عربي
Saturday 16th of November 2024
0
نفر 0

الشخصية القرآنية

الشـخـصيـة القـرآنـيـة

 

 

خطـى نحـو بنـاء إنسـان متـمـدّن

 

 

 

 

قراءة في تفسير (من هدي القرآن)

 

 

لآية الله العظمى السيد محمد تقي المدرسي

 

 

إعداد : إيمان العلي

 

 

 

 

البحث محاولة لرسم ملامح التغيير الإجتماعي في القرآن الكريم ومدارسة لمعالم الشخصية القرآنية التي تعني في جوهرها بناء إنسان مؤمن متمدن ، عبر جولة في رحاب (من هدي القرآن) لآية الله السيد محمد تقي المدرسي (حفظه الله) ، وذلك عبر تناول الأبعاد التالية :

 

 

أولا : الخطوط العامة للمجتمع الإسلامي .

 

 

ثانيا : الرؤية القرآنية في بناء الإنسان المتمدن .

 

 

ثالثا : نماذج قرآنية متمدنة .

 

 

 

 

المحور الأول : الخطوط العامة للمجتمع الإسلامي

 

 

المجتمع الاسلامي مبني على قاعدة التوحيد ، وشعار التوحيد اسم الله ، والمجتمع الجاهلي طافح على غرور الطاغوت ، وشعارهم اسم الطاغوت ، وتوحيد الله يعطي المجتمع الاسلامي فضلاً من الله ، ورحمة شاملة ودائمة ، وشعار الرحمة الشاملة (الرحمن) وشعار الرحمة الدائمة (الرحيم) وهذا يعني ان المجتمع الاسلامي : مستقر ومستمر ، متكامل ودائم ، فهو خير ورفاه ، وتقدم لجميع الناس في جميع العصور .

 

 

الخط العام الذي تتفرع عنه سائر الخطوط المميزة للمجتمع الاسلامي انه مجتمع ملتزم بمنهج الله ، وقد عبّر القرآن عن هذه الفكرة في آية : [وألزمهم كلمة التقوى] فهو مجتمع مبدئي ، لا يؤمن بالفوضى في أي حقل من حقول المجتمع ، بل يؤمن بالتنظيم في كافة الابعاد ، بل انه ينطلق في تنظيمه من بصائر سماوية ليست فيها تحديدات قومية أو اقليمية أو عنصرية أو غيرها .. لأنّ السماء هي التي أوحت بهذه البصائر ، من هنا جاء النداء الى الناس أن يتقوا الله ليبنوا على أساسه مجتمعهم الفاضل [يا أيها الناس اتقوا ربكم ] .
والميزة الاساسية في تشريع السماء إنطلاقه من مبدأ التوحيد ، والذي يعني فيما يعني الارتفاع فوق كل الحواجز المصطنعة بين الناس ، ولذلك يركّز القرآن على ان الله خلق الناس جميعاً من نفس واحدة يقول : [الذي خلقكم من نفس واحدة و خلق منها زوجها وبثّ منهما رجالاً كثيراً و نساء] .

 

 

 ان المجتمع الذي يتمتع بالايمان هو القادر على ايجاد تعاون حقيقي بين أبنائه على أساس من العدالة والمساواة ، وان لم يكن المجتمع مؤمنا فكل الانظمة الموضوعة تصبح حبراً على ورق يتلاعب بها الناس كما يتلاعب الرياضيون بالكرة ، من هنا لابد ان يبنى المجتمع المسلم على ركيزة الايمان و التقوى [ان الله كان عليكم رقيبا] .

 

 

 

 

* دور رسالات الله في بناء الحضارات :

 

 

ويقص علينا القرآن الكريم من حياة بني اسرائيل قصصاً ، تدل على ان رسالات الله  تقوم بدور المنقذ للانسان المعذب والمحروم ، كبني اسرائيل في عهد فرعون ، ثم كيف يقود الانبياء هذا الانسان الى بر الامان ، ومن ثم كيف تربي الرسالة الانسان ثقافياً ، واجتماعياً، و علمياً ، و عمرانياً ، ليتخلص من رواسب جاهليته ، ثم تنير امامه صراط المدنية ، وتزوده بوسائل الكلاء والماء .. ثم كيف تهدد المدنية والرخاء المجتمع الرسالي ، فتحوله الى مجتمع ضعيف متهاوي ؟ .

 

 

أبرز القرآن دور الرسالة الالهية في تكوين الحضارة البشرية ومن خلالها ، فبنوا اسرائيل كان ابوهم الكبير ابراهيم (عليه السلام)  في العراق ثم هاجر الى فلسطين ، ولكن حفيد إبراهيم يعقوب انتقل هو و أبناؤه الاثنى عشر الى مصر في قصة يوسف . ودارت الايام وتحولوا من شعب جاء مصر ملكاً ، الى طوائف محرومة ، مستضعفة ، ومستثمرة من قبل فراعنة مصر، وكانوا بحاجة الى قائد ورسالة ، فأرسل الله موسى نبياً ، وانزل معه التوراة رسالة ، فجّرت فيهم طاقاتهم ، و قادهم عبر البحر الى جزيرة سيناء ، ومن ثم الى فلسطين ، هكذا استطاع الانسان ان ينتصر علىالمستغلين والطواغيت بفضل الرسالة الالهية .

 

 

ويذكّر القرآن بني اسرائيل بهذه القصة ، ليقول لهم : انهم لو تركوا رسالة الله ، لعادوا مرة اخرى ، امة مستضعفة محرومة .

 

 

وهكذا يذكر الامة الاسلامية بهذه الحقيقة ايضا ، وهي : ان التمسك بالهدى الذي انزله الله ، والتمحور حوله ، هو الكفيل بضمان استقلالهم وحريتهم .. يقول الله سبحانه :  [وإذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب]  ولكن لم يستطع بنو اسرائيل الخلاص من كل تلك المأساة الا بفضل الرسالة الالهية ، اذ جاءت ، ووحدتهم ، وانقذتهم من ويلات الطغاة [واذ فرقنا بكم البحر فأنجيناكم و أغرقنا آل فرعون وانتم تنظرون ] .

 

 

الطاغوت انتهى ولكن آثار سيطرته لم تزل كامنة في النفوس ، و بارزة في التصرفات ، متمثلة في حالة الاستسلام والهزيمة النفسية و التعود على الخضوع ، من هنا تركهم قائدهم ومنقذهم عدة ايام ، فلما عاد اليهم فاذا بهم يسجدون للعجل ، لأنهم لا يزالون عبيداً في نفوسهم بالرغم من تحررهم الظاهر ، هؤلاء كانوا بحاجة الى ثورة ثقافية قوية تحرر نفوسهم من الذل والخنوع ، كما كانوا بحاجة الى ثورة اجتماعية تخلصهم من عبودية الرأسمالية العفنة التي كانت مرتبطة بنظام فرعون الطاغوتي ، وكانوا أيضاً بحاجة الى ثورة علمية ترفعهم عن حضيض الماديات الى عالم التوحيد الخالص ، ثم انهم يحتاجون الى ثورة عمرانية تهديهم الى بناء المدن وزراعة الارض .

 

 

الميثاق الإجتماعي :

 

 

بين الانسان المسلم وبين الله ميثاق اجتماعي عليه ان يلتزم به لأنه سبب مباشر لنعمة الله عليه ، ونصره له ، والالتزام يجب أن يكون نابعاً من القلب فلا يداخله تردد أو نفاق .
أما بنود هذا الميثاق فهو :

 

 

أولا : العمل الدائب من أجل الله من دون كلل أو كسل ، فعلينا ألا نتوانى عن تنفيذ واجباتنا الدينية أو مسؤولياتنا الاجتماعية ، فالله لا يحب الأمة الكسولة المتخلفة التي لا تنشط في الحياة ، كما لا يحب الامة التي تنشط لا من أجل الله بل من أجل مصالحها العدوانية، إن الله يريد منا ان نكون مجتمعاً دائم الحركة والفعالية و لكن باتجاه الأهداف السامية .

 

 

ثانيا : الشهادة بالقسط لا بالزور ، ولا من أجل مصالح خاصة ، فعلى الأمة أن تكون  واعية لذاتها ، ولما يجري حولها ، وتمتلك موقفاً سليماً ، وتعلن عن هذا الموقف بإصرار ، فالأمة التي يلفها الجهل والغيبة عن الحياة ، والأمة التي لا تملك المقياس الصحيح لتقييم أحداث الحياة ، والأمة التي لا تعلن عن مواقفها السليمة ، انها ليست الامة التي يريدها الله والتي يقول عنها : [ شهداء بالقسط ] ذلك لان الشهادة لا تكون إلا بعد العلم بالحقيقة وبعد الاستعداد لإعلان الموقف منها .

 

 

ثالثا : إقامة العدل في المجتمع حتى مع الأعداء ، حيث يجب ان تكون الأمة عادلة حتى مع أعدائها ، ولا تنمو فيها الحساسيات العدائية ضد هذا أو ذاك ، ولا تنجر وراء هذه الحساسيات في سلب حرية الأمم الاخرى ونهب خيراتها .

 

 

رابعا : التقوى في تطبيق هذه البنود وغيرها من فرائض الدين ، وبالالتزام بهذه البنود يمنح الله المؤمنين مغفرة منه تمحي ذنوبهم السابقة ، وتعرض عن تخلفهم وتكاسلهم في الماضي ، وتفتح لهم آفاق التقدم والرفاه ، بينما العكس يورد الجحيم ، ولكي نطبّق الميثاق بدافع قوي علينا ان نتذكر أبداً أن تطبيق هذا الميثاق في السابق هو الذي خلصنا من براثن العدو بعد ان امتدت الينا ، وفي المستقبل سيكون الوضع كذلك لو آمنا بالله ، وتوكلنا عليه ، ولم نخضع لأية ضغوط جاهلية تمنعنا عن تطبيق مناهج الدين وفي طليعتها الميثاق المقدس ، بيد ان هذه النعمة بحاجة الى ما يكرسها وهو الميثاق الذي تعهدنا مع الله في العمل به ، فمن دون الإلتزام بالميثاق لا نقدر على الاستفادة من نعمة الرسالة [وميثاقه الذي واثقكم به إذ قلتم سمعنا وأطعنا] ، [واتقوا الله ان الله عليم بذات الصدور] .

 

 

لهذا الميثاق بنود ثلاث : [يا أيها الذين ءامنوا كونوا قوامين لله] ، أي أن نبالغ في القيام من أجل تحقيق أهداف الرسالة المتجسدة في عمارة الارض وإشاعة الخير في أرجائها .

 

 

البطر :

 

 

[وكم اهلكنا من قرية بطرت معيشتها] ، ترى بعض النظريات ان المدنية تورث الخوف لأن أهلها يريدون الإحتفاظ بمكتسباتها ، فيقدّمون التنازلات لدرء الاخطار عن أنفسهم ، ولعل أهل مكة كانوا في هذه المرحلة ، اذ كانوا يخشون من الإصطدام مع قبائل العرب حتى لا يخسروا مكتسباتهم ، وكانت القضية التي يتوقع انها تثير العرب ضدهم هي ايمانهم بالرسالة الجديدة ، فكفروا بها وقالوا : نخشى ان تزول حالة الأمن التي نعيشها لو أننا آمنا ، فتطفق العرب باقتحام بلدنا ، واختطافنا من الارض [وقالوا ان نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا] .

 

 

وفي هذا الحديث إعتراف منهم بأنّ سبب كفرهم بالرسالة ليس في نقص الادلة ، بل اتباعهم الهوى المتمثل في مصالحهم الخاصة ، و قد ردّ الله عليهم بالتالي :
   1/ ان مصدر هذه النعم هو الله ، وليس الناس حتى يتصوروا ان الاختلاف معهم سوف يؤدي الى زوالها ، فالله هو الذي جعل الكعبة محلاً آمناً ، و فرض على الناس جميعا و من فيهم العرب -من الناحية التشريعية الدينية- الإلتزام بحرمتها و الا لما كانت مكة بلداً آمناً في عُرف قوم شعارهم الخوف ، ودثارهم السيف ، ولهجموا عليها ، وحطموا الحضارة الناشئة فيها ، ولو كان ثمة قانون يمنعهم من ذلك لمنعهم من التقاتل ، ان الذي يمنعهم هو القانون الإلهي منذ أيام إبراهيم (ع) بحيث لو التجأ الصيد الى الحرم ما كانوا يصطادونه احتراما للكعبة ، حتى ان القوافل التي تذهب الى مكة ليس على ظهرها ، ولكن قريش لم يعقلوا هذا العامل الأساسي ، لما يتمتعون به من أمن
ورفاه ، لذلك لم يشكروا الله ، ولم يؤمنوا برسالة الإسلام ، ولو أنهم فعلوا ذلك لاستزادوا من الامن و البركة [أوَلَم نمكّن لهم حرماً آمناً يجبى إليه ثمرات كل شيء] .

