شهادة الامام العسكري (عليه السلام)
وقضى الإمام الزكي أبو محمد (عليه السلام) أيام حياته القصيرة الأمد بالمحن والخطوب، فقد جهد ملوك العباسيين على ظلمه وإنزال أقسى العقوبات به، فكانوا ينقلونه من سجن إلى سجن وضيقوا عليه في حياته الاقتصادية وحجبوه عن الالتقاء بشيعته، كما منعوا العلماء والفقهاء من الانتهال من نمير علومه، وكان ذلك من أعظم ما عاناه من المحن والخطوب، وقد حاولوا، جاهدين، اغتياله، ولكن الله تعالى صرف ذلك عنه، وشغلهم بالأحداث الجسام التي منوا بها ويعود السبب في حقدهم عليه إلى ما يلي:
1- خوف العباسيين من ولده الإمام المنتظر (عليه السلام) الذي بشر به النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله)، وأخبر عنه غير مرة من أعظم مصلح اجتماعي تشاهده البشرية في جميع أدوارها فهو الذي ينشر العدل السياسي، والعدل الاجتماعي، ويقضي على جميع ألوان الظلم والغبن، ويحطم قوى البغي، ويزيل دول الشرك ويرفع راية الإيمان والحق، ويقيم المعطلة من حدود الله، وقد حالوا قتله ليقضوا على نسله، وقد أدلى (عليه السلام) بذلك في توقيع خرج منه جاء فيه
(زعموا أنهم يريدون قتلي ليقطعوا هذا النسل وقد كذّب الله قولهم، والحمد لله).
2- حسد العباسيين للإمام أبي محمد على ما يتمتع به من شعبية هائلة واحترام بالغ من جميع الأوساط، في حين أن السلطة بأيدي العباسيين، ولم يظفروا بأي لون من ألوان ذلك التكريم والتبجيل، والحسد –كما هو معروف- داء وبيل ألقى الناس في شر عظيم. لقد نخر الحسد قلوب العباسيين على الإمام أبي محمد (عليه السلام) الذي كان ألمع شخصية إسلامية في عصره، فراحوا يبغون له الغوائل ويكيدونه في غلس الليل، وفي وضح النهار.
3- قيام العلويين بثورات عارمة ضد الحكم العباسي منذ فجر تسلطه على رقاب المسلمين، مطالبين بتحقيق العدل السياسي في الإسلام، وتطبيق برامجه الاقتصادية والاجتماعية على واقع الحياة، وقد قوبلت ثوراتهم بتأييد شامل من جميع الأوساط الإسلامية مما أوجب سقوط هيبة الحكم، وتعرضه لهزات عنيفة كادت تطوي وجوده، وتطيح به. وقد أوغرت تلك الثورات صدور العباسيين بالحقد والضغينة على العلويين فأوعزوا إلى جلاوزتهم بمطاردة كل علوي وملاحقته، وكان من الطبيعي أن يعاني الإمام أبو محمد (عليه السلام) أعظم المشاكل وأشدها محنة وصعوبة من العباسيين لأنه سيد العلويين وإمام المسلمين في عصره. هذه بعض الأسباب التي أدت إلى حقد العباسيين على الإمام (عليه السلام) وبغضهم له.
الإمام ينعى نفسه:
واستشف الإمام أبو محمد (عليه السلام) من وراء الغيب أنه سوف يفارق الحياة ويفد على الله، فأخذ ينعى نفسه لوالدته فقال لها:
(تصيبني في سنة ستين ومائتين حرارة أفاقة أنكب منها نكبة..).
وطاش لبها بهذا النبأ المروع، وبدا عليها الجزع، وانطوت على الحزن والبكاء فأخذ الإمام يهدئ روعها قائلاً لها:
(لا بد من وقوع أمر الله لا تجزعي..).
ونزلت الكارثة في سنة ستين ومائتين فقد توفي (عليه السلام) فيها كما تنبأ.
اغتياله:
ونقل الإمام أبو محمد (عليه السلام) على الطاغية المعتمد العباسي الذي أزعجه ما يسمع من إجماع الأمة على تعظيم الإمام وتبجيله وتقديمه بالفضل على جميع العلويين والعباسيين، فأجمع رأيه على الفتك بالإمام، واغتياله فدس له سماً قاتلاً. فلما تناوله الإمام تسمم بدنه الشريف ولازم الفراش وأخذ يعاني آلاماً مريرة وقاسية وهو صابر محتسب قد الجأ أمره إلى الله.
اضطراب السلطة:
واضطربت السلطة العباسية كأشد ما يكون الاضطراب من تردي الحالة الصحية لأبي محمد (عليه السلام). فقد أوعز المعتمد إلى خمسة من ثقاته ورجال دولته وفيهم نحرير بملازمة دار الإمام والتعرف على جميع شؤونه وإخباره بكل بادرة تحدث كما أوعز إلى لجنة من الأطباء بإجراء الفحوص عليه صباحاً ومساءاً، ولما كان بعد يومين عهد إلى الأطباء أن لا يفارقوا داره كما عهد إلى الأطباء بملازمته وذلك لثقل حاله.
