تمهيد:
نتناول في فصل المسئولية الإنسانية الأفعال التي تصدر عن الإنسان سواء كانت مباشرة أو غير مباشرة (متولدة)، وتحديد مسئولية الإنسان أمر هام لتحديد نطاق الفاعلية الإنسانية وعلاقتها بالأسباب والمسببات من جهة، ومن جهة أخرى لتحديد الجزاء المستحق على هذه الأفعال، فالأفعال الحرة هي الدليل على حرية الإنسان، وبقدر ما يمارس الإنسان الحرية في الفعل بقدر ما تقدر قيمة هذه الحرية، إلا أن الحرية ليست بدون مقابل، بل الحرية يترتب عليها مسئولية، وهذه المسئولية يترتب عليها الجزاء.
ـ أولاً: إثبات الفاعلية الإنسانية
يعرف الطوسي الفعل بأنه «ما وجد بعد أن كان مقدوراً، والفاعل من وجد مقدوره»، وتنقسم الأفعال بحسب صدورها عن فاعليها إلى أفعال مخترعات، وأفعال مباشرة، وأفعال متولدة، المخترع هو الذي يحدث لا في محل، والمباشر هو ما يحدث بسبب القدرة في محل القدرة، والمتولد هو ما يحدث بسبب فعل آخر.
القسم الأول وهو الفعل المخترع يختص به الله وحده، لأنه هو الذي أوجد الأشياء بقدرته، وهذا القسم لا خلاف فيه بين المتكلمين، فقد اتفقوا على أنه فعل لله وحده.
القسم الثاني: وهو الفعل المباشر، وهو يصدر عن القادرين من الناس، وقد اختلف فيه المتكلمون، وانقسموا إلى اتجاهين، أحدهما ينسب الأفعال كلها إلى الله، سواء كان فاعلها بقدرته أو بقدرة العبد التي اكتسبها من الله أو بنية العبد، والاتجاه الآخر نسب الفعل المباشر إلى الإنسان، وإن تعددت بعد ذلك حدود هذه الفاعلية بحسب اختلاف قدرة الإنسان على فعل الأعراض، هل هي فاعلية على الألوان فقط أم الألوان والأصوات، أم أكثر أو أقل؟
القسم الثالث: وهو الفعل المتولد، وهذا القسم حدث فيه اختلاف بين مَن أقر الفاعلية للإنسان عند أصحاب مذهب الحرية.
وكانت فرقة المعتزلة من أهم الفرق التي اهتمت بتحديد موقفها من الأفعال الإنسانية مباشرة أو متولدة، ويشير الأستاذ الدكتور سامي نصر لطف إلى هذا قائلاً: إن المسئولية تتوقف على القدرة الإنسانية في الفعل والترك، وتتوقف على الاختيار .. والسبب الأساسي في اهتمام المعتزلة بالفعل المتولد كان لتحديد نطاق المسئولية الإنسانية ... هل تشتمل على الأفعال المباشرة فقط بوصفها أفعالاً صادرة عن قصود الإنسان ودواعيه ... أم تشتمل المسئولية على تلك الأفعال غير المباشرة التي تترتب على أفعال الإنسان، أي تشتمل على المتولدات؟.
واستعرض الشريف المرتضى المذاهب الباحثة في الفعل الانساني وأرجع الخلاف بينها في الفعل الاختياري لتحديد المسئولية فيه، إذ أنهم قد اتفقوا في جانب واختلفوا في جانب، اتفقوا جميعاً على أن الفعل الاضطراري ليس عن فعل الإنسان، واختلفوا في الفعل الاختياري.
والفعل الاضطراري هو ما يحدث في أجسام العباد مثل اللون والهيئة وغيرها من صفات جسمانية، وقد أجمع المسلمون على أن هذه الأفعال هي فعل لله تعالى لا فعل للعبد فيه، وهذه الأفعال لا تشترط في محلها لا الحياة ولا القدرة أو الاختيار، فقد تظهر على الجمادات أو النباتات أو الحيوانات.
أما الفعل الاختياري، وهو ما يستلزم الحياة والقدرة والاختيار فهو ما حدث فيه اختلاف، وهذا الفعل مثل قيامنا وقعودنا، سكوننا وحركاتنا وغير ذلك من تصرفات، واختلفوا في هذا إلى طرفين:
الطرف الأول: أخذ به جمهور أهل السنة والجبرية قائلين: «إن أفعال المحدثات نوعان ضروري واختياري ... وموجدها كلها هو الله تعالى».
الطرف الآخر، مثّله المعتزلة، ومعهم الاثني عشرية، فترى المعتزلة أن العباد فاعلون لتصرفاتهم حادثة من جهتهم، «وأن كل مَن قال إن الله سبحانه خالقها ومحدثها فقد عظم خطؤه».
أما الاثني عشرية فقد وقفوا إلى جانب المعتزلة وأثبتوا الأفعال للإنسان، فيذكر الشيخ المفيد هذا الأمر نافياً أن يكون الله فاعلاً لأفعال الإنسان، لأن الله عنده «جلّ عن مشاركة عباده في الأفعال ... وتعالى عن اضطرارهم إلى الأعمال».
وقدم كل طرف أدلته العقلية والنقلية التي تؤكد موقفه، ولعل شدة الخلاف في هذه المسألة تعود إلى شبهة التعارض فيها على المستوى العقلي والنقلي، حيث أكد كل طرف موقفه بناء على العقل والنقل، هذا التعارض لاحظه ابن رشد بعد ذلك وسجله قائلاً: «إنه إذا تؤمت دلائل السمع في ذلك وجدت متعارضة، وكذلك حجج العقول»، وهذا ما أكده عنه أستاذنا الدكتور عاطف العراقي في كتابه عن ابن رشد، ولننظر إذن كيف عالج الاثني عشرية مذهبهم في الفاعلية الإنسانية من جهة الأفعال المباشرة وغير المباشرة.
ـ ثانياً: مسئولية الإنسان من الأفعال المباشرة
وقف أصحاب الحرية وأصحاب الجبرية أمام الفعل الإنساني موقفين متعارضين، وسلّم كل منهما بأن موقفه هو الأسلم من الناحية العقلية والنقلية، باعتبار أنه هو الموقف الضروري الذي لا يحتمل أي لبس أو خطأ، صرّح أصحاب الموقف الأول، المعبر عن الجبرية بأن «الدلائل الضرورية توجب أن يكون موجد الأفعال (الإنسانية) هو الله تعالى».
على حين اعتقد الفريق الآخر المثبت للحرية الإنسانية أن إثبات الفاعلية للإنسان من الأمور البديهية التي لا تحتاج إلى برهان، يقول الشريف المرتضى: «كان الأولى أن لا ندل على هذه المسألة ـ أعني أن أفعال العباد فعلهم ـ لأن المنكر لذلك ينكر المحسوسات التي قد تبين صحتها»، وعلى الرغم من تسليم كل طرف في بداية موقفه برأيه، إلا أنه يلجأ إلى إيراد الأدلة العقلية والنقلية التي تؤكد ذلك.
دلل الاثني عشرية على صحة موقفهم بكل وسائل التأكيد الممكنة من «كتاب الله تعالى، ومن أخبار رسول الله (ص) ومن إجماع الأمة ومن حجج العقول».
(أ) أدلة من القرآن الكريم:
استعرض الاثني عشرية الأدلة القرآنية التي تثبت الحرية، ولكن واجهتهم أدلة أرخى قدمها أصحاب مذهب الجبر لإثبات فكرهم، فبدأ الاثني عشرية بتفنيد أدلة الخصوم من طريق تقديم تأويلات معينة قبل أن يشرعوا في تقديم أدلتهم.
نقد أدلة الجبرية:
ذهب دعاة الجبرية، سواء كانوا جبرية خالصة من أتباع جهم بن صفوان، أو جبرية مقنعة من أتباع الأشاعرة ومَن اتفق معهم إلى أن الآيات القرآنية تؤكد أن أفعال الإنسان هي من الله تعالى، ومن الأدلة التي قدموها ونقدها الاثني شعرية ما يلي:
الدليل الأول:
قوله تعالى: (الله خالق كل شيء) فالموجودات كلها، ومنها الإنسان هي خلق الله بأجسامها التي هي جواهر، وأعراضها أي صورها وما يصدر عنها من أفعال، فيكون فعل الإنسان بناء على هذه الآية من خلق الله تعالى وفعله.
ورفض المرتضى هذا التأويل، ورأى أن معنى خلق كل شيء لا يعني خلق أفعال العباد وإنما المقصود من هذه الآية خلق السماوات والأرض، الليل والنهار، الجن والإنس وما أشبه ذلك، فخالق كل شيء مما خلقه لا مما فعله عباده، لأنه لا يجوز أن يفعل العباد خلق رب العالمين.
ورد المرتضى عليهم حجتهم قائلاً: إنّه لو كانت أفعال العباد خلق الله لوجبت أن تكون كل هذه الأفعال حسنة لا تظهر فيها القبائح تبعاً لقوله تعالى: (الذي أحسن كل شيء خلقه) فيجب حينئذ أن يكون الشرك حسناً، وكذلك الظلم والكذب والفجور والفسوق، لأن ذلك كله عندهم خلق الله، وإذا كانت هناك قاعدة سبق أن اعتمدها الاثني عشرية وهي نفي القبائح عن الله وأفعال العباد يظهر فيها القبائح فلا يصح أن تكون صادرة عن الله تعالى.
ولكن نسي المرتضى أن هذه القاعدة تصلح عندهم، ولا يعترف بها أصحاب المذهب الذاهب إلى أن أفعال العباد من خلق الله، فإذا أراد أن يحاج خصومه لابدّ أن يحاججهم على قاعدتهم ومسلماتهم، ولا يحاججهم على ما صرّح هو به ولم يوافق عليه الخصوم.
الدليل الثاني:
قال تعالى: (والله خلقكم وما تعملون) الصافات آية 96، وفكرة هذه الدليل تتشابه مع فكرة الدليل السابق، وهي أن الأعمال من الأعراض، وهي أدق من الأجسام، فلما كان لا يستطيع أحد أن يقدر على إحداث الأجسام سوى الله، فكذا الاعراض، وإذا كان موجد الأفعال هو الله تعالى كان موجد الحركات هو أيضاً الله تعالى.
وقد أشار الشريف المرتضى إلى أن مناسبة نزول هذه الآية، أنها ذكرت في قصة سيدنا إبراهيم عندما حاج قومه فقال لهم: (لِمَ تعبدون ما تنحتون والله خلقكم وما تعملون) فلقد نحتم خشباً ثم عبدتموه، وهذا خطأ، وذكر على جهة التوبيخ، لأن الله خلقكم وخلق ما تصنعون منه إلهتكم، أي الأصنام التي حل فيها تصويراتكم.
ثم يعكس المرتضى هذا الدليل عليهم، قائلاً: إنا نرد هذا الكلام عليهم فنقول لهم: إذا زعمتم أن كفرهم خلقهم، وقال إبراهيم محتجاً عليهم في قولهم إنّ الله خلق أعمالهم فلم لم يقولوا: يا إبراهيم إن كان الله خلق فينا الكفر، لا يمكننا أن نرد ما خلق فينا، ولو قدرنا لفعلنا، وأنت تأمرنا بأمر لم يخلقه الله فينا، «إن كفرهم غير خلق الله، ولو كان خلق الله ما عذبوا عليه ولا نهوا عنه».
