله‌. و قال‌ بعض‌
العلماء: الركوب‌ أفضل‌، لما فيه‌ من‌ مؤونة‌ الانفاق‌، و لأنه‌ أبعد
من‌ الملال‌، و أقل‌ للأذى‌، و أقرب‌ إلى‌ السلامة‌ و أداء الحج‌. و هذا
التحقيق‌ غير مخالف‌ لما قلناه‌، و الحق‌ التفصيل‌، فيقال‌: من‌ سهل‌
عليه‌ المشى‌ فهو أفضل‌، فان‌ أضعف‌ و أدى‌ إلى‌ سوء خلق‌ و
قصور عن‌ العمل‌ فالركوب‌ أفضل‌، لأن‌ المقصود توفر القوى‌
على‌ ذكر الله‌ تعالى‌، و عدم‌ المشتغلات‌ عنه‌...
السادس‌: أن‌ يركب‌ الزاملة‌، دون‌ المحمل‌، لاشتماله‌ على‌ زى‌
المترفين‌ و المتكبرين‌، و لأنه‌ أخف‌ على‌ البعير، اللهم‌ إلا لعذر.
حج‌ رسول‌ الله‌ صلى‌ الله‌ عليه‌ و آله‌ و سلم‌ على‌ راحلته‌، و كان‌
تحته‌ رحل‌ رث‌ و قطيفة‌ خلقة‌، قيمته‌ أربعة‌ دراهم‌، و طاف‌ على‌
الراحلة‌ لينظ‌ر الناس‌ إلى‌ هيأته‌ و شمائله‌، و قال‌: " خذوا عنى‌
مناسككم‌".
السابع‌: أن‌ يخرج‌ رث‌ الهيأة‌، أقرب‌ إلى‌ الشعث‌، غير مستكثر
من‌ الزينة‌ و أسباب‌ التفاخر، فيخرج‌( فاذا استكثر خرج‌ ) بذلك‌
عن‌ حزب‌ السالكين‌ و شعار الصالحين‌. روى‌ عنه‌ صلى‌ الله‌
عليه‌ و آله‌ و سلم‌ أنه‌ قال‌: " إنما الحاج‌ الشعث‌ التفث‌، يقول‌ الله‌
تعالى‌ لملائكته‌: انظ‌روا إلى‌ زوار بيتى‌ قد جاؤونى‌، شعثا غبرا
من‌ كل‌ فج‌". و قال‌ تعالى‌:( ثم‌ ليقضوا تفثهم‌ )، و التفث‌: الشعث‌
و الاغبرار، و قضاؤه‌: بالحلق‌ و تقليم‌ الأظ‌فار.
الثامن‌: أن‌ يرفق‌ بالدابة‌، و لا يحملها ما لا تطيق‌. كان‌ أهل‌ الورع‌
لا ينامون‌ على‌ الدابة‌ إلا غفوة‌ من‌ قعود. قال‌ صلى‌ الله‌ عليه‌ و
آله‌ و سلم‌: " لا تتخذوا ظ‌هور دوابكم‌ كرسى‌". و يستحب‌ أن‌
ينزل‌ عن‌ دابته‌ غدوة‌ و عشية‌، يروحها بذلك‌، فهو سنة‌. و سر
ذلك‌: مراعاة‌ الرقة‌ و الرحمة‌، و التخلى‌ عن‌ القسوة‌ و الظ‌لم‌، و
لأنه‌ يخرج‌ بالعسف‌ عن‌ قانون‌ العدل‌ و مراعاة‌ عناية‌ الله‌ و
شمولها، فانها كما لحقت‌ الانسان‌ لحقت‌ سائر الحيوان‌.
التاسع‌: أن‌ يتقرب‌ باراقة‌ دم‌، و يجتهد أن‌ يكون‌ سمينا ثمينا.
روى‌: أن‌ عمر أهدى‌ نجيبة‌، فطلبت‌ منه‌ بثلاثمائة‌ دينار، فسأل‌
رسول‌ الله‌ صلى‌ الله‌ عليه‌ و آله‌ و سلم‌ أن‌ يبيعها و يشترى‌
بثمنها بدنا، فنهاه‌ رسول‌ الله‌ صلى‌ الله‌ عليه‌ و آله‌ و سلم‌ و
قال‌: " بل‌ اهدها"، و ذلك‌ لأن‌ المقصود ليس‌ تكثير اللحم‌، و إنما
المقصود تزكية‌ النفس‌ و تطهيرها عن‌ رذيلة‌ البخل‌ و تزيينها
بجمال‌ التعظ‌يم‌ لله‌،( لن‌ ينال‌ الله‌ لحومها و لا دماؤها ولكن‌
يناله‌ التقوى‌ منكم‌ ). قال‌ صلى‌ الله‌ عليه‌ و آله‌ و سلم‌: " ما عمل‌
آدمى‌ من‌ عمل‌ يوم‌ النحر أحب‌ إلى‌ الله‌ عزوجل‌ من‌ إهراق‌ الدم‌
إنها لتأتى‌ يوم‌ القيامة‌ بقرونها و أشعارها و أظ‌لافها، و إن‌ الدم‌
ليقع‌ من‌ الله‌ بمكان‌ قبل‌ أن‌ يقع‌ على‌ الأرض‌، فطيبوا بها نفسا".
