كلام الإمام الرضا ( عليه السلام ) في التوحيد
قال محمّد بن زيد الطبري : كنت قائماً عند علي بن موسى الرضا ( عليه السلام ) بخراسان ، وحوله جماعة من بني هاشم وغيرهم ، وهو يتكلّم في توحيد الله تعالى ، فقال ( عليه السلام ) :
( أوّل عبادة الله معرفته ، وأصل معرفته توحيده ، ونظام توحيده نفي التحديد عنه ، لشهادة العقول بأنّ كل محدود مخلوق ، وشهادة كل مخلوق أنّ له خالقاً ليس بمخلوق ، الممتنع من الحدث هو القديم في الأزل ، ليس الله عبد من نعت ذاته ، ولا إيّاه وحّد من اكتنهه ، ولا حقّقه من مثَّله ، ولا به صدق من نهّاه ، ولا صمد صمده من أشار إليه بشيء من الحواس ، ولا إيّاه عنى من شبّهه ، ولا له عرف من بَعَّضه ، ولا إيّاه أراد من توهّمه ، كل معروف بنفسه مصنوع ، وكل قائم في سواه معلول .
بصنع الله يستدل عليه ، وبالعقول تعتقد معرفته سبحانه ، وبالفطرة تثبت حجّته ، خلق الخلق بينه وبينهم حجابُ مباينته إيّاهم ومفارقتهم له ، وابتداؤه لهم دليلهم على أن لا ابتداء له ، لعجز كل مبتدأ منهم عن ابتداء مثله ، فاسماؤه تعالى تعبير ، وأفعاله سبحانه تفهيم ، قد جهل الله سبحانه من حدّه ، وقد تعدّاه من اشتمله ، وقد أخطأه من اكتنهه .
من قال : ( كيف ) فقد شبّهه ، ومن قال : ( أين ) فقد حصره ، ومن قال : ( فيم ) فقد وعاه ، ومن قال : ( علام ) فقد شبّهه ، ومن قال : ( متى ) فقد وقّته ، ومن قال : ( لِمَ ) فقد علّله ، ومن قال : ( فِيم ) فقد ضمّنه ، ومن قال : ( إلام ) فقد نهاه ، ومن قال : ( حَتّام ) فقد غيّاه ، ومن غيّاه فقد جَزّأه ، ومن جَزَّأه فقد ألحد فيه .
لا يتغيّر الله تعالى بتغاير المخلوق ، ولا يتحدّد بتحديد المحدود ، واحد لا بتأويل عدد ، ظاهر لا بتأويل مباشرة ، متجلِ لا باستهلال رؤية ، باطن لا بمزايلة ، قريب لا بمداناة ، لطيف لا بتجسيم ، موجود لا عن عدم ، فاعل لا باضطرار ، مقدّر لا بفكر ، مدبّر لا بعزيمة ، شاء لا بهمّة ، مدرك لا بحاسة ، سميع لا بآلة ، بصير لا بأداة ، لا تصحبه الأوقات ، ولا تضمّه الأماكن ، ولا تأخذه السِنات ، ولا تحدّه الصفات ، ولا تقيّده الأدوات .
سبق الأوقات كونُه ، والعدَم وجودُه ، والابتداءَ أزله ، وبمشابهته بين الأشياء عالم أن لا شبه له ، وبمضادّته بين الأضداد علم أن لا ضدّ له ، وبمقارنته بين الأمور عرف أن لا قرين له ، ضاد النور بالظلمة ، والظل بالحرور ، مؤلّف بين متدانياتها ، مفرّق بين متبايناتها ، بتفريقها دل على مفرقها ، وبتأليفها دل على مؤلّفها ، قال سبحانه : ( وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) .
له معنى الربوبية إذ لا مربوب ، وحقيقة الإلهية إذ لا مألوه ، ومعنى العالم إذ لا معلوم ، ليس منذ خلق استحق معنى الخالق ، ولا من حيث احدث استفاد معنى المحدث ، لا تنائيه ( منذ ) ، ولا تدنيه ( قد ) ، ولا تحجبه ( لعل ) ، ولا توقّته ( متى ) ، ولا تشتمله ( حين ) ، ولا تقاربه ( مع ) ، كلّما في الخلق من أثر غير موجود به ، وكل ما أمكن فيه ممتنع من صانعه ، لا تجري عليه الحركة والسكون .
وكيف يجري عليه ما هو أجراه ! أو يعود فيه ما هو أبداه ! إذاً لتفاوتت دلالته ، وامتنع من الأزل معناه ، ولمّا كان البارئ غير المبرأ ولو وجد له وراء لوجد له أمام ، ولو التمس له التمام لزمه النقصان ، كيف يستحق الأزل من لا يمتنع من الحدث !
وكيف ينشئ الأشياء من لا يمتنع من الإنشاء ! لو تعلّقت به المعاني لقامت فيه آية المصنوع ، ولتحوّل من كونه دالاً إلى كونه مدلولاً عليه ، ليس في محال القول حجّة ، ولا في المسألة عنه جواب ، لا إله إلاّ هو العلي العظيم )