كلمة سماحة آية الله المحقق الشيخ محمد سند دام ظله
بسم الله الرحمن الرحيم
1- المنطق البشري المعاصر :
فقد طالعتنا الأنباء هذا العام ، في مطلع العام الميلادي في أول يومٍ منه ، في أول شهر ، بزيارةٍ لرئيس الوزراء الياباني إلى مقابر الضباط و الجنرالات اليابانيين ، وما أن تمت الزيارة و رأينا تصاعد الاعتراضات الصينية الرسمية بشكل شديد اللهجة و اللحن ، و كذلك أوساط كوريا الجنوبية ، و نظير ذلك قد حدث العام الماضي ، و السبب في ذلك هو رؤية الشعوب الشرق آسيوية أن في تضامن الرئيس الياباني للجنرالات الذين اقترفوا في حق تلك الشعوب الظلم و التدمير ( مع أن رفات أولئك الجنرالات أصبحت تراباً ) ، رأوا أن في تضامنه لأولئك الجنرالات ، يسبب عاملاً تربوياً خاطئاً للأجيال ، مما يدل على أن تحديد الموقف تجاه وقائع التاريخ أمر هام و حيوي و ضروري في تاريخ الشعوب ، و في تربية الشعوب وفي هوية الشعوب .
و بالتالي لغة الإدانة و الشجب و الاستنكار للظالمين ، التي هي لغة القانون الحديث ، و التي توازي لغة اللعن باللفظ و اللغة التقليدية القديمة , اللغة الحديثة لغة الشجب و الإدانة و الاستنكار والنفرة لما قد وقع من الظالمين عبر التاريخ ، هذه لغة يتفهمها العصر البشري و المنطق البشري ، العصر الحاضر الراهن , مما يدلل و يعزز أن الإنسان لابد له من موقف حاكم فاصل ، متضامن مع المظلوم ، وشاجب للظالم ، لما في ذلك من تربية الأجيال على هوية سليمة و برنامج تربوي سديد ، و إلا فإذا جعلنا هناك تعويم في الموقف تجاه وقائع التاريخ ، هذا سوف يخلق بالنسبة للأجيال الحاضرة و الآتية ، سوف يخلق برنامجاً تربوياً مضراً ساماً ، يوجب منهم اتخاذ مواقف خاطئة في حق البشرية و بني جنسهم ، نظير أولئك الذين ارتكبوا تلك الجرائم الشنيعة الفظيعة ، و من ثم ذكر الفقهاء أن " إنكار المنكر بالقلب " لا يختص بالمنكر الراهن المعاصر للإنسان ، بل يعم المنكر الغابر في التاريخ ، يجب أن يستنكره الإنسان في قلبه لما في ذلك من تصحيح رؤية الانسان و بصيرته ، و منهاجه و مسيرته في حياته .
فبالتالي ما يطالعنا العصر الحديث من لغة الشجب و الاستنكار و الإدانة للظالمين حتى لو كانوا في كبد التاريخ ، ترى أوروبا كلها متوجسة خيفة من إحياء الفكر الهتلري أو الفكر النازي أو الفكر الشعوبي فيها ، لماذا ؟ مع أنها عقود من التاريخ ولت و غبرت ! السبب في ذلك ؛ هو في الواقع خشية رواد أوروبا و الغرب من تنشئة الجيل الجديد على الثقافة الخاطئة ، على الهوية المريضة الخطيرة في حق البشرية ، تهدد الأمن البشري ككل كعامل خطير مهدد .
كل ذلك مما يعزز إحياء التاريخ بالتضامن مع المظلوم و إدانة الظالم ، هذا منطق عقلي بشري يذعن البشر بضرورته لا فقط بأولويته ، لتعيشة الأجيال الحاضرة في بوتقة تربوية سليمة هادفة صائبة .
2- السنن القرآنية :
و مما يعزز ذلك أيضاً و هي إدانة الظالم و التضامن مع المظلوم مما نجده في القرآن الكريم من استعراض و تسطير وقائع و أحداث الظلامات الهامة التي وقعت في تاريخ البشرية ، حيث نجد القرآن الكريم استعرض لنا أول ظلامة وقعت في تاريخ البشرية التي هي ظلامة هابيل ، من قبل قابيل .
