عربي
Saturday 27th of April 2024
0
نفر 0

أقسام تحمّل الحديث وطرق نقله




الشيخ مهدي الكجوري الشيرازي

 

إنّ في تحمّل الحديث وطرق نقله فصولاً:

أوّلاً: في أهليّة التحمّل. ويُشترط فيه التمييز إن حصل التحمّل بالسماع أو القراءة. والمراد به هنا أن يفرِّق بين الحديث الذي هو بصدد روايته وغيره إن سمعه في أصل مصحَّح، وإلاّ اعتُبر مع ذلك ضبطُه. واحترز بتحمّله بالسماع وما في معناه عمّا لو كان بنحو الإجازة، فلا يعتبر فيه ذلك ووجه الاشتراط واضح.

ولا يشترط الإسلام ولا البلوغ على الأصحّ، فلو تحمّل كافراً أو صبيّاً مميّزاً ورواه مسلماً بالغاً قُبل، كما اتّفق في جماعة من الصحابة خلافاً لشذوذ في الأخير، ولا عبرة به، وكذا لا عبرة (1) بتحديد السنّ ـ المسوِّغ للإسماع ـ بعشر سنين أو خمس أو أربع؛ لاختلاف الناس في مراتب الفهم والتمييز، فمن فهم الخطابَ وميّز ما يسمعه صحّ وإن كان دون خمس، ومن لم يكن كذلك لم يصحّ وإن كان ابن خمسين.

وعن الفاضل تقيّ الدين الحسن بن داود أنّ صاحبه ورفيقه السيّدَ غياثَ الدين بن طاووس استقلّ بالكتابة واستغنى عن المعلّم وعمرُه أربع سنين. (2) وقد حكي أمثال ذلك كثيراً.

وكذا لا يشترط في المرويّ عنه كونُه أكبرَ من الراوي نسباً ولا رتبة وقدراً وعلماً. وقد اتّفق ذلك كثيراً على ما حكى للصحابة فمَن دونهم.

الثاني: لتحمّل الحديث طرق سبعة:

أوّلها وأعلاها عند جمهور المحدّثين السماعُ من لفظ الشيخ سواء كان إملاء من حفظه أو كان تحديثَه من كتابه.

ووجه الأعلائيّة أنّ الشيخ أعرف بوجوه ضبط الحديث وتأديته؛ ولأنّه خليفة رسول اللّه وسفيره إلى أُمّته والأخذ منه كالأخذ منه؛ ولأنّ النبيّصلى الله عليه و آله أخبر الناس أوّلاً وأسمعهم ما جاء به، والتقرير على ما جرى بحضرته أولى؛ ولأنّ السامع أربطُ وأوعى قلباً، وشغل القلب وتوزُّع البال إلى القارئ أسرعُ.

وبعض هذه الوجوه استحسان، والدليل هو الذي يفيد الأضبطيّة، وهو الأوّل والأخير، ومقتضاه كون السامع المخاطب أقوى من السامع غير المخاطب من حضّار مجلس السماع.

وفي صحيحة عبد اللّه بن سنان قال: قلت: لأبي عبد اللّه عليه السلام يجيئني القوم فيستمعون منّي حديثكم، فأضجر ولا أقوى. قال: «فاقرأ عليهم من أوّله حديثاً ومن وسطه حديثاً  (3)  ومن آخره حديثاً» ولعلّ في عدوله  عليه السلام إلى قراءة هذه الأحاديث مع العجز دلالةً على أولويّته على قراءة الراوي، وإلاّ لأمر بها؛ فتدبّر.

فيقول الراوي حينئذٍ ـ في مقام روايته ذلك المسموع لغيره ـ: «سمعت فلانا» وهذه العبارة أعلى العبارات في تأديته المسموعَ؛ لدلالته نصّاً على السماع الذي هو أعلى طرق التحمّل، ثمّ بعدها أن يقول: «حدّثني» و«حدّثنا»؛ لدلالتهما أيضاً على قراءة الشيخ عليه، لكنّهما يحتملان الإجازة والكتابة؛ لما عن بعضٍ مِن إجازة الإخبار بهذه العبارة فيهما.

وعن بعض المحدّثين أنّه كان يقول: «حدّثنا فلان» عند عدم استماعه واستماع أهل المدينة مريداً به ذلك التأويل.