 

 

إنّ أهم النعم لدى أهل مكة كانت هي : الأمن الآتي من حرمة الكعبة ، و الرفاه بسبب سيطرة أهلها على التجارة ، وبسبب توافد الحجاج الى البيت الحرام ، كانوا يحملون معهم خيرات الأرض بالرغم من أن مكة كانت بين جبال وعرة ، وأراض جرداء [رزقا من لدنا و لكن أكثرهم لا يعلمون] .

 

 

ولعل الآية تشير إلى أهمية التشريعات الرشيدة في بناء الحضارات ، وان القيم الالهية هي السبب في بركتي الأمن والرخاء للناس .

 

 

 2/ قد تضحى النعمة نقمة على أصحابها ، و ذلك اذا صارت هدفاً بذاتها ، بينما ينبغي للانسان ان يشكر ربه عليها ، وان شكر أهل مكة الله على نعمتي الأمن والرخاء يتمثل في الايمان برسوله ، وهذا هو السبيل الأوحد للحفاظ على النعم ومنع تحويلها الى نقمة، وهكذا يبقى الضمان الوحيد لاستمرار الحضارات اتباع رسالات الله ورسله ، و من أبرز فوائد الرسالات كبح جماح الانسان من الاسترسال مع النعم الى حد البطر والطغيان والغرور ، حتى ينسى الحدود ويتجاهل الحقوق ، و يندفع في اتباع اللذات الى أبعد مدى [وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها] .
والله لا يدمر القرى لمجرد انها مرفّهة ، وكيف يكون ذلك وقد خلق البشر ليرحمهم ؟ كلا .. إنه هو الذي وفّر النعم للناس ، ويخطىء أولئك الذين يصورون الدين بأنه يعارض النعم بذاتها ، مفسرين الآيات والروايات التي تتناول موضوع الزهد : بأنّ الدين لا يجتمع مع الدنيا ، أو السياسة ، كلا .. إنما دمّرها لأنها بطرت بالنعم ، وأصابها الغرور ، ولم تصل بالنعم الى اهدافها [فتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهم إلا قليلاً وكنا نحن الوارثين] .

 

 

لقد سكنت من بعدهم تلك المساكن ولكن قليلا ، لأنها كانت لا تزال منحوسة ، مما جعل ساكنيها الجدد يرحلون عنها سريعا ، ولعل الآية تشير الى سنة إلهية هي : ان البلاد المدمرة بالعذاب لا تبقى فيها مقومات الحضارة ، وهكذا لا نجد الحضارة قد تجددت في ذات المواقع التي دمرت ، مما تجعل نتائج البطر بالمعيشة تمتد الى المستقبل البعيد .

 

 

المحور الثاني : الرؤية القرآنية في بناء الإنسان المتمدن

 

 

أولا : الاستقلالية

 

 

اخطر شيء يهدد قدرة الانسان على التفكير السليم هو الاستياء وهو حالة نفسية تسجن العقل في زنزانة الذات وتصور له ان الفكر الصحيح والرأي السليم هو ما يصنعه خيال الانسان نفسه ، وان الحياة لا عبرة فيها ولا معرفة . وهناك يستكبر الانسان على تعلم التجارب الجديدة وعلى الاستفادة من تجارب الاخرين او الانفتاح على معارفهم وعلومهم . ولكي يصور لنا هذه الحالة واثرها السلبي في قدرة الانسان على التفكر السليم ، يحدثنا عن قصة البعوضة انها صغيرة ومتواضعة ولكنها قد تعلمنا اشياء كثيرة . فاذا استكبرنا وقلنا ما قيمة البعوضة حتى نتعلم منها ، فأننا سوف لا نفهم شيئا الى الابد واذا طرحنا المسألة بشكل اخر وقلنا نحن جهلاء والعلم ينفعنا وما يضرنا لو اخذنا العلم من هذه البعوضة .، ولكن كيف ولماذا يستكبر البعض فيضلون وينحرفون ؟ .

 

 

ان سبب الضلال ، هو الفسق ، فالفاسق الذي لا يراعي حقوق الاخرين بل يحاول عبادة ذاته ، والتطواف حول مصالحه يدور معها اينما دارت ، هذا الفاسق هو الوحيد الذي يستكبر ، لانه لا يستطيع ان يرى الاخرين . لا يرى الا نفسه فقط وكأنها الوحيدة في العالم . فكيف يقدر على الانتفاع بتجارب الاخرين وهو لا يؤمن اساسا بوجودهم . من هنا يربط منهج القرآن في العلم بين طائفة من الاخلاق وبين العلم : قال تعالى  [ان الله لا يستحي ان يضرب مثلاً ما بعوضة فما فوقها فأما الذين آمنوا فيعلمون انه الحق من ربهم وأما الذين كفروا فيقولون ماذا اراد الله بهذا مثلا] .

 

 

فمادام الله يحترم البعوضة ولا يستحي ان يضرب مثلاً بها ، لانها تمثل جانباً من الحق ، والله لا يستحي من الحق ، فمادام الله ربنا لا يستحي ، فلماذا نستكبر نحن البشر-  على الاستفادة من البعوضة فما فوقها [يضل به كثيرا و يهدي به كثيرا وما يضل به الا الفاسقين]  للفاسقين صفة نفسية واحدة ، هي عبادة الذات ، ولها مظاهر عملية كثيرة ابرزها ثلاثة :

 

 

1 : نقض العهد : [الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه]  فهم لا يحترمون عهد الله و يضعون انفسهم فوق العهد المقدس .

 

 

2 : [ويقطعون ما أمر الله به ان يوصل] ، فلا يؤدون حقوق الناس من القربى و اليتامى و المساكين وغيرهم ، ولا يحترمون حرمات الناس التي يجب ان تراعى ، بل يدوسون عليها سعيا وراء مصالح ذواتهم و شهوات انفسهم .

 

 

3 : [ويفسدون في الارض] ، فلا يحترمون الحياة ابدا ، فقد يحرق حقلا كاملا لكي يتمتع لحظة واحدة بمنظر النار تلتهم رزق الملايين . ان هذه الفئة لا تحترم الله ولا الانسان ولا الطبيعة . لانها لا ترى قدرا يغير ذاتها . وهؤلاء هم الذين يضلهم الله ، لانهم وضعوا انفسهم في معتقل انفسهم فلم يبصروا الا مصالحها . فكيف يمكن ان يفهموا الحياة ، هل يستطيعون ان يخدموا انفسهم بهذه الطريقة كلا ، بل : [اولئك هم الخاسرون] ، سرعان ما يلعنهم الله و الناس و تلفظهم الطبيعة لفظا .

 

 

مقاومة العادة

 

 

قد يتنازل الانسان عن نعمة الهدى تحت طائلة الخوف من الطبيعة ، الخوف من الطواغيت ، الخشية من ضياع الشهوات وهكذا ولكنه لا يعلم ان ابتعاده عن الهدى سوف يجره الى مصاعب اكبر مما يخشى منه ، ولذلك يذكرهم القرآن بالقول : [واياي فأرهبون]
لا تخشوا الطبيعة او الناس او الشهوات بل اخشون وحدي ، واذا زالت الخشية من الناس وتحرر الانسان من الخوف ، زالت العقبة الاساسية التي تعترض طريق الايمان ، ولكن تبقى عقبة العادة التي لابد من تجاوزها فمن اصعب ما يتعرض له المؤمنون من امتحان هو مقاومة العادة .

 

 

فالمؤمن متعود على طريقة معينة من السلوك ، استنادا الى نصوص دينية جاءت في مرحلة معينة من مراحل الحياة ، ولكن تتبدل تلك المرحلة وتتبدل النصوص وفقا لذلك ، ولكن الفرد قد يظل اسير عاداته السابقة ، فعليه ان يبذل المزيد من الجهد حتى يقاوم عاداته السابقة و يلتزم بطاعة الله . من هنا اخذ الله عهدا قاطعا من جميع الانبياء ، ان يصدقوا النبي الذي يأتيهم لاحقا ويتبعوه ، ولا تأخذهم في اتباعه انفة او عادة او عزة بالاثم . حاشاهم .

 

 

ثانيا : الاستباق  (والسابقون السابقون)

 

 

الذين يسارعون في الخيرات ويبادرون للاستجابة للحق أنى دعوا إليه متجاوزين عقبة التوافق الاجتماعي بقوة الإرادة ، وبصيرة الإيمان ، فهم يتجاوزون عقبة التردد والشك بقوة العقل ومضاء التفكير ، فلم يرتابوا في الحقيقة بمجرد غفلة الناس عنها ، ولم يأبهوا بالرأي العام الذي خالف الحق وناهضه ، ولم تساورهم الظنون في الداعي إلى الحق بسبب الإعلام المضلل .

 

 

إن ثقة الإنسان بعقله واعتزازه بشخصيته الداخلية ، ويقينه بالحق ، وعزيمته في الانتماء إليه ، والدفاع عنه ، وإيمانه بحتمية انتصاره ، إن كل ذلك من مكونات شخصية السابق ، إن حياة السابقين سلسلة من الصراعات ، فهو بحاجة إلى جهاد متواصل، ومبادرات مستمرة ، وقرارات حاسمة ، وتاريخية لا ينفك عنها حتى يأتيه اليقين .

 

 

والسابقون هم الأولون قدماً نحو الخير ، وإيمان ومعرفة ببصيرتهم ووعيهم ، وعملاً بتوكلهم على الله ، وثقتهم أنفسهم ، وشجاعتهم ، حيث يكسرون بذلك طوق العادة ، ويخرجون عن جاذبية المحيط ، ويتجاوزون السقوف المصطنعة ، بالريادة والمبادرة و الإبداع [ولا يخافون لومة لائم] .

 

 

وهم الأسبق كماً ونوعاً في الخير ، ولا يرون النوع من زاوية التقوى والإخلاص فقط إنما من زاوية الإتقان لقوله تعالى [الذي خلق لكم الموت والحياة ليبلوكم أيكم احسن عملا] ، أما فاعلية السبق عند هذا الفريق تتركز على الأمور التالية :

 

 

- طموح الإمامة والقيادة وهو طموح مشروع في الإسلام [واجعلنا للمتقين إماما] .

 

 

- الثقافة في الخير مما يفرض عليهم الأخذ بكل أسباب التفوق ولكن بعيدا عن ساحات الصراع النفسية والعملية [فاستبقوا الخيرات] .

 

 

- الرغبة في ثواب السابقين و الخشية من التقصير قال تعالى [والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة انهم إلى ربهم راجعون أولئك يسارعون للخيرات وهم لها سابقون] .

 

 

- وبيّن أن السابقين في كل أمة هم طليعة تلك الأمة و شهداؤها وهم الحواريون الذين يلتفون حول القيادة الإلهية الرشيدة .

 

 

[فاستبقوا الخيرات] 

 

 

* جعل الله لكل امة شريعة ومنهاجا وطريقا يصلون عبره الى الحق ، وكان من الممكن ان يجعل الناس في صورة امة واحدة ، ولكن الاختلاف إنما هو من أجل إبتلاء الناس ، وبهذا الاختلاف الذي لو استغل حسب سنة الله لأصبح وسيلة للتنافس البناء ، وتسارع الجميع نحو الخيرات ، وغداً عند الله يعرف كل فرد هل كان على حق أو باطل ، وعلينا جميعا إتباع احكام الله دون أهواء هذا او ذاك من الذين يحاولون تضليل البشر ، أما أولئك الذين يتولون عن الرسالة فإن سبب ذلك ذنوبهم التي رانت على قلوبهم ، حتى حجبتها عن الحقيقة ، وأنهم فاسقون .

