السيد محمد الخباز
توطئة منهجية :
ليس الغرض من هذه الدراسة استنباط حكم شرعي ولا معرفة رأي الإسلام أو رأي الإمام علي أو إثبات (الصحيح) وتفنيد (الخطأ). الغرض الأساس هو معالجة نص نهج البلاغة الذي هو من أرقى النصوص الأدبية النثرية في التراث العربي،واستنطاقه من خلال أدوات النقد الأدبي. بمعاملته كأي نص أدبي بشري آخر دون أن نضع على رأسه ريشة أو نطبطب عليه لأنه (منسوب) إلى ابن أبي طالب. وإن كانت هذه المعاملة الأدبية هي خروج عن المألوف يرفضه البعض، إذ تعوَّد على النظر لنص نهج البلاغة على أنه مخزنٌ للحكم والمواعظ والأحكام الشرعية فقط، وتعوَّدَ أيضاً على أن يعالجه بطرق معينة، ولذلك سيعتبر خروجنا على تلك (العادات المقدسة) تجديفاً وإثماً عظيما. أما ما يترتب على نتيجة المعالجة من أحكام فهو خارج نطاق البحث، ولكننا مع ذلك سنتعرض لبعض المشكلات الدينية التي تترتب على نتيجة الدراسة.
أما ما يتعلق بالمنهج، فقد اعتاد العقل الكلاسيكي الديني الشيعي التعامل مع نص نهج البلاغة من خلال ما نسميه في النقد (سلطة المؤلف)، إما بربط النص بقائله أو ربطه بظروفه الاجتماعية والتاريخية التي قيل فيها لمعرفة المعنى الذي يقصده المؤلف وهو منهج أدبي مشروع. ولكننا قد اخترنا هنا منهجاً آخراً ينتمي إلى ما يسمى بـ(سلطة النص) وليس (سلطة المؤلف)، والذي يقوم بمعالجة النص بمعزلٍ عن المؤلف وعن المجتمع والتاريخ، أي وضع النص في المختبر لوحده وتطبيق الأدوات النقدية عليه.
مع ملاحظة أننا ننـزع في هذه الدراسة نزعةً شكلانية، والنزعة الشكلانية ظهرت ضمن التجديدات في النقد الغربي « فقد شهدت السنوات المبكرة من القرن العشرين تحولاً جذرياً في المعايير النقدية يتمثل في التحول من (ماذا) يقول النص؟ إلى (كيف) يقول النص ما يقول؟ » [١] كما يقول الدكتور عبد العزيز حمودة.
هذه النزعة التي سيطرت على النظرية البنيوية في بداياتها قبل أن يظهر ما يسمى بالبنيوية التكوينية أو التوليدية الذي يربط النص النص بالمجتمع ربطاً تماثلياً لا ربطاً سببياً كالمنهج الاجتماعي،والذي هو فرع من فروع البنيوية إضافة للشكلانية البنيوية « نشأ استجابةً لسعي بعض المفكرين والنقاد الماركسيين للتوفيق بين طروحات البنيوية في صيغتها الشكلانية وأسس الفكر الماركسي أو الجدلي» [٢] وكان من أقطاب هذا الفرع الجديد رولان بارت وياكبسون وسوسير وشتراوس.
ولعل ما أدى إلى انتشار البنيوية التكوينية في العالم العربي « على نحو لم يتح للفرع الآخر من البنيوية وهو البنيوية الشكلانية» [٣] هو أن الاتجاه الشكلاني لا يتوافق مع التوجه الماركسي المنتشر في العالم العربي، فالبنيوية الشكلانية « تتعامل مع النص على أنه مادة معزولة ذات وحدة عضوية مستقلة، وأنه منفصل ومعزول عن سياقه وعن الذات القارئة » [٤] كما يذكر البازعي والرويلي في دليلهما.
وخلاصة الكلام السابق، أن إجراءات هذه الدراسة الشكلانية تقوم على مبدأين :
١- التركيز على كيفية القول للوصول إلى الدلالة.
٢- قتل المؤلف وما يتعلق به من ظروف اجتماعية وتاريخية ومعالجة النص بمعزلٍ عنه وعن حياته وعن أقواله خارج النص.
