تأثّر عالمنا الإسلامي بتيارات الفكر الغربي والشرقي تأثيراً بالغاً وخطيراً.. والخطورة في هذا التأثر تكمن في نقطتين جوهريتين هما:
1 ـ في تلقي الإنسان المسلم هذه الأفكار والمفاهيم بلا وعي ولا إدراك فكري ناضج نتيجة للفراغ الفكري في مجال الثقافة والوعي السياسي والاجتماعي ممّا سهل تمرير هذه التيارات وتغطية مواطن الضعف والسقوط فيها.
2 ـ في الأزمة النفسيّة التي يعاني منها أولئك المتأثرون بالفكر والثقافة الأجنبية.. وهي الشعور بتفوّق هذه الثقافة والمفاهيم والإحساس بالنقص والقصور أمامها.
لذلك تحوّل موقف هذه الفئة الضائعة إلى موقف سلبي جعلها في موضع التلقي والاستسلام، بدلاً من النقد والتمحيص والتبيين..
وثمة قضية أخرى تدخل كعنصر أساس في تشكيل خطورة هذا التيار، وهي عدم إدراك التناقض الفكري بين المفاهيم والأفكار الأجنبية الوفدة إليهم وبين عقيدتهم ورسالتهم في الحياة، فراحوا يحملون هذه المبادئ ويدعون لها وينادون بها وهم لا يدركون خطرها على قيم الإسلام وحضارته ومفاهيمه التي تستهدف بناء الإنسان والحياة بناءً متيناً ومتناسقاً.
ومن هذه المفاهيم التي تلقّاها الكثير من أبناء اُمتنا بلا وعي ودونما تقويم وإدراك هو مفهوم الحرّية المتحللة التي بنت أوروبا على أساسها قواعد الحضارة والحياة.. فأنتجت المجتمع الرأسمالي بكلّ ما فيه من أمراضٍ ومآسٍ أخلاقية واجتماعية واقتصادية وسياسية.. الخ، ومع احتلال أوروبا الصليبي المسلح لعالمنا الإسلامي. وغزوها الفكري له وتخطيط قادتها المستمر لنقل جراثيم الحضارة المرضية التي ولدت في مجتمعهم إلى مجتمع المسلمين لهدم أبنية ومقومات وجوده التي يتفوّق بها عليهم.
(وَدُّوا لَو تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا..) (النساء/ 89).
فانتقل مفهوم الحرّية الأوروبي إلى عالمنا الإسلامي.
ومفهوم الحرّية بحد ذاته هو مفهوم محبب للنفس.. بل هو جوهر الإنسانية وهو أرقى ما تصنع من مواقف وحياة تعبّر بها عن المحتوى والمضمون الإنساني.
ونحن حينما ننقد مفهوم الحرّية الأوروبي.. لا ننقد الحرّية.. كموقف إرادي وكقدرة على الاختيار وكتعبير عن رفض وكسر قيود العبوديّة والظلم والاستغلال.. ولكنّنا نرفض مفهوم الحرّية المساوقة للفوضى والتحلل الفكري والسلوكي والاجتماعي الذي جرّ على البشرية الآلام والويلات.
إنّ هذه الممارسة التي يتحلل بها الإنسان من الالتزام والمسؤولية لا يصح أن نسمّيها حرّية.. بل هي الفوضى والتحلل، فالحريّة في مفهوم الإسلام هي: (أن يعطى الإنسان حقّ التصرّف واختيار الموقف الاجتماعي الذي لا يخرج على قيم الحياة وأهدافها الخيّرة).
فللحياة نظامها وقوانينها التي تبتني عليها، وأهدافها وغاياتها التي تسعى إليها، ولا تنتظم مسيرة الإنسان إلا بالالتزام بها والحفاظ عليها.. لذا كان من الواجب على الإنسان أن يلتزم بهذه القيم والمبادئ لصيانة نظام الحياة والحفاظ على نموّها وازدهارها وأن يمتنع عن ممارسة الهدم والتخريب والتجاوز عليها تحت ستار الحرّية.
وإذن فتعامل الإنسان وسلوكه داخل مجتمعه ومع نفسه يجب أن يكون بحدود الحفاظ على المبادئ وضمن إطار رعايتها. وإنّ اعطاء الإنسان حقّ التصرُّف واختيار الموقف ضمن هذا الإطار هو الذي نسمِّيه الحرّية حسب مفهومها الاجتماعي السليم.