 

 

إن كل امة تتميز بممارسات حياتية مادية ومعنوية خاصة ، فاقتصاد كل أمة واجتماعياتها و سلوكياتها الفردية (وسائر ما تسمى بالشِرعة) تختلف عن غيرها  ، كما ان لغتتها وثقافتها وتطلعاتها (وسائر ما يسمى بالمنهاج) تختلف عن غيرها ، إن هذا الاختلاف فطري نابع من خلقة البشر ، وطبيعة اختلاف الحياة والاختلاف نافع للحياة البشرية لانه يدعوالى التنافس والتسارع الى الخيرات ، إذ كل طائفة تسعى من اجل معرفة أفضل بأنظمة الحياة ، ووسائل أفضل لتسخير إمكاناتها بهدف تحقيق التقدم على الطوائف الاخرى ، ولذلك نجد الحضارات الكبرى في التأريخ إنما نشأت بسبب تصارع الطوائف مع بعضها ، تصارعاً خفياً لا يدعوا الى التدمير داخل الامة الواحدة .

 

 

إن هذا الاختلاف ينبغي الا يجعل عدوا رئيسيا يستهدف كل فريق القضاء عليه بالقضاء على صاحبه أو بالجدليات الكلامية كلا . بل ينبغي ان يترك الحكم على عاقبة الاختلاف و نهاية الصراع ان يكون لهذا أو لذاك يترك ذلك الى الله واليوم الاخر حتى لا توجه هذه الطاقة البناءة (طاقة الصراع والتنافس) الى الدمار  والهلاك ، فيصبح هدف كل فريق القضاء على مكاسب الفريق الاخر كلا ، بل ليكن هم كل فريق الحصول على مكاسب أكبر من صاحبه في ميدان الحياة الرحيب الذي يسع الجميع دون تضايق .

 

 

ان حكمة الله في إيجاد الناس مختلفين هي إختيارهم في مدى القوى الذاتية والامكانات الطبيعية التي وفرها لهم لكي يعلم أي الفريقين أكثر معرفة وعلما بالحياة ، وأفضل تسخيرا لها وبالتالي أكثر إيمانا ، وأفضل عملا صالحا .

 

 

[ لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ]

 

 

بالرغم من ان الشرعة والمنهاج بمعنى واحد وهو الطريقة حتى قالوا : بانهما مترادفان بالرغم من ذلك فان المنهاج هو : الطريق المستقيم ، بينما الشريعة هي : الطريق العريض الواضح ، فيتبادر ان المراد بالمنهاج هو ما يخص الامور المعنوية (والتي نسميها بالثقافة) باعتبارها لحاظ الاستقامة في الحكمة ، بينما المراد من الشريعة هو الامور المادية .
 [ ولو شاء الله لجعلكم امة واحدة ولكن ليبلوكم في ما آتاكم ]

 

 

ليخرج طاقاتكم و طبائعكم الكامنة ، ومدى إستقامتكم . [ فأستبقوا الخيرات ]
وهذا هو هدف الاختلاف البعيد وهو : التنافس البناء من أجل الوصول الى الخيرات فالامة الاسلامية تسعى من أجل تصدير برنامجها ورسالتها بالنموذج المتكامل الذي تصنعه حياتها الخاصة ، ولذلك فهي لا تحتاج دائما الى شن الحروب ضد الامم الاخرى والحكم المثالي في رؤية الاسلام هو : الحكم الذي تكون برامجه نابعة من العلم الاتي بدوره من العقل أو الوحي بشرط أن يكون تطبيق هذه البرامج من قبل الناس معتمدا على الالتزام الذاتي والواعي الذي يوفره اليقين ، لذلك اكدت الآية على أن أحسن أنواع الحكومة هو حكم الله بشرط ان يطبقه أهل الوعي واليقين لا أن يفرض على الناس فرضا .. أو يتبعه الناس تقليدا أعمى .

 

 

ثالثا : الانتماء

 

 

وجود عناصر منافقة توالي اليهود و النصارى في الامة ، لا يعني ان الامة الاسلامية قد انتهت بل ان ربنا سبحانه سوف يهدي جماعة يتميزون بصفات الاعضاء الواقعيين لحزب الله ، وللمجتمع المسلم ، اولها : ان الله يحبهم وهم يحبون الله ، والله يتفضل عليهم ، وهم يضحون في سبيله ، وانسجامهم مع بعضهم يبلغ درجة التواضع والايثار ، فهم اذلة على المؤمنين ، ولكنهم يشعرون بالقوة و المنعة أمام الاجنبي الكافر فهم أعزة على الكافرين ، وجهادهم في سبيل الله دائم و نابع من ايمانهم الصادق بربهم وليس من تيار اجتماعي ، ولذلك فهم لا يخافون لومة لائم ، وهذه الصفات كلها من الله .. من الايمان به والتوكل عليه ، وبالتالي من نعمته على البشر التي يتفضل بها على من يشاء من عباده ، والله واسع النعمة عليم بمن يستحقها .

 

 

وهؤلاء هم الذين يستحقون الولاية في المجتمع الاسلامي ، لانه الولاية الاساسية هي لله وثم لرسوله و ثم للذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة و يؤتون الزكاة وهم راكعون ومن يتخذ هذه الولاية حقا فانه من حزب الله ، وان حزب الله هم الغالبون .

 

 

إن حزب الله يعتمد على أساس القيم الحياتية التي تربي الفرد على اليقين و العمل الصالح و الانضباط ، وهذه القيم قادرة على صنع الحضارة .. أبرز ما يعطي المجتمعات التقدم والاستمرار هو قدرتها على تجاوز التحديات التي تتعرض لها من قبل الاخرين ، والمجتمع الاسلامي يتكىء على الجهاد والشهادة في مقاومة التحديات وتجاوز الصراعات ، فيكون أقدر على الاستمرار والتقدم .

 

 

من هنا كان حزب الله -بالرغم من قلة أبنائه و ضآلة موارده في البداية- اقوى من حزب الشيطان على كثرة عدده وعدته وهو الغالب عليهم .

 

 

ولكي تستعد الأمة للصراع ، لابد ان يخلص انتماء أبنائها اليها باعتبارها تجمعا مبدئيا ، والا يتخذوا أقاربهم اولياء ان فضلوا الكفر على الايمان . ذلك لان أي خلل في الانتماء يبعث خللا في الايمان [يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم واخوانكم اولياء ان استحبوا الكفر على الايمان] ، وقد كان هذا الانتماء الرسالي الخالص سببا في انتصار الرسالة في عصر الرسول [ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون ] .

 

 

وقد تكون الكارثة المتمثلة في الخلافات الداخلية التي تنتهي الى الصراعات الجانبية المنطلقة من المحوريات الذاتية التي تمنع تكون المجتمع الموحد ، ومن الحزبيات الضيقة التي تفتت الوحدة السياسية الرصينة ، وكلما ضعفت الامة كلما خسرت معاركها الحضارية مع التخلف او مع الامم المنافسة كما نرى اليوم في الامة الاسلامية التي بالرغم من عدد ابنائها البالغ الالف مليون ، فان المحوريات الذاتية تمنع من تكون الوحدة الإسلامية ، و بالتالي من تكون الوحدات السياسية الفعالة ، فعندنا ليس هناك شيء يسمى بالحزب حقيقة الا قليلا ، بل كلما عندنا ولاءات هشة غير متفاعلة مع الرسالة بقدر تفاعلها مع المصالح والأهواء والقرابة ، لذلك تجد العسكر وهو الافضل تماسكا في عالمنا الثالث هو المسيطر ابدا لانه لا يجد امامه كيان سياسي متماسك ، ولذلك اكدت الآية الكريمة على ان الانتماء الى الذات والى المصالح الذاتية سيكون سببا للضلالة لانه فسق [والله لا يهدي القوم الفاسقين] .

 

 

وحين يكون انتماء الفرد الى ذاته ومصالح ذاته ، فان ممارسته ستكون ايضا خاطئة و يكون فاسقا ، وحينئذ يرى العالم بنظارة ذاته فلا يراه على حقيقته فتنزل عليه الكارثة .

 

 

رابعا : التطلع

 

 

المجتمع الاسلامي مجتمع رسالي متحفز ابدا الى الامام ، وهو لذلك بحاجة الى طليعة رائدة همها الوحيد التفقه في الدين والتعمق في رسالته السماوية فهما وتطبيقا ، وتكون هذه الطليعة شاهدة في الأحداث وقريبة من القيادة ، بينما يبقى الاخرون في أرضهم يقومون باعمالهم العادية .

 

 

[وما كان المؤمنون لينفروا كافة] فيجتمعوا جميعا حول الرسول في المدينة او يخرجوا معه الى الغزوات .

 

 

[فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة] أي نفر من كل فريق ومجموعة متماسكة بعض ليقوموا بالواجب نيابة عن الاخرين ، فمثلا من كل عشيرة ، ومن كل منطقة بعض أهل العشيرة وأهل المنطقة ليكون أقرب الى واقعهم واعرف بمشاكلهم .

 

 

[ليتفقهوا في الدين ] أي ليعرفوا الدين أعمق و أفضل ، أما وظيفة هؤلاء بعد التفقه في الدين فليس الجلوس و اجترار الحسرات بل الانذار [ ولينذروا قومهم اذا رجعوا اليهم لعلهم يحذرون] .

 

 

* الفقهاء في الاسلام يتصفون بثلاث صفات :
اولا : انهم ليسوا من طبقة أو عرق معين بل من صميم كل المجتمعات .
ثانيا : انهم يتعلمون الفقه داخل ساحة العمل الرسالي وليس في زوايا المساجد او المدارس ، بل انهم ينفرون مع الرسول او مع القيادة الرسالية ، و يتعلمون الدين عبر الصراع القائم بين الجاهلية و الاسلام .
ثالثا : انهم سوف لا يجمدون بعد التفقه ليأتي اليهم الناس ، بل ينطلقون الى مواقع قومهم ويقومون بواجب الانذار ، والانذار بهدف ايجاد روح الحذر والتقوى عند الناس لذلك يجب الا يقتصرالانذار على مجرد اسقاط الواجب الشرعي ، بل يستمر الى تحقيق هدفه وهو تربية روح الحذر في الناس .

 

 

* الإنسان بين السعي والتمني

 

 

[ان يتبعون إلا الظن و ما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى ] ..

 

 

أن حركة الإنسان نحو الزيغ تبدأ من أهواء النفس ، الذي يتحول إلى تمني ، والتمني إلى ظن ( خيال ) ، ثم تتحول التمنيات إلى عقيدة و فكرة ، ثم يؤطر البشر ذلك برموز وأسماء يزعمها ، فالأصنام إذن ليست رموزا للملائكة ولا للقوى الطبيعية ، إنما هي تجليات للأهواء النفسية والمصالح المادية ، فحينما يحب الإنسان الثروة يحب الثري ، و يتخيل لهذا الحب رمزا ومذهبا ، ثم حينما يعبده فهو لا يعبد الصنم ولا الثري أو الثروة ، إنما يعبد أهواءه وشهواته ، وهكذا الذي يعشق الجمال أو الجنس ، ولو قمنا بدراسة تحليلية عن الأوثان والأصنام التي عبدها الجاهلون في شبه الجزيرة العربية ، أو تلك التي علقوها في الكعبة ، أو الأخرى التي تقدس و تعبد هنا وهناك ، لخلصنا إلى نتيجة واحدة وهي أنها ترمز إلى قوى اجتماعية واقتصادية وسياسية أو ثقافات وتقاليد وأساطير عند أصحابها ، وأن عبادتها ليست إلا عبادة للأوهام والأهواء المتجذرة في نفوسهم .

 

 

وهذا الضلال ليس نتيجة انعدام الهدى أو غموضه ، فقد جاءهم الهدى من ربهم ، وعلى لسان أفضل خلقه وأبلغهم وهم الأنبياء، ولكنهم تركوا العقل إلى الجهل ، والعلم إلى الظن ، والهدى إلى الهوى .

