عربي
Friday 27th of December 2024
0
نفر 0

جنّة آدم (ع) دور الطفولة البشرية

جنّة آدم (ع) دور الطفولة البشرية

من «المقولات الجريئة» التي تسجّل على (السيِّد محمد حسين فضل الله) هو قوله: إنّ آدم (ع) كان «طيِّباً ساذجاً»، وإنّ الجنّة كانت تمثِّل «دورة تدريبيّة» له، وإنّهُ كان يعيش «الضعف البشري». ويرى البعض أنّها «لا تليق نسبتها بنبيّ من أنبياء الله، بل ولا يرضى أحدٌ من النّاس بأن ينسب إليه بعضها».
ـ ثماني مقولات «جريئة»!
والمقولات الّتي تسجّل على السيد فضل الله ضمن المقولات «الجريئة» الّتي «يعرفُ كُلُّ عالم بصير أنّها لا تنسجمُ مع مدرسة أهل البيت (ع) »، هي:
1 ـ معصية آدم كمعصية إبليس.
2 ـ الفرق بين آدم وإبليس هو في الإصرار والتوبة.
3 ـ آدم ينسى ربّه، وينسى موقعه منه.
4 ـ آدم استسلم لأحلامه الخياليّة، وطموحاته الذاتيّة.
5 ـ آدم طيّب وساذج: لا وعي لديه.
6 ـ آدم يعيش الضعف البشري أمام الحرمان.
7 ـ آدم يمارس الرغبة المحرّمة.
8 ـ الدورة التدريبيّة لآدم (ع).
وقد تبدو المقولتان الاُولى (معصية آدم كمعصية إبليس)، والثانية (الفرق بين آدم وإبليس هو في الإصرار والتوبة)، غريبتان وجريئتان، بَيْد أنّ الرجوع إلى سياق الحديث والأحاديث الاُخرى للسيِّد في نفس كتاب (من وحي القرآن)، يظهر المقصود بصورة جليّة وواضحة وضوح الشمس في رابعة النهار.
إنّ المقولتين جاءتا في السياق كمقولة واحدة، وفي سياق واحد، ولا يمكن تجزئتهما بهذا الشكل .. حيث إنّ (السيِّد) يصرّح بأنّ معصية إبليس كانت «تمرّداً واستكباراً على الله»، بينما لم تكن معصية آدم (ع) «تمرّداً على الله وعصياناً لإرادته» ]من وحي القرآن/ 1/ 182[، كما ويصرّح بأنّ معصية إبليس كانت معصية لأمر مولويّ، بينما كانت معصية آدم لنهي إرشاديّ، «وأنّ كلمة المعصية لا تختصّ بالمعصية القانونيّة المستتبعة للعقاب، فيصحّ لنا أن نطلق على التمرّد على أوامر الطبيب كلمة العصيان، فنقول: عصيتُ أمر الطبيب». ]من وحي القرآن/ 1/ 186[
ومن أجل أن تتّضح الصورة، ونقف على كلمات (السيِّد) حول قصّة آدم ومعصيته وإغوائه .. لابدّ وأن نعيش نظريّته في قصة آدم (ع)، المستمدّة من القرآن الكريم، ولماذا أسكن الله تعالى الانسان الجنّة وقد خلقه ليمارس دور الخلافة على الأرض؟ ولابُدّ، قبل أن نطرح نظراته الأساسيّة حول ذلك، أن أستعرض ـ باختصار ـ نظريّات وأقوال العلماء الأعلام في ذلك، لنرى أنّ ما قاله (السيِّد) ليس جديداً على الإطلاق ..
ـ النصّ القرآني:
(وقُلْنا يا آدَمُ اسْكُن أنْتَ وزَوْجُكَ الجنّةَ وكُلاَ مِنْها رَغَداً حَيثُ شِئْتُما ولا تَقرَبا هذه الشَّجَرَةَ فَتَكونا مِنَ الظّالِمين * فَأزَلّهُما الشّيطانُ عَنْها فَأخْرَجَهُما مِمّا كانا فيهِ وقُلْنا اهْبِطُوا بَعْضُكُم لِبَعْض عَدُوٌّ ولَكُم في الأرْضِ مُسْتَقَرٌّ ومَتاعٌ إلى حِين * فَتَلَقّى آدمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمات فَتابَ عليهِ إنّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيم) ]البقرة/ 35 ـ 37[.
(وَلَقَد عَهِدنا إلى آدمَ منْ قبلُ فَنَسيَ ولم نَجِد لهُ عزما * وإذْ قُلْنا للملائِكَةِ اسْجُدوا لآدَمَ فسَجَدوا إلاّ إبليسَ أبى * فَقُلنا يا آدَمُ إنّ هذا عَدُوٌّ لكَ ولِزَوجِكَ فلا يُخرجنّكما مِنَ الجنّة فَتَشْقى * إنّ لكَ ألاّ تَجوعَ فيها ولا تَعْرى * وأنّكَ لا تظمأُ فيها ولا تَضْحى * فَوَسْوَسَ إليه الشّيطانُ قالَ يا آدمُ هَلْ أدُلُّكَ على شجرة الخُلْدِ ومُلْك لا يبلى * فأكلا منها فَبَدَتْ لَهُما سَوءاتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عليهما مِن وَرَقِ الجَنّةِ وعَصى آدمُ ربَّهُ فَغوى * ثُمَّ اجتباهُ رَبُّهُ فتابَ عليه وَهَدَى) ]طه/ 115 ـ 122[.
(فَوَسْوَسَ لَهُما الشّيْطانُ لِيُبديَ لَهُما ما وُرِيَ عَنْهُما مِن سوءاتِهِما وقالَ ما نهاكُما ربُّكما عن هذهِ الشَّجَرَةِ إلاّ أنْ تَكونا مَلَكَيْنِ أوْ تكونا مِنَ الخالِدين * وَقاسَمَهُما إنِّي لَكُما لَمِنَ النّاصِحِين * فَدَلّاهُما بِغُرُور فَلَمّا ذاقا الشَّجَرَة بَدَت لَهُما سوءاتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَليهما مِن وَرَقِ الجَنّةِ وناداهُما رَبُّهُما ألَمْ أنْهَكُما عَن تِلْكُما الشَّجَرَةِ وأقُل لَكُما إنّ الشّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبين * قالاَ رَبَّنا ظَلَمْنا أنْفُسنا وإن لَّم تَغْفِر لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخاسِرين) ]الأعراف/ 20 ـ 23[.
ـ نظرية المرجع الشهيد الصّدر: الجنّة دار حضانة استثنائيّة
في بحثه القيِّم: «خلافة الانسان وشهادة الأنبياء» استعرض المرجع الشهيد محمدباقر الصدر الدور الأوّل لـ (مسار الخلافة الربّانيّة على الأرض) تحت عنوان (التمهيد لدور الخلافة)، اعتبر فيه أنّ آدم (ع) يمتاز بـ (فارق جوهريّ) عن أيِّ إنسان آخر، «وهو أنّ كلّ إنسان يمرُّ في مرحلة الطفولة بدور احتضان إلى أن يبلغ رشده; لأنّ هذه المرحلة لا تسمحُ للانسان بالاستقلال ومواجهة مشاكل الحياة وتحقيق أهداف الخلافة، فلابُدّ من حضانة ينمو الطفل من خلالها ويُربّى في إطارها إلى أن يستكمل رُشده. وكلُّ طفل يجد عادةً في أبويه وجوّهما العائلي الحضانة اللاّزمة له، غير أنّ الانسان الأوّل ـ آدم ـ الّذي لم ينشأ في جوّ عائلي من هذا القبيل كان بحاجة إلى دار حضانة استثنائيّة يجد فيها التنمية والتوعية الّتي تؤهِّله لمماسة دور الخلافة على الأرض، من ناحية فهم الحياة ومشاكلها الماديّة، ومن ناحية مسؤوليّاتها الخُلقيّة والروحيّة. وقد عبّر القرآن الكريم عن دار الحضانة الاستثنائيّة ـ الّتي وفّرت للإنسان الأوّل ـ بالجنّة».