وقيل: هما أعلى من الأُولى؛ لأنّه ليس في «سمعت» دلالةٌ على أنّ الشيخ روى له الحديث وخاطبه به، وفي «حدّثنا» و«أخبرنا» دلالة على المخاطبة.

وفيه: أنّ هذه وإن كانت مزيّةً إلاّ أنّ الخَطْب فيها أسهلُ من احتمال الإجازة والتدليس.

ثمّ بعدهما أن يقول: «أخبرنا»؛ لظهور الإخبار في القول، ولكن لمكان استعماله في الإجازة والمكاتبة كثيراً كان أدونَ.

ثمّ بعده «أنبأنا» و«نبّأنا»؛ لغلبة هذه اللفظة في الإجازة.

وأمّا قول الراوي: «قال لنا» و«ذكر لنا» فهو من قبيل «حدّثنا» فيكون أعلى من «أنبأنا»؛ فتدبّر.

لكنّه ينقص من «حدّثنا»؛ لدلالته على كونه في مقام التحديث، ودلالةُ قوله:

«قال لنا» على ما سمع في المذاكرة في المجالس والمناظرة أشبهُ؛ فتدبّر أيضاً.

وأدنى العبارات قوله: «قال فلان» من دون إضافةِ «لي» أو «لنا»؛ لأنّه بحسب مفهوم اللفظ أعمُّ من السماع أو الوصول إليه ولو بوسائطَ، وإن كان الظاهر من اللفظ التحمّلَ على نحو السماع كما في «حدّثنا».

وثانيها: القراءة على الشيخ، ويسمّى العَرْضَ؛ لأنّ القارئ يعرضه على الشيخ، سواء كانت القراءة من حفظ القارئ أو من كتاب، وسواء قرأ ما يحفظه الشيخ أو كان الراوي يقرأ والأصل بيد الشيخ أو يد ثقةٍ غيرِه، واحتمال سهو الثقة نادر ولا يقدح، كما لا يقدح ذلك الإحتمال عند قراءة الشيخ. وهذه الطريقة صحيحة اتّفاقاً وإن خالف فيه بعضُ مَن لا يعتدّ به.

وإنّما الكلام في أنّ القراءة على الشيخ أقوى من السماع، أو أدونُ منه، أو مساوية له ؟ والأشهر الثاني. وعن علماء الحجاز والكوفة الأخيرُ؛ لتحقّق القراءة على الحالتين مع سماع الآخر.

وعن ابن عبّاس أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله قال: «قراءتك على العالم وقراءة العالم عليك سواء ». (4) وعن بعضٍ الأوّلُ، ولم نجد له وجهاً.

والحقّ لعلّه الأوّل (5)؛ فإنّ المدار في قوّة الحديث على الأعلميّة والأحفظيّة والأضبطيّة، وممّا نجده في الخارج زيادة الملاحظة عند القراءة من الملاحظة والإلتفات عند السماع، ولمّا كان المناط على زيادة التفات الشيخ كان قراءة الشيخ أعلى. والرواية المذكورة محمولة على مساواتها في الجملة.

والعبارة عن هذه الطريقة أن يقول الراوي عند الرواية: «قرأت على فلان» أو «قرءتم عليه وأنا أسمع وأقرّ الشيخ به» بمعنى عدم الاكتفاء بالقراءة عليه وعدم إنكاره ولا بإشارته بل تلفّظ بما يقتضي الإقرار بكونه مرويَّهُ. وهذان في هذه الطريقة أعلى؛ لدلالتهما على الواقع صريحاً.

ثمّ بعدهما قوله: «حدّثنا» و«أخبرنا قراءةً عليه».

وعن بعض المحدّثين كفايتهما مطلقين وفي قولٍ ثالث تجويزُ إطلاق «أخبرنا» دون «حدّثنا».

ومدرك الأوّل واضح، والثاني أنّ إقراره به قائم مقام التحديث والإخبار، ومن ثَمَّ جازا مقترنين بقيد «قراءة عليه».

وضعف التعليل واضح؛ لأنّ الجواز مع القرينة لا يعطي الجوازَ بدونها كما في سائر المَجازات. ووجه الثالث قوّة ظهور «حدّثنا» في النطق والمشافهة بخلاف «أخبرنا»؛ فإنّه يُتجوّز به في غير النطق كثيراً.