وهذان المبدآن هما خلاصة الشكلانية، فالشكلانية « تركز على الوحدة المتجانسة للصنعة الفنية وكذلك على أهمية الأسلوب وتستبعد علاقات العمل الفني بالحياة،... كما ترفض الشكلانية الفصل بين الشكل والمحتوى وتقول بالوحدة العضوية بينهما» [٥] ، أي أنها تسعى إلى «عزل النص عن أية مؤثرات تاريخية أو اجتماعية أو شخصية تتصل بمؤلفه، واعتبار النص شبيهاً بالكائن العضوي المكتفي بذاته أو بنية مستقلة بنفسها لا عن كاتبها أو محيطه فحسب وإنما عن غيرها من الأعمال أو عن أشكال الكتابة الأخرى» [٦] كما يذكر البازعي والرويلي في دليلهما.
وأحب أن أكرر إلى أننا لا ندعي هنا أن المنهج المتبع هنا هو المنهج (الصحيح) وباقي المناهج هي (خطأ)، أو أن نتيجة الدراسة هي الحقيقة المطلقة بل هي حقيقة منهجية لا أقل ولا أكثر، فجميع المناهج مشروعة وإن وصلت إلى نتائج مختلفة في معالجتها لموضوع واحد، فهي تتكامل مع بعضها وتضيف للمعرفة الإنسانية، وما تُوصل إليه جميعها هي حقائق منهجية لا حقائق مطلقة، فالحكم الشرعي مثلاً لقضية واحدة قد يختلف بين مذهب ومذهب بل بين أعلام المذهب الواحد فتجد كل فقيه يصدر حكماً مختلفاً لنفس القضية مع أنهم يعالجون نفس النصوص، هذا لا يعني أن واحداً منهم هو (الصحيح) والباقي (خطأ)، فاختلافهم في الحكم راجعٌ لاختلافهم في المنهج، وكل أحكامهم مشروعة لأنها حقائق منهجية لا حقائق مطلقة، أو إذا استخدمنا التعبير الديني فأحكامهم لا تعبر عن الحكم الواقعي لله بل هي نتيجة لاجتهاداتهم المختلفة المباني والتي قد تصيب الحكم الواقعي وقد لا تصيبه.
تبقى لدينا إشكالية واحدة وهي: ما الذي يُحلُّ لنا تطبيق أدوات النقد الأدبي على النص الديني؟ ونحن نرجُّ هذه الإشكالية بالتالي :
١- لا يستطيع أحدٌ أن يقول أن نص نهج البلاغة ليس نصاً أدبياً، فالشريف الرضي مع أنه عالم دين إلا أنه أسماه نهج (البلاغة)، (البلاغة) وليس شيئاً آخر، أي أنه قدَّم السمة الأدبية لهذا النص على سماته الأخرى، فإذا كان نهج البلاغة نصاً أدبياً فكيف لا يمكن تطبيق أدوات النقد الأدبي عليه؟.
٢- لم يقل أحدٌ من النقاد لا القدماء ولا المحدثين - على حد علمنا طبعاً - بهذا الفصل بين النص الأدبي والديني، بل على العكس من ذلك، فبالرجوع إلى الاستشهادات السابقة التي أوردناها نجد أنها تتكلم عن النص بما هو كائن لغوي لا عن النص الأدبي بشكل خاص، والنصوص الدينية نصوص لغوية تنطبق عليها قوانين اللغة التي تنطبق على النصوص الأخرى، سواءً كانت هذه القوانين نحوية أو أدبية أو دلالية، وبالرجوع إلى كتب القدماء من النقاد نجد أنهم يطبقون جميع القوانين البلاغية والنحوية واللغوية على القرآن كما يطبقونها على الشعر سواء بسواء، والجرجاني على سبيل المثال في كتابه دلائل الإعجاز حينما أصَّل لعلم المعاني - وهو علم شكلاني هدفه استنطاق دلالة النص من خلال الصيغة النحوية الشكلية - قد طبق قوانينه على القرآن كما طبقها على الشعر، وبالرجوع إلى الدراسات الحديثة فسنجد كما قلنا أنها لا تفرق بين نص ديني وأدبي بل هي تعمل على النص بما هو كائن لغوي، خذ مثلاً رولان بارت في كتابه التحليل النصي (ترجمة عبد الكبير الشرقاوي -٢٠٠١م - الدار البيضاء - منشورات الزمن) الذي يطبق قوانينه البنيوية ذاتها على نصوص من التوراة والإنجيل والقصة القصيرة، فالنص المقدس في التحليل سواء مع قصة لإدغار ألن بو.