«وكان أوّل تكليف وجِّه إليه أن يُمسك عن شجرة معيّنة في تلك الجنينة; ترويضاً للانسان الخليفة على أن يتحكّم في نزواته، ويكتفي من الاستمتاع بطيبات الدنيا بالحدود المعقولة من الاشباع الكريم، ولا ينساق مع الحرص المحموم على المزيد من زينة الحياة الدنيا ومتعها وطيِّباتها، لأنّ هذا الحرص هو الأساس لكلِّ ما شهده المسرح بعد ذلك من ألوان استغلال الانسان للانسان».
«وقد استطاعت المعصية الّتي ارتكبها آدم بتناوله من الشجرة المحرّمة أن تُحدِث هزّةً روحيّة كبيرة في نفسه، وتفجِّرَ في أعماقه الإحساس بالمسؤوليّة من خلال مشاعر الندم، وطَفِقَ في اللحظة يخصفُ على جسده من ورقِ الجنّة; ليواري سوءته، ويستغفر الله تعالى لذنبه».
«وبهذا تكامل وعيه في الوقت الّذي كانت قد نضجت لديه خبرات الحياة المتنوِّعة، وتعلّم الأسماء كلّها، فحان الوقت لخروجه من الجنّة إلى الأرض الّتي استخلف عليها; ليمارس مسيرته نحو الله من خلال دوره في الخلافة». ]الإسلام يقود الحياة/ 151 ـ 153[
ـ نظريّة العلامة الطباطبائي: آدم (ع) وجنّةُ الاعتدال
يرى العلامة الطباطبائي أنّ قصّة آدم والجنّة «تمثِّلُ حال الانسان بحسب طبعه الأرضي المادي»، وأنّ الجنّة تمثِّل «جنّة الاعتدال»، حذّرهُ الله تعالى فيها من «الإسراف باتّباع الهوى، والتعلّق بسراب الدنيا، ونسيان جانب الربِّ تعالى بترك عهده إليه وعصيانه واتِّباع وسوسة الشيطان الّذي يُزيِّنُ لهُ الدّنيا ويصوّرُ لهُ ويُخيّلُ إليه أنّهُ لو تعلّق بها ونسي ربّه اكتسب بذلك سلطاناً على الأسباب الكونيّة، يستخدمها ويستذلُّ بها كلّ ما يتمنّاه من لذائذ الحياة، وأنّها باقية له وهو باق لها، حتّى إذا تعلّق بها ونسي مقام ربِّه ظهرت له سوآت الحياة ولاحت له مساوئ الشقاء بنزول النوازل وخيانة الدهر ونكول الأسباب وتولِّي الشيطان عنه، فطفق يخصفُ عليه من ظواهر النعم يستدرك بموجود نعمة مفقود اُخرى، ويميل من عذاب إلى ما هو أشدُّ منه، ويعالج الدّاء المؤلم بآخر أكثر منه ألماً حتّى يُؤمر بالخروج من جنّةِ النّعمة والكرامة إلى مهبط الشقاء والخيبة». ]الميزان/ 14/ 218 ـ 219[
العهد المنسيّ: عهد الربوبيّة والعبوديّة
وينطلق العلامة الطباطبائي في هذه النظرة، من قوله تعالى: (وَلَقَد عَهِدنا إلى آدَمَ مِن قَبلُ فنَسيَ ولَم نَجِد لهُ عَزْماً) ]طه/ 115[.
والآية تصرِّح بأن آدم (ع) قد أصابه النسيان: (فَنَسِيَ ولم نَجِد لَهُ عَزْما)، والّذي نَسِيَهُ هو (العهد) كما يظهر من السِّياق، بَيدَ أنّ الكلام يدور في عالم التفسير حول تحديد (العهد) الّذي نسيه آدم (ع).
هناك ثلاثة أحتمالات يطرحها العلامة الطباطبائي في ذلك:
الإحتمال الأوّل: العهد هو النهي عن الاقتراب من الشجرة: (ولا تَقْرَبا هذهِ الشّجرةَ فَتكونا مِنَ الظّالمين) ]البقرة/ 35[.
الإحتمال الثاني: العهد هو تحذيره من إبليس ومكائده، بقوله تعالى: (إنّ هذا عدوٌ لكَ ولزوجِكَ فلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الجنّةِ فَتَشْقى) ]طه/ 117[.
الإحتمال الثالث: العهد هو عهد الربوبيّة والعبوديّة، بمعنى الميثاق العمومي المأخوذ من جميع الناس، ومن الأنبياء خاصّة بوجه آكد وأغلظ.
يضعّف العلامة الطباطبائي الإحتمالين الأوّل والثاني، ويختار الثالث ليكون نسيان العهد بمعنى نسيان عهد الربوبيّة بغفلةِ الانسان عن ذكر مقام ربِّه بالالتفات إلى نفسه أو ما يعود ويرجع إليها، حيث يقول: «والإحتمال الأوّل غير صحيح لقوله تعالى: (فَوَسْوَسَ لَهُما الشّيطان ... وقالَ ما نَهاكُما ربُّكما عن هذهِ الشَّجَرَةِ إلاّ أن تَكونا مَلَكَيْنِ أو تكونا مِنَ الخالدين * وقاسَمَهُما إنِّي لَكُما لَمِنَ النّاصِحِين) ]الأعراف/ 20 ـ 21[.
فهما قد كانا حين اقتراف الخطيئة واقتراب الشجرة على ذكر من النهي، وقد قال تعالى: (فَنَسِيَ ولَم نَجِد لَهُ عَزْما) فالعهد المذكور ليس هو النهي عن قرب الشجرة.
وأمّا الإحتمال الثاني (وهو أن يكون العهد المذكور هو التحذير من اتِّباع إبليس) فهو وإنْ لم يكن بالبعيد كلّ البعد، لكن ظواهر الآيات لا تُساعد عليه، فإنّ العهد مخصوص بآدم (ع) كما هو ظاهر الآية. مع أنّ التحذير كان لهما معاً. وأيضاً ذيل الآيات وهو على طبق صدرها في سورة طه يناسب العهد بمعنى الميثاق الكلِّي، لا العهد بمعنى التحذير عن إبليس».
ثمّ يوضِّح العلامة الطباطبائي معنى الميثاق على الربوبيّة بقوله: «هو أنْ لا ينسى الانسان كونه تعالى ربّاً أي مالكاً مدبِّراً، أي لا ينسى الانسان أبداً ولا في حال أنّهُ مملوكٌ طلق لا يملك لنفسه شيئاً، لا نفعاً ولا ضرّاً ولا موتاً ولا حياة ولا نشورا، أي لا ذاتاً ولا وصفاً ولا فعلاً».