وفي موضع آخر قدم الشريف المرتضى تفسيراً لهذه الآية يؤدي إلى نفس المعنى ولكن بصورة أخرى، فيقول: حمل أهل الحق هذه الآية على أن المراد بقوله (ما يعملون) أي وما تعملون فيه من الحجارة والخشب، مما كانوا يتخذونه أصناماً ويعبدونها.
ونفس التأويل أخذ به الشيخ الطوسي أيضاً ورأى أنّ قوله تعالى: (خلقكم وما تعملون) المراد به الأجسام، لأنهم كانوا يعبدون الأصنام دون أفعالهم فيها، فعنّفهم الله تعالى بأن قال: أتعبدون ما تنحتون من الأجسام؟ والله خلقكم وما تعملون من الأجسام التي تنحتون فيها الأصنام، وتقدير الكلام وما تعملون منه، على أنه يضاف المعمول إلى أنه عمل الصانع، يقال هذا الباب عمل النجار، فيضيفون المعمول فيه إلى العامل، وذلك مجاز.
وهذه الآية أيضاً سبق أن تعرض لها أصحاب مذهب الحرية من المعتزلة، وقدموا تأويلاً لها يوافق القول بالحرية، فنجد القاضي عبدالجبار يستند في تأويل هذه الآية إلى فكرة السياق من ناحية وإلى تقدير محذوف في الكلام من ناحية أخرى، السياق لأن الله إنما ذكر ذلك ليقرع به عباد الأصنام، فأراد الله تعالى أن يبين أنه الخالق لما يحاولون عبادته، كما أنه الخالق لهم، وأنه أولى بالعبادة من الأصنام، والمحذوف يظهر في معنى الآية أن الله خلق الإنسان وما يعمل فيه من المواد كالخشب والحجارة وغيره، أما عمله نفسه في هذه المواد فهو من خلقه ولا يدخل تحت منطوق الآية، وهكذا يصبح تقدير المحذوف والحذف مجاز وسيلة التأويل والعدول عن الظاهر.
ينتهي الشريف المرتضى من نقد أدلة الخصوم بتقديم تأويلات تخدم تصوراته، مؤكداً أن معنى خلق الله لأعمال العباد يعني أنه مقدّر لها، ومعروف مقاديرها ومراتبها وما يستحق عليها من الجزاء ولا يمتنع أن يقال: «إنّه خالق للأعمال على هذا المعنى، إذا ارتفع الإبهام وفهم المراد».
ـ أدلة الحرية:
أشار الاثني شعرية إلى أنّ القرآن مملوء بآيات كثيرة تثبت الفعل الحسن إلى الله، وتنسب الفعل الرديء إلى الإنسان، فكثيراً ما نقرأ ألفاظاً مثل إنهم «يصنعون» و «يفعلون» و «يكسبون»، فلو كانت هذه الأفعال كلها لله لبطلت هذه الإضافات إلى الإنسان، وكانت كذباً، وهذا ما أشار إليه الطوسي عندما رأى آيات متعددة تضيف الفعل إلينا، فمن نفى الفعل عنا فقد خالف القرآن.
الدليل الأول: اعتمد الشريف المرتضى على قوله تعالى: (وما أصابك من حسنة فمن الله، وما أصابك من سيئة فمن نفسك)، وهذا قول صريح بأن السيئة صادرة عن الإنسان والطاعة وإن كانت من فعل الإنسان فقد يصح أن يضيفها إلى الله من حيث التمكين منها والتعريض لها، والدعاء إليها، وهذه أمور تحسن هذه الإضافة، ولا يجوز ذلك في السيئة لأنه تعالى ينهي عنها ومنع من فعلها، أو أن من صور اللطف الإلهي أن يسّر للإنسان الطاعة من حيث العقل والتكليف وبعثة الأنبياء وتحديد الأئمة.
الدليل الثاني: هذا الدليل يقوم على فكرة الاتقان لقوله تعالى: (صنع الله الذي أتقن كل شيء)، فلما لم يكن الكفر بمتقن ولا بمحكم علمنا أنه ليس من صنعه، والدليل على ذلك تؤكده آية أخرى في قوله تعالى: (ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت)، فلما كان الكفر متفاوتاً متناقضاً علمنا أنه ليس من خلق الله تعالى.
وكُتُب الاثني عشرية مشحونة بآيات عديدة تثبت الحرية، وأن الله ليس فاعلاً لأفعال عباده، نجد هذا عند الشريف المرتضى الذي انتهى بعد حصر عشرات الآيات التي تثبت الحرية إلى القول: «لو قصدنا إلى استقصاء ما يدل على مذهب أن الله لم يفعل الظلم والجور والكذب وسائر أفعال العباد لطال بذلك الكتاب».
وهذه الآيات أيضاً ذكرها الطوسي ليؤكد ذكرة الاثني عشرية عن الحرية مشيراً إلى أن القرآن يؤكد ذلك، لأنه تعالى قال: (جزاء بما كانوا يعملون)، وقوله تعالى: (جزاء بما كانوا يكسبون)، وقوله تعالى: (فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره، ومَ، يعمل مثقال ذرة شراً يره)، وقوله تعالى: (ومَن يعمل بسوء يجزيه)، وقوله تعالى: (ومَن يظلم منكم نذقه عذاباً كبيراً) وغير ذلك من الآيات التي أضاف الفعل فيها إلينا.
(ب) أدلة من السنة النبوية (ومن الأئمة):
كما حرص الاثني عشرية في تأكيد الحرية الإنسانية الاعتماد على آيات قرآنية تؤكد الأدلة النقلية، كان حرصهم كذلك أن يدعموا ذلك بأدلة نقلية أخرى مستند إلى السنة النبوية الشريفة، فذكروا مجموعة من الأحاديث النبوية.
ولا تختلف الشيعة الاثني عشرية عن أهل السنة في قيمة الاعتماد على الأحاديث النبوية كمصدر من مصادر التشريع، فمن مصادر التشريع عندهم ـ كما هي عند بقية المسلمين ـ الكتاب والسنة، ولكن الاختلاف بينهم هو ما هي الأحاديث الصحيحة عند كل طرف، وسلسلة الرواة التي يعتمدها كل منهم، لا يرفض الاثني عشرية الأحاديث النبوية التي تعتمدها الفرق الأخرى طالما أن منطوق هذه الأحاديث لا تخالف اعتقاداتهم، وإن كانت لهم مصادرهم الخاصة في الاعتماد على السنة، وكتب خاصة يرجعون إليها عند الاحتجاج بالأحاديث.
وتحوي كتب الاثني عشرية العديد من الأحاديث النبوية التي تؤكد فكرة الحرية على سبيل المثال: قول رسول الله (ص): «أضمنوا لي أشياء أضمن لكن الجنة، قالوا: ما هي يا رسول الله؟ قال: لا تظلموا عند قسمة مواريثكم ... ولا تحملوا على الله ذنوبكم».
ـ روي عن أبي هريرة أنه قد جاء رجل إلى الرسول (ص) وسأله قائلاً: يا رسول الله متى يرحم الله عباده؟ قال (ص): «يرحم الله عباده ما لم يعملوا بالمعاصي ثم يقولون هي من الله».
ـ روي عن النبي (ص) أنه قال: «خمسة لا تطفأ نيرانهم ولا تموت ديدانهم: رجل أشرك بالله ... ورجل حمل على الله ذنبه».
ـ وروي عنه أنه (ص) قال: أتاني جبرئيل فقال: «يا محمد خصلتان لا ينفع معهما صوم ولا صلاة: الإشراك بالله، وأن يزعم عبد أن الله يجبره على معصية».
ـ وروي عن أنس أنه قال: قال رسول الله (ص): «سيكون في هذه الأمة أقوام يعملون بالمعاصي ويزعمون أنها من الله، فإذا رأيتموهم فكذبوهم ثم كذبوهم».
(ج) الإجماع:
يشير الشريف المرتضى إلى أن جوهر الإسلام هو إثبات الحرية، وأن ما ظهر من جبر كان بعد فترة من ظهور الإسلام ونتيجة لظروف معينة، سواء كانت من السلطة الحاكمة، أو من ضعف إيمان بعض المسلمين، أو تدخل أمور خارجية لنشر هذه العقيدة، وإذا رجعنا إلى كل ما ذكر من الصحابة والتابعين، وأئمة آل البيت وعلماء المسلمين، سنجد إجماعاً على أن المذهب الصحيح هو القول بالحرية، وأن القائلين بالجبر يُعدّون قلة بالنسبة إلى عامة المسلمين.
ولم يتناول الشريف المرتضى هذا الإجماع بشكل تفصيلي، ولكن اكتفى بذكر العلماء الذين أكدوا مذهب الحرية.
أما فكرة الإجماع نفسها التي تؤكد الحرية يعرضها الشريف المرتضى في ثنايا عرضه للأدلة العقلية، فيتناول في هذه الأدلة أفكاراً يسلم بها أغلب المسلمين، فكأن الإجماع بني هنا على تصورات عقلية لإثبات الحرية.
وقد تردد الاثني عشرية أمام الإجماع كمصدر من مصادر التشريع وتناولوا طرق ثبوت الاجماع في عصر من العصور بعينه، فزعم بعضهم أنه لا سبيل لمعرفة ما أجمع عليه الصحاب لبعد الزمان، ويقولون إن العلم بالاجماع في حكم من الأحكام بعينه في الأزمان المتأخرة عن طريق لنقل وهو موقوف على معرفة المجتهدين واحصائهم ليدخل كل مجتهد في جملة المجتمعين، وليمكن القول بأنه قد حصل اجماع كاشف عن قول الإمام في هذه المسألة.
وربما الاجماع الذي قصده المرتضى هنا هو أن يكون سند الاجماع هو العقل إذا بني على الحسن الذاتي أو القبح الذاتي، أو على تخريج أو استنباط أو تفريع واضح المأخذ يجري فيه الاتفاق بين جماهير علمائهم مهما ابتعدت بهم الأقطار.
ولكن إذا كانت فكرة اجماع المسلمين على مذهب الحرية في الفترة التي عاش فيها الشريف المرتضى في القرنين الرابع والخامس الهجريين، فكيف الحال، الآن قد تغلبت مذاهب الأشاعرة على أكثر بلاد المسلمين، وبالتالي أكدت فكرتها المخالفة للحرية فهل الاجماع الذي قصده الشريف المرتضى يصلح الآن أيضاً، أما أنه اجماع كان صالحاً في عصره فقط؟!
(د) الأدلة العقلية:
وكما اعتمد أصحاب مذهب الحرية على العقل لإثبات الحرية الإنسانية، اعتمد أيضاً أصحاب مذهب الجبر على العقل لإثبات أن الإنسان مسيّر لا فعل له، وحرص أصحاب مذهب الحرية على تفنيد أدلة الخصوم العقلية ليتسنى لهم بعد ذلك تقديم أدلتهم.
نقد أدلة الجبرية:
وضع الاثني عشرية أصحاب مذهب الجبر، سواء من أصحاب جهم بن صفوان، أو من أصحاب نظرية الكسب، في طائفة واحدة مطلقين عليهم اسم المجبرة أو الجبرية، إحداها هي الجبرية الخالصة، والأخرى هي الجبرية المتوسطة، في حين أن الشهرستاني يخرج أصحاب نظرية الكسب عن الجبرية قائلاً: «فالجبرية الخالصة هي التي لا تثبت للعبد فعلاً ولا قدرة على الفعل أصلاً، والجبرية المتوسطة هي التي تثبت للعبد قدرة غير مؤثرة أصلاً، فأما مَن أثبت للقدرة الحادثة أثراً ما في الفعل، وسمى ذلك كسباً فليس بجبري».