٣- أن مناهج المفسرين في التعامل مع القرآن هي ذاتها مناهج النقد الأدبي، فربط الآية مثلاً بسبب النزول لمعرفة دلالتها، هو ربطٌ للنص بظروفه الاجتماعية والتاريخية، وهذا بالضبط ما يقوم به المنهج الأدبي الاجتماعي والتاريخي، فهل المفسرون مخطئون حينما تعاملوا مع النص الديني بمنهجٍ نقدي أدبي؟.
٤- أننا حينما قلنا أننا سنستخدم المنهج الشكلاني، فهذا يلزم منا استبعاد الصفة الدينية للنص، لأنها صفة تتعلق بالمؤلف (علي بن أبي طالب)، والمؤلف ميت في المنهج الشكلاني.
إضافة إلى أن إسباغ الصفة الدينية على نص نهج البلاغة هو فعلٌ خاضعٌ للأيدلوجية الشيعية التي ترى في شخص المؤلف أنه معصوم وأنه حينما ينطق فإنه ينطق عن الله، ولكن كل هذا لا يؤمن به غير الشيعي، فبطبيعة الحال لو كنا غير شيعة فإن هذه الإشكالية لن ترد بتاتاً،فنهج البلاغة ليس نصاً دينياً إلا عند الشيعة.
مما سبق نستخلص نقاط مهمة يجب على القارئ وضعها في ذهنه وهو يقرأ هذه الدراسة لكي لا يحصل سوء الفهم الذي حتماً سيحصل!:
١- بما أن منهج الدراسة قائم على (سلطة النص) فإنها لا تمثل رأي من يُنسب له النص بالضرورة، وهذا أمر بديهي لدى كل ناقد مطلع، أي أن نتائجها لا تمثل رأي الإمام علي ولا رأي الله ولا رأي الدين ولا رأيي طبعاً!.
٢- أن نتائجها لا تمثل الحقيقة المطلقة، فبإمكاننا باستخدام منهج آخر أن نصل لنتائج مختلفة، وكل المناهج العلمية محترمة ونتائجها كذلك.
٣- أن ما يقوله النص عن المرأة لا يمثل بالضرورة حقيقة المرأة في الواقع سواءً في الماضي أو الحاضر، ولا يمثل تصورنا نحن للمرأة في الواقع.
٤- أن الدراسة وإن كانت ذات نزعة شكلانية، فهي تدخل ضمن (النقد النسوي) الذي من أهدافه تعرية السلطة الذكورية، والكشف عن أنساقها المضمرة داخل النصوص الأدبية بشكل خاص والنصوص اللغوية بشكلٍ عام.
مقدمة عامة :
يقول المتنبي :
أَبَداً تَستَرِدُّ ما تَهَبُ الدُنـيا ***** فيا لَيتَ جودَها كانَ بُخلا
فَكَفَت كَونَ فَرحَةٍ تورِثُ الغَممَ ***** وَخِلٍّ يُغادِرُ الوَجدَ خِلّا
وَهيَ مَعشوقَةٌ عَلى الغَدرِ لا تَحـفَظُ ***** عَهداً وَلا تُتَمِّمُ وَصلاً
كُلِّ دَمعٍ يَسيلُ مِنها عَلَيها ***** وَبِفَكِّ اليَدَينِ عَنها تُخَلّى
شِيَمُ الغانِياتِ فيها فَلا أَدري ***** لِذا أَنَّثَ اِسمَها الناسُ أَم لا
يلتقطُ المتنبي بحاسته الشعرية النافذة -كعادته- ملامح العلاقة الخفية الملتبسة بين المرأة والدنيا، هذه العلاقة التي هي بين واقع حسي ملموس وهو المرأة ومفهوم ذهني مجرد وهو الدنيا، أو فلنقل بعبارة أدق بين مفهومين واحدٌ له ظلاله الحسية الواقعية والآخر له ظلاله الذهنية المجردة، حيث المرأة في النص ليست سوى مفهومٍ هو في النهاية رؤية شخصية أو جمعية للمرأة لا تمثل المرأة كحقيقة ولن تمثلها لأن النص كرؤية يلوِّنُ المرئيَّ بألوان الرائي ويُلبسُهُ لُبوس ثقافته ومزاجه وخصوصيته، فيصبح الواقع كواقع مختلف حتماً عن الواقع كنص، وهذا أحد مآزق اللغة وفتنتها في نفس الوقت.