إلى جنة المأوى:
وثقل حال الإمام أبي محمد (عليه السلام) ويئس الأطباء منه وأخذ يدنو إليه الموت سريعاً وكان في تلك المرحلة الأخيرة من حياته يلهج بذكر الله يمجده ويدعو ربه ضارعاً أن يقربه إليه زلفى ولم تفارق شفتاه تلاوة كتاب الله العظيم واتجه الإمام (عليه السلام) صوب القبلة المعظمة وقد صعدت روحه الطاهرة إلى الله تعالى كأسمى روح صعدت إلى الله تحفها ملائكة الرحمن.
وهكذا كان موته أعظم خسارة مني بها المسلمون في ذلك العصر. فقد فقدوا القائد والموجه والمصلح الذي كان يحنو على ضعفائهم وأيتامهم وفقرائهم وارتفعت الصيحة من دار الإمام وعلت أصوات العلويات والعلويين بالنحيب والبكاء.
تجهيزه:
وغسل جسد الإمام وحنط وأدرج في أكفانه وحمل للصلاة عليه فانبرى أبو عيسى بن المتوكل عليه بأمر من المعتمد العباسي وبعد الفراغ من الصلاة كشف وجه الإمام وعرضه على بني هاشم من العلويين والعباسيين وقادة الجيش وكتاب الدولة ورؤساء الدوائر والقضاة والمتطببين وقال لهم:
هذا الحسن بن محمد بن الرضا (عليهم السلام) مات حتف أنفه على فراشه وحضره من خدم أمير المؤمنين وثقاته فلان وفلان، ومن القضاة فلان وفلان، ومن المتطببين فلان وفلان، ثم غطى وجهه الشريف.
مواكب التشييع:
وسرى النبأ المفجع في جميع أرجاء سامراء فكان كالصاعقة في هوله وهرع المسلمون إلى دار الإمام وهم ما بين باك ونائح وقد عطلت الدوائر الرسمية والمحلات التجارية وأغلقت جميع الأسواق، وكانت سامراء شبيهة بالقيامة. ولم تشهد في جميع فترات تاريخها مثل ذلك التشييع الذي ضم موجات من البشر على اختلاف طبقاتهم وميولهم ونزعاتهم وهم يعددون فضائل الإمام الزكي ومآثره ومناقبه ويذكرون بمزيد من الأسى واللوعة الخسارة العظمى التي مني بها المسلمون.
في مقره الأخير:
وجيء بالجثمان الطاهر تحت هالة من التكبير والتعظيم إلى مقره الأخير فدفن في داره إلى جانب أبيه علي الهادي (عليه السلام) وقد واروا معه صفحة مشرقة من صفحات الرسالة الإسلامية وواروا فلذة من كبد رسول الله (صلى الله عليه وآله).
لقد حظيت سامراء ببدرين من أئمة المسلمين وقادتهم وصارت في طليعة الأماكن المقدسة في دنيا الإسلام وهي حافلة في كل وقت بالزائرين من جميع الأقاليم والأقطار وقد زار المرقدين العظيمين الخليفة العباسي الناصر لدين الله متبركاً ومتقرباً إلى الله تعالى وقد أشار عليه بعض وزرائه بزيارة قبور آبائه من ملوك بني العباس فأجابه إلى ذلك ولما انتهى إليها وجدها مظلمة قد عششت فيها الغربان وعادت مزبلة لما فيها من أوساخ وقمامة وهي ببؤسها تحكي جور أولئك الملوك وظلمهم، فطلب منه الوزير العناية بها وبذل الأموال لإصلاحها ولمن يزورها فأجابه الناصر بالجواب الحاسم المركز على الواقع قائلاً:
(هيهات لا ينفع ذلك ولا يجدي شيئاًَ).
(لماذا يا أمير المؤمنين؟..).
(نظرت إلى ازدهار قبور الأئمة الطاهرين).
(نعم).
(أتعرف السر في ذلك؟).
(لا).
(إن آبائي اتصلوا بالشيطان وهؤلاء السادة اتصلوا بالله وما كان لله يبقى وما كان للشيطان يفنى ويزول).
إنها حقيقة لا ريب ولا شك فيها وستبقى قبور الأئمة الطاهرين عليهم السلام على امتداد التاريخ تحمل شارات العظمة والخلود.
وعلى أي حال فقد وقف السادة العلويون وبنو العباس وجعفر أخو الإمام على حافة القبر وأقبلت الجماهير تعزيهم وتواسيهم بمصابهم الأليم وهم يشكرونهم على ذلك وانصرف المشيعون وقد نخر الحزن قلوبهم لفقدهم الإمام (عليه السلام).
عمر الإمام:
توفي الإمام (عليه السلام) وهو في عمر الزهور، فقد كان في شرخ الشباب وزهرته، إذ وافته المنية وهو ابن ثمان وعشرين سنة.
سنة وفاته:
انتقل الإمام أبو محمد الحسن العسكري (عليه السلام) إلى جنة المأوى سنة ستين ومائتين من الهجرة في شهر ربيع الأول لثمان ليال خلون منه.