وقد هاجم الاثني عشرية أصحاب نظرية الكسب ووضعوهم جنباً إلى جنب مع أصحاب مذهب الجبر، ونحن نتفق مع الأستاذ الدكتور سامي نصر لطف في أن الكسب مرادف للجبر، وقد عرف المكتسب بأنه «المجبر على فعله لأنه لا يجوز لمن اكتسب أن لا يكتسب لأنه مسلوب الاختيار الذي يعطيه الحرية في الفعل أو الترك».
وكان الحسين بن محمد النجار أول المتكلمين الذين قالوا بنظرية الكسب ثم أخذ بها بعد ذلك الأشعري وفرقته، وفرقة الماتريدية، وإن اختلفوا بعض الشيء عن الأشاعرة في حدود الكسب إلا أنهم اتفقوا معاً على أن الإنسان ينال جزاؤه بناء على نيته أو قدرته التي أكسبه الله إياها عند خلق الأفعال.
عرف الباقلاني الكسب بقوله: «معنى الكسب أنه تصرف في الفعل بقدرة تقارن في محله فتجعله بخلاف صفة الضرورة»، فالكسب هو الاقتران العادي بين القدرة الإنسانية الحادثة والفعل، والله قد أجرى العادة بخلق الفعل عند إرادة الإنسان، فإذا أراد العبد القدرة وتجرد لها خلق الله له في هذه اللحظة قدرة على الفعل مكتسبة من العبد مخلوقة من الرب، فيكون الفعل خلقاً من الله وكسباً من العبد، يقول البغدادي: «إن أفعال العباد اكتساب لهم من الله، لأن الله عزوجل خالقها، كما أنه خالق الأجسام والألوان والطعوم والروائح لا خالق غيره، وإنما العباد مكتسبون لأعمالهم»، فالله خالق الكسب والعبد مستفيد من الكسب.
وقد حاول أصحاب هذا المذهب أن يوفِّقوا بين أن يحدث الفعل بقدرة الله تعالى وفاعليته خلقاً وإبداعاً مع نسبة الفعل بوجه ما إلى الاستطاعة البشرية حتى يوجب على العبد المسئولية والجزاء، يقول اللامشي: «وأما أهل السنة فقد تمسكوا بفصل الأمر والنهي والثواب والعقاب ... فجعلوها مضافة إلى العباد كسباً واختياراً وإلى الله تعالى تخليقاً وإيجاداً».
فالدافع الأساسي الذي دفع أصحاب نظرية الكسب إلى أن يخففوا من القول بالجبر هو وجود الثواب والعقاب، فكيف يحاسب الإنسان على أفعال لم يفعلها، فقالوا إن الإنسان يختار هذه الأفعال بالنية أو بالقدرة المكتسبة، وعلى أساس هذا الاختيار يقوم الله بخلق الفعل وينسب إلى الإنسان، ويكتسب الإنسان الجزاء من نتيجة هذا الفعل.
وحاول الباقلاني أن يضيف أبعاداً جددة لنظرية الكسب تبعدها عن الجبرية، فحاول التفرقة بين الأفعال الاختيارية والأفعال الاضطرارية، إذ يعرف الإنسان من نفسه الفرق بين قايمه وقعوده، فالكسب عنده «تصرف في الفعل بقدرة تقارنه في محله فتجعله بخلاف صفة الضرورة، وكل ذي حس سليم يفرق بين حركة يده على طريق الاختيار وبين حركة المرتعش».
والكسب عند الماتريدية له نفس المدلول، فالفعل الذي يقوم به العبد نوعين، نوع يوجده الله تعالى فيه بدون قدرته واختياره، كحركة المرتعش، والثاني يوجده الله تعالى مع ارادته وقدرته، كالحركات الاختيارية، وسمي هذا النوع الثاني كسباً، إلا أننا نشير بإيجاز إلى أن نظرية الكسب الأشعرية أقرب إلى الجبرية من النظرية الماتريدية، إذ يتيح الماتريدية اكتساب القدرة للانسان لحظة الفعل لكي يختار أن يفعل، فالقدرة عندهم لها بعض الدور بخلاف التصور الأشعري الذي حرص إما على القول أن الإنسان اكتسب جزاءه بالنية أو بالقدرة المكتسبة لفعل ما بطريقة معينة.
وقد ساوى الاثني عشرية بين فكرة الكسب وفكرة النية، وروا أن الكسب لا يصلح أن توصف به الأعمال ولا يقع عليه الجزاء، لأن الكسب يقع على النية، والجزاء ليس عن النية ـ خاصة في الأفعال الرديئة ـ وإنما على الفعل وحده، يقول الشيخ المفيد: مَن عمل بما افترض الله عليه فهو من خير الناس، فالأعمال وحدها هي التي تقدر عليها الجزاء وليست النية.
وهذا ما أكده بعده الشريف المرتضى عندما رأى أن المسئولية في الفعل تقع على العمل وليست على النية، لأن النية لا ترقى إلى مستوى العمل، بل وتختلف عنه، يقول المرتضى: «النية لا تسمى في العرف عملاً، وإنما تسمى بالأعمال أفعال الجوارح ولهذا لا يقولون عملت بقلبي، كما يقولون عملت بيدي».
ويرد الشريف المرتضى على الحديث النبوي القائل: (إن نية المؤمن خير من عمله)، وهو الحديث الذي اعتمده أصحاب الكسب عندما ربطوا بين معنى الكسب والنية، مدللاً على أن ما يوصف بأنه خير من غيره هو ما يقع على العمل فقط، فيوصف فعل ما بأنه خير من غيره إذا كان ثوابه أكثر من ثوابه، فكيف يجوز أن تكون النية خير من العمل، ومعلوم أن النية أخفض ثواباً من العمل، ووضع تأويلاً لهذا الحديث يقول فيه: إنه «يجوز أن يكون المعنى أن نية المؤمن خير من علمه العاري من نية».
وسار الشيخ الطوسي على نفس الخط في نقد مذهب الكسب قائلاً: «ومتى قيل إن أفعالنا تحتاج إلينا في كونها كسباً دون الحدوث، قلنا ذلك باطل ... والكسب الذي يدعونه غير معقول فكيف تتعلق الحاجة به، ويترك الحدوث الذي هو أمر معقول ومعلوم، والكسب ليس بمعقول ولا معلوم».
فالشيخ الطوسي، يرى أن فكرة حدوث الأفعال عن الإنسان فكرة واضحة جلية مذكورة ومؤكدة بالأدلة النقلية والعقلية، فكيف يرفضها أصحاب مذهب الجبر ويستبدلون مكانها فكرة ليست مذكورة بالأدلة النقلية ولا تؤكدها الأدلة العقلية، وإن كنا نرى أن في هذا ظلم لأصحاب نظرية الكسب، لأنهم حاولوا أن يوجدوا أسانيداً لمعنى لفظ الكسب من الآيات القرآنية، وحاولوا أن يؤكدوها بأدلة عقلية وأخرى نقلية، مثل ما قالوا لا يصح صدور فعل عن فاعلين أو خالقين،فهذه محاولة سواء كانت ناجحة أو غير ناجحة إلا أنها كانت الملائمة لتصورهم لدور الله في العالم وتدخله المستمر في كل ما يصدر عن الكائنات، سواء العاقلة أو غير العاقلة عندما نسبت الفاعلية في العالم إلى الله وحده.
ـ أدلة الحرية:
يعتمد الاثني عشرية على عدد من الأدلة العقلية التي تثبت الحرية، ونجد أن أغلب أفكار هذه الأدلة موجودة عند المعتزلة في التدليل على الحرية، مما يؤكد وجود تقارب بين الفريقين يتباعد ويتقارب بحسب ما يعرضوه من مشكلات وبحسب أصول كل منهم، أما في مسألة الحرية الإنسانية فكان التقارب في أشده، وهذا ما سنلاحظه من خلال أدلة الفرقتين، وهذه الأدلة هي:
الدليل الأول: البرهان الشعوري
يفرق الاثني عشرية بين نوعين من الأفعال، الأول أفعال ضرورية لا دخل للإنسان فيها، والأخرى اختيارية يفعلها الانسان مختاراً، وهى «الأفعال الظاهرة من العباد التابعة لقصودهم وأحوالهم، المحدثون لها دون الله تعالى».
ودلل الاثني عشرية على الفرق بين الفعلين الضروري والاختياري كالفرق بين الماشي والانسان المسحوب على وجهه، الأول «مشيته مختاراً متعلقة به وبايثاره، وإذا سحب على وجهه كانت الحركة فيه اضطرارية، فلذلك فرق بينهما».
فالأفعال الاختيارية هي الأفعال التي يقوم بها الإنسان بحسب قصده ودواعيه وترتفع بارتفاع إرادته، وتقع بوقوع إرادته، سواء في حالة الحب أو الكراهة، فهي أفعال صادرة عن الانسان بفعله وعزم إرادته واختياره، وهي تختلف عن أحوال أخرى تحدث عن الانسان لا دخل له فيها، مثل ألوانه وأطواله وهيئته، ومرضه وصحته، وفلو كان القيام والقعود مثل الطول والهرم والصحة والمرض لكانت أحكام الجميع واحدة في الحصول بحسب دواعينا، فلما اختلف حكم الجميع علمنا اختلاف حكمها في الإضافة.
وهذا الدليل هو أحد الأسانيد العقلية التي اعتمدها المعتزلة لإثبات الفاعلية الإنسانية معتمدين على فكرة وجود الداعي والقصد، أو يكفي وجود الشعور الذي يحرك الانسان نحو فعلاً ما، فالعقلاء على اختلاف أحوالهم يعترفون بأن الفاعل المختار إنما تأتي أفعاله بحسب قصده ودواعيه هو، كما أن هذه الأفعال تنتفي بحسب الكراهة والصوارف عنها، والموانع التي تمنع من مباشرتها.
ويظهر نفس الدليل بنفس الصورة عند الشريف المرتضى المتأثر بمعتزلة البصرة وبخاصة القاضي عبدالجبار، إذ أنه كان أستاذه، وقد تأثر به في طريقة الاستدلال، فيقول: «ألا ترى أن أحدنا إذا قصد إلى الأكل وأراد وعزم عليه وقع منه، فلولا أنه محدث الأكل وموجده ما تعلق بقصده وداعيه وحاجته، ولولا أن هذه الأفعال التي أشير إليها أفعالنا لم يجب أن يقع بحسب حاجتنا وأحداثنا ويقف على دواعينا»، فسبب حدوث الفعل إذاً هو قصدنا واختيارنا.
الدليل الثاني: الأوامر والنواهي
ويسمى أيضاً بالبرهان التكليفي، فالتكليف الإلهي يقوم على إفعل ولا تفعل، إذ قد أمر الله تعالى عباده بأفعال كثيرة، كالإيمان والطاعة والصلاة والصوم والعبادات، ونهاهم عن أفعال كثيرة، كالشرك والسرقة وشرب الخمر، وغيرها من النواهي، فلولا أن هذه الأعمال ـ من الأوامر والنواهي ـ في مقدور الإنسان لما صح التكليف.