والمتنبي في أبياته السابقة يُلبسُ الدنيا لباس المرأة فهي تهب وتسترد وتُعشق وتغدر، فالدنيا امرأة ولا فرق بينهما، وهذا ما يسمى في البلاغة بالتشخيص الذي يُعرَّف بأنه إعطاء الأفكار المجردة صفات البشر.
غير أن هذا التشخيص لم يكن بريئاً، فهو يعبر عن النظرة السلبية للمرأة حيث المرأة هي مصدر الشرور والغمِّ، ولهذا اصطبغت العلاقة بين المرأة والدنيا بالصبغة السلبية، والحقيقة أن هذه الظاهرة لم يتفرد بها المتنبي بل هي ظاهرة موجودة في التراث العربي ومنتشرة فيه، والناظر في الشعر العربي القديم يلمس هذه الظاهرة بوضوح في وصفهم للدنيا، فالشعر ليس ديواناً للعرب يحفظ أنسابهم وتواريخهم فقط بل هو حافظٌ لثقافتهم وأنماط تفكيرهم وأنساقهم الثقافية، ولذلك ستجد هذه النظرة السلبية للمرأة موجودة أحياناً بشكل مباشر وأحياناً بشكل خفي، وخصوصاً عند الشعراء أصحاب النزعة الزهدية، حيث تصبح المرأة لديهم ليس مصدراً للشرور والمصائب فقط بل مصدراً للخطيئة وسبباً للوقوع في حبائل الشيطان، ولذلك فوصفهم للدنيا يستحضر بشكل سافرٍ وتلقائي المرأةَ الفاتنة المغوية الجالبة للشر والمبعدة عن الله، وأبرز مثالٍ لذلك هو (الهرطوقي) الجميل أبو العلاء المعري في لزومياته التي بعضها كما يقول:«تذكيرٌ للناسين وتنبيه للرقدة الغافلين، وتحذير من والدتنا الكبرى التي غدرت بالأول واستجيبت فيها دعوة جرول (الحطيئة)، إذ قال لأمه:
جزاك الله شراً من عجوزٍ ***** ولقَّاكِ العقوق من البنينا [٧]
فالمعري يرى الدنيا امرأة جالبة للشرور :
لَحاكِ اللَهُ يا دُنيا خَلوباً ***** فأنتِ الغادَةُ البِكرُ العَجوزُ
وَجَدناكِ الطَريقَ إِلى المَنايا ***** وَقَد طالَ المَدى فَمَتى نَجوزُ
سَئِمنا مِن أَذاكِ فَنَجَّزينا ***** فَإِنَّ مروءَةَ الوَعدِ النُجوز
وهيَ صاحبة دلال وغنجٍ مُبعدةٌ عن الله :
أيُّها الدُنيا لَحاكِ ***** اللَهُ مِن رَبَّةِ دَلِّ
أَمسِ أَودَيتِ بِبَعضي ***** وَغَداً يَذهَبُ كُلّي
لَكِ أَوقاتي فَخَلّيني ***** إِذا قُمتُ أُصَلّي
وَدَعيني ساعَةً في ***** كِ لِمَولايَ الأَجَلِّ
وهو كما يحذر من الدنيا فهو يحذر من المرأة :
قَد أَصبَحَت وَنُعاتُها نُعّاتُها ***** وَكَذَلِكَ الدُنيا تَخيبُ سعاتُها
ذَرها وَتِلكَ نَصيحَةٌ مَعروفَةٌ ***** عَظُمَت مَنافِعُها وَقَلَّ وُعاتُها
لا تَتبَعَنَّ الغانِياتِ مُماشِياً ***** إِنَّ الغَوانِيَ جَمَّةٌ تَبِعاتُها
فالنساء مصدر فتنة وشر وغيٍّ وخطيئة كالدنيا :
وَلا تُرجِع بِإيماءِ سَلاماً ***** على بيضٍ أَشَرنَ مسَلِّماتِ
أُلاتُ الظَلمِ جِئنَ بِشَرِّ ظُلمٍ ***** وَقَد واجَهنَنا متَظَلِّماتِ
فَوارِسُ فِتنَةٍ أَعلامُ غَيٍّ ***** لَقينَكَ بِالأَساوِرِ مُعلِماتِ
وهن يخفين السم :
وَإِنَّما الخَود في مَسارِبِها ***** كَرَبَّةِ السُمِّ في تَسَرُّبِها
كما أن الدنيا كائن سام :
كَأَنَّما دُنياكَ وَحشِيَّةٌ ***** نَظَرَت في آثارِ أَظلافِها
تَطلُبُ أَريَّ النَحلِ مِن خِلفِها ***** وَذائِبُ السَمِّ بِأَخلافِها
ولأبي العلاء مع المرأة حكاية طويلة لا نريد الدخول في تفاصيلها، إنما غرضنا الاستشهاد -بشكل مختصر- على الاندماج الحاصل بين الدنيا والمرأة في بعدها السلبي، فالدنيا امرأة والمرأة دنيا، وكلتاهما لا يجني منهما حضرة الرجل سوى الشر والخطيئة، وتسجيل هذه الملاحظات التي سنحتاج إليها لاحقاً والتي وردت في الأبيات السابقة للمعري :
١- أن هناك علاقة تشابه بين الدنيا والمرأة.