وأوّل الوجوه أظهرها.

وفي قولٍ: لو قال الراوي للمرويّ عنه: «أخبرك فلان بكذا» وهو ساكت مُصْغٍ إليه فلم ينكر ذلك صحّ الإخبار والتحديث عنه، وإن لم يتكلّم بما يقتضي الإقرار به؛ لأنّ عدالته تمنع عن السكوت عن إنكار ما ينسب إليه من غير صحّة.

ومن البيّن أنّ السكوت مع عدم الصحّة أعمُّ من الإقرار، ولا ينافي العدالة، فيقول حينئذٍ عند الرواية: «قرئ عليه وهو يسمع» ولا يجوز أن يقول: «حدّثني»؛ لأنّه كذب، وما سمعه وحده أو مع الشكّ في سماع الغير يقول: «حدّثني» وما سمعه مع الغير يقول: «حدّثنا»، ولو عكس الأمر فيهما لقصد التعظيم ودخوله في العموم جاز؛ لصحّته لغةً وعرفاً إلاّ أنّ التأدية على ما هو المطابق للواقع من دون ملاحظة هذه الأشياء أولى.

ومنعوا في الكلمات الواقعة في المصنّفات بلفظ «أخبرنا» و«حدّثنا» من إبدال إحداهما بالآخَر؛ لاحتمال أن يكون القائل لا يرى التسوية بينهما وكذا الناظر، فيقع التدليس ولا تجوز الرواية مع كون السامع أو المستمع ممنوعاً من السماع بشواغلَ كالنسخ والتحديث وغيرهما ممّا يوجب عدم فهم المقرّر، ووجهه واضح.

ولا يُشترط في صحّة الرواية بالسماعة أو القراءة رؤية الراوي للمرويّ عنه، بل يجوز ولو من وراء الحجاب إذا عرف الصوت أو عرف أنّه الشيخ بالشهادة، وظاهرهم الاكتفاء في ذلك بإخبار ثقة.

وفيه تأمّل إذا لم يفد القطع.

وعن بعضٍ اشتراط الرؤية؛ لإمكان المماثلة في الصوت.

وأنت خبير بأنّ المناط إذا كان القطع لا يجري هذا الإحتمال، وعلى فرض جريانه يجري في الرؤية أيضاً.

وكذا لا يُشترط علم المحدّث بالسامعين، بل لا يؤثّر منع البعض بعد إسماع الكلّ. نعم، إذا كان ذلك المنع لتذكّره الخطأَ في الرواية لم يختصّ المنع بذلك البعض ويُقبل قوله فيه.

وثالثها: الإجازة، مأخوذةً من جواز الماء الذي سقته الماشية، ونحوِه. ومنه قولهم: استجزته فأجازني: إذا سقاك ماءً لماشيتك أو أرضك. فالطالب للحديث يستجيز العالمَ علمَه أي يطلب إعطاءه له على وجه يحصل به الإصلاح لنفسه كما يحصل للأرض والماشية الإصلاح بالماء فيجيز له. وكثيراً مّا يطلق على العلم اسم الماء، وعلى النفس اسم الأرض، وعليه يمكن تنزيل قوله تعالى: «وَ تَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَآءَ اهْتَزَّتْ» (6) قولِه تعالى: « وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَآءِ كُلَّ شَىْ ءٍ حَىٍّ » (7) وعلى ذلك يتعدّى الإجازة إلى المفعول بغير حرف، فيقول: أجزتك مسموعاتي.

وقيل: الإجازة إذن وتسويغ وهو المعروف، وعليه يقول: أجزت لك روايةَ كذا. وقد يقال على المعنى الثاني «أجزت لك مسموعاتي» بحذف المضاف وعلى وجه المجاز بالحذف.

 

حكم الرواية بالإجازة

ثمّ إنّ المشهور بين المحدّثين والأُصوليّين جواز الرواية والعمل بالإجازة بل عن جماعة دعوى الإجماع على ذلك نظراً إلى شذوذ المخالف.