وقد نظم الإسلام ـ تنظيماً قانونياً وأخلاقياً ـ العلاقة بين الحرّية وبين هذه المبادئ والقيم التي يقوم عليها هيكل البناء الحضاري والحياتي. فقسّم السلوك الإنساني بشكل أساس إلى ثلاثة أقسام لتتوفّر للإنسان الرؤية السليمة، ويمتلك أداة الفرز والتمييز عندما يقدّم على اختيار المواقف واستعمال حرّيته المشروعة في الحياة:
وهذه الأقسام هي:
1 ـ الحرام: وهو ما لا يجوز للإنسان فعله وليس له الحقّ ولا الحرّية في ممارسته سواء في مجال السلوك الفردي أو في مجال التعامل الاجتماعي، لأنّه عدوان على نظام الحياة، وتخريب لسعادة الإنسان وخيره، كالرِّبا والإحتكار والغش والزِّنا وشرب الخمر والكذب.. الخ، إذ ليس معقولاً أن يسمح الإسلام الذي جاء لحفظ الحياة وخير الإنسانية بالعدوان على نظام الحياة، وإجازة تخريبها.
2 ـ الواجب: لما كانت الحياة الإنسانية لا تكتمل صيغتهاالخيّرة إلا بالتزام الإنسان ـ صانع هذه الصيغة على مسرح الحياة ـ بتشييد هذه الصيغة وبناء مفرداتها وفق قانون حركتها ونموها الطبيعي.. كان من الضروري أن يكلّف الفرد بهذه المهمة ما زال هو العنصر الحركي في بناء الحياة، لأنّ تأخره عن القيام بدوره ومسؤوليته يعرض هذا البناء الحياتي إلى الفوضى والانهيار. فلذلك اعتبر الإسلام الإنسان مكلفاً (بالواجب) ولم يعطه الحرّية. ولا حق الاختيار في أداء الواجب.. إلا في حالة عجزه عن النهوض بهذه المهمة.
3 ـ الحلال (المباح والمستحب والمكروه): أمّا القسم الثالث ممّا يمكن أن يمارسه الإنسان من أفعال ومواقف، فهو الحلال وهذا القسم من الأعمال هو المجال الطبيعي للحرّية والاختيار في رأي الإسلام وهو أوسع مجال في حياة الإنسانية. فلم يضع الإسلام في هذه الحالة تحديداً للانسان ولم يلزمه بشيء.. ولم يتدخل في شيء عند ممارسة هذه الأفعال إلا إذا خرجت الممارسة عن الحدّ المشروع وأصبحت ضرراً يلحق بالفرد أو المجتمع.
فالإنسان حرّ في التفكير والتعلّم واختيار نوع العمل وموطن السكن واختيار الزوجة أو الزوج أو البلد الذي يعيش فيه أو السفر.. الخ، ما لم يخرج على الحدّ المقرّر.. وهو فعل الواجب وترك الحرام وليس لأحد عليه سلطة، ولا يسمح القانون الإسلامي بالتدخل في شؤون الفرد الخاصّة وهو يمارس الأعمال المحلّلة.
وهكذا نخلص إلى نتيجة مهمة وهي تحديد مجال الحرّية الشخصية للانسان في نطاق (الحلال).. ومن خلال ذلك نستطيع أن نكتشف العلاقة بين (الأمر والنهي والحرّية) لأنّ وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر محدّد بحدود الواجب والحرام، فإذا خرج شخص أو جماعة على مبادئ العقيدة والقانون والأخلاق، فراح يعتنق الأفكار والعقائد المنحرفة أو يمارس العمل المحرم.. كشرب الخمر والزِّنا والكذب والرِّبا والإحتكار ولعب القمار وتعاطي المخدّرات.. الخ، فعندئذٍ يجب على كلّ مسلم بصورة أساسية أن يبادر إلى ردعه ونهيه عن الولوغ في هذه الأعمال المحرمة، فإن قام بعض أفراد المسلمين أو الدولة أو إحدى الهيئات أو المنظمات الاجتماعية بمقاومة هذا الحرام والفساد والمخالفة، سقط التكليف عن باقي المسلمين. أمّا إذا أهمل الفساد والانحراف، ولم ينهض أحد بمكافحته، فإنّ المسؤولية تقع على كلّ قادر عَلِمَ بهذا الفساد والانحراف وسكت عنه، وعندئذ ليس من حقّ الشخص الذي يقترف الحرام أن يتذرّع بالحرّية الشخصية ولا حقّ لأحد أن يتعرّض على عملية الرّدع والمقاومة تحت ستار: إنّ هذا الشخص كان يمارس حرّيته الشخصية، وليس من حقّ أحد أن يتدخّل في شؤونه الخاصّة.. لأنّ الحرّية لا تعني العدوان على نظام الحياة أو تخريب أهدافها الخيِّرة، إذ معنى فسح المجال لأولئك الشاذّين والمنحرفين أن يتصرّفوا بالشكل الذي تمليه عليهم نوازعهم المرضية، هو فسح المجال للشرّ والفساد أن يعم المجتمع، وتمكين الشاذّين والمنحرفين من إشاعة الفساد، وإلحاق الضرر والأذى بالآخرين.. إذ ليس في المجتمع شخص يعيش منفرداً.. بل المجتمع مجموعة من الأفراد يربط بينها نسيج محكم من العلاقات.