«والخطيئة الّتي تقابله هو إعراض الإنسان عن ذكر مقام ربِّه والغفلة عنهُ بالإلتفات إلى نفسه أو ما يعود ويرجع إلى نفسه من زخارف الحياة الدنيا الفانية البالية». ]الميزان/ 1/ 128[
ويؤكِّد صاحب تفسير (الميزان) أنّ (جنّة الاعتدال) كانت «قبل تشريع أصل الدين»، وأنّها «جنّة برزخيّة ممثّلة في عيشة دنيويّة»، وأنّ العهد كذلك «عهد قبل تشريع أصل الدين الواقع عند الأمر بالخروج من الجنّة والهبوط إلى الأرض»، وما وقع فيه آدم (ع) من المعصية والغواية كان قبل الاجتباء والهداية، كما هو واضح من السّياق: (وعَصى آدَمُ ربَّهُ فَغَوى * ثمّ اجْتباه رَبُّهُ فتابَ عليه وهَدى) ]طه/ 121 ـ 122[، ولذلك كان «النهيُ إرشاديّاً لا مولويّاً».
ـ رؤية السيِّد السبزواري: جنّةُ آدم (ع) والمراحل العشر
يرى السيِّد عبدالأعلى السبزواري (قده) في تفسيره القيِّم (مواهب الرّحمن) أنّه يُستفاد من مجموع الآيات الواردة في خلق آدم (ع) أنّه مرّ بمراحل عشر لا تخلو ذرِّيَّته منها أيضاً، وهي:
المرحلة الاُولى ـ ما قبل نفخ الرّوح: وهي بمنزلة الجنين في سائر أفراد الانسان.
المرحلة الثانية ـ نفخ الرّوح: وهي بمنزلة تكريم المولود، وهي حالة اعتناء الله تعالى بآدم (ع) وتعظيمه، وأمره بسجود الملائكة له.
المرحلة الثالثة ـ التربية: وهي تعليم الله تعالى الأسماء كلّها لآدم، وهي بمنزلة تعليم الوالدين وتربيتهما للولد.
المرحلة الرابعة ـ بيان الفضل: وهي مرحلة السجود لآدم (ع).
المرحلة الخامسة ـ التمتّع واللّعب: وهي مرحلة إسكان آدم (ع) الجنة.
المرحلة السادسة ـ تزاحم الأهواء والأفكار والآمال: وهي مرحلة إرشاد آدم (ع) إلى ترك الأكل من الشجرة ... وهي مرحلة التمييز في أفراد الانسان.
المرحلة السابعة ـ التمايل الجنسي وتوليد المثل: وهي مرحلة ظهور السوءة (فَبَدَت لَهُما سَوءاتهما) ]طه/ 121[، وهي ظاهرة في أفراد الانسان.
المرحلة الثامنة ـ العيش والبقاء الدائمي: المستفاد من تعليق قوله تعالى: (إنّ لكَ أن لا تَجوعَ فيها ولا تَعْرى) ]طه/ 118[، على ترك الأكل من الشجرة، والعيش والبقاء غير الدائمي المستفاد من قوله تعالى: (ولَكُم في الأرْضِ مُسْتَقَرٌّ ومَتاعٌ إلى حِين) ]البقرة/ 36[.
المرحلة التاسعة ـ التكليف والعمل: إمّا في طريق الهداية والإيمان، أو الكفر والخسران.
المرحلة العاشرة ـ النتائج: إمّا الثواب، أو العقاب.
هذه هي المراحل الّتي مرّ بها آدم (ع) والّتي يمرّ بها الانسان.
ومن الواضح أنّ السيِّد السبزواري يذهب إلى أن جنّة آدم كانت تمثِّل مرحلةً إعداديّة ودورة تمهيديّة تكامل فيها آدم (ع) حتى وصل إلى أن يكون أهلاً للتكليف والمسؤوليّة وهي المرحلة التاسعة والعاشرة. ]راجع: مواهب الرّحمن/ 1/ 207 ـ 208[
ـ رؤية (السيِّد فضل الله): المرحلة تمهيديّة، والنواهي إرشاديّة، والمعصية عفويّة
لم تكن رؤية (السيِّد) بعيدةً عن رؤى هؤلاء الأعلام، بل هي ذاتها، ولا يوجد اختلاف إلاّ في التعبير واُسلوب الأداء .. وتتلخّص رؤية صاحب (من وحي القرآن) بما يلي:
أوّلاً: مرحلة الجنّة تجربة الانسان الأُولى
إنّ تجربة آدم وحوّاء (ع) كانت تجربة الانسان الأولى في الوجود، وكانت «مرحلة تمهيديّة»، و «تجربة تدريبيّة»; ليمارسا بعدها دور الخلافة على الأرض.
ثانياً: لا سابقة مع الغشّ والكذب
«لم تكن لهذين المخلوقين أيّة تجربة سابقة مع الغشِّ والكذب والخداع واللّفِّ والدّوران .. كان الصِّدق .. وكانت البساطة في مواجهة الأشياء، وكانت العفويّة في تقبّل الكلمات»، ولهذا «لم يتصوّرا أنّ هناك غشّاً في النوايا، وخداعاً في الأساليب، بل كلّ ما عندهما الصفاء والنقاء والنظر إلى الحياة من وجه واحد، هو الحقيقة بعينها».
ثالثاً: الاستسلام للأماني الإبليسيّة
كان إبليس لهما بالمرصاد «من موقع حقده وحسده وعداوته، فمشى إليهما في صورة الملاك الناصح ليقول لهما: إنّ هذا النهي عن الأكل من الشجرة لا يلزمهما، بل سيحصلان ـ من خلال تجاوزه ـ على لذّة الخلود والانطلاق في أجواء الملائكة»، ولهذا «استسلما للكلمات المغلّفة بغلاف من البراءة والنُّصح، من دون أن يشعرا بأنّ ذلك يمثِّل تمرّداً على الله وعصياناً لإرادته».
رابعاً: النهي الإرشادي لا المولوي
إنّ النهي في قوله تعالى: (ولا تَقربا هذه الشجرة فتكونا مِنَ الظّالمين) ]البقرة/ 35[ كان إرشادياً ولم يكن مولوياً، «باعتبار أنّ نتيجته فقدان نعيم الجنّة لا التعرّض لعقاب الله»، ولهذا «فلا منافاة فيها لفكرة العصمة من قريب أو بعيد». ]من وحي القرآن/ 1/ 185[ ]راجع: من وحي القرآن/ 15/ 171[
خامساً: المعصية الإرشادية لا المولوية
ولا يتنافى ذلك مع ظواهر الآيات القرآنية الّتي تنسبُ المعصية والغواية والظلم إلى آدم (ع) كقوله تعالى: (وعصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى) ]طه/ 121[، (قالا ربّنا ظَلَمنا أنفُسَنا وإنْ لم تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنكُونَنَّ مِنَ الخاسرين) ]الأعراف/ 23[، وقوله: (ولا تَقْرَبا هذه الشّجَرة فَتكونا مِنَ الظّالمين) ]البقرة/ 35[، وذلك:
1 ـ «إنّ كلمة المعصية لا تختص بالمعصية القانونية المستتبعة للعقاب، فيصح لنا أن نطلق على التمرّد على أوامر الطبيب كلمة العصيان، فنقول: عصيت أمر الطبيب».
2 ـ «كلمة (الغواية) ضدّ الرّشد، ولكن الرّشد قد يكون في جانب المصلحة الدنيويّة أو الذاتيّة وقد يكون في إطار المصلحة الأُخرويّة».