إذ لا يمكن أن نتصور وجود خطاب إلهي للعباد بأوامر ونواهي دون تصور وجود قدرة يتم بها الفعل أو يتم بها الكف عن الفعل في حالة النهي. ويشير المرتضى إلى أن هذا التكليف يطرح احتمالين لا ثالث لهما، إذا ظهر بطلان أحدهما صح الآخر.
الاحتمال الأول: أن الإنسان إذا كلف بما لا يفعله، فيكون أمره هنا نوع من السفه لا يجوز على الباري.
الاحتمال الثاني: ينتج من بطلان الاحتمال الأول أنه إذا كلف الانسان فلابدّ له من حرية واختيار وفعل ليصح المخاطبة بالتكاليف، «ولم يجز أن يأمرهم بأن يفعلوا أطوالهم وقصرهم وألوانهم وصورهم، علمنا أن هذه الأمور فعل الله، وأنّ الطاعة والمعصية والإيمان والكفر فعل العباد».
الدليل الثالث: المدح والذمّ
أننا وجدنا العباد يُمدحون ببعض الأُفعال، يذمون ببعضها الآخر، فهم يمدحون بفعل الطاعات وأداء الواجبات، كما يمدحون على الإحسان والأنعام، ويذمون بالمعاصي والقبائح، ولولا أن ذلك من أفعالهم واختيارهم لما توجه إليه مدح ولا ذم، كما لا يصح أن يمدحوا أو يذموا بألوانهم وهيئاتهم، ولا على ما يقع من غيرهم من الأفعال.
وهذا الدليل أيضاً اعتمده المعتزلة كدليل على إثبات الفاعلية الإنسانية، فقد فرق القاضي عبدالجبار بين ما يجب المدح والذم من الأفعال، وما لا يجب، باعتبار أن الإنسان مسئول عن النوع الأول من الأفعال، وغير مسئول عن النوع الثاني، فالنوع الأول يتحقق فيه شروط التكليف فيكون مسئولاً عنها، وتنعدم مسئوليته إذا غابت هذه الشروط أو غاب شرط منها، فلا يذم الأعمى لعدم تمييزه الألوان، لأنه فقد شرط الرؤية، ومن ثمة «فلا يحسن هنا أن نقول للطويل لم طالت قامتك ولا للقصير لما قصرت؟ كما يحسن أن نقول للظالم لم ظلمت، وللكاذب لم كذبت؟، فلولا أن أحدهما متعلق بنا وموجود من جهتنا بخلاف الآخر، وإلا لما وجب هذا الفصل».
الدليل الرابع: وجود قبائح في أفعال البشر
يظهر في أفعال العباد ما هو كفر وظلم وقبح وكذلك باقي الأفعال القبيحة والمعاصي، فلو كان الله هو الفاعل لتلك الأفعال لوجب أن يكون من حيث فعل الظلم ظالماً، بفعله الكفر كافراً، وبفعل القبيح مقبحاً، وقد أجمعت الأمة على أنه تعالى لا يوصف بأنه ظالم أو غيرها من صفات، وكل مَن وصفه بذلك وسماه به كان خارجاً عن الدين، وإجماع المسلمين على هذا حجة على أن الله لا يفعل شرور العباد، وإنما هم فاعليها، فإذا كان هناك صنف من أفعال العباد تنسب إليهم، والأفعال الإنسانية من جنس واحد، صح أن تنسب بقية الأفعال بما فيها من طاعات ومعاصي إليهم.
الدليل الخامس: الثواب والعقاب
وهذا الدليل أيضاً أسنده الاثني عشرية إلى إجماع الأمة، وهو أنهم قد اتفقوا على أن الله تعالى يثيب المؤمنين ويعاقب الكافرين، فلولا أن الإيمان والكفر من فعل المؤمن والكافر لم يحسن الثواب، لأنه قبيح، يثاب العاصي ويعاقب المطيع، الدليل على ذلك لو فعل أحدنا فعلاً في عبده لما حسن أن يعاقبه عليه، ويؤاخذه به، ومَن فعل ذلك عدّ ظالماً وسفيهاً، تعالى الله عن ذلك.
ولو كان الله هو فاعل أفعال العباد «لا يجوز أن يعذب العباد على فعله، ولا يعاقبهم على صنعه، ولا يأمرهم بأن يفعلوا ما خلقه، فلما عذبهم على الكفر وعاقبهم على الظلم وأمرهم بأن يفعلوا الإيمان علمنا أن الكفر والظلم والإيمان ليست من فعل الله ولا صنعه».
الدليل السادس: بعثة الأنبياء
أشار الشريف المرتضى إلى أن وجود بعثة للأنبياء كي يرشدوا البشر إلى فعل الخير ويحذروهم من ارتكاب الشر لهو خير دليل على أن للإنسان قدرة واختيار للفعل، أما نسبة الأفعال كلها إلى الله سيؤدي إلى أن «يبطل الثقة بصدق الأنبياء (ع)، ويقتضي الشك في جميع الشرائع والخروج من دين الإسلام، بل من سائر الأديان.
الدليل السابع: العبادة
إن القول بأن الله تعالى هو الفاعل لأفعال الإنسان الظاهرة يقتضي أنه لا نعمة له تعالى على الكافر، وإذا لم تكن له نعمة لم تجب عبادته على الكافر، لأن العبادة وسيلة للشكر، «ومَن لا نعمة له فلا شكر يستحقه ولا عبادة».
فالله تعالى ليس هو فاعل أفعال الإنسان الظاهرة، بل هذه الأفعال تنسب إلى فاعليها من البشر، ويستخدم الشريف المرتضى طريقة الاحتمالات ليدلل على صدق تصوره، بأن يفترض الاحتمالات الناتجة من افتراض فاعل لأفعال الإنسان الظاهرة، هل من الله وحده، أم من الله والإنسان بالاشتراك أم أنها من الإنسان وحده، ويفند هذه الاحتمالات ليتبين له ما الاحتمال الصحيح.
الاحتمال الأول: أن تكون أفعال العباد كلها فعل رب العالمين لا فاعل لها غيره، وهذا محال أن يكون منفرداً بالأفعال لا فاعل غيره، لأنه لو صح ذلك لما جاز أن يرسل الرسل وينزل الكتب، ولبطل الأمر والنهي، والوعد والوعيد والحمد والذمّ، والثواب والعقاب، لأنه لا فضل للعباد في أفعالهم، وأوجب هذا أيضاً أن يكون هو ـ تعالى ـ الفاعل للشرور والقباحئ، ونسب هذا إليه محال.
الاحتمال الثاني: أن يشارك الله العباد في أفعالهم، بأن يصدر الفعل الواحد عن فاعلين، ولا يؤدي هذا إلى كونه فاعلاً للظلم الذي يفعله العباد، وكذلك للكفر والعبث والفساد، وكان عابثاً مفسداً إذ لم يكونوا فاعلين لهذه الأمور دونه، ولا هو فاعل لها دونهم، وهذا أيضاً احتمال فاسد.
الاحتمال الثالث: أن يكون الفعل صادراً عن العباد وحدهم، وليس فعل الله، وهذا الاحتمال هو ما يقبله الشريف المرتضى، فيقول: «فلما بطل هذان (الاحتمالان) ثبت الثالث، وهو أن هذه الأفعال عمل العباد، وأنها ليست من فعل رب العالمين ولا صنعه».
ـ ثالثاً: مسئولية الإنسان عن الأفعال المتولدة
كانت مسألة النتائج غير المباشرة عن الفعل الارادي مادة لاختلاف المتكلمين، تبلور هذا الخلاف في التساؤل متى يكون الإنسان مسئولاً عن نتائج فعل يقوم به حتى تلك النتائج غير المتوقعة أي غير المباشرة؟
وقد حاول أصحاب مذهب الحرية تفسير نتائج العمل الإنساني، هل هذا العمل أو الفعل الإنساني هو فعل الإنسان أم فعل غيره؟ أو بمعنى آخر هل يحدث الفاعل فعلاً في غيره أو لا يحدث الفعل إلا في نفسه؟ وما مسئولية الإنسان عن بعض النتائج التي تحدث عن فعله سواء كان عارفاً لها وقاصداً لفعلها؟ أو غير عارف أنها ستحدث أو غير قاصد إليها؟
وقد ظهرت الإجابة من هذه التساؤلات تحت مسألة «التولد» أو «الآثار غير المباشرة»، ويعد أبا الهذيل العلاف المعتزلي أول متكلم في التولد وإن كان واضع صورة هذه المشكلة الحقيقي هو مؤسس المدرسة البغدادية «بشر بن المعتمر» بعد ذلك ومن هذه المدرسة وغيرها تعرف الاثني عشرية على مسألة التولد وبحثوها في إطار تحديد مسئولية الإنسان عن أفعاله المباشرة وغير المباشرة.
وتعريف التولد لغوياً يعني «الفعل الصادر عن الفاعل بواسطة، ويقابله المباشر»، أما الترعيف الاصطلاحي فقد تعدد فقال البعض: «هو الفعل الذي يكون بسبب مني ويحل في غيري»، وقال بعضهم: «هو الفعل الذي أوجبت سببه فخرج من أن يمكنني تركه وقد أفعله في نفسي وأفعله في غيري»، وقال بعضهم: «هو الفعل الثالث الذي يلي مرادي مثل الألم الذي يلي الضربة، ومثل الذهاب الذي يلي الدفعة».
وقسم الأشعري آراء الإمامية إلى رأيين:
الأول: يزعمون أن الفاعل لا يفعل في غيره فعلاً، ولا يفعل إلا في نفسه، ولا يثبتون الإنسان فاعلاً لما يتولد عن فعله.
الثاني: يزعمون أن الفاعل منا يحدث الفعل في غيره، وأن ما يتولد عن فعله كالألم المتولد عن الضرب، والصوت المتولد عن اصطكاك الحجرين، وذهاب السهم المتولد عن الرمية فعل لمن تولد عن فعله».
ولم نجد في مؤلفات الاثني عشرية قبل الشيخ المفيد حديثاً عن الفعل المتولد، مما يدل على أنهم قد تعرفوا على هذه المسألة بعد احتكاكهم بالمعتزلة، وبخاصة معتزلة بغداد التي تعرف عليها الشيخ المفيد وتأثر بها، وابتداء من المفيد نلاحظ ملامح معالجة الاثني عشرية للتولد، فقد قسم المفيد الأفعال إلى مباشر ومتولد، فيقول: «إن من أفعال القادر ما يقع متولداً بأسباب يفعلها على الابتداء من غير توليد لها ... فالمبتدأ من الأحوال لا يكون متولداً، والمسبب عن المبتدأ يكون متولداً عن فعل صاحب السبب».
ويتناول بعده الشريف المرتضى بحث هذه المسألة وفي أحد كتبه الكلامية يضع عنواناً باسم «إننا نفعل على سبيل التوليد» يبحث تحته مسألة التوليد من ناحية التعريف وحدود الإنسان ومسئوليته في الأفعال المتولدة، إذا حدثت في نفسه أو في غيره، أو في الطبيعة، ويبدو في أغلب آرائه متأثراً بمدرسة البصرة الاعتزالية في موضوع التولد.