العاشر: أن‌ يكون‌ طيب‌ النفس‌ بما أنفقه‌ من‌ هدى‌ و غيره‌، و بما
أصابه‌ من‌ خسران‌ و نقيصة‌ مال‌، إن‌ أصابه‌ ذلك‌ فانه‌ بذلك‌
يكون‌ مكتفيا إلى‌ الله‌ سبحانه‌ عن‌ كل‌ ما أنفقه‌، متعوضا عنه‌ ما
عند الله‌، و ذلك‌ علامة‌ لقبول‌ حجه‌.
البحث‌ الثالث‌: فى‌ الوظ‌ائف‌ القلبية‌ عند كل‌ عمل‌ من‌ أعمال‌ الحج‌
اعلم‌، أن‌ أول‌ الحج‌ فهم‌ موقع‌ الحج‌ فى‌ الدين‌، ثم‌ الشوق‌ إليه‌، ثم‌
العزم‌ عليه‌، ثم‌ قطع‌ العلائق‌ المانعة‌ عنه‌، ثم‌ تهيئة‌ أسباب‌
الوصول‌ إليه‌ من‌ الزاد و الراحلة‌، ثم‌ السير، ثم‌ الاحرام‌ من‌
الميقات‌ بالتلبية‌، ثم‌ دخول‌ مكة‌، ثم‌ استتمام‌ الأفعال‌ المشهورة‌.
و فى‌ كل‌ حالة‌ من‌ هذه‌ الحالات‌ تذكرة‌ للمتذكر، و عبرة‌ للمعتبر،
و نية‌ للمريد الصادق‌، و إشارة‌ للفطن‌ الحاذق‌، إلى‌ أسرار يقف‌
عليها بصفاء قلبه‌ و طهارة‌ باطنه‌ إن‌ ساعده‌ التوفيق‌.
أما الفهم‌: فاعلم‌، أنه‌ لا وصول‌ إلى‌ الله‌ إلا بتنحية‌ ما عداه‌ عن‌
القصد من‌ المشتهيات‌ البدنية‌ و اللذات‌ الدنيوية‌، و التجريد فى‌
جميع‌ الحالات‌، و الاقتصار على‌ الضروريات‌، و لهذا انفرد
الرهبان‌ فى‌ الأعصار السالفة‌ عن‌ الخلق‌ فىقلل‌ الجبال‌، توحشا
من‌ الخلق‌، و طلبا للأنس‌ بالخالق‌، و أعرضوا عن‌ جميع‌ ما
سواه‌، و لذلك‌ مدحهم‌ بقوله‌:( ذلك‌ بأن‌ منهم‌ قسيسين‌ و رهبانا
و أنهم‌ لا يستكبرون‌ ). فلما اندرس‌ ذلك‌، و أقبل‌ الخلق‌ على‌
اتباع‌ الشهوات‌، و الاقبال‌ على‌ الدنيا، و الالتفات‌ عن‌ الله‌، بعث‌
نبيه‌ صلى‌ الله‌ عليه‌ و آله‌ و سلم‌ لاحياء طريق‌ الآخرة‌، و
تجديد سنة‌ المرسلين‌ فى‌ سلوكها، فسأله‌ أهل‌ الملل‌ عن‌
الرهبانية‌ و السياحة‌ فى‌ دينه‌، فقال‌: " أبدلنا بها الجهاد و التكبير
على‌ كل‌ شرف‌" يعنى‌: الحج‌، و سئل‌ عن‌ السائحين‌، فقال‌: " هم‌
الصائمون‌"، فجعل‌ سبحانه‌ الحج‌ رهبانية‌ لهذه‌ الأمة‌. فشرف‌
البيت‌ العتيق‌ باضافته‌ إلى‌ نفسه‌، و نصبه‌ مقصدا لعباده‌، و
جعل‌ ما حوله‌ حرما لبيته‌، تفخيما لأمره‌، و تعظ‌يما لشأنه‌، و
جعل‌ عرفات‌ كالميدان‌ على‌ باب‌ حرمه‌، و أكد حرمة‌ الموضع‌
بتحريم‌ صيده‌ و شجره‌، و وضعه‌ على‌ مثال‌ حضرة‌ الملوك‌،
يقصده‌ الزوار من‌ كل‌ فج‌ عميق‌، شعثا غبرا، متواضعين‌ لرب‌
البيت‌، مستكينين‌ له‌ خضوعا بجلاله‌ و استكانة‌ لعزته‌، مع‌
الاعتراف‌ بتنزيهه‌ عن‌ أن‌ يحومه‌ مكان‌، ليكون‌ ذلك‌ أبلغ‌ فى‌