3 ـ «وكذلك كلمة (التوبة) فإنّها تعبّر عن الرجوع عن الخطأ سواء كان فيما يتعلق بالأمور الدنيويّة أو الاُخرويّة، فيقال: تاب فلان عن العمل المضرّ من دون أي يكون مُحرّماً في نفسه». ]ن.م/ 1/ 186[
4 ـ «أمّا (الظّلم) فقد يظلمُ الانسان نفسه إذا منعها من الفرص الطيّبة الّتي تجلبُ لها الراحة الذاتيّة، وقد يُطلقُ الظلم على تعريضها للعقاب الاُخروي». ]ن.م/ 187[
5 ـ «أمّا طلب المغفرة والرّحمة، فإنّه قد ينطلق من الشعور بالإساءة إلى مقام الله في ترك اتّباع نصائحه، وبمنافاة ذلك لحقِّ العبوديّة للخالق». ]ن.م/ 187[
سادساً: دور التوبة والتراجع عن الخطأ
«لم يترك الله سبحانه لإبليس أن يجني ثمرة انتصاره، فأوحى لآدم بالطريقة المثلى الّتي يستطيع من خلالها أن يتراجع عن خطئه، لتكون أساساً ثابتاً في علاقته بالله عزّوجلّ».
سابعاً: الهبوط تخطيطٌ لكون جديد، وليس عقوبة
«لم تكن عملية الهبوط عقوبةً لهذا الانحراف عن أوامر الله، بل هي تخطيطٌ لكون جديد يتحرّك فيه الانسان على أساس هدى الله، فيما يوجّه إليه من خلال رسالاته». ]ن.م[
هذه هي خلاصة رؤية (السيِّد) لقصّة آدم (ع) في الجنّة، وفقاً لما جاء في تفسيره (من وحي القرآن) وقد أكّدها في أكثر من مناسبة وندوة ومحاضرة، وهي رؤية قرآنيّة أصيلة، نابعة من الآيات المباركة .. ولم ينفرد بها، بل إنّ الكثير من المفسّرين قد أشار إليها، وقد بلورها المرجع الشهيد محمّدباقر الصّدر في نظريّته المعروفة لمسار الخلافة الربّانية على الأرض، كما مرّ آنفاً.
وهل هناك تفسيرٌ أفضل وأحسن من هذا التفسير وأكثر مراعاة للعصمة؟
ـ سؤال وجواب:
سُئِل (السيِّد) في إحدى ندواته: نحن لا نُجوِّز الخطأ أو المعصية على الأنبياء، فكيف نفهم قوله تعالى: (وعَصى آدم ربّه فغوى)؟
فأجاب: «في باب المعصية: هناك معصية نصيحة كأن تعصي نصيحة طبيبك مثلاً، أو أن يُطلب منكَ أن تقوم بعمل فلا تفعل، أمّا ما يتعلق بمعصية الله ـ سبحانه وتعالى ـ فإنّها تنقسم إلى قسمين:
الأوّل: معصية تنطلق من أمر مولوي، أي أنّ الله يأمرُ بصفته مولى لابُدّ أن يُطاع، ممّا يعرِّضُ الانسان للعقوبة عندَ ارتكابه معصية مخالفة أمر المولى.
الثاني: معصية تنطلق من خلال أمر إرشادي، حيث يتّخذ الله صفة الناصح، فيعرض على عباده أمراً إرشادياً».
ثم أضاف:
«وبالنسبة لآدم (ع)، فقد عرضَ الله ـ تعالى ـ عليه وزوجه أن لا يقربا تلك الشجرة إن أرادا البقاء في الجنّة. ويأتي العرضُ في إطار النصيحة، تماماً كما يقول لك شخص ما: إنّك إذا أردت أن ترتاح فاعمل الأمر الفلاني، وإذا لم تفعلْه فلن تنال الراحة. إنّها مجرّد نصيحة، كما لو قال الطبيب:
إشرب هذا الدواء، فإذا شربته ستُعافى من مرضِك، وإذا لم تشربه ستبقى متألّماً».
ويستخلص (السيِّد) من كلِّ ذلك قائلاً:
«فالأمر الصادرُ من الله ـ سبحانه وتعالى ـ لآدم هو أمرٌ إرشادي ونصح وليس أمراً مولويّاً، أي لم يقل لآدم: سأعذِّبك إنْ فعلت ذلك. فالأمر المولوي هُو الّذي يستحق الانسان العذاب على مُخالفته، لهذا قال تعالى: (وَعصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى) ]طه/ 121[، يعني أنّه خالفَ النصيحة باعتبار أنّ الغيّ هو ضدّ الرشد، أي خلاف المصلحة، وليس الغيّ ـ هنا ـ غيّ الإيمان». ]فكر وثقافة/ العدد 12، بتأريخ 7/ 9/ 1996[
ـ المقولات (الجريئة) في ميزان النقد:
وعلى ضوء هذه النظرة المتكاملة نستطيع أن نفهم دلالات ومعاني كلمات (السيِّد)، والّتي اقتطعتموها من سياقاتها:
المقولة الأُولى والثانية: معصية آدم ومعصية إبليس
وهما في الحقيقة مقولة واحدة ـ كما ذكرنا ـ جاءت في سياق واحد، حيث يقول (السيِّد): «لأنّهما عصياه كما عصاه، وإنْ كان الفرق بينهما أنّه (إبليس) ظلّ مُصِرّاً على المعصية». وليس مقصودهُ قطعاً التشابه من جميع الجهات والوجوه .. بل من جهة واحدة فحسب، وهي جهةُ المخالفة .. فإنّ آدم (ع) خالف نهي الله كما خالف إبليس أمره، ذلك لأنّ (السيِّد) يصرِّح مراراً وتكراراً في كتابه (من وحي القرآن) بالفرق الشاسع بين المخالفتين والمعصيتين، ومن وجوه عديدة:
الفرق الأوّل: في النيّة والمنطلق
معصية إبليس كانت تمرّداً على الله وعصياناً لارادته، واستكباراً وعناداً وحسداً، بينما كانت معصية آدم وحوّاء (ع) استسلاماً للكلمات المغلّفة بغلاف من البراءة والنصح، من دون أن يشعرا بأنّ ذلك يمثِّل تمرّداً على الله وعصياناً لإرادته، فكانت منطلقةً من النوايا الصادقة والصفاء .. وهذا ما تؤكِّده الآيات المباركة: (وقاسَمَهُما إنِّي لَكُما لَمِنَ النّاصِحِين * فَدَلاّهُما بِغُرور) ]الأعراف/ 21 ـ 22 [(هَل أدلُّكَ على شَجَرَةِ الخُلْدِ ومُلْك لا يَبْلى) ]طه/ 120[. ]راجع: من وحي القرآن/ 1/ 185[