هذا ما يدفعنا إلى تقديم صورة مختصرة لآراء المدرستين الاعتزاليتين، البصرة وبغداد في مسألة التوليد، حتى نتعرف على الأرضية الفكرية التي قام على أساسها مذهب الاثني عشرية في التولد.
فقد تعددت تصورات المعتزلة في التوليد، فذهب بشر بن المعتمر إلى أن «المتولدات أجمع، وكذلك الأعراض هي من فعل الأجسام الموات بطباعها، ولا فعل لله إلا نفس المحل ولا للعبد عنده فعل سوى الارادة»، وهذا ما أكده عنه الشهرستاني عندما نسب إليه القول أن «اللون والطعم والرائحة والادراكات كلها من السمع والرؤية، يجوز أن تحصل متولدة من فعل العبد إذا كان أسبابها من فعله».
ونلاحظ أن معمراً قد ينسب بعض الأفعال المتولدة إلى الجماد إذا لم يكن الانسان يعرف سببها، مثال ذلك إذا ألقى الإنسان بحجر وصادف أن قتل هذا الحجر إنساناً، وفاعله لم يقصد فعل ذلك، نسب هذا الفعل ـ الموت ـ إلى الحجر وليس الإنسان، أما إذا كان الفاعل يعلم نتائج فعله، فإذا ضرب أحد آخر بسكين، وتولد عن هذا الضرب موتاً، فينسب الموت هنا للإنسان لأنه يعلم أن السكين يقتل.
فالفعل المتولد لو كان باختيار الإنسان وقعت عليه مسئوليته، أما إذا صدر عن الانسان بطريق غير مباشر نتائج لم يختارها فلا ينسب معمر مسئولية فعلها للانسان، وإنما ينسبها إلى الطبيعة الجامدة، أما ثمامة بن أشرس، وهو من معتزلة بغداد فقد صرح بأن المتولدات لا فاعل لها، لا الانسان ولا الطبيعة ولا الله.
واختلفت معتزلة البصرة في آرائها حول الفعل المتولد، فكان منهم الجاحظ وهو أبرز مَن قال بالطبع من رجال المعتزلة، وذهب إلى أن فعل الانسان يصدر عنه على سبيل الطبع لا الاختيار، لأنه لا يقع باختيار منه إلا الفعل الارادي، قائلاً: «اعلم أن الله جل ثناؤه خلق خلقه ثم طبعهم على حب اجترار المنافع ودفع المضار ... وهذا منهج طبع مركب وجملة مفطورة»، وهذا يوحي بنوع من الحتمية يقربه من الجبرية.
وذهب القاضي عبدالجبار إلى أن كثيراً من معتزلة البصرة صرحوا أن الفعل المتولد الذي يوجد في حيز الإنسان هو فعله دون ما عداه ووجد في حيز غيره، وجعلوا ما تعداه هو ما تفرد الله جل وعز به، فقالوا: إن «كل ما يحدث عن فعل من جهتنا فهو من فعلنا ... وكل ما كان سببه من جهة العبد حتى يحصل فعل آخر عنده وبحسبه واستمرت الحال فيه على طريقة واحدة فهو فعل العبد، وما ليس هذا حاله فليس بمتولد عنه، ولا يضاف إليه عن طريق الفاعلية».
وقد تعرضت نظرية التولد لنقد شديد من أصحاب مذهب الجبر، فطالما أنهم ينسبون الأفعال المباشرة لله، فهم أيضاً لابدّ أن ينسبوا غير المباشرة إلى الله دون الإنسان، قائلين: إن «الأفعال والآثار التي سمتها القدرية متولدات كلها مخلوقة لله تعالى عند أهل السنة لما مرّ في أن إثبات التخليق للخالق إثبات الشريك لله تعالى، وأنه كفر».
وهكذا أغلق أهل السنة بحث هذه المشكلة، واعتبروا أن السؤال عن مسئولية الفعل المتولد وعلى مَن تقع تؤدي بسائلها إلى الخروج عن الدين، ومن هنا أغلقت بحث هذه المشكلة، وكان كل اسهامهم هو نقد القائلين بها وكان ردهم هو قولهم إن «دليلنا في هذه المسألة ما سبق من الدلائل على أن ثبوت قدرة الاختراع لغير الله تعالى محال».
ولم يبق على ساحة الجدال الفكري في بحث هذه المسألة سوى المعتزلة بمدرستيها، والاثني عشرية وقلة آخرين ظهرت المسألة بداية بشكل مفصل عند معتزلة بغداد التي صرحت بأن جميع الأفعال الخارجة عن إرادة الإنسان واختياره إنما هي أفعال الله أو أفعال الطبيعة أو فعل الانسان، واتفق معهم في بعض هذه الجوانب بعض معتزلة البصرة، كالنظام والجاحظ بشكل خاص، حينما نسب الأفعال إلى الطبيعة.
وقد رفض الشيخ المفيد نظرية الطبع الموضوعة من قبل الجاحظ، ورد الأفعال المتولدة إلى فاعلها في السبب الأول، وهو الإنسان قائلاً: «إن ما يتولد بالطبع فإنما هو لمسببه بالفعل في المطبوع، وأنه لا فعل على الحقيقة لشيء من الطباع، وهذا مذهب أبي القاسم الكعبي، وهو خلاف مذهب المعتزلة في الطباع».
وهكذا حدد لنا الشيخ المفيد المصدر الاعتزالي الذي تأثر به في فكرة التولد، وكان هذا المصدر هو أبو القاسم الكعبي البلخي، فهما قد اتفقا على الربط بين السبب المباشر والفعل المتولد برباط الضرورة، وشبه المفيد وجود الارادة لتحقيق الفعل ضرورة بوجود الفعل المباشر لتحقيق الفعل المتولد ضرورة.
فالفعل عنده انقسم إلى ثلاثة أقسام:
ـ الإرادة وهي سابقة للفعل.
ـ الفعل المباشر، وقت التنفيذ.
ـ الفعل المتولد، وهو النتيجة غير المباشرة التي نتجت عن الفعل المباشر.
وقد فسر الشيخ المفيد هذا التلازم بقوله: «إن كل متولد فهو موجب، وليس كل موجب فهو متولد، والفرق بينهما أن الموجب الذي ليس بمتولد هو ما ولي الارادة بلا فصل بينهما من فعل المريد، والموجب المتولد هو ما ولي الذي يلي الارادة من الأفعال»، وكان هذا من أثر مذهب البلخي عليه، حين ذهب إلى الجمع بين إيجاب الارادة والتولد.
وظهر تأثير آخر على الشريف المرتضى عن طريق القاضي عبدالجبار في فهمه للفعل المتولد، وإن كان اتفق مع الشيخ المفيد في نقد أصحاب الطبع من المعتزلة ورفض الأخذ بفكرة الطبع لتفسير الفعل المتولد، بل وجّه لها نقداً عنيفاً، فقال: «ومما يبطل الطبع أنه غير معقول، لأن الفعل يقتضي مؤثراً له صفة المختار ... وأيضاً فالقول بالطبع يقتضي أن لا يصح تحرك الجسم إلى الجهات المختلفة، لأن الطبع لا يوجب إلا أمراً واحداً»، ولما كنا نرى إمكانية تحرك الجسم في الجهات المختلفة دل هذا على أن المحرك ليس هو الطبع، لأن الطبع ليس له إلا فعل واحد، وتحرك الجسم في الجهات المختلفة ينتج عن أسباب مختلفة وتبعاً لارادات متعددة.
وقد قدم الشريف المرتضى أدلته على أن الفعل المتولد ينسب إلى فاعله الأصلي، مثله في ذلك مثل الفعل المباشر، فإذا كانت هناك أدلة عقلية تثبت صحة أفعالنا المباشرة لنا، فإن هذه الأدلة أيضاً يمكن أن تستخدم للتدليل على نسبة الأفعال المتولدة لنا، يقول الشريف المرتضى: «ما دلّ على أننا نفعل على سبيل المباشرة ثابت في المتولد، ودليل المدح الذي بيّناه أيضاً في المباشر قائم في المتولد، وتسند الأفعال المتولدة منا بطرق لا يجده باقي المباشر»، وهذه مبالغة من المرتضى في أن أدلة إثبات الأفعال المتولدة إلى فاعلها أكثر من أدلة إثبات الفعل المباشر، وإن كان قد لجأ إلى هذه المبالغة كي يؤكد أن مسئولية الإنسان عن أفعاله المتولدة لا تقل عن مسئوليته عن أفعاله المباشرة.
إن معايير الحكم على الأفعال المباشرة بالمدح والذمّ، هي نفسها المعايير التي تحكم على الأفعال المتولدة، ذلك أن معيار الحكم والمسئولية واحد في الاثنين، ولذا صرح الشريف المرتضى أن «المدح والذم وجهان معتمدان أيضاً في الأفعال المتولدة».
وقد نتج عن بحث مسألة الفعل المتولد عند الاثني عشرية، وغيرهم مسألتان أساسيتان: المسألة الأولى أثر التولد في الإدراك، والمسألة الثانية أثر التولد في المسئولية الأخلاقية.
أ ـ المسئولية الإدراكية:
المسألة الأولى، هي علاقة التولد بالمعرفة والإدراك، أو المسئولية المعرفية، فقد بحث المتكلمون أثر التولد على إدراك المعارف، وتساءَلوا هل يتولد الإدراك أم لا؟
ذهب بعضهم، وعلى رأسهم النظام إلى أن فاعل الإدراك هو الله وحده، وذلك بإيجاب خلقه للحواس، وذهب أصحاب مذهب الطبائع إلى أن الإنسان مدرك لا باختيار بل بالطبع، فيكون الإدراك ليس راجعاً إلى فعل الإنسان بل إلى فعل الطبائع، صرح بهذا الجاحظ عندما تكلم عن المعرفة ووضعها تحت نظرية الطبع والضرورة قائلاً: إن المعارف تقع ضرورة بالطبع عند النظر في الأدلة، ويقول في النظر إنه وقع طبعاً واضطراراً، وربما وقع اختياراً «فمتى قويت الدواعي في النظر وقع اضطرار بالطبع، وإذا تساوت وقع اختياراً».
وتعددت وجهات النظر الأخرى للمعتزلة عند الحديث عن الإدراك، فكانت هناك نظرية أبي الهذيل العلاف الذي صرح بأن الإدراك فعل الله تعالى على جهة الاختراع «فقد يجوز أن يكون البصر صحيحاًن والموانع مرتفعة ولا يخلق الله الإدراك، فلا يدرك (الإنسان) ما بحضوره، ويجيز أن يخلق الله جل وعز العلم بالألوان في قلب الأعمى الذي لم يبصر لوناً قط».
وهذا ما أخذ به معتزلي آخر هو أبو علي الجبائي، الذي رأى أن الإنسان قد تكون له عين سليمة صحيحة وتقف أمامه المرئيات فلا يراها، بل يجب على الله أن يوجد فيه عرض البصر أو عرض العمى، فالإدراك عرض يحدثه الله في الشخص المدرك، ولا ينتج بالضرورة عن فعله المتولد، وقد ذكر القاضي عبدالجبار هذا الرأي عن الجبائي وابنه أبي هاشم، قائلاً: إن «أبا علي وأبا هاشم كانا ينكران أن يكون الانسان .. قادراً على توليد العلم والاعتقاد في شخص آخر»، وليست هذه على كل الآراء التي قدمها المعتزلة، ولكنها هي الآراء التي نقدها الشيخ المفيد، فحرصنا على عرضها دون عرض وجهات النظر الأخرى.