رقهم‌ و عبوديتهم‌. و لذلك‌ وظ‌ف‌ عليهم‌ فيها أعمالا لا تأنس‌ بها
النفوس‌، و لا تهتدى‌ إلى‌ معانيها العقول‌، كرمى‌ الجمار بالأحجار،
و التردد بين‌ الصفا و المروة‌ على‌ سبيل‌ التكرار. و بمثل‌ هذه‌
الأعمال‌ يظ‌هر كمال‌ الرق‌ و العبودية‌، بخلاف‌ سائر العبادات‌،
كالزكاة‌ التى‌ هى‌ إنفاق‌ فى‌ وجه‌ معلوم‌ و للعقل‌ إليه‌ ميل‌، و
الصوم‌ الذى‌ هو كسر للشهوة‌ التى‌ هى‌ عدو لله‌ و تفرغ‌ للعبادة‌
بالكف‌ عن‌ الشواغل‌، و كالركوع‌ و السجود فى‌ الصلاة‌ الذى‌ هو
تواضع‌ لله‌ سبحانه‌ بأفعال‌ على‌ هيئات‌ التواضع‌ و للنفوس‌
أنس‌ بتعظ‌يم‌ الله‌ تعالى‌.
و أما أمثال‌ هذه‌ الأعمال‌، فانه‌ لا اهتداء للعقل‌ إلى‌ أسرارها، فلا
يكون‌ للاقدام‌ عليها باعث‌ إلا الأمر المجرد و قصد امتثاله‌ من‌
حيث‌ هو واجب‌ الاتباع‌ فقط، و فيه‌ عزل‌ للعقل‌ عن‌ تصرفه‌، و
صرف‌ النفس‌ و الطبع‌ عن‌ محل‌ أنسه‌ المعين‌ على‌ الفعل‌ من‌
حيث‌ هو، فان‌ كل‌ ما أدرك‌ العقل‌ وجه‌ الحكمة‌ فى‌ فعله‌ مال‌ الطبع‌
إليه‌ ميلا تاما، فيكون‌ ذلك‌ الميل‌ معينا للأمر و باعثا على‌ الفعل‌،
فلا يكاد يظ‌هر به‌ كمال‌ الرق‌ و الانقياد، و لذلك‌ قال‌ صلى‌ الله‌
عليه‌ و آله‌ و سلم‌ فى‌ الحج‌ على‌ الخصوص‌: " لبيك‌ بحجة‌ حقا
تعبدا و رقا"، و لم‌ يقل‌ ذلك‌ فى‌ الصلاة‌ و غيرها.
و أما الشوق‌: فباعثه‌ الفهم‌ أن‌ البيت‌ بيت‌ الله‌، و أنه‌ وضع‌ على‌
مثال‌ حضرة‌ الملوك‌، فقاصده‌ قاصد لله‌ تعالى‌، و من‌ قصد
حضرة‌ الله‌ تعالى‌ بالمثال‌ المحسوس‌، فجدير أن‌ يترقى‌ منه‌
بحسب‌ سوق‌ شوقه‌ إلى‌ الحضرة‌ العلوية‌ و الكعبة‌ الحقيقية‌
التى‌ هى‌ فى‌ السماء، و قد بنى‌ هذا البيت‌ على‌ قصدها، فيشاهد
وجه‌ ربه‌ الأعلى‌ بحكم‌ وعده‌ الكريم‌.
و أما العزم‌: فليستحضر فى‌ ذهنه‌ أنه‌ لعزمه‌ مفارق‌ للأهل‌ و
الولد، هاجر للشهوات‌ و اللذات‌، مهاجر إلى‌ ربه‌، متوجه‌ إلى‌
زيارة‌ بيته‌. و ليعظ‌م‌ قدر البيت‌ لقدر رب‌ البيت‌، و ليخلص‌ عزمه‌
لله‌، و يبعده‌ عن‌ شوائب‌ الرياء و السمعة‌، فان‌ ذلك‌ شرك‌ خفى‌،
و ليتحقق‌ أنه‌ لا يقبل‌ من‌ عمله‌ و قصده‌ إلا الخالص‌، و أن‌ من‌
أقبح‌ المقابح‌ أن‌ يقصد بيت‌ الملك‌ و حرمه‌ مع‌ اطلاع‌ ذلك‌ الملك‌
على‌ خائنة‌ الأعين‌ و ما تخفى‌ الصدور و يكون‌ قصده‌ غيره‌، فان‌
ذلك‌ استبدال‌ للذى‌ هو أدنى‌ بالذى‌ هو خير.