الفرق الثاني: في الطبيعة والمضمون
إنّ معصية إبليس كانت معصية لأمر مولوي، بينما كانت معصية آدم (ع) لنهي إرشادي; ولهذا لم تستتبع عقوبة اُخرويّة وطرداً عن رحمةِ الله، كما هي معصية إبليس، بل أدّت إلى فقدان نعيم الجنّة: (إنّ هذا عَدُوٌّ لَكَ ولِزَوْجِكَ فَلا يُخرجنّكما مِنَ الجنّةِ فَتَشْقى) ]طه/ 117[. ]راجع: ن.م[
المقولة الثالثة والرابعة: النِّسيان وعدم العزم
إنّ هاتين المقولتين صرّح بهما القرآن الكريم : (ولقد عَهِدنا إلى آدم مِنْ قبلُ فَنَسيَ ولم نَجِد لَهُ عَزْما) ]طه/ 115[، (فَوَسْوَسَ إليهِ الشّيطانُ قالَ يا آدَمُ هَل أدلُّكَ على شَجَرَةِ الخُلْدِ ومُلْك لايَبْلى) ]طه/ 120 [وقد ذكرنا تفسير العلامة الطباطبائي لنسيان العهد، بأنّهُ: «نسيانُ عهد الربوبيّة، بغفلة الانسان عن ذكر مقام ربِّه، بالالتفات إلى نفسه، أو ما يعود ويرجع إليها». ]الميزان/ 1/ 128[
فما هو الفرق بين هذه العبارة وعبارة (السيِّد) الّتي تقول: «وأطبقت عليهما الغفلة عن مواقع أمر الله ونهيه، لأنّ الانسان إذا استغرق في مشاعره وطموحاته الذاتيّة، واستسلم لأحلامه الخياليّة، نسي ربّه، ونسي موقعه منه»؟ ]من وحي القرآن/ 10/ 32[
وما هو الفرق بين هذا الكلام وكلام السيِّد الشهيد الصدر عن النزوات والانسياق مع الحرص المحموم على المزيد من زينة الحياة الدنيا ومتعها وطيِّباتها؟ ]راجع: الاسلام يقود الحياة/ 152[
ونقرأ في (الكافي) رواية سلام بن المستنير عن أبي جعفر (ع) في قوله: (ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد لهُ عَزْما) ]طه/ 115[ ... فقال لهما (الله عزّوجلّ): لا تقرباها يعني لا تأكلا منها، فقال آدم وزوجته: نعم يا ربّنا لا نقربها ولا نأكل منها، ولم يستثنيا في قولهما (نعم)، فوكلهما الله في ذلك إلى أنفسهما وإلى ذكرهما. ]نور الثقلين/ 3/ 402[
وفي تفسير (السيِّد) لقوله تعالى: (فنسي ولم نجد له عَزْما) ]طه/ 115[، يقول: «وبقي (آدم) مستمرّاً على خطِّ العفويّة والبساطة الصافية في مواجهة الأشياء (فنسي) ما ذكّرناه به، فترك الامتثال للنصيحة الإلهيّة الّتي لم تكن أمراً تشريعيّاً يستتبع عقاباً جزائيّاً، بل كانت أمراً إرشاديّاً (ولم نجد لهُ عزماً) فيما يعنيه العزم من التصميم على التنفيذ، وتحريك الارادة في حسم الموقف بقوّة، لأنّهُ كان يعيش الضّعف البشري أمام الحرمان، والتجربة الضيِّقة أمام الآفاق الرحبة للمستقبل القريب أو البعيد». ]من وحي القرآن/ 15/ 171[
ومن هنا يظهر جليّاً المقصود من (الحرمان) بقوله: «كان يعيش الضعف البشري أمام الحرمان». إنّه الحرمان من الملك الّذي لا يبلى، والحرمان من الخلد .. وهذا ما صرّح به إبليس في إغرائه، كما هو النصّ القرآني: (هل أدلُّكَ على شَجَرَةِ الخُلْدِ ومُلْك لا يَبْلى) ]طه/ 120[، (ما نَهاكُما ربُّكُما عن هذهِ الشّجرةِ إلاّ أنْ تَكُونا مَلَكَيْن أو تَكُونا مِنَ الخالِدِين) ]الأعراف/ 20[، وهكذا تصوّر آدم جرّاء إغراء إبليس أنّ الفرصة سانحة، وإنْ لم ينتهزها فإنّه «يتعرّض للحرمان الأبدي». ]ن.م/ 170[
المقولة الخامسة: الطِّيبة والسّذاجة والبراءة
يؤكِّد (السيِّد) أنّ آدم (ع) كان يعيش البساطة والطِّيبة والعفويّة والبراءة والسّذاجة; لأنّه لم يدخل معترك الحياة بعد.
ولعل التعبير بـ (السّذاجة) هو الّذي جعل البعض يعتبرونها من «المقولات الجريئة»، لأنّها «تعني التطلِّع إلى الأمور بنظرة حائرة بلهاء»!!
وما كان ينبغي أن يتبادر هذا المعنى على الإطلاق، وذلك للاُمور التالية:
أوّلاً: السّذاجة هي البساطة والبراءة، لا البلاهة!
إنّ معنى السّذاجة ليس كما يتبادر إلى بعض الأذهان ـ خطأ ـ من أنّها البلاهة، الّتي تعني الحماقة والسفاهة وعدم العقل، فالأبله هو الأحمق الّذي لا تمييز له. كلاّ، إنّ السّذاجة في اللّغة بمعنى عدم امتلاك البرهان القاطع، فالإنسان السّاذج هو الّذي يعيش على الفطرة والبساطة والعفويّة. يقول ابنُ سيده: أراها غير عربيّة، إنّما يستعملها أهل الكلام فيما ليس ببرهان قاطع، وقد تُستعمل في غير الكلام والبرهان. وعسى أن يكون أصلها سادة فعرِّب. ]لسان العرب/ 6/ 223[
وجاء في لسان العرب أيضاً: «حجّةٌ ساذِجة غير بالغة». كما جاء في أقرب الموارد: «السّاذج: معرّب: ما لا نقش فيه. (حجّة ساذِجة): غير بالغة». ويُعرِّف (المُنجد) السّذاجة بأنّها «البساطة، سلامة النيّة». ]المنجد/ 545[
ولهذا كثيراً ما يستعمل العلماء كلمة (السّذاجة) ويُراد منها البساطة والعفويّة وعدم التعقيد.