 

 

ولو تساءلنا عن سبب هذا الإختيار الضال لوجدناه محاولتهم التهرب من ثقل المسؤولية بالأعذار المختلفة التي جاءت السورة لعلاجها ، و يبدو أن السياق يمهد لذلك ويقربنا شيئا فشيئا منه ، فمن أهداف الرسالات الإلهية جميعا ترسيخ المسؤولية ، وتعرية الإنسان من حجب التبرير والأهواء التي يحاول أن يتخلص من المسؤولية باسمها .

 

 

[ أم للإنسان ما تمنى ] ، التمني هو خداع الإنسان لنفسه بشيء جميل من خلال الظنون والأوهام التي يصنعها بتخيلاته ، فالجائع يتمنى الشبع فيتخيل القرص ، والعطشان يتمنى الإرتواء فيتوهم الأنهار الرقراقة ، وهذه حالة طبيعية في الإنسان ، تعطيه التوازن في الحياة ، وكلما كانت الحقائق والتطلعات التي يصبو إليها كبيرة وهامة كلما كانت تمنياته تأخذ أشكالا وأبعادا جديدة ، إلا أن المبالغة في التمني تضر به لأنه يخرجه من التعايش الواقعي مع الحياة إلى الأوهام والأساطير ، ومن السعي الجاد نحو الهدف إلى مجرد الظن .

 

 

 والهوى .. أترى لو جلس أحد في بيته و تمنى وصول الرزق إليه هل يتحقق ذلك له ؟ وهكذا لو مشى في الدنيا خبط عشواء ، فإن مجرد تمنياته المنطلقة من أهوائه و الظنون و المبنية على اعتقاده بالأصنام لن تدفع عنه المشاكل والويلات ، ولن تنقذه من العذاب ، بلى للإنسان سعيه وعمله خيرا أو شرا ، وهذا ما سنجد الآيات تنتهي إليه كمحصلة نهائية لعلاج فكرة التمني ، قال الإمام الصادق (عليه السلام) : " تجنبوا المنى ، فإنها تذهب بهجة ما خولتم ، و تستصغرون بها مواهب الله جل وعز عندكم ، وتعقبكم الحسرات فيما وهمتم به أنفسكم "

 

 

وبطلان فكرة التمني ليس مختصا بالآخرة وحسب ، بل يشمل الدنيا أيضا ، ذلك أن الله الذي خلقهما رسم خريطتهما ، وأركز فيهما سبلا وسننا واقعية تجريان على أساسهما ، وليس على أساس الأحلام و التمنيات ، يقول تعالى : [ليس بأمانيّكم ولا أمانيّ أهل الكتاب من يعمل سوءً يُجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا] .

 

 

* الأممية

 

 

الهجرة مرحلة ضرورية لكل الرسالات و الحركات الرسالية السائرة على خطاها عبر الزمن ، فهي تنفع الانسان تزكية لنفسه ، و بلورة لشخصيته ، و استقامة على الحق بما فيها من ساعات صعبة حبلى بالمشاكل والألم ، فالمهاجر يقتلع نفسه من مجتمعه ، ويعيش غريبا ، مجهول المصير ، و لعل تلك الساعة التي آوى فيها موسى الى ظل الشجرة كانت من تلك الساعات ، فهو الآن جائع ومتعب من وعثاء السفر ، في بلد لا يعرف فيه أحدا ، بالإضافة الى هموم شعبه المستضعف ، وربما كان خوف فرعون لا يزال يلاحقه ، ولم يتخلص منه نهائيا إلا بعد أن اخيره شعيب بانه قد نجى -فعلا- من القوم الظالمين .

 

 

أما الوجه الآخر للهجرة ، فهي رحمة الله التي ترعى المجاهدين ، وفي هذه الآيات الكريمة نجد حديثا عن أبواب الرحمة والبركة التي فتحها الى نبيه موسى (عليه السلام) فقد جاءته احدى الإمرأتين اللتين سقى لهما ، وهي تدعوه الى بيتهم حتى يجزيه أبوها أجر السقاية ، وتتابعت عليه بركات الرب ، حيث أضحى واحدا من هذا البيت بعد ان كان غريبا في مدين ، ومستقرا بعد ان كان من دون ماوى ، ونقرأ بين السطور دروسا إلهية مهمة حول أخلاقيات المهاجر الرسالي .

 

 

وتتجلى الرحمة الإلهية مرة أخرى و بصورة أعظم حينما يرجع موسى بأهله الى وطنه والمشاكل تحوطه من كل جانب ، فالليل حالك الظلمة ، والبرد قارص ، وزوجته حامل ، وهم يسيرون في مفازة شاسعة ، دون معرفة بمعالم الطريق ، وفي الأثناء تموت مواشيه ، وهو لا يعرف ماذا يصنع ، واذا بيد الغيب تمتد اليه لا لكي تستنقذ موسى فقط ، وانما لكي تستنقذ معه بني اسرائيل ايضا .

 

 

في بادىء الأمر لما رأى موسى النار لم يكن في خلده سوى الإستفادة من جذوتها للتدفئة ، وممن حولها الاهتداء الى الطريق ، و لكن ما إن بلغها حتى سمع النداء : [ أخلع نعليك انك بالواد المقدس طوى] ، وحينها انسلخ من كل الانتماءات المادية ، ونسي كل الهموم و الآلام ، وتوجه الى ربه بكل عقله وعواطفه ، وهنا تتجلى عظمة الأنبياء ، فاذا بموسى (عليه السلام) لا يخلع نعليه وحسب بل يخلع كل انتماءات الأرض والتراب عن نفسه ، ويأتيه الوحي من طور سيناء دون ان يلتفت الى زوجته الحامل ، ولا مواشيه التي هلكت والتي كانت حصيلة عشر سنوات من العمل .

 

 

المهاجر باعتباره غريبا عن بلد الهجرة ، يجب ان يكون متساميا في الأدب ، لأنه لا يعرف البلد ، ولا يعرف خصائصه الاجتماعية ، و ربما يوجد فيه من يعتقد بانه ثقيل الظل ، فيحاول الضغط عليه ، ومن هنا يجب على المهاجر تفجير طاقاته المعنوية و المادية ليستوعبه أهل المدينة ، وأول عمل قام به موسى (عليه السلام) أنه أعان العائلة الفقيرة ، وهكذا نجد حياة الأنبياء والرساليين عبر التأريخ ، فرسول الله (ًصلّى الله عليه وآله وسلّم) دخل المدينة مهاجرا من مكة ، ودخلت معه البركات اليها بسبب نشاطه وقيمه الرسالية ، وأول ما وصل إليها بنى مسجدا فيها و هو مسجد ( قباء ) وردم الحفر والمستشفيات التي انتشرت حولها -حسب بعض التواريخ- و التي كانت باعثا على الامراض ، ثم إنه (ًصلّى الله عليه وآله وسلّم) لم يكن كلاًّ على أهلها ، بل كان يعمل بنفسه ، ويكدّ من عرق جبينه ، أو ربما دفع الامام علي (عليه السلام) للقيام بهذا الدور ، ومثل هذا السلوك يجعل المهاجر محبوبا في المجتمع ، وهذا ما حدث فعلا لموسى (عليه السلام) إذ بعث اليه شعيب (عليه السلام) لما أنبأته ابنتاه بأنه قوي أمين ، وقد أحسن اليهما بالسقي لمواشيهما [ فجاءته إحدهما تمشي على استحياء قالت إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا ] .

 

 

واول ما دخل عليه موسى امر له بطعام ، فرفض أن ياكله وهو جائع ، فلما سأله شعيب عن السبب ، قال نحن من أهل بيت لا نأخذ أجرا على خدمتنا للآخرين لانه لوجه الله ، وبقي مصرا على ذلك حتى أوضح له شعيب ان هذا ما نقدمه لكل ضيف يحل علينا .

 

 

و يبين لنا هذا الموقف احدى صفات المهاجرين الرساليين وخلفياتهم ، اذ يجب على المهاجر ان يحصن نفسه ضد الذلة ، ويحافظ على قيمه التي جاء بها للمهجر ، فالكثير من المهاجرين ، سواءا كانوا عمالا أو مجاهدين حينما ينتقلون الى بلاد الشرق أو الغرب تنمحي قيمهم من أذهانهم ، وتنعكس على شخصياتهم قيم وسلوكيات مجتمع المهجر ، لأن المجتمع قوي ، وهم لا يجدون ما يحصنهم أمام تياراته ، فيذوبون فيه .

 

 

وعلى المهاجر ان يفكر في الحفاظ على قيمه ، وتحصين شخصيته قبل التفكير في توفير مأكله ومشربه ، فقد رفض موسى (عليه السلام) ان ياكل الا بعد ما تأكد من ان هذا الطعام لا تستتبعه ذلة ولا انتماء معينا .

 

 

خامسا : الإحسان

 

 

الاحسان ،  يجب ان يكون صيغة العلاقة بين الانسان والآخرين ، و لا ريب ان سعي البشر لبناء المستقبل الفاضل لنفسه طموح شريف ، اما اذا كان هذا السعي مبنيا على أساس الإستئثار و الأخذ من الآخرين فقط فهو أمر مرفوض ، اذ ينتهي بالمجتمع الى الصراع والشقاء ، من هنا يحث القرآن الحكيم على علاقة متوازنة ، تعتمد ركيزتي الأخذ والعطاء ، التي لو انتهجهما المجتمع لتدرج نحو الكمال الحضاري لأن العلاقة حينها ستكون البناء والتكامل بين افراد المجتمع ، و على عكس ذلك العلاقة المعتمدة على عبادة الذات و محورية المصلحة ، حيث تصل بالمجتمع الى حضيض التخلق و الإنهيار ، ويصبح الشغل الشاغل لكل فرد آنئذ هو افتراس الآخرين بأية وسيلة كانت ، [ ورحمة للمحسنين ] ، لأن السبيل الى رحمة الله هو العمل برسالته ، ولا يتأتى ذلك الا بالاحسان والعطاء .

 

 

ولكي تحل علينا رحمة الرب لابد ان نحسن للأخرين فنأخذ منهم لنعطيهم ، وإلا فلن تكون الرحمة من نصيبنا ولا الهدى.

 

 

لماذا ؟ و ماهي علاقة الاحسان بالهداية في حياة الانسان ؟ .

 

 

والجواب : ان الذي يعيش حالة مناقضة للاحسان كابتزاز حقوق الآخرين ، انما يقوم بذلك لما يعيشه من حب مفرط للذات ، فلا يرى من هذا الكون الرحيب سوى نفسه ، فيعبد هواه ، وبالتالي يبتعد عن الحق ، وهكذا يكون مقياسه المصلحة لا القيم ، وهدفه الذات لا الحق وهذا يسبب كل انحراف . ان العقل والرسالات الإلهية توجه الانسان الى حقائق الخليقة ، بينما توجهه شهواته واهواؤه الى داخل ذاته ، ومن هنا فان استمرار اتباع الهوى يطفئ شعلة العقل ، وهذا هو الضلال البعيد ، ومن هنا يؤكد ربنا بأن المحسن هو الذي يصيب طريق الهدى في عالم المعنويات ، و الرحمة في عالم المادة ، و التي هي الأخرى نتيجة للهدى .

 

 

ولو تدبرنا آيات القرآن لوجدنا ان من أهم ميزات الانبياء الاحسان الى الناس ، بل وقد تكون العامل الهام في اصطفائهم للنبوة .

 

 

قال تعالى عن نبيه يوسف (عليه السلام) : [و لما بلغ اشده آتيناه حكما و علما و كذلك نجزي المحسنين] ، وقال عن النبي موسى (عليه السلام) : [ولما بلغ أشده و استوى آتيناه حكما و علما و كذلك نجزي المحسنين] ، وأكد ربنا هذا المعنى بصورة عامة اذ قال : [ولا تفسدوا في الارض بعد اصلاحها و ادعوه خوفا و طمعا ان رحمة الله قريب من المحسنين] .