وقد بحث الشيخ المفيد مسألة المسئولية المعرفية وكيفية الادراك تحت عنوان «القول فيما يدرك بالحواس، وهل العلم به فعل الله تعالى أو فعل العبد»، وقسم العلم بالحواس على ثلاثة ضروب:
الأول: من أفعال الله تعالى، مثل العلم بصوت الرعد، ولون الضوء في البرق، ومثل العلم بالحر والبرد، وغيره، فالعلم بهذه الأشياء هو من فعل الله تعالى، لأن الله هو الفاعل لأسبابها.
الثاني: من فعل الشخص، مثل العلم الذي يحصل للشخص حين يفتح عينيه، أو حين يصغي بأذنيه، أو حين يلمس شيئاً حاراً أو بارداً.
الثالث: من فعل الغير، وذلك كالصائح بغيره وهو غير متعمد لسماعه، أو المؤلم له، فلا يمتنع من العلم بالآلام عند إيلامه، وقد تأثر المفيد في هذا الرأي بمذهب معتزلة بغداد.
قال الشيخ المفيد إن الفاعل «قد يولّد في غيره علماً بأشياء إذا فعل به أسباب تلك العلوم، كالذي يصيح بالساهي ففعل به علماً بالصيحة متولداً عن الصيحة، وهذا مذهب كثير من بغدادية المعتزلة، وإلى هذا ذهب أبو القاسم البلخي، وخالف في كثير منه الجبائي وأبنه وأنكر جملته النظام والمجبرة».
وهكذا حدد الشيخ المفيد موقفه من آراء المعتزلة السابقين عليه في الفعل المتولد، سواء كانوا من معتزلة البصرة أو معتزلة بغداد، وقد رفض آراء أصحاب الطبائع من المعتزلة كالنظام والجاحظ، حيث نسبا الأفعال المتولدة إلى الطبيعة، بما فيها الإدراك، واتفق المفيد مع معتزلة بغداد على أن النظر والاعتقاد والعلم والألم يمكن أن تحدث كأفعال متولدة، وأن الشخص يصح أن يولّد في غيره علماً.
وكانت مسألة الأسباب ذات أثر كبير على الشيخ المفيد عندما صرح بأنه لا يجوز أن يخلق الله العلم في قلب الأعمى، كما لا يجوز أن يفتح الإنسان عينيه وترتفع الموانع ولا يدرك ما أمامه، فربط بين الضرورة والإدراك، فالضرورة ممثلة في العلاقة بين الأسباب والمسببات، أو بمعنى آخر بين الفعل المباشر والفعل المتولد وأثر ذلك على الادراك، ولا يترك فكرة تحت مقولة الجائز التي صرح بها بعض المتكلمين ليس من الأشاعرة فقط، بل أيضاً من بعض المعتزلة، فالله عند المفيد غير قادر أن يوجد العلم بالألوان في قلب الأعمى أو كما قال: «يستحيل وجود العلم بالألوان لمن فقد ما يتوسط بين العاقل وبين معرفة الألوان من الحواس».
أراد المفيد من هذا النص السابق أن يؤكد على أن كل مَن كانت عيناه صحيحتان فإنه يرى الشيء الذي أمامه مباشرة، ولا ضرورة لفعل من الله حتى يرى الانسان شيئاً من الأشياء، فالإنسان يرى ويدرك بفعله لا بفعل الله، وهذا ما أكده الطوسي من أن «جميع أنواع الاعتقاد في مقدورنا ويصح نما أن نفعله متولداً ومباشراً، إلا أن ما نفعله متولداً لا يكون إلا علماً ولا سبب له إلا النظر».
(ب) المسئولية الأخلاقية:
المسألة الثانية وهي المسئولية الأخلاقية، هي مسئولية الإنسان عن أفعاله غير المباشرة الناتجة عن الشهوة، كان السابقون يعتقدون بمسئولية الله تعالى عن هذا الجانب، فالإنسان مجبر عن طريق ما يوجد فيه من دوافع وغرائز خلقها الله فيهم، فهو واجد شهواتهم، والبشر يفعلون بناء على هذه الطبيعة الحيوانية التي خلقوا بها.
ونقد الشيخ المفيد هذا التصور الذي يسند مسئولية الإنسان الخلقية إلى الله، وتناول موضوع الشهوة تناولاً يضع هذه الغريزة في حدود الطاقة الإنسانية، فإذا كانت الشهوة إحدى طرق فعل الله في كل حيوان، وكان هو تعالى المسئول عن الشهوات الطبيعية، والمسئول عن الشهوة العامة، إلا أن لكل حيوان دوره في توجيه التيار العام للشهوة باتجاه هدف خاص.
ولذا أرجع الشيخ المفيد فعل الشهوة إلى الإنسان قائلاً: إن الشهوة عبارة عن معنيين: أحدهما الطبع المختص بالحيوان الداعي له إلى ما يلائمه من جهة اللذات، والمعنى الآخر، ميل الطبع إلى الأعيان على التفصيل من جملة اللذات، فأما الأول فهو فعل الله سبحانه وتعالى لأن الحيوان لا يملكه ولا له فيه اختيار، وأما الثاني فهو من فعل الحيوان، فالله قد وضع القوة الطبيعية للشهوة عند الحيوان، أو ما أسماها المفيد بالشهوة العامة، وللإنسان حق تصريف هذه الشهوة فيكون مسئولاً عما يتولد عنها من أفعال.
ويدلل المرتضى على أهمية وجود الشهوة لدى الانسان لكي يحيا ويعمر الأرض ويعبد الله، فيرى أن وجود الشهوة ضرورية للبشر، فقال: «وأما الشهوة فجعلها الله تعالى فيهم لما أراده من بقائهم في الدنيا ... فلولا موضع الشهوة لما أكلوا، فبطل قوة أجسامهم عن تكليفاتهم، ويبطل حال النكاح فلا يكون لهم نسل ولا ولد، وما جرى مجرى ذلك، فالشهوة مركبة فيهم لذلك» وهذه هي الشهوة العامة التي قصدها المفيد من قبل وهي ضرورية ومن فعل الله.
ـ رابعاً: الجزاء
ترتبط عقيدة الجزاء أو الثواب والعقاب عند الاثني عشرية بتصورهم للفعل الإنساني وحدوده، وعلى هذا المنوال سار بقية المتكلمين في ربط الجزاء بتصورهم لطبيعة الفعل الإنساني، ذهب أصحاب مذهب الجبر إلى أن الإنسان مجبر في أفعاله، وأيضاً مجبر على جزائه، فالإنسان يدخل الجنة أو النار ليس بعمله، لأنه لا فعل له، وإنما بمشيئة الله وإرادته، والانسان ـ عندهم ـ مجبر في الدنيا على أفعاله، مجبر في الآخرة على جزائه، فيذكر عنهم الشهرستاني قولهم: «إن الثواب والعقاب جبر، كما أن الأفعال كلها جبر»، وهذا ما أكده أيضاً الشيخ المفيد بقوله: «فأما جهم فإنه كان يزعم أن الله يعذب من اضطره إلى المعصية ولم يجعل له قدرة عليها، ولا على تركها من الطاعة».
وهذا القول يؤدي إلى نزع الحكمة والعدل من أفعال الله إذ أنه يثيب ويعاقب لا على فعل الإنسان، حيث أن الإنسان لا فعل له عند هؤلاء، وهذا ما دفع الاثني عشرية إلى نقد هذه الفكرة وتأكيد أن الثواب والعقاب بناء على التكليف.
(أ) الجزاء والتكليف:
يربط الاثني عشرية بين الجزاء والفعل برباط متين، فالجزاء هو النتيجة الضرورية التي تلحق التكليف، وإذا كان هناك تكليف بلا جزاء لأدى هذا إلى إلحاق الظلم بالله، يقول الشيخ المفيد: «إن الله ... لا يعذب أحداً إلا على ذنب اكتسبه أو جُرم اجترمه أو قبيح نهاه فارتكبه».
وهذا ما تابعه فيه الشريف المرتضى مؤكداً على أن الثواب والعقاب هما جزاء للانسان نتيجة تكليفه والتزامه بأوامر الله ونواهيه، ولابدّ أن يقع الجزاء لأن الله تعالى قد كلف الإنسان الشاق من الأعمال، فيجب أن يثيبه، يقول المرتضى: «إنما قلنا في التكليف أنه تعريض للثواب ... ومنزلة الثواب لا تنال إلا بالأفعال التي تناولها التكليف، وليس يستحق الثواب إلا بهذه الأفعال».
وفي موضع آخر يؤكد هذا المعنى بأن أفعال الإنسان تنسب إليه حتى يحق له الثواب أو العقاب فيرد على المجبرة وهم الذين زعموا أن الأفعال إنما هي منسوبة إلى العباد مجازاً حقيقة وإنما حقيقتها لله لا للعباد قائلاً: «إن في قولكم ذلك بطلان الثواب والعقاب إذا نسبتم أفعالكم إلى الله، تعالى عما يصفون، وكيف يعاقب مخلوقاً على غير فعل منه».
وقد خالف الأشاعرة والماتريدية الاثني عشرية في هذا الأمر، فقد رأوا أن الثواب والعقاب ليسا واجبين على الله، فهو قادر على مجازاة العبد ثواباً وعقاباً، والعباد لا يوجبون على الله بأعمالهم شيئاً، يقول البزدوي: «وعندنا لا يجب عليه تعالى شيئاً، وله أن يؤلم مَن يشاء ويبتليه بالمحن من غير أن يثيبه شيئاً».
واستدل أصحاب هذا المذهب بأحد الأحاديث النبوية، عندما سئل النبي (ص) عن دخول الجنة فقال: «ما من أحد يدخله عمله الجنة وينجيه من النار، قيل: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يغمدني الله برحمة منه وفضل»، وقد فسروا هذا الحديث بأنه لا يوجد رباط بين الجزاء والعمل، فالانسان يعمل، والله يجازيه بما يشاء.
وردّ الشريف المرتضى على هذه الحجة، من خلال تفسير الحديث تفسيراً يتلائم مع تصوره في الربط بين الجزاء والتكليف، مشيراً إلى أن لهذا الحديث عدة معان، قد يكون المقصود منها بيان فقر المكلفين لله تعالى وحاجتهم إلى ألطافه توفيقاته ومعوناته، وأن العبد إذا ترك إلى نفسه وقطع الله تعالى عنه المعونة واللطف لم يدخله عمله الجنة ولا نجا من النار، فكأنه (ع) أراد أن يخبرنا «أن أحداً لا يدخل الجنة بعمله الذي لم يعنه الله تعالى عليه ولا لطّف له فيه، ولا أرشده إليه».
فالثواب والعقاب يأتيان بمعنى الجزاء، ويتبين هذا من تحليل معناهما لغوياً، فالثواب «هو جزاء الطاعة، وكذلك المثوبة» العقاب، فهما مرتبطان بالأفعال الصادرة من العباد والتي يجازى عليها.