يقول العلامة الطباطبائي في وصف النوع الانساني في دور الوحدة الّذي مرّت به البشريّة:
«فظاهرُ الآية ـ (كان الناسُ أُمّةً واحدة ...) ]البقرة/ 213[ ـ يدلُّ على أنّ هذا النوع قد مرّ عليهم في حياتهم زمان كانوا على الاتّحاد والاتّفاق، وعلى السّذاجة والبساطة، لا اختلاف بينهم بالمشاجرة والمدافعة في أمور الحياة، ولا اختلاف في المذاهب والآراء»; ذلك لأن الانسان الأوّل في أقدم عهوده «لا يوجد عنده إلاّ النزر القليل من المعرفة بشؤون الحياة، وحدود العيش، كأنّهم ليس عندهم إلاّ البديهيات ويسيرٌ من النظريات الفكريّة الّتي تهيِّئ لهم وسائل البقاء بأبسط ما يكون». ]الميزان/ 2/ 124[
ويصف العلامة الانسان الأوّلي (ابن آدم) في موضع آخر: «كان يعيش على سذاجة من الفكر وبساطة من الإدراك، يأخذ باستعداده الجبلِّي في ادِّخار المعلومات بالتجارب الحاصلة من وقوع الحوادث الجزئيّة حادثة بعد حادثة». ]ن.م/ 5/ 298[
ولهذا يُسمِّي العلامة الطباطبائي الفترة الواقعة من هبوط آدم (ع) إلى بعثة نوح (ع) بـ (عهد الفطرة السّاذجة)، حيث يقول:
«إنّ عهد الفطرة السّاذجة كان قبل بعثة نوح (ع) »، وهذا يظهر من قوله تعالى: (كان النّاس أُمّة واحدة ...) ]البقرة/ 213[. ]ن.م/ 16/ 127[
وفي تعليقه على رواية الإمام الصادق (ع) الّتي جاءت في (الكافي) في تفسير معنى الفطرة في قوله تعالى: (فطرة الله الّتي فطرَ الناسَ عليها) ]الرّوم/ 30[، يقول العلامة:
«وفي هذا المعنى روايات أُخر واردة في تفسير قوله تعالى: (كانَ الناسُ أُمّةً واحدةً) ]البقرة/ 213[، والمراد فيها بالإنسان الفطري الإنسان السّاذج الّذي يعيش على الفطرة الإنسانيّة الّذي لم تُفسِده الأوهام الفكريّة والأوهام النفسانيّة، فإنّهُ بالقوّة القريبة من الفعل بالنسبة إلى أُصول العقائد الحقّة وكلِّيّات الشرائع الإلهيّة». ]ن.م/ 187[
ويرى في كتابه القيِّم (الرّسائل التوحيديّة) أنّ الدِّين قائمٌ على «الفطرة السّاذجة» انطلاقاً من قوله تعالى: (فَأقِمْ وَجْهكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللهِ الّتي فَطَرَ النّاسَ عَلَيْها) ]الرّوم/ 30[، حيث يقول:
«قد أنتج استعمال الفطرة السّاذجة في هذه الشريعة المقدّسة في كلٍّ من مرتبتي الملكات والأفعال نتائج عجيبة، لم يسبقها إليها شيء من الشّرائع السّالفة». ]الرّسائل التوحيديّة/ 23[
ويصف العلامة الطباطبائي كلام إبراهيم (ع) ـ في أوّل أمره، حينما رأى الكوكب والقمر قال: (هذا ربِّي)، والشّمس قال: (هذا ربِّي هذا أكبر) ـ بأنّه «أشبه شيء بكلام إنسان أوّلي فرضي»، وذلك «نظير ما نراه من حال الصبي إذا نظر إلى جوِّ السماء الوسيعة بمصابيحها المضيئة وزواهرها». ]الميزان/ 7/ 156[
ثانياً: اقتران السّذاجةُ بالطِّيبة والبراءة
إنّ (السيِّد) قد استعمل هذا الوصف (السذاجة) مقروناً بالبراءة تارة وبالبساطة والطِّيبة تارة اُخرى، حيث يقول في الجزء الأوّل من تفسيره (من وحي القرآن) في وصف آدم وحوّاء (ع) وعدم امتلاكهما لتجربة سابقة مع الغشِّ والكذب والخداع واللّفِّ والدوران: «كان الصِّدق .. وكانت البساطة في مواجهة الأشياء، وكانت العفويّة في تقبّل الكلمات .. هي الطابع للشخصيّة البريئة الساذجة الّتي تتمثّل في كيانهما». ]من وحي القرآن/ 1/ 181[
ويقول في الجزء الخامس عشر: «الله أراد لآدم أن يمرّ في دورة تدريبيّة في مواجهة إبليس; لأنّ آدم طيِّبٌ وساذج، ولم يدخل مُعترَك الحياة». ]ن.م/ 15/ 176 ـ 177[
ثالثاً: بينَ العفويّة والتدلية
إنّ تدبّر الآيات المباركة الّتي تعرّضت لقصّة آدم (ع) يعطي لنا وبوضوح أنّ آدم (ع) كان يعيش البساطة والبراءة والعفويّة وعدم الاطِّلاع على مكائد إبليس وأساليبه في اللّفِّ والدوران:
(فَوَسْوَسَ لَهُما الشّيطانُ ليُبْديَ لَهُما ما وُرِيَ عنهما مِن سوْءاتهما وقال ما نَهاكُما ربُّكما عن هذهِ الشّجَرَةِ إلاّ أن تكونا مَلَكَيْن أو تكونا من الخالِدِين * وقاسمهما إنِّي لَكُما لَمِنَ النّاصِحِين * فدلاّهما بِغرور ...) ]الأعراف/ 20 ـ 22[.
(فَوَسْوَسَ إليهِ الشّيطان قالَ يا آدَمُ هَل أدُلُّكَ على شَجَرَةِ الخُلْدِ ومُلْك لا يَبلى) ]طه/ 120[.
(يا بَني آدم لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشّيطان كما أخرَجَ أبَوَيكُم مِنَ الجنّةِ يَنزِعُ عنهما لباسهما ليُرِيَهُما سَوءاتهما ...) ]الأعراف/ 27[.
لقد كان هدف إبليس الإغواء وإظهار السوءات الّتي كانت مواراة: (ليُبدي لهما ما وُرِيَ عنهما من سوءاتهما)، بَيْدَ أنّهُ أخفى أهدافه الواقعيّة بغطاء النّصح والحرص على مستقبلهما، فراح الوسواس الخنّاس يضربُ على الوتر الحسّاس، فيما يختزنه الانسانُ من اُمنيات ورغبات. إنّهُ الإغراء بالعمر والملك الخالدَين: (هل أدلُّكَ على شجرةِ الخُلدِ ومُلك لا يبلى).
وهاتان رغبتان مزدوجتان: الرغبةُ في البقاء الخالد، والرغبةُ في المُلك الخالد، تُشكِّلان أعزّ ثغرتين، وأوسع منفذين للشيطان في اختراق شخصيّة الانسان.
كما أنّ أسلوب القسم بل المقاسمة، مثّل ـ ولا يزال ـ الأداة الفاعلة المؤمِّنة والمطمئنة، لتمرير المخطّطات الإبليسيّة، والمكائد الشيطانيّة، على بعض المؤمنين المخلصين الّذين لم يخبروا أساليب الأعداء في استخدام المقدّسات والحرمات ستاراً يحتمون خلفه لإسقاط المقدّسات، وانتهاك الحرمات!!
ولقد حذّرنا القرآن الكريم من انطلاء الأَقسام والأَيمان الّتي ما فتئ المنافقون يوظِّفونها في كسب ثقةِ النّاس البسطاء، والتأكيد على حرصهم على الاسلام والمسلمين:
(والّذين اتّخذوا مسجداً ضِراراً وكفراً وتفريقاً بين المؤمنين وإرصاداً لِمَنْ حاربَ اللهَ ورسولهُ من قبلُ ولَيَحْلِفُنَّ إن أردنا إلاّ الحُسنى والله يشهدُ إنّهم لكاذبون) ]التوبة/ 107[.
(وإذا قيل لهم تَعالَوا إلى ما أنزلَ اللهُ وإلى الرّسول رأيتَ المنافقين يَصُدُّونَ عنكَ صُدُوداً * فكيفَ إذا أصابتهم مُصيبةٌ بما قدّمت أيديهم ثمّ جاءُوك يحلفونَ بالله إنْ أرَدْنا إلاّ إحساناً وتوفيقا) ]النساء/ 61 ـ 62[.
(يَحلفُونَ بالله لكم لِيُرضُوكُم واللهُ ورسولُهُ أحَقُّ أن يُرْضُوه إنْ كانوا مُؤمِنين) ]التوبة/ 62[.
(يحلفون لكم لِتَرضَوا عنهم فإن تَرْضَوا عنهم فإنّ الله لا يرضى عن القوم الفاسقين) ]التوبة/ 96[.
(ويَحلفُون باللهِ إنّهم لَمنكم وما هم منكم ولكنّهم قومٌ يَفرَقُون) ]التوبة/ 56[.
(وسيحلفُون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم) ]التوبة/ 42[.
(ويقولُ الّذين آمنوا أهؤلاء الّذين أقسَمُوا بالله جَهْدَ أيمانهم إنّهم لمعكم حَبِطت أعمالهم فأصبحوا خاسرين) ]المائدة/ 53[.
إنّه ذات الاُسلوب الإبليسيّ بإظهار النّصح مع إبطان الغشِّ بالوعود الكاذبة والأماني:
(وقاسَمَهُما إنِّي لَكُما لَمِنَ النّاصِحِين * فَدَلاّهُما بِغُرور) ]الأعراف/ 21 ـ 22[.