٢- تشابه الصفات التي تعطى للمرأة على حدة وللدنيا على حدة، وهذه الصفات هي: (أنهما مصدر للشر، أنهما كائنان سامان، أنهما مبعدتان عن الله، أنهما شيءٌ يجب الحذر منه)
وربما لا يخفى على البعض أن الأفكار السلبية عن المرأة ليست وليدة فكر أبي العلاء أو وليدة التراث الأدبي العربي، بل هي أفكارٌ ممتدةٌ في أعماق التاريخ الإنساني سواء في ظل الأديان السماوية أو غير السماوية والتقشفية بالخصوص،و التي كانت ترى المرأة أداة من أدوات الشيطان المبعدة عن الآلهة، كما سنستعرض بعض الأمثلة لاحقاً بشكل مختصر، ولكن قبل ذلك نحب أن نشير إلى وجود تيار فكري مخالف في أعماق التاريخ البشري أيضاً، كان يعبد الأنثى بصفتها آلهة، ففي مصر القديمة تجد «إيزيس» و«ماعت»، وفي اليونان تجد «أفروديت» وعند الرومان «أرطميس» وفي بابل «عشتاروث» الخ... وكان هناك من يقدس المرأة ويمارس الطقوس الجنسية على أنها طقوس دينية تُوحِّده مع السر المقدس والآلهة وتحقق له الخلاص، ولكننا لن نتعرض بالتفصيل لهذا التيار الذي يتكلم عن المرأة بشكل إيجابي لأن ذلك خارج موضوعنا لا لأننا نرفضه.
رُوي عن (بوذا) - وهو صاحب ديانة مشهورة غير سماوية تدعو للزهد والرهبنة - أنه أجاب حينما سأله تلميذه (أناندا):
• كيف ينبغي لنا أن نتصرف حيال النساء؟
• لا تنظر إليهن، أجاب بوذا.
• ولكن ماذا نفعل إذا كان لا بد من رؤيتهن؟
• لا تتحدث إليهن.
• افترض أنهن تحدثن إلينا، ماذا نفعل عندئذ؟
• فقال بوذا محذراً: حذاريك منهن يا أناندا. [٨]
كما روي عنه هذا النشيد البوذي:« من الذي خلق تلك المتاهة من الشك، ذلك المعبد من الخيلاء، ذلك الدن من الخطايا، ذلك الحقل المزروع بألف خدعة، ذلك الباب المؤدي إلى جهنم، تلك السلسلة الطافحة بالأكاذيب، ذلك السم الذي يشبه العسل، تلك السلسلة التي تربط الأنام بالأرض: المرأة! » [٩] .
وقد رفض الرهبان البوذيون العلاقات الجنسية بوصفها (عملاً بويهيمياً) ونظروا إلى المرأة نظرة خوفٍ وازدراء، وسميت الحياة الرهبانية (براهما-تشاريا) وتعني حرفياً سلوك البرهمي أو الرجل المقدس، لكنها عُدَّت مرادفة للعفة أو الامتناع عن أي اتصالٍ جنسي [١٠] ، لأن الانغماس في الشهوات الجنسية مدمرٌ للطاقة الروحية -كما ترى البوذية-، بل إن الراهب - في التيارات الأرثوذكسية المتطرفة منها - لا يجوز له لمس أمه، حتى ولو وقع في حفرة فعليه أن يمد إليها عصاه لا يده [١١] ، وإن كانت هناك تيارات متسامحة في البوذية لا تمنع الزواج ولكن يبدو أنها الأقل.