 

 

فالذين يتخذون الدين وسيلة لابتزاز الآخرين و استغلالهم ، أو مطية للمصالح و الأهواء ، لا يفهمون الدين فهما حقيقيا و عميقا -لانه لا يفهمه الا من كان محسنا ، بعيدا عن شهواته و اهوائه - ، [وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين الا خسارا] ، و بالرغم من أن الجميع يطمحون الى الاحسان ، الا انهم يجدون أيديهم وأنفسهم مقبوضة عن العطاء حينما ينزلون الى ساحة العمل ، فكيف نخلق صفة الإحسان في أنفسنا ؟! .

 

 

-         بالصلاة لانها تخلق في الانسان دوافع الاحسان ،

 

 

-         وبالزكاة لإنها تطهر القلب من حب الذات كما تطهر المال ، و

 

 

-       كذلك باليقين ، فكلما تأكدت الحقائق عند الانسان كاليقين بالموت وبما بعده من الجزاء كلما كان أكثر إحسانا للآخرين ،
سادسا : البصيرة

 

 

[واقصد في مشيك ] ..

 

 

وكلمة القصد هنا تعني تحديد الهدف ، ولا يصح من العاقل ان يمشي بلا هدف ، كما تعني الاقتصاد أيضا، ولا شك ان من يمشي على بصيرة ولهدف معين لن يحتاج الى صرف المزيد من الطاقات التي لا داعي لها ، فلو افترضنا ان سيارة تحركت باتجاه معلوم فان مقدار الوقود الذي ستصرفه سيكون اقتصاديا متناسبا مع الهدف ، اما لو تحركت سيارة أخرى تريد هدفا غير محدد أو من دون هدف فستبقى تحرق الوقود من غير نهاية ، وليس ثمة شك في ان حركة الانسان دليل على نفسيته .

 

 

سابعا : اليقين

 

 

[وكانوا بآياتنا يوقنون] ..

 

 

في الدرس الاخير من سورة السجدة ، يؤكد ربنا على صفة اليقين التي تجمع ارادة الانسان ، وعقله ، و قوة تصوره وخياله على محور الحق ، حتى لا يبقى لديه أدنى أثر من الهوى وضعف الارادة ، فالانسان يعرف الحقائق بعقله وفطرته ، ولكنه يشكك فيها بهواه وافكاره الباطلة ، ويحتاج الى اليقين حتى يزول هذا الشك ، ذلك أن مراحل العلم عند الانسان هي التالية :

 

 

الاولى : المعرفة ، فالانسان يعرف ان للكون خالقا مدبرا ولكنه يبقى مشككا .

 

 

الثانية : الايمان ، حيث يسيطر العقل في معركته مع الهوى فتتبعه الارادة ، و لكن دون ان ينتهي الشك والهوى عنده ، بل يبقى لهما أثر معنوي لا فعلي ، فتجد انسانا ما يشكك نفسه فيها ، لكنه يستمر يؤديها ، ويلتزم بها ظاهريا بأفعالها وأذكارها ، فهذا الرجل مؤمن أي ان نفسه سلمت لعقله تسليما عمليا .

 

 

الثالثة : اليقين ، حين يزول الشك عن قلب الانسان ، و يبقى مسلما عمليا و نفسيا تسليما محضا للمعرفة .

 

 

ولليقين بدوره درجات ثلاث هي : اليقين ، و حق اليقين ، و عين اليقين ، التي إذا وصلها الانسان حق له ان يقول كما قال الامام (عليه السلام) : " والله لو كشف لي الغطاء ما ازددت يقينا " ، أو كقوله (عليه السلام) : " ما رأيت شيئا قط الا ورأيت الله قبله ومعه وبعده " ، او كقوله (ع) : " الهي ما عبدتك خوفا من نارك ، و لا طمعا في جنتك ، و انما وجدتك أهلا للعبادة فعبدتك ".

 

 

اما كيف يحصل الانسان على اليقين ، فان ذلك يكون بالمزيد من النظر الى آيات الله و التفكر فيها ، لان هذه الآيات اشارات ظاهرية الى الحقائق الكبرى في الحياة ، و التفكر السليم هو الذي يعبر بالانسان من خلال هذه الآيات الى الحقائق ، ذلك ان النظرة التي تنقل الانسان الى اليقين هي النظرة العبرية لا الشيئية ، و التي يمتزج فيها بصر الانسان مع بصيرته وعقله .

 

 

في البداية يجعلك التفكر تؤمن بربك ، و شيئا فشيئا يتحول هذا الايمان الى يقين ، ومنه الى أعلى درجاته ، و في الحديث : "طوبى لمن كان نظره عبرة ، و سكوته فكرة " ، وبالاضافة الى ما تعطيه هذه النظرة من اليقين ، فانها تعطي الصبر كثمرة لهذا اليقين ، ذلك أن الذي يطمئن للعاقبة الحسنى ، التي يوصل اليها طريق الحق ، يصبر على عقبات الطريق ، والمؤمن يصبر على الصعاب بسبب يقينه مما يجعله أهلا لإمامة الحق التي تقابل أبدا إمامة الباطل .

 

 

ثامنا : العقلانية

 

 

ينظر المؤمن الى الحياة نظرة عقلانية تنعكس على سلوكه الشخصي الاجتماعي وعلى تعامله مع الطبيعة ، فهو يؤمن بالعدالة الالهية التي تحكم الخلق جميعا ، و يرى أن لكل شيء هدفا خلق من أجله ، فللسماء هدف ، و للأرض هدف ، و لكل مخلوق هدف .

 

 

وان سنة الجزاء التي تتجلى في جميع أبعاد حياة البشر مظهر لتلك الهدفية ، التي يشير اليها ربنا الكريم ، ولكن في الجانب الاجتماعي منه ، مما يثير السؤال : لماذا لا يتركز الحديث عن الفرد ؟ ، والجواب : لأن تفاعل الأفراد مع بعضهم ، وبالتالي انصهارهم في بوتقة المجتمع ، لا يدع المفسّر أو الموجّه يتحرك عن الفرد الواحد ، في تحليله أو توجيهاته ، فالمجرم لا يكون وحده مجرما ، إنما يمارس الجريمة ضمن مجموع متجانس وبنية اجتماعية معينة ، ولو حدث أن اقترف الجرم شخص واحد فانك تجد آثار المساهمة الاجتماعية واضحة فيه، بالسكوت والتشجيع تارة ، وبالتعاون تارة أخرى ، ولذلك فان الذي يتحمل الجزاء ليس الفرد في غالب الأحيان و إنما المجتمع بأكمله .

 

 

وعندما يبيّن القرآن حكمة الجزاء يضرب لنا مثلاً من واقع المجتمعات الغابرة التي جزيت بأفعالها على الرغم من قوتها و كيدها، وهذا الجانب من التاريخ البشري يعكس هدفية الحياة وعقلانيتها .
إن الذي يعمل شيئا لا يستطيع الهروب من الجزاء ، فهو إن لم يلحقه عاجلا فسوف يلقاه آجلا ، وفي دعاء كميل نقرأ تعبيرا عن هذه الحقيقة عند قول الامام علي (عليه السلام) : " ولا يمكن الفرار من حكومتك " ، ومن فكرة الجزاء نهتدي الى أن الدنيا دار ابتلاء ، وأنه لابد من دار أخرى للجزاء ، ذلك أننا نجد البعض يموتون دون أن يلقوا جزاءهم في هذه الحياة ، أو يلقونه بأقل مما يستحقون .. فهل كان جزاء هتلر الذي جر العالم الى الحرب التي أدت الى مقتل أكثر من (60) مليون انسان أن يموت انتحارا ؟ .

 

 

إن منهج طرح القرآن للموضوعات المختلفة منهج حكيم للغاية ، فهو من جهة يحدثنا عن جزاء المجتمعات السابقة ، ومن جهة يحدثنا عن هدفية الخلق ، ثم يذكرنا بيوم القيامة ، وهذه الموضوعات الثلاثة حينما تتفاعل عبر النظرة الواحدة للحياة تنسجم مع بعضها ، و تصير صورة واحدة متكاملة ، فربنا عاقب الأمم الغابرة مما يهدينا الى أنه خلق الخلق لغاية لو زاغوا عنها عوقبوا بشدة.

 

 

تاسعا : الحيوية

 

 

[ فطال عليهم الأمد] ..

 

 

الأمد هو اليأس من روح الله ، والشك في وعد الله الذي لا يخلف ، وهذه المشكلة يمكن ان تتورط فيها الكثير من الحركات الاسلامية ، خصوصا تلك التي تناضل من خارج الوطن ، حيث يخشى ان تتناقص فيها تلك الحيوية والفاعلية التي كانت لديها عند انطلاقها ، وقد يصاب بعضهم بالاسترخاء نتيجة الرضا ببعض المكاسب الاولية التي يحصلون عليها ، فاذا بالدنيا تحلو في أعينهم فيخلدون الى ارض الخفض والدعة ، ويرفضون خشونة الجهاد وعنف المواجهة ويبدأون مسيرة التبرير ، ويرفعون شعار المعاذير ويحرفّون الكلم عن مواضعه ، كما حدث لقوم موسى (عليه السلام) [اذا قال موسى لقومه ان الله يأمركم ان تذبحوا بقرة ] فراحوا يجادلونه وتباطأوا في تطبيق قراراته [فذبحوها وما كادوا يفعلون] ، ومرة اخرى حينما دعاهم الى اقتحام بيت المقدس [قالوا يا موسى انّ فيها قوما جبارين و انا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فان يخرجوا منها فانا داخلون .. قالوا يا موسى انا لن ندخلها ابدا ما داموا فيها فاذهب انت و ربك فقاتلا انا ها هنا قاعدون] .

 

 

والنتيجة ؟ [ فقست قلوبهم ] .

 

 

لماذا كان طول الامد سببا لقسوة القلب ؟ ..

 

 

لعل في الآية اشارة الى قانون الدورات الحضارية الذي ذهب اليه كثير من فلاسفة التاريخ فقالوا : كما الانسان الفرد يمر بمراحل الصبا فالشباب والكهولة ثم الشيخوخة والهرم ، كذلك المجتمع الانساني يمر بذات المراحل ، فأيام شبابه تكون عندما تبعث فيه فكرة خلاقة فتفجر طاقاته ، ولكن مع مرور الزمن يغفلون الفكرة الحضارية التي آمنوا بها بسلبياتهم وشهواتهم ، ويفقدون روح التحدي والتضحية ، ويصيرون الى ما يشبه حالة الشيخوخة ، وربما نستوحي هذه الفكرة من قوله سبحانه : [فخلف من بعدهم خلف اضاعوا الصلاة و اتبعوا الشهوات] .

 

 

وهكذا اشارت الآية الى هذا القانون الطبيعي لكي نتحداه ، ولا ندع طول الأمد يسبّب فينا قسوة القلب .

 

 

ثم ان فلاسفة التاريخ قسموا الاجيال في كل حضارة الى ثلاثة : جيل البناة ، وجيل الرعاة ، والجيل الذي يليهما والذي تتوقف الحضارة عندهم عن التطور والابداع ، ولكن الفصل بين الاجيال الثلاثة ليس فصلا دائما ، اذ قد تتعايش في برهة زمنية واحدة نماذج من هذه الاجيال جميعا ، فتجد طبقة من الناس لا يزالون في حالة الزيادة وهم الذين قد تمكنت الفكرة الحضارية من انفسهم ، بينما تجد في ذات الوقت طبقة من الناس منافقين يبحثون عن مصالحهم ويحرّفون الكتاب بما يتلاءم و شهواتهم ، و تجد آخرين ممن يعيش الحالة الوسطى بين الحالتين .

 

 

بلى . ان الاغلب هو تلاحق هذه الاجيال ، الا ان قدرة الانسان على تحدي الظروف المعاكسة ، واغراءات الدعة والرخاء تعطي الناصحين فرصة اصلاح الناس ، ومقاومة عوامل الانحراف ! .

 

 

فقد ينبعث في الجيل الثالث في المسلمين وما بعده مصلح كبير يفسّر القرآن بما ينسجم و تحديات عصرهم ، ويعيد اليهم نضارته وطراوته وصفاءه بعيدا عن زيف التحريفيين ، و تأويل المعذرين ، ولعله الى ذلك تشير الاحاديث التي تؤكد على ظهور مجدد للدين على رأس كل قرن من الهجرة النبوية الشريفة .

 

 

عاشرا : العلمية

 

 

[ ن . والقلم وما يسطرون ] ..