أما قطع‌ العلائق‌: فحذف‌ جميع‌ الخواطر عن‌ قلبه‌، غير قصد
عبادة‌ الله‌، و التوبة‌ الخالصة‌ له‌ عن‌ الظ‌لم‌ و أنواع‌ المعاصى‌،
فكل‌ مظ‌لمة‌ علاقة‌، و كل‌ علاقة‌ خصم‌ حاضر متعلق‌ به‌ ينادى‌
عليه‌ و يقول‌: أتقصد بيت‌ الملوك‌ و هو مطلع‌ على‌ تضييع‌ أمره‌
لك‌ فى‌ منزلك‌ هذا، و تستهين‌ به‌، و لا تلتفت‌ إلى‌ نواهيه‌ و
زواجره‌، و لا تستحى‌ أن‌ تقدم‌ عليه‌ قدوم‌ العبد العاصى‌ فيغلق‌
دونك‌ أبواب‌ رحمته‌، و يلقيك‌ فى‌ مهاوى‌ نقمته‌، فان‌ كنت‌ راغبا
فى‌ قبول‌ زيارتك‌ فأبرز إليه‌ من‌ جميع‌ معاصيك‌، و اقطع‌ علاقة‌
قلبك‌ عن‌ الالتفات‌ إلى‌ ما وراءك‌، لتتوجه‌ إليه‌ بوجه‌ قلبك‌، كما
أنت‌ متوجه‌ إلى‌ بيته‌ بوجه‌ ظ‌اهرك‌. و ليذكر عند قطعه‌ العلائق‌
لسفر الحج‌ قطع‌ العلائق‌ لسفر الآخرة‌، فان‌ كل‌ هذه‌ أمثلة‌ قريبة‌
يترقى‌ منها إلى‌ أسرارها.
و أما الزاد: فليطلبه‌ من‌ موضع‌ حلال‌، فاذا أحس‌ من‌ نفسه‌
بالحرص‌ على‌ استكثاره‌ و طيبه‌ و طلب‌ ما يبقى‌ منه‌ على‌ طول‌
السفر و لا يتغير قبل‌ بلوغ‌ المقصد، فليذكر أن‌ سفر الآخرة‌
أطول‌ من‌ هذا السفر، و أن‌ زاده‌ التقوى‌، و أما ما عداه‌ لا يصلح‌
زادا، و لا يبقى‌ معه‌ إلا ريثما هو فى‌ هذا المنزل‌. و ليحذر أن‌
يفسد أعماله‌ التى‌ هى‌ زاده‌ إلى‌ الآخرة‌ بشوائب‌ الرياء، و
كدورات‌ التقصير، فيدخل‌ فى‌ قوله‌ تعالى‌:( هل‌ ننبئكم‌
بالأخسرين‌ أعمالا * الذين‌ ضل‌ سعيهم‌ فى‌ الحياة‌ الدنيا و هم‌
يحسبون‌ أنهم‌ يحسنون‌ صنعا ). و كذلك‌ فليلاحظ‌ عند ركوب‌
دابته‌ تسخير الحيوان‌ له‌، و حمله‌ عنه‌ الأذى‌، و يتذكر منته‌
تعالى‌ لشمول‌ عنايته‌ و رأفته‌، حيث‌ يقول‌:( و تحمل‌ أثقالكم‌ إلى‌
بلد لم‌ تكونوا بالغيه‌ إلا بشق‌ الأنفس‌ إن‌ ربكم‌ لرءوف‌ رحيم‌ )،
فيشكره‌ سبحانه‌ على‌ جزيل‌ هذه‌ النعمة‌ و عظ‌يم‌ هذه‌ المنة‌. و
يستحضر نقلته‌ من‌ مركبه‌ إلى‌ منازل‌ الآخرة‌، التى‌ لا شك‌ فيه‌،
و لعله‌ أقرب‌ من‌ ركوبه‌ الحاضر، فيحتاط فى‌ أمره‌. و ليعلم‌ أن‌
هذه‌ أمثلة‌ محسوسة‌، يترقى‌ منها إلى‌ مركب‌ النجاة‌ من‌ الشقة‌
الكبرى‌، و هى‌ عذاب‌ الله‌ سبحانه‌.
و أما ثوب‌ الاحرام‌ و شراؤه‌ و لبسه‌: فليتذكر معه‌ الكفن‌، و
درجه‌ فيه‌، و لعله‌ أقرب‌ إليه‌. و ليتذكر منها التسربل‌ بأنوار الله‌
التى‌ لا مخلص‌ من‌ عذابه‌ إلا بها، فيجهد فى‌ تحصيلها بقدر إمكانه‌.