أما في الديانة (اليانِيَّة) - نسبة إلى (ياني) - وهي ديانة تقشفية أكثر من الوسطية البوذية، فكانت ترى أن نبذ النساء هو الطريق لإنجاز الواجب الرهباني، وأن على الراهب الحكيم أن يدرك أن المرأة ليست سوى لوثة وأنها أشبه شيء بـ(الزعرور السام) [١٢] ، وأن النساء (شياطين أنثوية) يُغوين الرجال ويجعلن منهم ألعوبة كما لو أنهم عبيد [١٣] .
أما في الديانات السماوية فكلنا يعرف قصة حواء والحية حين كانتا سبباً في إغواء آدم الرجل وطرده من الجنة وإنزال غضب الله عليه، ورد في الإصحاح الثالث من سفر التكوين :
وَكَانَتِ الْحَيَّةُ أَحْيَلَ جَمِيعِ حَيَوَانَاتِ الْبَرِّيَّةِ الَّتِي عَمِلَهَا الرَّبُّ الإِلهُ، فَقَالَتْ لِلْمَرْأَةِ: «أَحَقًّا قَالَ اللهُ لاَ تَأْكُلاَ مِنْ كُلِّ شَجَرِ الْجَنَّةِ؟» فَقَالَتِ الْمَرْأَةُ لِلْحَيَّةِ: «مِنْ ثَمَرِ شَجَرِ الْجَنَّةِ نَأْكُلُ، وَأَمَّا ثَمَرُ الشَّجَرَةِ الَّتِي فِي وَسَطِ الْجَنَّةِ فَقَالَ اللهُ: لاَ تَأْكُلاَ مِنْهُ وَلاَ تَمَسَّاهُ لِئَلاَّ تَمُوتَا». فَقَالَتِ الْحَيَّةُ لِلْمَرْأَةِ: «لَنْ تَمُوتَا! بَلِ اللهُ عَالِمٌ أَنَّهُ يَوْمَ تَأْكُلاَنِ مِنْهُ تَنْفَتِحُ أَعْيُنُكُمَا وَتَكُونَانِ كَاللهِ عَارِفَيْنِ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ». فَرَأَتِ الْمَرْأَةُ أَنَّ الشَّجَرَةَ جَيِّدَةٌ لِلأَكْلِ، وَأَنَّهَا بَهِجَةٌ لِلْعُيُونِ، وَأَنَّ الشَّجَرَةَ شَهِيَّةٌ لِلنَّظَرِ. فَأَخَذَتْ مِنْ ثَمَرِهَا وَأَكَلَتْ، وَأَعْطَتْ رَجُلَهَا أَيْضًا مَعَهَا فَأَكَلَ. فَانْفَتَحَتْ أَعْيُنُهُمَا وَعَلِمَا أَنَّهُمَا عُرْيَانَانِ. فَخَاطَا أَوْرَاقَ تِينٍ وَصَنَعَا لأَنْفُسِهِمَا مَآزِرَ.
وما تحريم الزواج على الرهبان إلا تطور للفكرة التي تقول بأن المرأة مبعدةٌ عن الله، وأن الابتعاد عنها سبب في الوصول للخلاص، حيث أصبح الجنس ضد المقدس وأول من قال ذلك هو بولس الذي يرى العذرية أفضل من الزواج [١٤] .
ومن قوانين الكنيسة الأرثوذكسية أن على (المطران) الامتناع عن الزواج فذلك سبب في ترقيته من مراتب الرهبان [١٥] . كما أعلنوا أن المرأة باب الشيطان وأن العلاقة معها رجسٌ في ذاتها [١٦].