قال تعالى : " وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لَأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاء الظَّالِمِينَ فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ فَبَعَثَ اللّهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَـذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ " آية 27- 31 سورة المائدة .
فترى القرآن يربي قارئه و المعتقد به و التالي له ، يربيه على إدانة الظالم و التضامن مع المظلوم ، مع أن هذه قضية قد ولت و غبرت في عمق التاريخ ، إلا أن القرآن يحييها , و يطالب المؤمن و المسلم و التالي للقرآن في كل ختمة من ختمات تلاوة القرآن ، يطالبه بالتضامن مع المظلوم و الإدانة و الشجب و الاستنكار للظالم .
كذلك يطالعنا القرآن الكريم بوقائع أخرى , و ظلامات أخرى وقعت في تاريخ البشرية نظير أصحاب الأخدود ، فيأتي بلحن و أسلوب أدبي مهيج لعاطفة القارئ ليبين مدى مظلومية أصحاب الأخدود ، و مدى مظلوميتهم و حقانية مبدأهم الذي تمسكوا به في مقابل غشامة و وحشية الظالمين لهم ، و يريد من ذلك إدانة الظالمين أصحاب مسير الباطل والتضامن مع أصحاب مسير الحق الذين انتهكت حقوقهم و حرماتهم .
قال تعالى : " قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ " آية 3 – 8 سورة البروج .
وكذلك يستعرض لنا القرآن الكريم ظلامة النبي يوسف عليه السلام ، و كذلك ظلامة أنبياء بني إسرائيل ، و كذلك ظلامة كثير ممن ابتعدوا عنا بفاصل تاريخي كبير جداً ، ليس ذلك إلا ليعلمنا القرآن الكريم سنةً قرآنيةً خالدة ، ممتدة عبر التاريخ إلى يوم القيامة نتلوها ، و هي أنه يجب علينا تجاه الأحداث و الوقائع التاريخية إدانة الظالم و شجبه و استنكاره ؛ لأن في إدانة الظالم و شجبه و استنكاره إدانةً لمسيرة الظلم ، و إدانةً لمسيرة الباطل ، و إحياءاً و إقامةً لمسيرة الحق و الحرية و النور و الهداية و تضامناً مع أولياء الحق .
فإذاً ما يمارسه أبناء مذهب الأئمة - مذهب مدرسة أهل البيت عليهم السلام - هذا له سنة قرآنية ، و يعززه المنطق البشري المعاصر الراهن الذي يذعن له البشر .
3- إنكار المنكر قلباً :
كما أنه يعزز تسالم فقهاء المسلمين بلزوم "إنكار المنكر قلباً " ، و إن لم يكن تجاه قضية راهنة ، و إنما تجاه قضايا قد ولت و غبرت ، و موضوعٍ قد انتفى بحسب المواد الفيزيائية ، أما بحسب الصورة الذهنية ، فموضوعها ماثلٌ راهنٌ حاضر .
فلابد للإنسان من أن ينكره ؛ كي يصحح بصيرته و نوره ، و هويته ، و تضامنه وموقفه تجاه مسيرة الحق ، و تجنب أن تكون مسيرته و سعيه تجاه مسيرة الباطل و الظالمين .
4- الحكم العقلي :
مضافاً إلى تلك الوجوه الثلاثة هناك وجه عقلي رابع ، يعزز هذا الشيء ، ألا و هو "حكم العقل " بحسن العدل و قبح الظلم ، و هذا الحكم العقلي لا يختص بفترةٍ من الزمن ، بل يمتد عبر كل مورد قبيح يقبحه العقل و يستنكره ، و كل مورد حسن يحسنه العقل و يستحسنه .
نرجوا أن نكون قد والينا أولياء الله ، الحسين عليه السلام و أنصاره ، و عادينا أعداء الله ، أعداء الحق و أعداء مسيرة الهداية ، ألا وهم قتلة الحسين عليه السلام ، و في ذلك درسٌ تربويٌ لنا و للأجياء الناشئة ، للخطى على مسيرة القرآن و أهل البيت عليهم السلام ، و صلى اللهم على محمد و آله الطاهرين .
source : اهل بیت