و أما الخروج‌ من‌ البلد: فليستحضر عنده‌ أنه‌ يفارق‌ الأهل‌ و
الولد، متوجها إلى‌ الله‌ سبحانه‌ فى‌ سفر غير أسفار الدنيا. و
يستحضر أيضا غايته‌ من‌ ذلك‌ السفر، و أنه‌ متوجه‌ إلى‌ ملك‌
الملوك‌ و جبار الجبابرة‌، فى‌ جملة‌ الزائرين‌ الذين‌ نودوا فأجابوا،
و شوقوا ما اشتاقوا، و قطعوا العلائق‌، و فارقوا الخلائق‌، و
أقبلوا على‌ بيت‌ الله‌ طلبا لرضى‌ الله‌ و طمعا فى‌ النظ‌ر إلى‌
وجهه‌ الكريم‌. و ليحضر أيضا فى‌ قلبه‌ رجاء الوصول‌ إلى‌ الملك‌،
و القبول‌ له‌ بسعة‌ فضله‌، و ليعتقد أنه‌ إن‌ مات‌ دون‌ الوصول‌
إلى‌ البيت‌ لقى‌ الله‌ وافدا عليه‌، لقوله‌ تعالى‌:( و من‌ يخرج‌ من‌
بيته‌ مهاجرا إلى‌ الله‌ و رسوله‌ ثم‌ يدركه‌ الموت‌ فقد وقع‌ أجره‌
على‌ الله‌ ). و ليتذكر فى‌ أثناء طريقه‌ من‌ مشاهدة‌ عقبات‌ الطريق‌
عقبات‌ الآخرة‌، و من‌ السباع‌ و الحيات‌ حشرات‌ القبر، و من‌
وحشة‌ البرارى‌ وحشة‌ القبر و انفراده‌ عن‌ الأنس‌، فان‌ كل‌ هذه‌
الأمور جاذبة‌ إلى‌ الله‌ سبحانه‌ و مذكرة‌ له‌ أمر معاده‌.
و أما الاحرام‌ و التلبية‌ من‌ الميقات‌: فليستحضر أنه‌ إجابة‌ نداء
الله‌ تعالى‌، وليكن‌ فى‌ قبول‌ إجابته‌ بين‌ خوف‌ و رجاء، مفوضا
أمره‌ إلى‌ الله‌، متوكلا على‌ فضله‌. قال‌ سفيان‌ بن‌ عيينة‌: حج‌
زين‌ العابدين‌ على‌ بن‌ الحسين‌ عليه‌ السلام‌، فلما أحرم‌ و
استوت‌ به‌ راحلته‌، اصفر لونه‌، و وقعت‌ عليه‌ الرعدة‌، و لم‌
يستطع‌ أن‌ يلبى‌، فقيل‌ له‌: ألا تلبى‌، فقال‌: " أخشى‌ أن‌ يقول‌: لا
لبيك‌ و لا سعديك‌!"، فما لبى‌ غشى‌ عليه‌ و سقط عن‌ راحلته‌، فلم‌
يزل‌ يعتريه‌ ذلك‌ حتى‌ قضى‌ حجه‌. فانظ‌ر رحمك‌ الله‌ إلى‌ هذه‌
النفس‌ الطاهرة‌، حيث‌ بلغ‌ بها الاستعداد لافاضة‌ أنوار الله‌، لم‌
تزل‌ الغواشى‌ الالهية‌ و النفحات‌ الربانية‌ تغشاها، فيغيب‌ عن‌
كل‌ شى‌ء سوى‌ جلال‌ الله‌ و عظ‌مته‌. و ليتذكر عند إجابته‌ نداء
الله‌ سبحانه‌، إجابة‌ ندائه‌ بالنفخ‌ فى‌ الصور، و حشر الخلق‌ من‌
القبور، و ازدحامهم‌ فى‌ عرصات‌ القيامة‌، مجيبين‌ لندائه‌،
منقسمين‌ إلى‌: مقربين‌، و ممقوتين‌، و مقبولين‌، و مردودين‌، و
مرددين‌ فى‌ أول‌ الأمر بين‌ الخوف‌ و الرجاء، تردد الحاج‌ فى‌
الميقات‌: حيث‌ لا يدرون‌ أيتيسر لهم‌ إتمام‌ الحج‌ أم‌ لا.