العلاقة بين المرأة والدنيا في نهج البلاغة :
نهج البلاغة كنص كما هو معروف ينتمي للتيار الديني الزهدي الذي يذكِّر بالله ويحذر من الدنيا ويخوف من الموت، وإذا دققنا النظر إلى المقاطع التي يتكلم فيها عن الدنيا نجد فيه نفس الظاهرة التي تكلمنا عنها سابقاً وهي ظاهرة ربط الدنيا بالمرأة استعارياً في سياق التحذير من الدنيا والترغيب في الآخرة، كما هو في النص المشهور الوارد في النهج:« يَا دُنْيَا يَا دُنْيَا إِلَيْكِ عَنِّي أَبِي تَعَرَّضْتِ أَمْ إِلَيَّ تَشَوَّقْتِ لَا حَانَ حِينُكِ هَيْهَاتَ غُرِّي غَيْرِي لَا حَاجَةَ لِي فِيكِ قَدْ طَلَّقْتُكِ ثَلَاثاً لَا رَجْعَةَ فِيهَا»، فالنص يخاطب الدنيا هنا على أنها امرأة جاءت تغر الرجل بزينتها وجمالها ولكنه يرفضها، وهذا ما يذكرنا بقول أبي العلاء:
عَنسِيَ في الدُنِّيا سِوى الراهي ***** طَلَّقتُها تَطليقَ إِكراهِ
وباستخدام المنهج الشكلاني الذي شرحنا قواعده سابقاً قمنا بتحليل المقاطع التي تتكلم عن الدنيا لنرى هل مثَّلَ نهج البلاغة علامةً فارقة في مقاربته للمرأة عن الخطابات الزهدية التي صدرت قبله والتي أتت بعده وكانت المرأة فيها سلبية الحضور، فنتجت لدينا الملاحظات التالية :
أولاً : الملاحظة الإحصائية
حينما قمنا بعملية إحصائية للصور الفنية التي كانت الدنيا طرفاً فيها وجدنا أن الدنيا ترتبط بأشياء كثيرة كتشبيه الدنيا بالناقة أو بالدار أو غيره، ولكن لا يوجد شيء بمفرده ارتبط بالدنيا في الصور الفنية لنهج البلاغة بقدر ما ارتبطت بها المرأة، إذ أن إعارة الدنيا صفات المرأة كانت هي الصورة الأكثر حضوراً في النص، بل إنها تعادل بمفردها ما يقارب صور الأشياء الأخرى المرتبطة بالدنيا، كما تبين الإحصائية التقريبية التالية :
الطرف الثاني من الصورة المرأة الأشياء الأخرى المجموع
العدد ٣٩ ٤٥ ٨٤
النسبة المئوية ٤٦ % ٥٤ % ١٠٠ %
(النتيجة ١): أن لكثرة ربط الدنيا بالمرأة دلالة يقررها عبد القاهر الجرجاني بقوله:«إن قام الشيء مقام الشيء أو مقام صاحبه فمن عادة العرب أن تشبه به في حالات كثيرة» [١٧] أي أن المرأة تقوم مقام الدنيا والدنيا تقوم مقام المرأة.
(النتيجة ٢) : أن المرأة هي أكثر كائن أو مفهوم يتشابه مع الدنيا في نظر النص، وأن بينهما مشتركات كثيرة، ويمكن تمثيل هذه العلاقة بالشكل التالي :
(النتيجة ٣) : أن الدنيا في النص مفهوم سلبي الدلالة في سياق الكلام الزهدي، وبالتالي فالمنطقة المشتركة بين الدنيا والمرأة هي منطقة سلبية الدلالة بالضرورة، وبالتالي فالمرأة مفهوم سلبي الدلالة في نفس السياق.
ثانياً : الملاحظة البلاغية
أن نص نهج البلاغة حينما يربط الدنيا بالمرأة في صورة فنية فإنه لا يستخدم أداة التشبيه وإنما دائماً يستخدم أداة الاستعارة.
مثال ذلك قول النهج :« فَلْتَكُنِ الدُّنْيَا فِي أَعْيُنِكُمْ أَصْغَرَ مِنْ حُثَالَةِ الْقَرَظِ وَ قُرَاضَةِ الْجَلَمِ وَ اتَّعِظُوا بِمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ قَبْلَ أَنْ يَتَّعِظَ بِكُمْ مَنْ بَعْدَكُمْ وَ ارْفُضُوهَا ذَمِيمَةً فَإِنَّهَا قَدْ رَفَضَتْ مَنْ كَانَ أَشْغَفَ بِهَا مِنْكُمْ »، ويقول:« وَ الدُّنْيَا دَارٌ مُنِيَ لَهَا الْفَنَاءُ وَ لِأَهْلِهَا مِنْهَا الْجَلَاءُ»،ويقول: « فَإِنَّهَا عِنْدَ ذَوِي الْعُقُولِ كَفَيْءِ الظِّلِّ بَيْنَا تَرَاهُ سَابِغاً حَتَّى قَلَصَ وَ زَائِداً حَتَّى نَقَصَ». ونلاحظ أنه حين ربط الدنيا بالمرأة في المثال الأول استخدم الاستعارة فجعل من الدنيا امرأة تَشغفُ القلوب ولكنها في نفس الوقت غير مبالية بالعاشقين الكثر فترفض من شغف بها،ولكنه حين ربط الدنيا بأشياء أخرى استخدم التشبيه، فشبهها بالدار بعد حذف أداة التشبيه وشبهها بفيء الظل باستخدام أداة التشبيه وهي الكاف.