وقد جاء في (الكافي) عن علي بن إبراهيم: روي عن أبي عبدالله (ع) قال:
«لمّا خرج آدم من الجنّة نزل عليه جبرئيل، فقال: يا آدم أليس خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأسجد لك ملائكته، وزوّجك حواء أمته، وأسكنك الجنّة وأباحها لك، ونهاك مشافهة أن تأكل من هذه الشجرة فأكلت منها وعصيت الله؟ فقال آدم: يا جبرئيل إنّ إبليس حلف لي بالله إنّه لي ناصحٌ، فما ظننت أنّ أحداً من خلقِ الله يحلفُ بالله كاذباً». ]الميزان/ 8/ 61[ ]راجع: تفسير القمّي/ 1/ 125[
وفي تفسير (العيّاشي) رواية مسعدة بن صدقة، عن أبي عبد الله (ع)، رفعه إلى النبيّ (ص)، تتحدّث عن عتاب موسى (ع) لآدم (ع) بعدم صبره وضبط نفسه حتّى أغراه إبليس، فقال لهُ آدم (ع):
«إرفق بأبيك ـ أي بنيّ ـ محنة ما لقي في أمر هذه الشجرة. يا بُنيّ، إنّ عدوِّي أتاني من وجه المكر والخديعة، فحلفَ لي بالله أنّ مشورته عليّ «لمن الناصحين». وذلك أنّه قال مستنصحاً: إنِّي لشأنك ـ يا آدم ـ لمغموم.
قلتُ: وكيف؟
قال: قد كنتُ أنستُ بكَ وبقربك منِّي، وأنت تخرجُ ممّا أنتَ فيه إلى ما ستكرهه.
فقلتُ: وما الحيلة؟
فقال: إنّ الحيلة هو ذا معك، أفلا أدلّك على شجرة الخلد وملك لا يبلى؟ فكلا منها أنت وزوجك فتصيرا معي في الجنّة أبداً «من الخالدين».
وحلفَ بالله كاذباً أنّهُ «لمن الناصحين». ولم أظن ـ يا موسى ـ أنّ أحداً يحلفُ بالله كاذباً، فوثقتُ بيمينه، فهذا عذري. فأخبرني ـ يا بُنيّ ـ هل تجد فيما أنزل الله إليك أنّ خطيئتي كائنة من قبل أن اُخلق.
قال له موسى (ع): بدهر طويل.
قال رسول الله (ص): فحجّ آدم موسى (ع). قال ذلك ثلاثاً». ]تفسير العيّاشي/ 2/ 10[ ]راجع: كنز الدقائق/ 5/ 56[
رابعاً: الإزلال والسّذاجة الطيِّبة
إنّ الحذر من الإستسلام «للسّذاجة الطيِّبة، والكلمات المعسولة» هو الدرس العملي الكبير الّذي نستفيده من قصّة آدم (ع)، ولا سيّما في واقعنا المعاصر.
ولهذا يعتبر (السيِّد) أنّ «حصيلتنا من هذه الآيات، في الخط العملي لحياتنا»، هي «أن نستفيد من تركيز الله على عداوة إبليس لآدم، لإثارة عمق الإحساس بالعداوة في حياتنا إزاء إبليس وجنوده، ممّا يجعلنا نعيش الحذر في الفكرة وفي الكلمة وفي الخطوات العمليّة».
ويؤكِّد قائلاً: «إنّ علينا أن نضع أمامنا حقيقة العداوة مع الأعداء فلا نستسلم لحالات الاسترخاء الطيِّب في نفوسنا للعلاقات الطارئة الّتي تعيش في جوِّ حميم; لأنّ العدو الّذي يعيش الإحساس بالفواصل الفكريّة والروحيّة والعمليّة الّتي تفصلنا عنه، لابُدّ له من التخطيط الفكري والعملي الّذي يشلُّ معه قدراتنا عن التحرّك، ويوحي لنا بالإنحراف من حيث لا نريد، أو لا نشعر، فنستسلم للسّذاجة الطيِّبة، والكلمات المعسولة، وللأجواء الحميمة الّتي يتنامى فيها الشعور بحسن الظّنّ». ]من وحي القرآن/ 1/ 198 ـ 199[
خامساً: البساطة لا تُنافي التعليم والتكريم:
إنّ القول ببساطة آدم (ع) وبراءته وسذاجته لا يُنافي تعليمه الأسماء كلّها وسجود الملائكة له تكريماً وتعظيماً، فإنّ القرآن الكريم في الوقت الّذي يؤكِّد فيه ذلك، يصرّح بأنّ إبليس أوقعه في الغرور والإزلالِ والفتنة، وهذا ما أرادت المشيئة الإلهيّة أن يتحقق في الدور الأوّل للبشريّة، وهو دور الجنّة.
بل إنّ العلامة الطباطبائي يعبِّر عن الانسان ـ الّذي عاش فترة لابأس بها بعد هبوط آدم وحواء إلى الأرض ـ بأنّه «كان يعيش على سذاجة من الفكر وبساطة من الادراك»، فكيف الحال بمرحلة الجنّة الّتي كان الانسان فيها بعهد ما قبل التشريع، بل وما قبل الاجتباء والهداية: (ثمّ اجتباهُ رَبّهُ فتابَ عليه وهدى)؟
ويصف العلامة مغنيّة العاملي براءة آدم وصفاءَه ببراءة الطفل وصفائه، بقوله: «والّذي يبدو لنا ـ والله الأعلم ـ أنّ براءة آدم وصفاءه يشبه إلى حدٍّ بعيد صفاء طفل، وإنْ كان رجلاً، لأنّهُ لم يمرَّ بعدُ بأيّةِ تجربة، وقد ظنّ قياساً على نفسه أنّ ما من أحد يجرأ على الحلف بالله كاذباً، ومن هنا اُخذ». ]التفسير المبين/ 195[
المقولة السادسة والسابعة: الضّعف البشري والرّغبة المحرَّمة
وهذا ما صرّح به إبليس في إغرائه، ونصّ عليه القرآن. ولم يكن ما قاله (السيِّد) من أنّ آدم (ع) «كان يعيش الضّعف البشري أمام الحرمان»، بتصوّره ـ جرّاء إغراء إبليس ـ أنّ الفرصة سانحة، وإنْ لم ينتهزها فإنّهُ «يتعرّض للحرمان الأبدي»، لم يكن سوى إعطاء المعنى الظاهر لآيتي طه والأعراف: (هل أدلُّكَ على شَجَرَةِ الخُلْدِ ومُلْك لا يَبلى) ]طه/ 120[، (ما نَهاكُما ربُّكُما عن هذهِ الشّجرةِ إلاّ أنْ تَكُونا مَلَكَيْن أو تَكُونا مِنَ الخالِدِين) ]الأعراف/ 20[.