وعن الشافعي في أحد قوليه وجماعةٍ من أصحابه: عدمُ جواز الرواية بها؛ استناداً إلى أنّ قول المحدّث: «أجزت لك أن تروي عنّي» في معنى: «أجزت لك ما لا يجوز في الشرع»؛ لأنّه لا يُبيح رواية ما لم يُسمع، فكان في قوّة «أجزت أن تكذب عليَّ». (8) وضعفه ظاهر؛ لأنّ الإجازة عرفاً في قوّة الإخبار بمرويّاته جملةً فهو كما لو أخبره تفصيلاً، والإخبار غير متوقّف على التصريح نطقاً كما في القراءة على الشيخ، مضافاً إلى أنّ الإجازة والرواية بها مشروطتان بتصحيح الخبر من المجيز بوجوده في أصل مصحّح مع بقيّة ما يعتبر فيها، فلا يتحقّق الكذب، مضافاً إلى أنّ حصر جواز الرواية فيما سُمع تفصيلاً أوّلُ الكلام، فهذا الاستدلال يُشبه المصادرةَ.

ثمّ المجوّزون اختلفوا في ترجيح السماع عليها أو بالعكس بين عصر السلف قبل جمع الكتب المعتبرة التي يعوّل عليها، وبين عصر المتأخّرين، ففي الأوّل السماع أرجح؛ لأنّ السلف كانوا يجمعون الحديث من صحف الناس وصدور الرجال فدعت الحاجة إلى السماع خوفاً من التدليس بخلاف ما بعد تدوينها؛ لأنّ فائدة الرواية حينئذٍ إنّما هي اتّصال سلسلة الإسناد إلى النبيّ تيمّناً وتبرّكاً، وإلاّ فالحجّة تقوم بما في الكتب، ويعرف القويّ منها والضعيف من كتب الجرح والتعديل.

ولا يخفى أنّ هذا الوجه إنّما يقتضي الحاجة إلى السماع في العصر الأوّل دون العصر اللاحق لا ترجيحَ السماع في أحدهما، والإجازةِ في الآخَر، فما قوّاه في شرح الدراية (9) ليس في محلّه.

والحقّ هو الأوّل (10)؛ لاشتمال السماع على مزايا غير موجودة في الإجازة كما لا يخفى. 

 

أقسام الإجازة

ثمّ الإجازة إمّا تتعلّق بأمر معيّن لشخص معيّن، كقوله: «أجزت لك برواية الكتاب الفلاني»، أو بأمر معيّن لغير معيّن، كقوله: «أجزت جميع المسلمين» أو «كلَّ أحد» أو «من أدرك زماني» وما أشبه ذلك «الكتابَ الفلانيَّ» أو بعكس ذلك، كقوله: «أجزت لك رواية جميع مسموعاتي» أو «مرويّاتي» وما أشبه ذلك، أو بغير معيّن لغير معيّن.

وأعلاها الأوّل؛ لانضباطه بالتعيين حتّى زعم بعضهم أنّه لاخلاف في جوازه وإنّما الخلاف في غير هذا النوع، وبعده الثالث؛ لعدم انضباط المَجاز، ولو قُيّدتْ بوصف خاصّ، كـ«مسموعاتي من فلان» أو «في بلد كذا» إذا كانت متميّزةً كان أولى، وربما يعدّ ذلك في درجة الأوّل.

وضعفهما ظاهر؛ فإنّ المناط في القوّة ضبط الروايات وتعيينها، لا المستجيزُ؛ فالأولى جعل الأوّل والثاني في درجة واحدة، وكذا الثالث والرابع.

وممّن نقل منه الإجازة على الوجه الأخير (11) السيّد تاج الدين؛ حيث إنّ الشهيد  رحمه الله طلب منه الإجازة له ولأولاده ولجميع المسلمين ممّن أدرك جزءا من حياته جميعَ مرويّاته، فأجازهم ذلك بخطّه. (12) وتبطل الإجازة بمرويٍّ مجهولٍ، ككتاب كذا وله كتب كثيرة بذلك الاسم، ولشخص مجهول، كمحمّد بن أحمد مثلاً وله موافقون في ذلك الاسم والنسب.

وتجوز الإجازة لجماعة معيّنين بأنسابهم وأسمائهم وإن لم يَعرف المجيز أعيانَهم، كما يجوز لو عرفهم بأعيانهم وإن لم يعرفهم بأسمائهم وأنسابهم؛ لحصول العلم في المقامين في الجملة والخروجِ عن المجهوليّة الصرفة، والمراد بالجواز وعدمه ترتّب أثر الإجازة وعدمُه.