أما دخول‌ مكة‌: فليستحضر عنده‌ أنه‌ قد انتهى‌ إلى‌ حرم‌ الله‌
الآمن‌، و ليرج‌ عنده‌ أن‌ يأمن‌ بدخوله‌ من‌ عقاب‌ الله‌، و ليخش‌ أن‌
لا يكون‌ من‌ أهل‌ القرب‌، و ليكن‌ رجاؤه‌ أغلب‌، فان‌ الكريم‌ عميم‌، و
شرف‌ البيت‌ عظ‌يم‌، و حق‌ الزائر مرعى‌، و ذمام‌ اللائذ المستجير
غير مضيع‌، خصوصا عند أكرم‌ الأكرمين‌ و أرحم‌ الراحمين‌. و
يستحضر أن‌ هذا الحرم‌ مثال‌ للحرم‌ الحقيقى‌، لترقى‌ من‌ الشوق‌
إلى‌ دخول‌ هذا الحرم‌ و الأمن‌ بدخوله‌ من‌ العقاب‌، إلى‌ الشوق‌
إلى‌ دخول‌ ذلك‌ الحرم‌ و المقام‌ الأمين‌. و إذا وقع‌ بصره‌ على‌
البيت‌ فليستحضر عظ‌مته‌ فى‌ قلبه‌، و ليترق‌ بفكره‌ إلى‌ مشاهدة‌
حضرة‌ رب‌ البيت‌ فى‌ جوار الملائكة‌ المقربين‌، و ليتشوق‌ أن‌
يرزقه‌ النظ‌ر إلى‌ وجهه‌ الكريم‌، كما رزقه‌ الوصول‌ إلى‌ بيته‌
العظ‌يم‌، و ليتكثر من‌ الذكر و الشكر على‌ تبليغ‌ الله‌ إياه‌ هذه‌
المرتبة‌. و بالجملة‌، فلا يغفل‌ عن‌ تذكير أحوال‌ الآخرة‌ فى‌ كل‌ ما
يراه‌، فان‌ كل‌ أحوال‌ الحج‌ و منازله‌ دليل‌ يترقى‌ منه‌ إلى‌ مشاهدة‌
أحوال‌ الآخرة‌.
و أما الطواف‌ بالبيت‌: فليستحضر فى‌ قلبه‌ التعظ‌يم‌ و الخوف‌ و
الخشية‌ و المحبة‌، و ليعلم‌ أنه‌ بذلك‌ متشبه‌ بالملائكة‌ المقربين‌
الحافين‌ حول‌ العرش‌ الطائفين‌ حوله‌. و لا تظ‌نن‌ أن‌ المقصود
طواف‌ جسمك‌ بالبيت‌، بل‌ طواف‌ قلبك‌ بذكر رب‌ البيت‌، حتى‌ لا
تبتدئ بالذكر إلا منه‌، و لا تختم‌ إلا به‌، كما تبدأ بالبيت‌ و تختم‌
به‌. و اعلم‌ أن‌ الطواف‌ المطلوب‌ هو طواف‌ القلب‌ بحضرة‌
الربوبية‌، و أن‌ البيت‌ مثال‌ ظ‌اهر فى‌ عالم‌ الشهادة‌ لتلك‌
الحضرة‌ التى‌ هى‌ عالم‌ الغيب‌، كما أن‌ الانسان‌ الظ‌اهر مثال‌
الظ‌اهر فى‌ عالم‌ الشهادة‌ للانسان‌ الباطن‌ الذى‌ لا يشاهد بالبصر
و هو فى‌ عالم‌ الغيب‌، و أن‌ عالم‌ الملك‌ و الشهادة‌ مرقاة‌ و مدرج‌
إلى‌ عالم‌ الغيب‌ و الملكوت‌ لمن‌ فتح‌ له‌ باب‌ الرحمة‌، و أخذت‌
العناية‌ الالهية‌ بيده‌ لسلوك‌ الصراط المستقيم‌. و إلى‌ هذه‌
الموازنة‌ وقعت‌ الاشارة‌ الالهية‌: بأن‌ البيت‌ المعمور فى‌ السماء
بازاء الكعبة‌، و أن‌ طواف‌ الملائكة‌ به‌ كطواف‌ الانس‌ بهذا البيت‌.
و لما قصرت‌ مرتبة‌ أكثر الخلق‌ عن‌ مثل‌ ذلك‌ الطواف‌ أمروا
بالتشبه‌ بهم‌ بحسب‌ الامكان‌، و وعدوا بأن‌ من‌ تشبه‌ بقوم‌ فهو
منهم‌، ثم‌ كثيرا ما يزداد ذلك‌ التشبيه‌ إلى‌ أن‌ يصير فى‌ قوة‌
المشبه‌ به‌، و الذى‌ يبلغ‌ تلك‌ المرتبة‌ فهو الذى‌ يقال‌: إن‌ الكعبة‌
تزوره‌ و تطوف‌ به‌، على‌ ما رواه‌ بعض‌ المكاشفين‌ لبعض‌
أولياء الله‌.
و أما الاستلام‌: فليستحضر عنده‌ أنه‌ مبايع‌ لله‌ على‌ طاعته‌، و
مصمم‌ عزيمته‌ على‌ الوفاء ببيعته‌،( فمن‌ نكث‌ فانما على‌ نفسه‌
و من‌ أوفى‌ بما عاهد عليه‌ الله‌ فسيؤتيه‌ أجرا عظ‌يما ) و لذلك‌
قال‌ رسول‌ الله‌ صلى‌ الله‌ عليه‌ و آله‌ و سلم‌: " الحجر الأسود
يمين‌ الله‌ فى‌ الأرض‌ يصافح‌ بها خلقه‌ كما يصافح‌ الرجل‌ أخاه‌".