 

 

يتسع معنى  القلم في الآية الكريمة  لمصداقها المعروف عند الانسان ، باعتبار القلم وسيلة لنقل العلم و تثبيته بالكتابة ، والعلم قيمة اعتمدها الوحي ، فيكون القسم بالقلم كوسيلة للعلم كاشفا عن عظمته لانه يرفعه الى مرتبة سائر الحقائق التي اقسم الله بها في القرآن ، وإذا كان الانسان يستمد قوة لحديثه بالقسم والمقسم به فان كلام ربنا يعطي ما يحلف به قيمة وشأنا ، فنحن إذن نعرف عظمة القلم لان ربنا اقسم به وهكذا نستوحي من هذا القسم دور القلم في منح المؤمنين الكرامة والعزة وفتح افاق العلم ، وان علينا ان نملك ناصية القلم إذا أردنا امتلاك ناصية الحياة ، وقد قال ربنا سبحانه : [علّم بالقلم علّم الانسان ما لم يعلم] ، ويدل على ذلك القسم بما يسطر القلم ( وهو العلم ) .

 

 

ونستوحي من كل ذلك ان موقع القلم هو خدمة الدين والعلم لا تضليل الناس او استعبادهم ، ولا يكون ذلك إلا إذا تسلح به المؤمنون وبادروا للانتفاع به قبل الجبارين ومرتزقتهم السفلة .

 

 

ويربط الوحي بين حقيقة العلم الذي يسطره القلم و حقيقة الرسالة ، وقد ظهرت هذه الصلة مرة أخرى في سورة العلق عند قوله تعالى : [إقرأ وربك الأكرم * الذي علّم بالقلم * علّم الانسان ما لم يعلم] ، فما هي العلاقة بين الأمرين ؟ ..

 

 

ان هذا الربط يكشف بصيرة مهمة وهي علاقة العلم بالايمان ، وبتعبير آخر علاقة العقل بالوحي ، ذلك ان العقل هو الذي يذكرنا بالوحي ويهدينا اليه ، كما ان الوحي هو الذي يستثير العقل ويستخرج كوامنه ويوجّه مسيرته نحو الحق .

 

 

الحادي عشر : التجدد

 

 

[ لتركبن طبقا عن طبق ] ..

 

 

ما هو المراد من الطبق ؟ ، قالوا : الطبق في اللغة بمعنى الحال ، ثم ساقوا امثلة لذلك ، فذكروا ان الدواهي تسمى ام طبق ، وبنات طبق ، وانما سميت التحولات الاساسية والمنعطفات الحساسة من الزمن بالطبق ؛ لأنهم تصوروا الزمان طبقات كما الارض طبقات او العمارة طوابق ، فسموا كل مرحلة طبقا ، كما سموا كل طبقة من الارض او طابق من البيت ، ولذلك قالوا : اتاني طبق من الناس او طبق من الجراد ، اي جماعة كانهم قسم من الناس ، وطبقة منهم ، ومشهور في ادبنا اليوم مصطلح الطبقات الاجتماعية .

 

 

و يسمى القرن من الزمان ايضا طبقا ، ويقال لضريع الليل وطرف النهار طبق ، فيقولون : مضى طبق من الليل او طبق من النهار .

 

 

واذا فان ظاهر الآية يدل على ان الانسان يتدرج في طبقات الزمان ، ومراحله ، و تحولاته طبقا بعد طبق .

 

 

بلى . انه لا يملك التحولات الكبيرة التي تجري عليه . بالرغم من وجود هامش بسيط من الاختيار عنده ، فهو يولد في عصر لا يختاره ، و في مصر لم ينتخبه ، ومن والدين قدرا له دون دخل له فيهما ، وعشرات التقديرات الحتمية تصوغ حياته دون ان يكون له فيها صنع ،ثم يتحول من نطفة الى علقة الى مضغة الى خلق سوي ، يولد ليجتاز سبعة و ثلاثين مرحلة منذ الرضاعة حتى يكون هرما فيموت ، حسب الاسماء التي وضعتها العرب لمراحل حياة البشر .
و خلال هذه الفترة يتقلب عبر المرض والعافية ، والفقر والغنى ، والخوف والامنة ، والجوع والشبع ، وترمي به حوادث الزمان من حزن الى سرور ، ومن قلق الى سلام ، ومن شدة الى رخاء وهكذا .. و قد تحمله الدواهي من ارض لأرض ، ومن قوم الى قوم ، ومن دين الى دين .

 

 

ان كل هذه التحولات جزء من الكدح الذي كتب على الانسان في هذه الدنيا ، ولكنها لا تنتهي بالموت فما بعد الموت اعظم وادهى .

 

 

واذا تأملنا سياق سورة الانشقاق وتدبرنا آية الكدح فيها ، ولاحظنا هذه الرواية ايضا تبيّن لنا ان الجملة الاخيرة في هذه الرواية هي العبرة التي ينبغي ان نعيها من السورة ، ذلك ان عدو الانسان هو حالة اللهو واللعب التي تنزع اليها نفسه ، فتسول له العبثية والغفلة او الهروب من مواجهة الحقائق ؛ وانما ينساق البشر الى هذه الحالات بسبب غفلته عن نفسه وعما يراد بها ، وعن الاخطاء التي تنتظره . افلا يفكر هذا المسكين ان الظلام يلف الضياء ، و يتسق القمر في السماء بدل قرص الشمس ، وان التحول سنة يخضع لها كل شيء ، فهل يبقى بعيدا عنها ؟ ‍‍.

 

 

و اذا لم نعتبر بالطبيعة حولنا افلا نعتبر بتأريخنا الحافل بالتطورات ، فهذه الامم كيف دار بها الزمن دورته ولعبت بها رياح التغيير طبقا عن طبق ، و حالا من بعد حال .

 

 

الثاني عشر : التوازن

 

 

[ خلق الانسان من عجل ] ..

 

 

هناك حواجز نفسية تمنع تحسس الانسان بمسؤوليته الكبرى في الحياة ، وتدفعه الى اللهو واللعب ، وتحجبه عما تمليه الرسالة الالهية من توجيهات ومواعظ ، ومن تلك الحواجز النفسية التي يعالجها القرآن الحكيم هنا :

 

 

اولا : حالة الاستعجال عند الانسان . حيث يعتقد بأن تأخر الجزاء دليل على أن العمل لا يستلزم الجزاء ، وهذا يمنعه من التفكير الجدي في الحياة ، لأن أكثر الأعمال لا يأتي جزاؤها إلا بعد حين ، حسب حكمة الله و تقديره .

 

 

ثانيا : الشرك . وهو من الحجب النفسية التي تمنع الانسان من الإيمان بمسؤوليته الملقاة على عاتقه ، والذين يشركون بالله بأي شكل و تحت أي عنوان كان ، إنما يهدفون أساسا الى التخلص من مسؤولية التوحيد ، والتي تتطلب قدرا من التضحية والصبر ، وتحدي عامل الزمن ، ولكنهم بعدولهم من الحق الى الباطل ، يعرضون أنفسهم للجزاء المرهق والعذاب الدائم ، في مقابل راحة وقتية وهمية ركنوا إليها بجهلهم وحمقهم .

 

 

ثم يشير القرآن الى فكرة هامة وهي إن الجزاء يأتي في اللحظات التي يزداد فيها غرور الانسان بنفسه ، فالمجتمع في بداية حياته يكون حذرا ، ولكن عندما يطول عمره ، وتكثر النعم والخيرات عنده ، فانه ينسى حذره ويركبه الغرور ويعتقد إن ما عنده من الراحة والمتعة سيكون ابديا ، ومع استمراره في الحياة ، وازدياد غروره فان سلبياته تتكاثر ويزداد ظلمه ، فيتراكم جزاء أعماله وفي لحظة واحدة ، يفاجؤه الجزاء ويدمر عليه كل شيء ، وهذا قانون اجتماعي ثابت لا يستثنى منه مجتمعاتنا في هذا الزمان .

 

 

يستعجل الانسان الجزاء لأنه خلق من عجل ولكن ما هو العجل ، وكيف خلق الانسان منه ، بعضهم قال إن العجل الذي خلق منه الانسان صفة له ، وكأن الله سبحانه وتعالى أراد أن يركز الضوء على خاصية بشرية في خلقة الانسان وتكوينه ، وليست صفة عارضة تكتسب من البيئة المحيطة به .

 

 

وبعضهم قال إن المقصود بالعجل الطين ، اي إن الانسان قد خلق من مادة دنيئة ذات صفات سلبية ، ولذلك فهو يتعجل الأمور ولا يملك الصبر عليها بطبيعته المادية المحضة .

 

 

ويبدو إن العجل يعني شيئا آخر أبعد أفقا ، وأكثر عمقا ، وهو إن الزمن قد جعل من عوامل خلقة الانسان وأحد عناصره ، شأنه شأن كل مظاهر الطبيعة المسخرة له ، فكل المخلوقات و الموجودات التي نراها في أرضنا وسمائنا ، يشكل الزمن جزء من طبيعتها وتركيبها .

 

 

ولقد كشفت لنا الفيزياء الذرية عن هذه الحقيقة ، بسلسلة من التجارب العملية ، حتى لم يعد يحيط بها غموض ، وقبل ذلك أشارت إليها جملة من الآيات القرآنية ، منها [خلق السماوات والأرض في ستة أيام] و يبدو من الآية إن الله جل شأنه جعل الزمن جزء من الخليقة حيث مرت بعدة مراحل الى أن أخذت شكلها النهائي .

 

 

وهكذا فالانسان يحس بالزمن لآنه عنصر أساسي في خلقته الطينية المادية ، ولولا روح الانسان و قيم الرسالات الالهية التي تبلور هذه الروح و تعطيها خصائص عالية ، لكان الانسان يعيش لحظته وحدها ، ولما كان يتطلع الى المستقبل أو يرى الآفاق البعيدة للحياة.

 

 

وهكذا يريد القرآن أن يخبرنا بأن هذه الطبيعة البشرية التي يشكل الزمن جزء منها ، هي التي تدعو الانسان الى اللامسؤولية ، لأنه يعيش بطبيعته لحظته و حدها ، وبالتالي يعجز عن إدراك حتمية الجزاء ، الذي يتطلب مقدارا معينا من الزمن ، لكي يتحقق و ياخذ مجراه .

 

 

المحور الثالث : نماذج قرآنية متمدنة

 

 

أولا : ذو القرنين والموقف السليم من السلطة

 

 

في سياق الحديث القرآني عن موقف الانسان من زينة الحياة الدنيا ، تتناول هذه الآيات الموقف السليم من شهوة التسلط ، والتي هي أكثر إثارة وأشد جاذبية من أية زينة أخرى في الحياة الدنيا ، وضرب الله لنا مثلا من ذي القرنين الذي كان في العهود السالفة ، والذي لا نعلم بالضبط فيما إذا كان هو الإسكندر المقدوني الذي فتح كثيرا من بلاد العالم إنطلاقا من اليونان أو هو ملك من حمير ، أو هو الملك الفارسي كورش الأول -كما تؤكده الدراسات الحديثة- أو هو رجل آخر لم يذكر التاريخ لنا المزيد من قصصه ، سواء كان هذا أو ذاك فلقد كان رجلا صالحا ، لم تخدعه بهارج السلطة ، ولم تخرجه الزعامة والسيطرة عن حدود الشرع ، وفي هذه القصة يذكرنا القرآن بعدة حقائق منها :

 

 

- أولا : ان ما حصل لذي القرنين من سلطة ، إنما كان بسبب منه و سبب من الله ، أما السبب الذي كان منه فهو : إتباع هدى الله ، والاستفادة من الإمكانات المتوفرة في الطبيعة ، و أما السبب الذي كان من الله : فقد علمه الله طريق الحياة و سننها ،و أساليب السيطرة عليها و تسخيرها ، فعمل في سبيل ذلك بهمة فكان العمل منه و كان من الله التوفيق و البركة .

 

 

- ثانيا : أن ما قام به ذو القرنين من أعمال كان ضمن إطار قدرة الله ، وعلمه ، وإحاطته ، فلا أحد يبلغ من السلطة مكانا في ملكوت الله الواسعة إلا بإذن من الله .