واختلفوا في تعليق الإجازة على مشيّة الغير، كقوله: «أجزت لمن شاء فلان» فعن المعروف بطلانه؛ للجهالة. وعن بعضٍ عدم البطلان؛ لارتفاع الجهالة عند وجود المشيّة.

والثاني أظهر؛ فإنّ سبيله سبيلُ قوله: «جميع المسلمين» وقوله: «أجزت لمن شاء الإجازة» أو «لفلان إن شاء» وقد حكموا فيهما بالصحّة.

قالوا: لاتصحّ الإجازة للمعدوم من دون ضميمة بخلافه معها، كما في الوقف. وعن بعضٍ جوازُها له مطلقاً؛ لأنّها مجرّد الإذن. وهو الأقوى بملاحظة تجويزهم الإجازةَ لغير المميّز من المجانين والأطفال بغير خلافٍ يُنقل، مع أنّ سبيلهم في عدم فهم الإجازة سبيل المعدوم، وقد وقع ذلك من جماعة من فضلائنا على ما حكاه في شرح الدراية؛(13) حيث أجازوا لأولادهم عند ولادتهم، وادّعي وجود خطوطهم بذلك مع تأريخ ولادتهم، فلعلّ الفرق تحكّم؛ فتدبّر.

ومتى جازت الإجازة للمعدوم فللحمل بطريقٍ أولى، وكذا للكافر والفاسق والمبتدع؛ لإمكان الانتفاع بأدائه عند ارتفاع الموانع.

قالوا: ولا تجوز الإجازة بما لم يتحمّله المجيز بعدُ ليرويه المستجيز منه إذا تحمّل؛ لأنّها في حكم الإخبار أو الإذن ولا يعقل الإخبار بما لم يُخبَر به، ولا أن يأذن فيما لم يَملك، كما لو وكّل في بيع العبد الذي يريد أن يشتريه.

ولعلّ الأقوى الجواز وفاقاً لبعض؛ فإنّها ـ سواء كانت في حكم الإخبار أو الإذن ـ ليست في حكمهما في جميع الأحكام، بل يظهر جوازها من جواز الإجازة للمعدوم مع عدم جواز الإخبار والإذن له وكذا توكيله.

وقد حكي الإجازة على هذا النحو من جمع من الأفاضل مضافاً إلى دلالة المعنى الأصلي للإجازة ـ وهو: إسقاء الماء للماشية ـ على جواز ذلك؛ فإنّ الماء ممّا يتدرّج حصوله إذا كان من العيون. نعم، يتعيّن على المستجيز حينئذٍ تحقيق ما يتحمّله.

ويصحّ للمُجاز له إجازةُ المُجاز لغيره. والقول بانحصار أمره في العمل بنفسه متروك. وإذا كتب المجيز بالإجازة وقصدها، صحّت بغير تلفّظ، والإجازة باللفظ والكتابة أولى؛ لتحقّق حقيقة الإخبار أو الإذن اللذين متعلّقهما اللفظ، ووجه الاقتصار على الكتابة فقط؛ لتحقّق الإذن في مثل الوكالة (14) وسائر التصرّفات بها، واستعمالِ الإخبار توسّعاً في غير اللفظ عرفاً.

ورابعها: المناولة، وأعلاها المقرونة بالإجازة، فيقول له عند المناوله: «هذا مسموعي من فلان» أو «روايتي منه فارْوِه عنّي» أو «أجزت لك رواية ما فيه عنّي» سواء ملكه الكتاب أو الأصل أو أعاره للنسخ، ويسمّى ذلك بعرض المناولة.

ومرتبته دون السماع؛ لاشتمال القراءة على ضبط الرواية وتفصيلها بما لا يتّفق بالمناولة. والقول بتساويهما ضعيف.

ثمّ دونه أن يناوله سماعَه ويجيزَه له ويمسكَه الشيخ عنده ولا يمكّنَه فيه، فيرويَه إذا وجده أو ما قوبل به. ولا يكاد يوجد لمثل هذه المناولة مزيّة على الإجازة المجرّدة من المناولة وإن حكي عن المشهور وجودها.