و لما قبله‌ عمر قال‌: إنى‌ لأعلم‌ أنك‌ حجر لا تضر و لا تنفع‌، و لو
لا أنى‌ رأيت‌ رسول‌ الله‌ يقبلك‌ لما قبلتك‌!! فقال‌ له‌ على‌ عليه‌
السلام‌: " مه‌ يا عمر، بل‌ يضر و ينفع‌، فان‌ الله‌ سبحانه‌ لما أخذ
الميثاق‌ على‌ بنى‌ آدم‌ حيث‌ يقول‌:( و إذ أخذ ربك‌ من‌ بنى‌ آدم‌ من‌
ظ‌هورهم‌ ذريتهم‌ و أشهدهم‌ على‌ أنفسهم‌ ) الآية‌، ألقمه‌ هذا الحجر
ليكون‌ شاهدا عليهم‌ بأداء أمانتهم‌، و ذلك‌ معنى‌ قول‌ الانسان‌
عند استلامه‌، أمانتى‌ أديتها و ميثاقى‌ تعاهدته‌ لتشهد لى‌ عند
ربك‌ بالموافاة‌".
و أما التعلق‌ بأستار الكعبة‌ و الالتصاق‌ بالملتزم‌: فليستحضر
فيه‌ طلب‌ القرب‌، حبا لله‌ و شوقا إلى‌ لقائه‌، تبركا بالمماسة‌ و
رجاء للتحصن‌ من‌ النار، فى‌ كل‌ جزء من‌ البيت‌. و لتكن‌ النية‌ فى‌
التعلق‌ بالستر الالحاح‌ فى‌ طلب‌ الرحمة‌، و توجيه‌ الذهن‌ إلى‌
الواحد الحق‌، و سؤال‌ الأمان‌ من‌ عذابه‌، كالمذنب‌ المتعلق‌ بأذيال‌
من‌ عصاه‌، المتضرع‌ إليه‌ فى‌ عفوه‌ عنه‌، المعترف‌ له‌ بأنه‌ لا
ملجأ إلا إليه‌، و لا مفزع‌ له‌ إلا عفوه‌ و كرمه‌، و أنه‌ لا يفارق‌ ذيله‌
إلا بالعفو و بذل‌ الطاعة‌ فى‌ المستقبل‌.
و أما السعى‌ بين‌ الصفا و المروة‌ فى‌ فناء البيت‌: فمثال‌ لتردد
العبد بفناء دار الملك‌، جائيا و ذاهبا، مرة‌ بعد أخرى‌، إظ‌هارا
للخلوص‌ فى‌ الخدمة‌، و رجاء لملاحظ‌ته‌ بعين‌ الرحمة‌، كالذى‌
دخل‌ على‌ الملك‌ و خرج‌ و هو لا يدرى‌ ما الذى‌ يقضى‌ الملك‌ فى‌
حقه‌ من‌ قبول‌ أو رد، فيكون‌ تردده‌ رجاء أن‌ يرحمه‌ فى‌ الثانية‌ إن‌
لم‌ يكن‌ رحمه‌ فى‌ الأولى‌. و ليتذكر عند تردده‌ بين‌ الصفا و
المروة‌ تردده‌ بين‌ كفتى‌ الميزان‌ فى‌ عرصة‌ القيامة‌، و ليمثل‌
الصفا بكفة‌ الحسنات‌ و المروة‌ بكفة‌ السيئات‌، و ليتذكر تردده‌
بين‌ الكفتين‌، ملاحظ‌ا للرجحان‌ و النقصان‌، مترددا بين‌ العذاب‌ و
الغفران‌.