ويستدل أصحاب مذهب الحرية من الشيعة الاثني عشرية والمعتزلة على ضرورة وقوع الجزاء بأدلة نقلية وعقلية:
من الأدلة النقلية قوله تعالى: (إن الساعة آتية أكاد أخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى) طه آية 15، وهذه الساعة يحاسب فيها الإنسان عن مدى التزامه بالتكاليف الشرعية، قال تعالى: (أفحسبتم إنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا تُرجعون) المؤمنون آية 115، ويؤكد الشيخ المفيد هذا الجانب النقلي بحديث لأحد الأئمة بقوله: «يا ابن آدم إنك ميت مبعوث وموقوف بين يدي الله عزوجل ومسئول فأعد جواباً».
أما من الناحية العقلية، فربط أصحاب مذهب الحرية بين الجزاء وأصل العدل، فالثواب والعقاب هما فعل الله وجزاؤه العادل على أفعال الناس الحسنة والسيئة، وهذا الرباط الوثيق بين فعل الله وفعل العبد، المتمثل في ثوابه وعقابه يشكل قاعدة أساسية عند القائلين بالعدل الإلهي. قال القاضي عبدالجبار: «اعلم أنه لا ظلم أقبح من معاقبة الغير بذنب الغير، وقد تقرر قبحه في عقل كل عاقل».
وهذا ما أكده أيضاً الشريف المرتضى بعبارات متشابهة، فيقول: «فأنّا نشهد أنه العدل الذي لا يجور، ولا يؤاخذ أحداً بذنب غيره، ولا يعذبه على ما ليس من فعله»، إذن بنى أصحاب مذهب الحرية من الاثني عشرية والمعتزلة الجزاء على أصل العدل ونفي القبائح عن الله تعالى.
(ب) كيفية استحقاق الجزاء:
إذا كان الاثني عشرية قد اتفقوا مع المعتزلة على ضرورة الجزاء على الأعمال، إلا أنهم قد اختلفوا حول كيفية استحقاق هذا الجزاء، ذهب المعتزلة إلى أن الجزاء بشقيه ـ الثواب والعقاب ـ واجب على الله ليس تفضلاً منه على العباد، «فالثواب والعقاب مما وعد الله بهما والله لا يخلف وعده».
فالثواب هو نتيجة للأعمال الشاقة، فيحسن بالله أن يثيب الإنسان على ما كلفه من أعمال، فالتكليف والمجازاة ليس تفضلاً فقد ثبت أن الثواب لا يحسن إلا مستحقاً، فيجب أن يحسن منه تعالى أن يكلف الشاق لأجله.
أما الاثني عشرية فقد انقسموا حول هذا الأمر إلى طائفتين: الأولى تعتقد أن الجزاء والتكليف أتى من الله عن طريق الجود والتفضل، والطائفة الأخرى قالت إنه جاء عن طريق الاستحقاق.
الطائفة الأولى: مثل الشيخ الصدوق والشيخ المفيد، أكد الصدوق ابن بابويه هذا بقوله: «إن الله أمر الانسان بالعدل، ولكنه يعامله بشيء أفضل من العدل وهو اللطف والتفضل، وينقل حديثاً عن النبي (ص)، يقول فيه: (لا يدخل الجنة أحداً بعمله إلا برحمة الله) ».
ويتابعه في ذلك الشيخ المفيد، ولكنه يخطو بفكرة اللطف والتفضل خطوات أكبر، فيشير إلى أن أساس جميع حقوق الانسان هو جود الله وكرمه، لأنه تعالى ابتدأ عباده بالنعم، فليس أحداً منهم يكافئ نعم الله تعالى عليه بعمله، ولا يشكره أحد إلا وهو مقصر بالشكر عن حق النعمة مؤكداً ذلك بأن الله تعالى لا يفعل بعباده ما داموا مكلفين إلا أصلح الأشياء لهم، وإن ما أوجبه «أصحاب اللطف من لطف إنما وجب من جهة الجود والكرم، لا من حيث ظنوا أن العدل واجبه» متفقاً في ذلك مع معتزلة بغداد في أن ثواب الجنة لطف من الله وتفضل وجود وكرم.
ومن الأدلة التي ساقها الشيخ المفيد لإثبات الزيادة في العطاء والمغفرة ما يلي:
ـ قوله تعالى: (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة) وبهذا أخبر سبحانه إن للمحسنين الثواب المستحق وزيادة من عنده، وقد أحصى سبحانه هذه الزيادة بقوله تعالى: (مَن جاء بالحسنة فله عشر أمثالها، ومَن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها وهم لا يظلمون) وقد أكد سبحانه وتعالى رحمته بالمحسنين يوم القيامة، فقال تعالى: (قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون).
ـ قوله تعالى: (وإنّ ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم، وإن ربك لشديد العقاب) وهذا يدل على أن باب المغفرة مفتوح لمن تاب وأناب، وباب العفو مفتوح لمن أخلص وآمن، وإن رحمة الله تعالى قد وسعت كل شيء.
ـ من غير المعقول أن العبد قد قام بكل ما يستحقه الله تعالى ـ المنعم عليه ـ على الوجه الأكمل، فإن كل شكر مهما تعالى مرتبته هو دون حق الله تعالى، يقول الشيخ المفيد: «وقد أجمع أهل القبلة على أن مَن قال: إني وفيت جميع ما لله عليَّ وكافأت نعمه بالشكر فهو ضال، وأجمعوا على أنهم مقصرون عن حقه، وأن لله عليهم حقوقاً».
والعباد ليس لهم قبل الله حق إلا بما تفضل به عليهم، ولأنه سبحانه وتعالى لا يسوّي بين العامل وغير العامل على طاعته، كما لا يسوّي بين الشاكر والكافر، والعقول أوجبت هذه التفرقة، ولذا رأى الشيخ المفيد أن الله تعالى كان من عدله أن يجعل للعامل الشاكر مرتبة فوق مرتبة مَن لا يعمل وكفر بالنعمة ولذا من قبيل التجاوز أن يقال إن للعبد حقاً، في حين أن الرأي الصواب عند هذه الطائفة أن الثواب ليس عن حق وإنما الثواب هو تفضل، لأنه لا وجه للمقارنة بين الواجبات المحدودة التي يفعلها الانسان والثواب الخالد الذي يحيا فيه في الآخرة.
الطائفة الثانية: مثلها الشريف المرتضى وتلميذه الطوسي، وهما في تلك المسألة أقرب إلى معتزلة البصرة، فيشير المرتضى إلى أن الجزاء محكوم بالعدل، بمعنى أن يجازى الإنسان بقدر فعله لا أقل ولا أزيد، فيقول: يجزى كل عبد بمقدار استحقاقه ومصلحته، فيوصل إليه ... ما يستوجبه بحد ومقدار.
ومن هنا رفض المرتضى رأي الطائفة الأولى التي مثّلها بعض الاثني شعرية من أن الجزاء هو تفضل من الله، وأحال أن يكون الجزاء تفضلاً، لأن الله قد أوجبه على نفسه عندما أوجب التكليف، فيقول: «فأما الثواب فما نأبى القول فيه بأنه تفضل ... بمعنى أن الله تعالى تفضل بسببه الذي هو التكليف، ولهذا نقول إنه لا يجب على الله تعالى شيئاً ابتداء، وإنما يجب عليه ما أوجبه على نفسه مما كان أوجبه على نفسه بالتكليف». وهذا ما أكده في موضع آخر بقوله: «إن العبد يدخل الجنة باستحقاقه الجنة».
وتبقى في هذه القضية جزئية أخيرة، وهي اتفاق الاثني عشرية على أن الثواب واجب على الله، أما العقاب فليس بواجب، مخالفين في ذلك اتجاه معتزلة البصرة، إذ ذهب القاضي عبدالجبار إلى أن من «علوم الوعد والوعيد ... وأن الله تعالى وعد المطيعين بالثواب وتوعد العصاة بالعقاب، وأنه يفعل ما وعد به وتوعد عليه لا محالة».
أما الاثني عشرية، فقد اتفقوا على أن الثواب واجب على الله، في حين أن العقاب غير واجب، بمعنى أنه يجب على الله أن يثيب المطيع، ويحق لله أن يتناول عن عقاب المسيء، وهم في هذا قد خالفوا المعتزلة، يؤكد الصدوق ابن بابويه فكرته بايراد بعض الأخبار والأحاديث عن رسول الله (ص) القائل: «مَن وعده الله على عمل الثواب فهو منجزه له ومَن أوعده على عمل عقاب فهو فيه بالخير، ومؤكداً ذلك بقوله تعالى: (إن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم) الرعد آية 6».
وسار المفيد على هذا المنوال من وجوب الوعد وعدم وجوب الوعيد قائلاً: «إن كثيراً من المطيعين لله سبحانه وتعالى يثابون على طاعتهم في دار الدنيا وليس لهم في الآخرة من نصيب»، وهذا ما أكده أيضاً الطوسي بقوله: «كل مَن مات وله حق لم يستوفه في دار الدنيا فإنه يجب إعادته على كل حال، لأن الثواب الدائم لا يمكن توفيره في دار الدنيا، وأما مَن يستحق العقاب فلا يجب إعادته، لأن العقاب يحسن إسقاطه عقلاً».
وهذا مذهب كل مَن قال من أصحاب الحرية أن كرم الله وجوده يسبق عدله، فكرمه أن يجازي المثيب بالجنة، ويعفو عن المذنب من العقاب، فلا يبعثه، أو إذا بعثه فإما أن يتفضل عليه بالجنة، أو يشفع له النبي وأولياء الله فيدخل الجنة، وهنا كان العقاب عندهم غير واجب.
(ج) المثاب والمعاقب:
ذهب الاثني عشرية إلى أن المثاب هو كل مسلم مؤمن، ولكنهم اختلفوا في معنى الإيمان وهي مسألة اختلف فيها المسلمون منذ عصورهم الأولى، وانقسموا فيها إلى آراء بعضهم ربط الإيمان بالقلب فقط دون العمل، مثل المرجئة والأشاعرة والماتريدية، ومنهم مَن جمع بين القول والعمل، مثل الخوارج والمعتزلة، مَن قال بالقول فقط دون العمل فرق بين الإيمان والإسلام، ومَن جمع بين القول والعمل جمع بين الإيمان والإسلام.
وقد فهم الاثني عشرية الإيمان بمعنى آخر، فذهب الشيخ الصدوق إلى أن هناك اختلاف بين الإيمان والإسلام، فالإيمان أخص والإسلام أعم، فقد ينتفي الإيمان ويبقى الإسلام، أما إذا انتفى الإسلام، فإن الإيمان منتقص لا محالة، وهذا ما أكده قائلاً: «قد يكون العبد مسلماً قبل أن يكون مؤمناً، ولا يكون مؤمناً حتى يكون مسلماً، فالإسلام قبل الإيمان».
ويدلل على أن الإيمان يجمع بين القول والعمل بذكر مجموعة من الأحاديث عن الرسول (ص) مثل قوله: «الإيمان معرفة بالقلب وإقرار باللسان وعمل بالأركان» وبعض الأحاديث عن الأئمة مثل قول الرضا: «الإيمان عقد بالقلب ولفظ باللسان وعمل بالجوارح لا يكون الإيمان إلا هكذا».
أما الشيخ المفيد، فيظهر عنده التردد، وصرح برأيين مختلفين، الرأي الأول يتابع فيه ابن بابويه في التفرقة بين الإيمان والإسلام، متفقاً في ذلك مع المرجئة وبعض أئمة مذهبه، فيقول: اتفقت الإمامية على أن الإسلام غير الإيمان .. وأجمعت المعتزلة وكثير من الخوارج والزيدية على خلاف ذلك، وزعموا أن كل مسلم مؤمن وأنه لا فرق بين الإسلام والإيمان في الدين.