وأدونها المناولة المجرّدة عن الإجازة بأن يناوله كتاباً ويقولَ: «هذا سماعي» مقتصراً عليه.

 

حكم الرواية بالمناولة

ولعلّ المشهور أنّه لا تجوز الرواية بها. وعن بعضٍ جوازها؛ لحصول العلم بكونه مرويّاً له مع إشعاره بالإذن له في الرواية.

ويدلّ عليه ما عن الكافي بإسناده إلى أحمد بن عمر الحلاّل، قال: قلت لأبي الحسن الرضاعليه السلام: الرجل من أصحابنا يعطيني الكتاب ولا يقول: أروه عنّي، يجوز لي أن أرويه عنه ؟ قال: فقال: «إذا علمت أنّ الكتاب له فاروه عنه ». (15)

فلعلّ الجواز أقوى، ولاسيّما بعد ثبوت الجواز في المراتب اللاحقة كما سيجيء، ولكنّه إذا روى بالمناولة، قال: «حدّثنا فلان» أو «أخبرنا مناولةً» غيرَ تارك للقيد؛ لظهور المطلق في السماع والقراءة.

وخامسها: الكتابة، وهو أن يكتب الشيخ مرويّه لغائب أو حاضر بخطّه أو خطّ غيره مع كتابته بعده بما يدلّ على الأمر بالكتابة.

 

حكم الرواية بالكتابة

وإذا كانت مقرونةً بإلاجازة، كانت في الصحّة والقوّة كالمناولة المقرونة بها، وإن كانت مجرّدة عنها ففي جواز الرواية بها قولان: من حيث إنّ الكتابة لا تقتضي الإجازة؛ ولأنّ الخطوط تشتبه، فلا يجوز الإعتماد عليها، ومن تضمّنها الإجازةَ معنى؛ لأنّ الكتابة للشخص المعيّن وإرسالَه إليه وتسليمَه إيّاه قرينة قريبة على الإجازة للمكتوب إليه، وذلك هو الأشهر فيما بينهم، وهو الأقوى؛ لما ذكر؛ ولأنّه يكتفى في الفتاوي الشرعيّة بالكتابة من المفتي مع أنّ خطر الفتوى أعظمُ.

نعم، يعتبر معرفة الخطّ بحيث يحصل الوثوق بعدم التزوير. واشترط بعضهم البيّنة على الخطّ، وفي لزومه تأمّل واضح وإن كان أحوطَ.

 

مرتبة الرواية بالمكاتبة

وعلى تقدير اعتبار المكاتبة ـ كما قوّيناه ـ فهي أنزل من السماع حتّى يرجّح عليها مع تساويهما في الصحّة وغيرها من المرجّحات.

وقد وقع في مثل ذلك مناظرة بين الشافعي وإسحاقَ في جلود الميتة إذا دُبغت هل تطهر أو لا ؟ قال الشافعي: دباغها طهورها. فقال إسحاق: ما الدليل ؟ فقال: حديث ابن عبّاس عن ابن ميمونة: هلاّ انتفعتم بجلدها ؟ يعني الشاة الميتة. فقال إسحاق: حديث ابن حكيم كتبه إلينا النبيّ  عليه السلام قبل موته بشهر: «لاتنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب » أشبهَ أن يكون ناسخاً لحديث ابن ميمونة؛ لأنّه قبل موته بشهر. فقال الشافعي: هذا كتاب وذلك سماع، فقال إسحاق: إنّ النبيّ  صلى الله عليه و آله كتب إلى كسرى وقيصر وكان حجّة عليهم. فسكت الشافعي (16) .

وحيث يروي المكتوبُ إليه ما رواه بالكتابة يقول فيها: «كتب إليّ فلان» أو «حدّثنا فلان» أو «أخبرنا كتابةً» أو «مكاتبة» لا مجرّداً عن القيد ليتميّز عن السماع وما في معناه. والقول بجواز الإطلاق ضعيف؛ لمكان التدليس.

وسادسها: الإعلام، وهو أن يُعلم الشيخ طالبَ الحديث أنّ هذا الكتاب أو الحديث روايته أو سماعه عن فلان مقتصراً عليه.