لذا فإنّ أيّة إصابة مرضية يصاب بها فرد معيّن من أفراده يسري خطرها إلى بقيّة أفراد البنية الاجتماعية.. تماماً كما هي الحالة بالنسبة للجسد الإنساني، إذ أنّ الشخص الذي يمارس الأعمال الشاذّة والمنحرفة ويواقع الجرائم والمفسدات لا يمكن أن تقف النتائج الضارّة عند حدوده الشخصية.. فالذي يشرب الخمر يجني على نفسه وأفراد عائلته ومجتمعه.. بهدم صحّته وقواه الجسديّة والعصبيّة وتبذير الوقت والمال، والإضرار بالانتاج الاقتصادي وبالعلاقات الاجتماعية والأخلاقية داخل المجتمع إضافة إلى الأمراض الجسديّة التي تصيب الخمارين والمدمنين والتي تنتقل بالوراثة إلى الأبناء فيمتد إليهم أثر الجناية بالطرق الجسدية إضافة إلى الأضرار المعاشية والأخلاقية التي تلحق عائلة السكّير من التشرّد والحرمان.
والذي يزني لا يقف أثر ضرر جريمته عند حدّه.. فالزنا مصدر موبوء بأخطر الأمراض الجسديّة الفتّاكة، وسبب في إيجاد الأبناء غير الشرعيين الذين يولدون ولا يجدون الأب ولا العائلة التي تحنو عليهم فيعيشون حياة التشرُّد والضياع والإجرام.. وهكذا الحال في كلّ عمل يمارسه الخارجون على القانون والأخلاق فإنّ نتائجه الضارّة وآثاره التخريبية لا يمكن أن تقف عند حدّ الجاني والمخالف نفسه.
وكذلك الحال في ترك الواجبات والمسؤوليات الاجتماعية والتهاون في القيام بها.. فالذي يترك الصّلاة أو لا يؤدي الزكاة، أو لا يعتني بتربية أبنائه، أو يقصر في أداء واجباته الزوجيّة والعائلية، أو لا يقوم بواجبه الذي يمارسه في المجتمع بإخلاص وأمانة.. فإن كلّ هؤلاء يعبثون بنظام الحياة ويضيعون حقوق الآخرين ويقصرون في أداء واجباتهم.. لذا كان لزاماً على الأفراد والهيات الاجتماعية والسلطة أن تقوم بإرشادهم (أمرهم بالمعروف) وحثّهم على القيام بواجباتهم، أو إرغامهم على القيام بهذه الواجبات إن كان ذلك ممكناً.. وإنّ هذا الحثّ والالزام، بل والإرغام ليس تدخّلاً في شؤون الفرد الشخصيّة.. ولا مضايقة لحرّيته أو مصادرتها منه.. بل هي عملية تستهدف حماية القانون والمصلحة.. بل والحرّية ذاتها.
لأنّ معنى غياب القانون والأخلاق وانتشار التحلل من المسؤوليات والفساد هو ضياع حرّية الإنسان وحقّه الشخصي في الحياة.
وقد وصف الرّسول العظيم العلاقة بين ممارسة الحرّية الشاذّة، وبين سلامة المجتمع وخير الإنسانية بقوله: (إنّ مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أسفلها وبعضهم أعلاها، فكان الذين في أسفلها إذا مرّوا على مَن فوقهم قالوا لو خرقنا في نصيبنا خرقاً فنخرج منه الماء ولا نؤذي مَن فوقنا.. فإن تركوهم هلكوا جميعاً.. وإن أخذوا على أيديهم نجوا).
فقد أحكم هذا الحديث الشريف العلاقة بين الفرد والجماعة.. ونفى الفرديّة والانفصاليّة في مجال السلوك الإنساني.
وصدق الله العظيم حيث قال :(وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ العِقابِ) (الأنفال/ 25).
لذا كان (الأمر بالمعروف) تكليفاً قانونياً كفائياً على الأمّة الإسلامية لحماية المجتمع والفرد المنحرف والمخالف نفسه من آثار الجريمة والتحلل والفساد.
وقد أوضح نبيّ الإنسانية محمّد (ص) ذلك بقوله: (لا تزال أمّتي بخير ما أمروا بالمعروف، ونهوا عن المنكر، وتعاونوا على البرّ، فإذا لم يفعلوا ذلك نزعت منهم البركات وسلّط بعضهم على بعض ولم يكن لهم ناصر في الأرض ولا في السّماء).
ولذلك أيضاً وصف الله سبحانه المؤمنين بقوله: (وَالمؤمِنُونَ وَالمؤمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَونَ عَنِ المُنْكَرِ..) (التوبة/ 71).
source : البلاغ