المقولة الثامنة: الدورة التدريبيّة لآدم (ع)
تحت عنوان: (ضعف الارادة وسيلة للحرمان)، يرى صاحب تفسير (الكاشف)، الشيخ محمدجواد مغنيّة، أنّ الحكمة من دخول آدم (ع) الجنّة هي «أن يمرّ بتجربة ينتفعُ بها، ويستفيد منها هو وأبناؤهُ من بعده، وأن يعود إلى هذه الأرض مزوّداً بهذه التجربة المفيدة، وأعني بها أنّ الانسان لا يستطيع أبداً أن يعيش في فوضى، وكما يُريد، من غير مقاييس ومعايير، وأنّ من راعاها مالكاً لإرادته غير مندفع مع ميوله عاش في هناء وسعادة لا تحديد لها ولا نهاية، وأنّ من استخفّ بالقيم وضعف أمام شهوته أصاب ما أصاب آدم من العناء والنَّدم، وابتلي بالمشقّة والمصاعب». ]تفسير الكاشف/ 1/ 85 ـ 86[
لَستُ أدري كيف تصفون كلام صاحب (الكاشف) هذا، وهو يتحدّث عن الاستخفاف بالقيم والضعف أمام الشهوة؟
الروايات ومقولة التمهيد والإعداد:
لا تبتعد الروايات الواردة عن أهل البيت (ع) عن مقولة «الدورة التدريبيّة» و «المرحلة التمهيديّة التمرينيّة»:
الرواية الأُولى: جاء في أمالي الصّدوق، عن أبي الصّلت الهروي، عن الإمام الرضا (ع) في حديث طويل يقول في آخره: «أمّا قوله عزّوجلّ في آدم: (وعصى آدمُ ربّهُ فغوى) فإنّ الله عزّوجلّ خلق آدم حجّةً في أرضه، وخليفةً في بلاده، لم يخلقْه للجنّة، وكانت المعصيةُ من آدم في الجنّة لا في الأرض، لتتمّ مقادير أمر الله عزّوجلّ، فلمّا اُهبط إلى الأرض وجُعل حجّة وخليفة عُصِم، بقوله عزّوجلّ: (إنّ الله اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم ...)، أو في قوله (ثمّ اجتباه ربُّه فتاب عليه وهدى) ». ]راجع: نور الثقلين/ 3/ 404[
والتعبير «لتتمّ مقادير أمر الله عزّوجل» هو تعبيرٌ آخر عن الدورة التدريبيّة التمهيديّة التأهيليّة.
الرواية الثانية: في علل الشرائع للصدوق عن الإمام الباقر (ع):
«والله لقد خلق الله آدم للدنيا وأسكنه الجنّة ليعصيه فيردّه إلى ما خلقه له».
ولا يخفى أنّ المعصية هنا ليست من أجل المعصية، وإنّما من أجل أن يتأهّل لدور الخلافة، فهي إشارة اُخرى إلى دور التمهيد والتأهيل.
الرواية الثالثة: في روضة الكافي عن الإمام الباقر (ع):
«إنّ الله تبارك وتعالى عهد إلى آدم (ع) أن لا يقرب هذه الشجرة. فلمّا بلغ الوقت الّذي كان في علم الله أن يأكل منها نسي فأكل منها ... ». ]راجع: نور الثقلين/ 3/ 402[
ـ حجيّة خبر إبليس!
أوّلاً: ومَنْ أصدَقُ مِنَ اللهِ قيلا؟!
لماذا لم تظهر لآدم دلائل كذب إبليس رغم كل التحذيرات الإلهيّة: (يا آدمُ إنّ هذا عَدُوٌّ لَكَ ولِزَوجِكَ فَلاَ يُخرجَنّكما مِنَ الجَنّةِ فَتَشْقى) ]طه/ 117[؟ ومَنْ أصدق من الله قيلا؟ وما معنى التحذير لآدم بالعداوة؟ ألَيْسَ هو تحذيراً عن التصديق بأخباره، والاستماع لأقواله، والاستجابة لإغراءاته ومكائده ووساوسه؟
هل يمكن أن نصف إبليس بالثقة الّذي ليس من حقِّنا أن نكذِّب خبره، وهو الّذي تمرّد على الله وأبى السجود لآدم؟!
وهل كلُّ هذا التأكيد الإلهي بعداوته لآدم لا يكفي لإسقاطه من قائمة الثقاة العدول، وحذف خبره من دائرة «الخبر الثقة»؟!
ولو تنزّلنا وفرضنا ـ وفرضُ المحال ليس بمحال ـ أنّ إبليس من الثقاة، وخبره خبر ثقة، وليس من حقِّنا أن لا نصدِّقه، لو قلنا بذلك، فإنّ خبر الثقة هنا لا قيمة له; لأنّه يُعارض نصّاً إلهيّاً صريحاً وخبراً قطعيّاً صادقاً، وهو قوله تعالى: (ولا تَقْرَبا هذه الشّجرة فتكونا مِنَ الظّالمين). ألا يكفي هذا في إسقاط خبر إبليس ـ حتى ولو فرضنا وثاقته ـ وضربه عرض الحائط؟! ولهذا خاطبهما الله تعالى ـ حينما دلاّهما إبليس بغرور، فذاقا الشجرة، وبدت لهما سوءاتُهُما ـ بقوله: (ألَم أنهكما عن تلكما الشّجرة وأقُل لَكُما إنّ الشّيطان لكما عدوٌّ مُبين) ]الأعراف/ 22[.
فماذا كان جوابهما؟ هل قالا: ربّنا ليس من حقّنا تكذيب إبليس في إخباره، لأنّه لم تظهر لنا دلائل كذبه، فكان من الطبيعي أنْ نقبل منه ما أخبرنا به؟! (قالا: رَبّنا ظَلَمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكوننّ مِنَ الخاسرين) ]الأعراف/ 23[.
وإذا كان من الطبيعي أن يقبل آدم من إبليس ما أخبره به، وكان لا يملك حقّ تكذيبه، فلماذا اعتبره الله عاصياً، وغاوياً، وظالماً، وناسياً للعهد، وفاقداً للعزم؟
ثانياً: إبليس يذكِّر آدم بالنّهي
إنّ إبليس نفسه ذكّر آدم (ع) بالنهي الربّاني بقوله: (ما نَهاكُما رَبُّكما عن هذهِ الشّجَرَة ...)، وهذا يدلُّ دلالة واضحة أنّ آدم (ع) لم يكن ناسياً للنّهي الرّبّاني، وحتّى لو كان ناسياً فإنّ إبليس ـ في قوله «ما نَهاكُما ... » قد ذكّره!
فالمسألة ـ إذن ـ ليست في التنزيل بل هي في التأويل .. ولهذا فإنّنا إذا قرأنا الآيات والروايات فإنّه لا محيص من أن نردِّد ما قاله (السيِّد) بأنّ آدم (ع) لم يكن له عهدٌ بأساليب اللّفِّ والدوران والكذب والإفتراء، وأنّه لا يعرفُ الغشّ والخداع، ولم يكن يتصوّر أنّ أحداً يستعملهما، حيث نقرأ في القرآن: (وقاسَمَهُما إنِّي لَكُما لَمِنَ النّاصِحِين).
وقد جاء في نهج البلاغة وصفٌ رائع ودقيق لبداية الخلق، جاء فيه: «ثمّ أسكن سبحانه آدم داراً أرغد فيها عيشه، وآمن فيها محلّته، وحذّره إبليس وعداوته، فاغترّه عدوُّهُ نفاسةً عليه بِدار المُقام، ومُرافقةِ الأبرار، فباع اليقين بشكِّه، والعزيمة بوهنه»! ]نهج البلاغة/ خ1


source : البلاغ
0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

هل كان أبو الفضل العباس عليه السلام معصوماً ؟
من اقوال الإمام الخميني قدس سره
الطلاق المعلّق
الإمام الحسين (عليه السلام) في الكتاب المقدس
أقوال المعصومين في القرآن
التحولات الطوعية في حركة الظهور
الاِله في القرآن الكريم
المنهج البياني
المرأة والدنيا في نهج البلاغة (دراسة أدبية) – ...
عدم جواز الجمع بين النبوة والخلافة

 
user comment