وفي أحيان أخرى يتراجع الشيخ المفيد عن هذا الرأي المعارض للمعتزلة، ويقول برأي يقارب المعتزلة الذي يجمع في الإيمان بين القول والعمل، ويردد حديثاً عن الإمام علي (رض) عن رسول الله (ص) أنه قال: «الإيمان قول مقول وعمل معمول، وعرفان العقول»، وأكد هذا الحديث بحديث آخر يقول: إن «مَن قال لا إله إلا الله فلن يلج ملكوت السماء حتى يتم قوله بعمل صالح».
ولا نعرف سراً لهذا التردد الذي وقع فيه المفيد، سوى أنه كان في بعض الأحيان يغالب أمرين الأثر الاعتزالي والانتماء الشيعي، أو ربما كان نتيجة ظروف سياسية عاصرها أحياناً توجب عليه التقية فيصرح أن الإيمان قول فقط، وأحياناً أخرى توجب عليه الثورة والمقاومة، فيصرح أن الإيمان قول وعمل، حيث عاصر ظروفاً سياسية مضطربة.
أما الشريف المرتضى فيفرق بين الإيمان والإسلام، لأن الإيمان عنده يجمع بين القول والعمل، فالإيمان يزيد وينقص، ويدلل على ذلك بقوله: «فلو كان الإيمان كله واحداً لا زيادة فيه ولا نقصان لم يكن لأحد فضل على أحد، ولتساوى الناس» ومن هنا كان الإيمان عنده درجات تزيد أو تنقص.
أما المعاقب فهو ـ عند الاثني عشرية ـ الكافر فقط دون المسلم مرتكب المعاصي، أو ما اصطلح على تسميته بمرتكب الكبيرة، وفي هذه المسألة أيضاً وقع خلاف بين الشيعة من جهة والمعتزلة والخوارج من جهة أخرى، وقد بحثها المتكلمون من قبل تحت مسألة الأسماء والأحكام، أي ما هو الاسم الذي يطلق على مرتكب الكبيرة، وما الحكم الذي يعاقب عليه في الآخرة.
ذهب الخوارج إلى أن مرتكب الكبيرة كافر يخلد في النار، أما المعتزلة فقد أطلقوا على مرتكب الكبيرة اسم فاسق، وجعلوه في الدنيا في منزلة بين المنزلتين، إذا مات دون أن يتوب، يخلد في النار، وأجمع المعتزلة منذ واصل بن عطاء على أن فاعل الكبيرة هو فاسق، وكان أصل المنزلة بين المنزلتين هو أول أصول المعتزلة من الناحية التاريخية، وبناء على موقفهم من هذه القضية نشأت فرقة المعتزلة، فالبشر في الآخرة هم فريقان «فريق الجنة، وفريق السعير»، أي أن حكم الإنسان إما أن يكون مؤمناً يدخل الجنة، أو كافراً ومرتكب للكبيرة فيدخل النار، ولكن في درجة أقل من درجة الكافر.
وقد اختلف الاثني عشرية مع المعتزلة في الاسم والحكم الذي يحقّ على مرتكب الكبيرة ونلاحظ ابتداء من الشيخ الصدوق موقفاً موحداً للاثني عشرية تجاه هذه المسألة فيذكر ابن بابويه أن فعل الكبائر أو الصغائر لا يخرج المسلم عن الإسلام، وإن اكن يخرجه عن الإيمان، فقد يعاقب حينئذ العاصي بقدر ذنبه في النار ولكنه لا يخلد فيها، وذلك لأخذه بفكرة الشفاعة بعد ذلك.
وأكد الشيخ المفيد اتفاق الإمامية حول هذا الأمر قائلاً: «اتفقت الإمامية على أن مرتكب الكبائر من أهل المعرفة والاقرار لا يخرج بذلك عن الإسلام، وأنه مسلم وإن كان فاسقاً بما فعله ... وأجمعت المعتزلة وكثير من الخوارج على خلاف ذلك، وزعموا أن مرتكب الكبائر فاسق».
أما حكمه فلا يخلد في النار، فإما أن يدخل النار بمقدار ما ارتكب من معاصي أو تلحقه رحمة الله فلا يدخلها ويدخل الجنة، أو تلحقه الشفاعة، وهذا على خلاف المعتزلة الذين صرحوا بأن الفاسق إذا مات دون توبة يخلد في النار، أما الاثني عشرية، فقد اتفقوا على أن الوعيد بالخلود في النار متوجه إلى الكفار فقط دون مرتكبي الذنوب من أهل المعرفة بالله تعالى «واتفقت الإمامية على أن مَن عذب بذنبه من أهل الاقرار والمعرفة والصلاة لم يخلد في العذاب وأخرج من النار إلى الجنة ... وأجمعت المعتزلة على خلاف ذلك».
والشريف المرتضى على الرغم من تأثره بالمعتزلة في آراء كثيرة، إلا أنه كان صريحاً في انتمائه إلى فرقته في موقفها من حكم مرتكب الكبيرة، فالعاصي قد جمع بين الإيمان والذنوب الموسومة بالكبائر، فإذا جاء إلى يوم القيامة كان مستحقاً لثواب اسلامه وعقاب معصيته، فإن لم يغفر ذنبه، عوقب بقدر استحقاقه ثم نقل إلى الجنة ليخلد فيها، يقول المرتضى: «إن العبد المسلم لا يجوز أن يكون مخلداً في النار بعقاب معاصيه، لأن الإيمان يستحق به الثواب الدائم والنعيم المتصل، والكبيرة التي واقعها المؤمن إنما يستحق بها العقاب المنقطع».
وهذا ما أكده الطوسي من أن العاصي عقابه منقطع، فلا يخلد في النار، كما قال المعتزلة، لأن «المستحق للعقاب (من المسلمين) .. عقابه منقطعاً، فلا يكون كذلك إلا وهو مستحق الثواب الدائم بطاعته، فإذا أعيد ربما استوفى عقابه، ثم نقل إلى الثواب وربما عفي عن عقابه».
وهذا الرأي بلا شك رأي معتدل يتفق مع رأي الجمهور، فالله عند الكثيرين منهم متفضل على العبد يغفر لمن يشاء، وذلك لا ينافي عدله تعالى، لأن العدل هو الجزاء على العمل بقدر ما يستحق، وهو لا يمنع التفضل، والظلم هو منع إعطاء الحق لصاحبه، والله سبحانه وتعالى متفضل رحيم غفار للذنوب.
وكانت إحدى الوسائل التي اعتمدها الاثني عشرية لبيان التفضل الإلهي على الإنسان العاصي هي الشفاعة، ومن هنا كان للشفاعة دورها في تخفيف العقاب الذي يواجه العاصي في يوم القيامة.
(د) الشفاعة:
تعد الشفاعة من المسائل التي أثارت جدلاً كبيراً بين المتكلمين، وانقسموا فيها إلى اتجاه ضم الاثني عشرية والأشاعرة وغيرهم ممن أقر الشفاعة، واتجاه أنكر الشفاعة للعاصي، مثله المعتزلة والخوارج، ولم يكن الخلاف حول تقرير أمر الشفاعة ـ بقدر ما كان الخلاف حول مستحقيها، ذهب الأشاعرة إلى أن الشفاعة من الرسول (ص) لأهل الكبائر من أمته، وبعد هذا من الأمور المسلم بها عندهم، يقول الباقلاني: أجمع المسلمون أن الرسول (ص) قد جعل الشفاعة للمذنبين المرتكبين للكبائر، وهذا اتباعاً لقوله (ص): «شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي».
وسائر الماتريدية على نفس المنوال في إثبات الشفاعة لأهل الكبائر من المسلمين، إذ اجتمعوا على أن مرتكب الكبيرة لا يخلد في النار لما في قلبه من الإيمان، يقول أبو المعين النسفي: «عندنا .. جاز أن يغفر الله تعالى لصاحب الكبيرة بفضله ورحمته، وكانت المغفرة تحت الحكمة، جاز أن يغفر له بشفاعة لرسل والأنبياء، وبشفاعة من الأخيار من الآباء والأبناء والأقارب .. وغيرهم». وهكذا فتح الباب على مصراعيه لهروب أصحاب الذنوب.
أما المعتزلة، فيرفضون الشفاعة لأهل الكبائر، ويرون أنها قد ذكرت للمطيعين والتائبين، ورفع الدرجات وزيادة المثوبات، فقد بنوا على أصلهم في عدم جواز خلف الوعيد أن المذنب على كبيرة إذا مات عليها فيخلد في النار، ومن أجل هذا أنكروا الشفاعة لعصاة المسلمين، يقول القاضي عبدالجبار: «فأما قولنا في إثبات الشفاعة فهو معروف، ونزعم أن مَن أنكره فقد أخطأ الخطأ العظيم، ولكننا نقول لأهل الثواب دون أهل العقاب ولأولياء الله دون أعدائه، ويشفع (ص) في أن يزيدهم تفضلاً عظيماً».
وتسلم الاثني عشرية بالشفاعة للعاصي، متفقة في ذلك مع أغلب المسلمين، ومختلفة في ذلك مع المعتزلة والخوارج، وتعرف الشفاعة بأنها تعني «طلب إسقاط العقاب عن مستحقه، وإنما يستعمل في طلب إيصال المنافع مجازاً وتوسعاً».
واتفق جميع الاثني عشرية على وجود الشفاعة، أكدها الصدوق اعتماداً على أحاديث السابقين، فيقول: «حدثني أبي عن آبائه عن عليّ .. قال: سمعت رسول الله (ص) يقول: إنما شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي».
ويتابع الشيخ المفيد أستاذه الصدوق في وجود شفاعة للعصاة ومرتكب الكبائر من المسلمين بل وسع من حدودها، فلا تقتصر الشفاعة عنده على النبي (ص) بل هناك شفاعة من الإمام علي للشيعة، قائلاً: «اتفقت الإمامية على أن رسول الله (ص) يشفع يوم القيامة لجماعة من مرتكبي الكبائر، وأن أمير المؤمنين يشفع في أصحاب الذنوب من شيعته».
ولا يخالف الشريف المرتضى أستاذه المفيد في مسألة الشفاعة، ناقداً المعتزلة، ومخالفاً لهم مخالفة صريحة ونقد كل الأدلة النقلية التي اعتمدوا عليها عن طريق تأويلها تأويلاً يخالف ما هدفوا إليه، منتهياً إلى: أن «تفسير المعتزلة للشفاعة .. لا يصدر إلا من عقل فاسد»، وهو نفس المنوال الذي اتبعه الطوسي بعده قائلاً: «وأعتقد أن شفاعة محمد (ص) نبيّنا حقاً حقاً، وكذلك الأئمة الطاهرين الأبرار المعصومين ودليل القرآن العظيم نطق به، والنبي (ع) أخبر به فيكون حقاً».
وهكذا ينهي الاثني عشرية بحثهم في الحرية الإنسانية بمبحث الجزاء مثبتين أن للإنسان جزاء الجنة على فعله للخير، وجزاء النار على فعله للشر، ولكنه لو كان من المؤمنين بوجود الله ونبي الإسلام محمد (ص) فله أن يخرج من النار ويدخل الجنة إما برحمة الله أو بشفاعة رسوله.
source : البلاغ