 

 

- ثالثا : كان ذو القرنين رجلا صالحا ، لم ينظر الى الدنيا نظرة منحرفة ، فحينما أوتي السلطة ، أوحى إليه الله (ألهمه إلهاما): أن بقدرتك أن تسير في الناس بما شئت ، أما أن تعذب ، وأما أن تعمل بالحسنى .

 

 

فقال ذو القرنين : إنني سوف أسير في الناس بالعدل ، فمن ظلم فاني أعذبه ، ومن لم يظلم فسوف أرحمه .

 

 

وانطلق الرجل في عملية تعميقية للسلطة من قاعدة : انها نعمة وفضل من الله ، وأنه يجب أن يستفيد منها إستفادة مشروعة ، فجعلها لاقامة العدل ، ودحض الباطل .

 

 

هذه المقالة توحي إلينا بحقيقة أخرى وهي عبرة هذه القصة ، وهي : إن الانسان قادر على التغلب على شهواته ، وعلى موقعه الاجتماعي ، فلأنك من طبقة الأثرياء او من حاشية السلاطين وشريف من الأشراف ، هل يجب عليك ان تخضع حتما لسلبيات طبقتك او مركزك أو مالك؟ كلا .. إن بإستطاعتك أن تنفلت من قيود المادة وان احاطت بك ، وان تحلق في سماء القيم ، باستطاعتك أن تكون سلطانا أو غنيا وتقاوم سلبيات طبقتك ، وان تكون شريفا ولا يستبد بك حب الشرف والجاه فيخرجك عن طاعة الرب .

 

 

والقرآن الكريم يعطي الانسان الثقة بأنه قادر على أن يتفوق على جاذبية الأرض والمادة ، أن هذا الايحاء المكرر والمستمر في القرآن الكريم هو حجر الأساس في تربية الانسان ، فلولا شعور الانسان بالثقة بذاته ، وبقدرته على التغلب على ضغوط الحياة ، لما استطاع أن يصبح إنسانا صالحا مستقيما .

 

 

- رابعا : أن على المؤمنين أن يعملوا من أجل رفاهية الانسان في الأرض ، وأن الاسلام لم يأت لمصلحة طائفة معينة من البشر وليس هدف الحكومة الاسلامية بناء دولة قوية ذات صناعة متقدمة ، بل عليها أن تسعى من أجل كل المستضعفين في الأرض ، سواء كانوا مسلمين أو لم يكونوا ، لأن الانسان كأنسان محترم في الاسلام وعلى المؤمن ان يعمل من أجل رفاهية الانسانية عامة ،
و كذلك الحزب الاسلامي و التجمع الايماني ليس هدفه السلطة ، انما عليه السعي من أجل الناس ، لرفع الضيم عن كل الناس سواءا وصل الى السلطة أو لم يصل ، نعم .. قد تصبح السلطة أداة لتنفيذ هذه المهمة ، ولكن السلطة بحد ذاتها ليست هدفا .

 

 

ان الاسلام لا يدعوك الى العنصرية بأن ترى نفسك أحسن من الآخرين ، و تعتبر نفسك مركز الدنيا فتسعى من أجل إيصال نفسك الى مركز القدرة ، ان تلك العنصرية يعارضها الاسلام بقوة ، و هي الانحراف الذي وقع فيه اليهود في التاريخ ، فبعد أن كانوا مجموعـة عاملة من أجل الناس اصبحوا مجموعة عاملة من أجل أنفسهم على حساب الناس ، فاعتبروا أنفسهم أبناء الله وشعبه المختار .

 

 

لقد كان ذو القرنين عبدا صالحا ، تحرك في العالم شرقا وغربا ، ومن الطبيعي ان أبناء العالم ذلك اليوم لم يكونوا مؤمنين ، ولكنه حينما وصل الى منطقة معينة ، وطلب منه أهلها أن يبني لهم سدا ، لم ينهرهم بل قال : نعم ، أن الله مكنني وأعطاني السلطة من أجل رفاهية الانسان ، من أجلكم أيها المحرومون سواء كنتم مؤمنين أو غير مؤمنين ، فبنى لهم السد ولم يطالبهم بأجر ، وهذا مثل أعلى للدولة الإسلامية .

 

 

فلنفترض أنه قد أصبحت دولة إسلامية بمثابة أمريكا وروسيا في القوة و السلطة ، فهل تبحث كأمريكا و روسيا عن أسواق جديدة لتصدير سلعها ؟ ومواد خام جديدة لتستفيد منها ؟ أو شعوب جديدة لتستعمرها ؟ كلا .. إنما يجب أن تسعى تلك الدولة المسلمة الغنية من أجل رفاهية الانسانية في العالم ، وتبحث عن أي مظلوم في العالم فتهرع إليه لتنقذه من الظلم ، وتبحث عن أي محروم لتنتشله من الجوع و الحرمان .

 

 

هذا هو هدف الأمة الاسلامية ، و هذه في الواقع هي الحدود التي تفصل بين الايمان و الجاهلية ، فليست الحدود هي الشعارات و الكلمات ، و حتى الطقوس و العبادات ، إنما المؤمن هو الذي يخرج من ذاته من أجل الآخرين ، و إنما " المسلم من سلم الناس من يده ولسانه " والدولة الاسلامية هي التي تخرج من ذاتها من أجل رفاه الآخرين .

 

 

ماذا فعل ذو القرنين شكرا لنعمة السلطة والقوة التي وهبها ربه له ؟ وماذا كان موقفه من هذه الزينة الحياتية ؟ وماذا ينبغي أن يكون عليه موقف المؤمنين الصالحين من زينة الحياة الدنيا ؟ .

 

 

كل ذلك مما تذكره  الآيات الكريمة ، في سلسلة أحاديث القرآن في سورة الكهف ، عن علاقة الانسان بالطبيعة ، لقد بنى ذو القرنين سدا منيعا لا يخترق لقوم لا تربطه بهم علاقة الا علاقة الخدمة الانسانية ، ورفض أن يأخذ منهم أجرا أو يطالبهم بشكر ، انما هو الذي شكر ربه الذي وهب له هذه القدرة .

 

 

و لقد شكر ذو القرنين ربه مرتين ، مرة حينما استخدم القدرة في سبيل منفعة الناس ومرة حينما استخدم عمله وسيلة لهدايتهم، وكشف للناس ان هذه القوة مما وهبه الله له من فضله وعرف بأن حاجة الناس الى الرسالة والهداية أعظم من حاجتهم الى قوته وسلطته ، فاستخدم تلك اللحظة التي شعر فيها أولئك الذين كانوا يتعرضون لهجوم مرعب كل عام مرتين بالأمن والراحة عندما رأوا ان الله قد أنقذهم على يديه ، استغل ذوالقرنين تلك اللحظة في سبيل توجيه الناس وهدايتهم ، وهذا منتهى ما يستطيع أن يقوم به صاحب سلطان أو صاحب قوة ، فهو حين يعطي ماله -مثلا- فيشبع جوعة مسكين أو يغني فقيرا ، أو يؤوي يتيما ، لا يكتفي بذلك ، و انما يبدأ بهداية ذلك الفرد ، فيقول : هذا المال ليس لي ، وانما هو لك ، وانه فضل من ربي ، ان الله قد يعطيك خيرا من هذا المال، و هكذا يتحدث اليه فيفيده بحديثه اكثر مما يفيده بماله .

 

 

[اتوني زبر الحديد حتى إذا ساوى بين الصدفين ] ، أي وفروا لي قطع الحديد ، والزبر هي القطع المجتمعة من شيء ، سواءا كان ماديا كالحديد أو معنويا كالفكر ، فالكتاب السماوي يسمى زبورا لان فيه افكار مجتمعة الى بعضها ، و كذلك الحديد الذي يجتمع الى بعضه يسمى ايضا زبرا .

 

 

وبعد ان طلب أهالي البلاد من ذي القرنين ان يساعدهم في محنتهم ، جمعهم ذو القرنين و نظم قواهم ، وطلب منهم أن يجمعوا قطع الحديد التي كانت متوفرة في بلادهم ، ثم أمرهم بأن ينفخوا في النار حول هذه القطع الحديدية ، فاشعلوا النار وأخذوا ينفخون فيها كما ينفخ أصحاب صناعة الحديد قديما في النار بطريقتهم الخاصة [ قال انفخوا حتى إذا جعله نارا ] التهب الحديد من شدة النار و هكذا التحمت القطع الحديدة ببعضها .

 

 

ولم يكتف بذلك بل [ قال آتوني أفرغ عليه قطرا ] ، ثم طالبهم بأن يأتوا اليه بالنحاس المذاب ، ثم يصبونه على القطع الحديدية المحماة ، ثم يتركونها مدة حتى تبرد ، فاذا بسد عظيم بين الجبلين مبني من قطع الحديد المتلاصقة ببعضها ، وعليها النحاس .. يزيده قوة لان الحديد تتضاعف قوته مع النحاس كما يقول اصحاب الفن ، يسد الخلل بين قطع الحديد. و يمنع عنه الصدأ . و اذا كان هذا السد هو الموجود حاليا في منطقة القوقاز فان سلسلة الجبال التي تشكل حاجزا طبيعيا بين مناطق المغول ومنطقة القوقاز تكون قد اكتملت بهذا السد واصبحت كحائط عظيم حيث ان مكانه هي الثغرة الوحيدة في المنطقة ولقد كان من أروع الانجازات المعمارية في ذلك اليوم و لعله حتى اليوم يعتبر أقوى سد في العالم .

 

 

[ فما استطاعوا أن يظهروه و ما استطاعوا له نقبا ] كان مرتفعا بحيث لم يستطيع يأجوج و مأجوج أن يتسلقوه ، وكان متينا بحيث لم يستطيعوا ان ينقبوا من تحته نقبا ، و لعل ذا القرنين كان قد حفر حفيرة كبيرة و جعل الجدار الحديدي راسخا فيها بحيث لا يمكنهم النقب أيضا على المنطقة الصخرية الصلبة .

 

 

ان كل ما قام به ذو القرنين ، اعطاء الخبرة ، وتنظيم قوة الناس في بناء هذا السد ، فهو لم يأت بالحديد ، ولا بالقطر ، ولا بالقوة البشرية من بلده ، كل الامكانات كانت موجودة ومتوفرة ، ومع ذلك لم يتمكن أهالي تلك البلاد من الاهتداء الى مثل هذا العمل ، أما الاحتلافات الموجودة بينهم ، أو لعدم تنظيم قواهم ، أو لنقص في خبرتهم الحضارية ، فلم يعرفوا أنه من الممكن ان يجمعوا قطع الحديد الى بعضها ، ويفرغوا عليها قطرا حتى تصبح سدا منيعا ، وهذا ما يؤكد على ان السلطة القويمة هي السلطة التي تجمع قوى الناس و تعبؤها في سبيل مصلحتهم .

 

 

[قال هذا رحمة من ربي فإذا جاء وعد ربي جعله دكّاء وكان وعد ربي حقا ] أظهر ذو القرنين في تلك اللحظة التي أعجب الناس فيها بعبقريته واكبروه ايما اكبار أظهر عجزه امام الله لكي لا يفتن الناس به انما يعبدوا ربهم ، انه قال : ان هذا السد سد منيع وهو عمل حضاري عظيم ، ولكن سيتهاوى حينما يأتي وعد الله ، يوم القيامة أو يوم ظهور الحجة ، أو يوم انتهاء مفعول السد تتقدم البشر حضاريات كعصرنا اليوم ، أو يوم يضعف ايمان الناس الذين كانوا أمام السد ، لا نعلم انما المهم انه في اليوم الموعود سيتهاوى السد ، والأمور كلها بيد الله .

 

 

يحيى مثل الوريث الصالح

 

 

في اطار الحديث عن الانسان من بنيه ، تحدثت الآيات الأولى من سورة مريم عن زكريا (عليه السلام) ، ذلك الشيخ الطاعن في السن ، والذي ظلت في قلبه رغبة كامنة بثها لربه ، فوهب له الله يحيى (عليه السلام) .
وها هي الآيات القرآنية تبين لنا صفات يحيى ، ومن خلال صفاته يتبين لنا كيف ينبغي أن يكون الولد ، وكيف ينبغي أن يتطلع الوالد الى ولده فيما يرتبط به ، و فيما يرتبط بالمجتمع .