ولكي نفهم دلالة هذه النقطة علينا أن نعرف ما يقوله البلاغيون من أن التشبيه يفيد الغيرية بينما الاستعارة تفيد العينية، « بمعنى أن طرفي التشبيه وإن تعددت صفاتهما المشتركة لا تتداخل معالمهما، ولا يتحد أي منهما، أو يتفاعل مع الآخر بل يظل هذا غير ذاك ومتمايزاً عنه. والمظهر العملي لهذا التمايز هو أداة التشبيه.
فالأداة في مثل هذا التصور بمثابة الحاجز المنطقي الذي يفصل بين الطرفين المقارنين، ويحفظ لهما صفاتهما الذاتية المستقلة. وحتى لو حذفت الأداة على سبيل الاختصار والإيجاز كما يقول ابن سنان أو على سبيل الإيهام والمبالغة كما يقول عبد القاهر فإن المبدأ الأساسي يظل قائماً، ويظل طرفا التشبيه متمايزين تماماً، لا تتداخل حدودهما العملية والمنطقية » [١٨] ، وهذا أهم ما يميز التشبيه عن الاستعارة التي تفيد العينية، أي أن المستعار له هو عين المستعار منه، ذاك لأن الاستعارة « تتعدى على جوانب الواقع، وتلغي الحدود العملية بين الأشياء على نحو لا يستطيعه التشبيه» [١٩] كما يرى جابر عصفور، ولذلك يقول ابن سينا: « والتشبيه يجري مجرى الاستعارة، إلا أن الاستعارة تجعل الشيء غيره، والتشبيه يحكم عليه بأنه كغيره لا غيره نفسه» [٢٠] .
(النتيجة ٥) : تأكيد لـ (النتيجة١) من أن الدنيا هي عين المرأة وأن المرأة تقوم مقام الدنيا في النص، وللنتائج المترتبة عليها.
ثالثاً : الملاحظة النصية
لاحظنا عند أبي العلاء سابقاً أنه هناك بعض الصفات يطلقها على الدنيا حينما يتكلم عنها منفردة ويطلقها أيضاً على المرأة حينما يتكلم عنها منفردة، وإذا رجعنا لنص نهج البلاغة نجدُ نفس الظاهرة بل ونفس الصفات.
وبغض النظر الآن عن معنى النصوص التي تتكلم عن المرأة منفردةً، فالمنهج الشكلاني لا يهمه المعنى بل يهمه كيفية أداء المعنى كما أشرنا في البداية.
والجدول التالي يبين الصفات التي أطلقت على الدنيا لوحدها وأطلقت في مواضع أخرى على المرأة لوحدها .
-------------------------------------------------------------
[١] . عبد العزيز حمودة: الخروج من التيه، دراسة في سلطة النص، ص٢٣.
[٢] . ميجان الرويلي وسعد البازعي: دليل الناقد الأدبي،ص ٧٦.
[٣] . المصدر السابق، ص٧٩.
[٤] . المصدر السابق، ص٧٥.
[٥] . المصدر السابق، ص٣١٢.
[٦] . المصدر السابق، ص٣٧٦.
[٧] . مقدمة اللزوميات،ص١٥، تحقيق كمال اليازجي.
[٨] . جيفري بارندر: الجنس في أديان العالم، ص٦٣.
[٩] . نيكوس كازنتزاكي: زوربا،ص ١١٨.
[١٠] . جيفري بارندر: الجنس في أديان العالم، ص٦٣.
[١١] . المصدر السابق، ص٦٦.
[١٢] . المصدر السابق،ص٨٥.
[١٣] . المصدر السابق،ص٨٦.
[١٤] . المصدر السابق،ص٢٨٠.
[١٥] . المصدر السابق،ص٢٨١.
[١٦] . محمد الهبدان: ظلم المرأة، ص ٢١-٢٤.
[١٧] . دلائل الإعجاز،ص٨٨.
[١٨] . جابر عصفور:الصورة الفنية في التراث النقدي والبلاغي عند العرب، ص١٧٤.
[١٩] . المصدر السابق،ص١٧٦.
[٢٠] . ابن سينا: الخطابة، ص ٢١٢ .
يتبع ...