و أما الوقوف‌ بعرفة‌: فليتذكر بما يرى‌ من‌ ازدحام‌ الناس‌، و
ارتفاع‌ الأصوات‌، و اختلاف‌ اللغات‌، و اتباع‌ الفرق‌ أئمتهم‌ فى‌
الترددات‌ على‌ المشاعر ? اقتفاء لهم‌ و سيرا بسيرتهم‌ ? عرصات‌
القيامة‌، و اجتماع‌ الأمم‌ مع‌ الأنبياء و الأئمة‌، و اقتفاء كل‌ أمة‌ أثر
نبيها، و طمعهم‌ فى‌ شفاعتهم‌، تجردهم‌ فى‌ ذلك‌ الصعيد الواحد
بين‌ الرد و القبول‌. و إذا تذكر ذلك‌ فيلزم‌ قلبه‌ الضراعة‌ و
الابتهال‌ إلى‌ الله‌ أن‌ يحشره‌ فى‌ زمرة‌ الفائزين‌ المرحومين‌،
ولكن‌ رجاؤه‌ أغلب‌، فان‌ الموقف‌ شريف‌، و الرحمة‌ إنما تصل‌ من‌
حضرة‌ الجلال‌ إلى‌ كافة‌ الخلائق‌ بواسطة‌ النفوس‌ الكاملة‌ من‌
أوتاد الأرض‌، و لا يخلو الموقف‌ عن‌ طائفة‌ من‌ الأبدال‌ و الأوتاد
و طوائف‌ من‌ الصالحين‌ و أرباب‌ القلوب‌. فان‌ اجتمعت‌ هممهم‌، و
تجردت‌ للضراعة‌ نفوسهم‌، و ارتفعت‌ إلى‌ الله‌ أيديهم‌، و امتدت‌
إليه‌ أعناقهم‌، يرمقون‌ بأبصارهم‌ جهة‌ الرحمة‌، طالبين‌ لها، فلا
تظ‌نن‌ أنه‌ يخيب‌ سعيهم‌ من‌ رحمة‌ تغمرهم‌. و يلوح‌ لك‌ من‌
اجتماعهم‌ الأمم‌ بعرفات‌، و الاستظ‌هار بمجاورة‌ الأبدال‌ و الأوتاد
المجتمعين‌ من‌ أقطار البلاد، و هو السر الأعظ‌م‌ من‌ الحج‌ و
مقاصده‌، فلا طريق‌ إلى‌ استنزال‌ رحمة‌ الله‌ و استدرارها أعظ‌م‌
من‌ اجتماع‌ الهمم‌ و تعاون‌ القلوب‌ فى‌ وقت‌ واحد على‌ صعيد
واحد.
و أما رمى‌ الجمار: فليقصد به‌ الانقياد لأمر الله‌، و إظ‌هار الرق‌ و
العبودية‌. ثم‌ ليقصد به‌ التشبه‌ بابراهيم‌ عليه‌ السلام‌، حيث‌
عرض‌ به‌ إبليس‌ فى‌ ذلك‌ الموضع‌، ليدخل‌ على‌ حجه‌ شبهة‌، أو
يفتنه‌ بمعصية‌، فأمره‌ الله‌ تعالى‌ أن‌ يرميه‌ بالحجارة‌، طردا له‌
و قطعا لأمله‌. فان‌ خطر له‌ الشيطان‌ عرض‌ لابراهيم‌ عليه‌
السلام‌ و لم‌ يعرض‌ له‌، فليعلم‌ أن‌ هذا الخاطر من‌ الشيطان‌، و
هو الذى‌ ألقاه‌ على‌ قلبه‌، ليخيل‌ إليه‌ أنه‌ لا فائدة‌ فى‌ الرمى‌، و أنه‌
يشبه‌ اللعب‌. و ليطرده‌ عن‌ نفسه‌ بالجد و التشمير فى‌ الرمى‌
فيه‌، يرغم‌ فيه‌ أنف‌ الشيطان‌، فانه‌ و إن‌ كان‌ فى‌ الظ‌اهر رميا
للعقبة‌ بالحصى‌، فهو فى‌ الحقيقة‌ رمى‌ لوجه‌ إبليس‌ و قصم‌
لظ‌هره‌، إذ لا يحصل‌ إرغام‌ أنفه‌ إلا بامتثال‌ أمر الله‌، تعظ‌يما
لمجرد الأمر.
و أما ذبح‌ الهدى‌: فليعلم‌ أنه‌ تقرب‌ إلى‌ الله‌ تعالى‌

 بحكم‌
الامتثال‌، فليكمل‌ الهدى‌ و أجزاءه‌، و ليرج‌ أن‌ يعتق‌ الله‌ بكل‌ جزء
منه‌ جزءا من‌ النار، هكذا ورد الوعد، فكلما كان‌ الهدى‌ أكثر و أوفر
كان‌ الفداء به‌ من‌ النار أتم‌ و أعم‌، و هو يشبه‌ التقرب‌ إلى‌ الملك‌
بالذبح‌ له‌ و إتمام‌ الضيافة‌ و القرى‌، و الغاية‌ منه‌ تذكر المعبود
الأول‌ سبحانه‌ عند النية‌ فى‌ الذبح‌، و اعتقاد أنه‌ متقرب‌ به‌
بأجزائه‌ إلى‌ الله‌. فهذه‌ هى‌ الاشارة‌ إلى‌ أسرار الحج‌ و أعماله‌
الباطنة‌.

 

0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

قبول الخلافة
تأملات وعبر من حياة يوسف (ع) - ج 2
أقوال علماء السنة في المذهب الشيعي
الثورة الحسينية اسبابها ومخططاتها القسم الاول
الكمالات المحمدية تصنيف مبتكر في الإعجاز الخلقي
صور التقية في كتب العامة
غزوة بدر تكسر شوكة الكفر والشرك
ما المقصود بليلة الهرير؟
يوم عاشوراء في اللغة والتاريخ والحديث
الشيعة في ألبانيا

 
user comment