 

 

وهناك وجه آخر لهذه العلاقة وهي علاقة الأم بابنها حيث يبينها السياق من خلال قصة مريم ، تلك الوالدة الرسالية التي وهب الله لها غلاما زكيا ، و كانت مثلا ، وقدوة ، واسوة لكل الوالدات .

 

 

و من خلال العرض القرآني لصفات يحيى وقصة مريم ، تتبين لنا عدة أمور :

 

 

الأمر الأول : ان التربية المثالية التي يتوجب على الوالد أن يقوم بها تجاه ابنه ينبغي أن تسير في عدة خطوط :

 

 

1) أن يتطلع الوالد الى أن يكون ابنه امتدادا له ، ومجسدا للميزات التي تتصف بها عائلته ، فالانسان وريث حضارة قد تعب من أجلها الآخرون ، وقد تراكمت التجارب البشرية حتى تحولت الى حضارة ورثها الفرد ، كما ان تجاربه هو ، ومكاسبه ، وخبراته قد تجمعت هي الأخرى ، وتراكمت عنده وتحولت الى قواعد سلوكية ، وقيم انسانية ، وعمرانية ، كل ذلك يتجمع عند الانسان ، وعليه أن يسلمها الى الجيل الثاني ، وهذه هي مسؤولية الانسان كما هي رغبته الفطرية ، وان رغبة الانسان الفطرية تتلخص في كلمة وهي : أنه يريد أن يرىاذا أغمض عينيه ، ورحل عن الحياة ، من يتابع مسيرته ، ويجسد قيمه ، ويحتفظ بخبراته ومكاسبه .

 

 

2) ينبغي أن يكون الوالد عالماً بأن الجيل القادم سوف لا يكون بالضبط مثل جيله ، بل سيكون جيلا له خبراته ، وعليه مسؤولياته ، وله ظروفه الخاصة ، وبالتالي ينبغي أن تتوجه تربيته لابنه باتجاه بناء الجيل القادم ، حسب ظروف ومتغيرات ومسؤوليات ذلك الجيل ، ليعيش أبناؤه لمبادئهم المتطورة كما يعيشون ماضيهم التليد ، ولكي لا يكون لهم بعد واحد هو تكرار الماضي ، و اجترار مافيه ، بل يكون لديهم بعد آخر هو بناء الحاضر و التطلع للمستقبل .

 

 

3) أن يربي الانسان ابناءه على الارتباط بالماضي ، و عدم الانفصال عنه ، و أحد نتائج ذلك هو : أن الأب عندما تقعد به السنون عن العمل ، و يصبح جليس البيت ، فان ابنه لا يتركه وحده ، بل يحن اليه ، و يكون بارا به . و هكذا فان الصفات التي تتكون عند الأبناء هي : أن يكونوا امتدادا للحضارة التليدة و حماة لها ، بل يكونوا بناة لحضارة جديدة ، و هذه الصفات الثلاثة تجسدت في يحيى (عليه السلام) .

 

 

الأمر الثاني : ان القرآن الحكيم يضرب لنا أمثلة مثيرة ، تتجسد فيها نوعية خاصة من طبيعة ذلك الموضوع الذي يريد أن يبينه، فاذا أراد أن يضرب مثلا لعلاقة الأب بابنه فانه لا يأتي بأي أب وأي ابن ، أو يضرب لنا من واقعهما مثلا ، كلا .. فذلك لا يثير الانسان ، بل يبيّن قصة تأريخية ، ذات نوعية فريدة و يضربها مثلا ، لا لكي تبقى في الذاكرة فقط ، وانما ايضا لأن ذلك المثل يبقى مثالا بارزا كالشمس لا يحتاج الانسان للبحث عنها ، وفي هذا المورد يذكر لنا القرآن قصة يوسف ووالده يعقوب ، و اذا أراد أن يضرب لنا مثلا عن تطلعات الأب تجاه ابنه ، و صفات الابن تجاه هذه التطلعات فانه يضرب مثلا من قصة زكريا مع ابنه يحيى ، واذا أراد أن يضرب لنا مثلا عن علاقة الأم بابنها فانه لا يبحث عن أي أم في العالم ، وانما يضرب المثل من قصة مريم الصديقة التي كانت متحررة من الدنيا ، ولكن الله سبحانه لم يشأ لها أن تبقى هكذا متحررة فأراد أن يبتليها بالإبن و هذه هي سنة الحياة . لقد شاء أن يقول لها : عليك أن تتحملي مسؤوليتك كأم ، الى جنب مسؤولياتك كمربية ، و هادية للناس ، أو متعبدة و زاهدة في المسجد ، وهكذا بيّن القرآن الحكيم الحالات النفسية ، والحالات المادية الصعبة التي يجب ان تجتازها الأم وتبقى صامدة ، وهل هناك حالة أصعب من فتاة عمرها عشر سنوات ، لم تتزوج ، ولم تر بشرأ ، حملت فهجرت بيتها ، وتركت أهلها الى الصحراء ، فجاءها المخاض الى جذع النخلة ، وهي لا تعرف ماذا تصنع ؟! .

 

 

الأمر الثالث : الجمع بين رسالية الانسان و طبيعته ، فلكي تكون رساليا ليس من الضروري أن تترك طبيعتك ، ومسؤوليتك الاجتماعية في الحياة ، بل يمكن أن تكون رساليا ، وفي نفس الوقت أبا أو ابنا أو أما ، وتحتفظ بكل المسؤوليات الاجتماعية التي يقوم بها أي فرد عادي .

 

 

الصفات النفسية التي كانت عند يحيى :

 

 

الصفة الأولى : هي أنه كان يحنّ على الناس ، إننا نجد أن أكثر الناس يعيشون لأنفسهم ، وقليل أولئك الذين يعيشون للناس جميعا ، بعيدين عن السجن المحيط بذواتهم ، وهذه هي الصفة الاجتماعية المثلى التي يجب أن يتحلى بها الابن ، وعلى الوالد أن يربي ابنه على الروح الجماعية ، فلا يقل له : لا تخرج مع أولاد الجيران لأنهم يضربونك ، أو لا تدعهم يرون هذا المتاع عندك لئلا يطلبونه منك ، فهذا مثل للتربية الخاطئة ، بل على العكس من ذلك اذا أعطيت لابنك درهما قل له : اذا اشتريت شيئا تقاسمه مع زملائك ، فيجب أن تربي ابنك منذ نعومة أظفاره على أن يحن على الناس ، ويرى نفسه مسؤولة عن الآخرين .

 

 

وينبغي أن يكون هذا الحنان في اطار توحيد الله سبحانه ، فقد يكون للحنان جانب سلبي ، وهو أن يحن الانسان على الآخرين فيخضع لهم ، ويخرج عن حدود الله ، وهذا خطأ ، انما يجب عليه أن يحن عليهم ، ويخضع لله ، وهكذا كان يحيى ، ولعل الآية تشير الى ذلك .

 

 

الصفة الثانية : التقوى . والأحاديث كثيرة عن تقوى يحيى (عليه السلام) و كيف كان يخاف الله و يخشاه ، يقال : بأن زكريا كان يمنع ابنه يحيى من أن يحضر مجالسه لأنه لم يكن يحتمل مواعظ والده ، ولكن يحيى جاء و اختبأ تحت المنبر ، فصعد زكريا وأخذ يخوّف الناس نار جهنم ، و اذا به يجد يحيى يخرج من تحت المنبر باكيا ، و يهيم على وجهه في الصحراء ، فأخذ الناس يبحثون عنه في كل مكان ، فلم يجدوه الا بعد فترة جالساً على ماء ، يبكى بكاء مرا ، و يناجي ربه ، و يدعوه أن ينجيه من نار جهنم ، و قد ورد في حديث شريف ، عن أبي بعير قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) عن قوله في كتابه [حنانا من لدنا] قال : "انه كان يحيى اذا قال في دعائه يا رب يا الله ! ناداه الله من السماء لبيك يا يحيى سل حاجتك " .

 

 

الصفة الثالثة : [ وبرا بوالديه ولم يكن جبارا عصيا ] ، انه كان يحسن معاملة والديه ، و يعتني بهما .

 

 

ويبدو ان هذه الصفات الثلاث التي وردت في الآية وهي : الحنان ، والتقوى ، والبر ، تنبع جميعا من صفة واحدة و هي : العلاقة الايجابية مع أبيه وأمه ومجتمعه ، ان الولد المشاكس يسميه القرآن جبارا ، والجبار هو الذي يعيش لنفسه فقط ، وحسب أهوائه ، ويتصرف حسب بغضه وحبه ، ويرى نفسه أعلى من الآخرين ، ولكن يحيى لم يكن جبارا ، ولم يكن عصيا ، أي لم يكن يهدف العصيان و التمرد على والديه أو على الناس [ وسلام عليه يوم ولد و يوم يموت و يوم يبعث حيا ] .

 

 

ان من الأمور التي كان قد طلبها زكريا هي أنه قال : [و اجعله رب رضيا] ، و في هذه الآية نرى استجابة الله تعالى لهذا الطلب، فقد عاش يحيى سالما ، ومعه السلام ، فالمجتمع أحبه ، والله أحبه ، وفي المستقبل -بعد موته- سوف يحبه الناس .

 

 

ان يحيى قد استشهد في سبيل الله ، ولكن الشهادة في نظر الاسلام تعتبر سلاما بالنسبة الى المؤمن ، فالانسان اذا كان يجب أن يموت ولابد ! فلتكن ميتته الشهادة ، ليحصل على السلام الذي يعني النجاة و الخير .

 

 

وفي الختام نؤكد على بعض الرؤى التي يمكن استخلاصها من خلال استعراضنا القيم والمفاهيم القرآنية التالية :

 

 

- أولا : الحقيقة الأصلية أن التوحيد هي راية المؤمنين و المسلمين .

 

 

- ثانيا : التأكيد على الهوية المسلمة من خلال الممارسة العقائدية والالتزام بالمبادئ .

 

 

- ثالثا : أن الثقافة القرآنية حق للجميع من الحقوق الاجتماعية ، وتتم الاستفادة منها بحسب استعدادات الإنسان وقوته ، فلابد من التأكيد على بناء الإنسان القوي في قدراته و طاقاته ، وتطوير العلاقة بين الأمة وأجيالها و قادتها لما فيه ازدهارها .

 

 

- رابعا : إن الإسلام يأمرنا بتطبيق كل جزئية من جزئيات الدين ومنها بأن نوجد المجتمع الإسلامي كما فعل قدوتنا رسول الأمة سيدنا محمد (ًصلّى الله عليه وآله وسلّم) الذي نفذ الشريعة على أرض الواقع أي لم يكن هناك مجتمعا إسلاميا على المدينة المنورة أو في مكة المكرمة قبل أن يحكم الإسلام ، فإذا أردنا حقا أن نتبع الرسول (ًصلّى الله عليه وآله وسلّم) حقا علينا أن نؤسس مجتمعا و ننفذ فيه الشريعة الغراء .

 

 

- خامسا : الشريعة الإسلامية في حركة دائبة تتميز بالعصرية والجد والأصالة فتتقدم على المصالح أو تتطور نحو الأفضل ، ونحن بالطبع نؤمن لهذه الشريعة التي في حالة تطور وبالتالي فان الإسلام في حالة تطور ولا ينبغي إلغاء الأصالة لان الله واحد أحد و سيبقى كذلك إلى الأبد .

 

 

وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين .

 

 

--------------------

 

 

(*) ناشطة إسلامية من الكويت


source : إيمان العلي
0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

الشكر وأقسامه وفضيلته
مقارنة بين الحضور الالهي والنبوي في القرآن ...
حياة العبّاس بن علي عليه السلام
الشخصية القرآنية
قدمت وعفوك عن مقدمي
في فضائلها ومناقبها وعظم شأنها عليها السلام يوم ...
حياة الإمام أمير المؤمنين علية السلام
ولادة السيدة زينب عليها السلام
وصايا الإمام الحسن العسكري ( عليه السلام )
إنّ الحسين (عليه السلام) مصباح الهدى وسفينة ...

 
user comment