 

حكم الرواية بالإعلام

وفي جواز الرواية به قولان:

أحدهما: الجواز؛ تنزيلاً له منزلة القراءة على الشيخ، فإنّه إذا قرء عليه شيئاً من حديثه وأقرّ بأنّه روايته من فلان، جاز له أن يرويه عنه وإن لم يسمعه من لفظه ولم يقل له: اروه عنّي؛ وتنزيلاً له منزلة من سمع غيرَه يقرأ بشيء فله أن يرويه وإن لم يشهده بل وإن نهاه، ولأنّه يُشعر بإجازته له كما مرّ في الكتابة وإن كان أضعفَ.

والثاني: المنع؛ لأنّه لم يُجِزْه فكان روايته عنه كاذبةً، وربما أفرط بعض المجوّزين فأجاز الرواية بالإعلام المذكور وإن نهاه كما في صورة السماع.

ولعلّ الأقوى الأوّل؛ لأنّ المناط في جواز الرواية عن شخص تثبّتُ كون ذلك من مسموعاته، ولم يدلّ على أزيدَ من ذلك دليل، والمفروض إعلام الراوي بكون الرواية من باب الإعلام؛ حذراً من التدليس، فأيّ مانع من جوازه ؟

وفي معنى الإعلام ما لو أوصى له عند موته أو سفره بكتاب يرويه (17)، وفيه القولان المذكوران.

وسابعها: الوجادة ـ بكسر الواوـ وهو مصدر وجد يجد، مولَّد من غير العرب غير مسموع من العرب الموثوق بعربيّته، ومنشأ التوليد من العلماء وجدانُهم المصدرَ باختلاف المعنى، فيقال: وجد ضالّته وجداناً وإجداناً بالواو والهمزة المكسورتين، ووجد مطلوبه وجوداً وفي المعنى وجد ـ مثلّثة الواو ـ ووجدة بالكسر، وفي الحبّ: وجداً.

فولّدوا لأخذ العلم من صحيفة من غير سماع ولا إجازة ولا مناولة ولا إعلام هذه اللفظةَ.

فتعريفه أنّه أن يجد إنسان كتاباً أو حديثاً مرويَّ إنسان بخطّه معاصرٍ له أو غير معاصر لم يسمعهما منه هذا الواجدُ ولا له منه إجازة ولا نحوها.

فيقول حين الرواية: «وجدت» أو «قرأت» بخطّ فلان» أو «في كتاب فلان بخطّه» ويسوق باقي الإسناد والمتن. وهذا، الذي استقرّ عليه العمل قديماً وحديثاً.

وإن لم يتحقّق الواجد الخطّ قال: «بلغني عن فلان» أو «وجدت في كتابٍ أخبرني فلان أنّه بخطّ فلان» إن كان أخبره به أحد، وإذا نقل من نسخة موثوق بها في الصحّة قال في نقله من تلك النسخة: «قال فلان»، وإلاّ يثق بها قال: «بلغني عن فلان أنّه قال كذا». والصواب في أمثال ذلك الإحترازُ عن إطلاق اللفظ الجازم في ذلك إلاّ أن يكون الناقل ممّن يعرف صحّة العبارة وسقمها بملاحظة سَوْق العبارة وصدرها وذيلها، فبعد الوثوق بصحّة العبارة لعلّه لا إشكال في إطلاق اللفظ الجازم فيقول: «قال فلان».

 

حكم الرواية بالوجادة

وفي جواز العمل بالوجادة الموثوق بها قولان للمحدّثين والأُصوليّين: فعن الشافعي: الجواز، واستدلّ له بأنّه لو توقّف العمل على الرواية لا نسدّ باب العمل بالمنقول؛ لتعذرّ شرط الرواية فيها.  (18)

ولنعم ما قاله صاحب المعالم من أنّ أثر الإجازة بالنسبة إلى العمل إنّما يظهر حيث لا يكون متعلّقها معلوماً بالتواتر ونحوه. (19) انتهى.

فبعد ثبوت كون الكافي مثلاً من مؤلّفات ثقة الإسلام فأيّ شيء يحصل بالإجازة حتّى يصحّح العمل بأخبارها، وينتفي عند انتفائها ؟

وحجّة المانع أنّه ممّا لم يحدّث به لفظاً ولا معنى، فيخرج عن الرواية.

وأقول: مقتضى ذلك أن لا يعمل بالقرآن؛ لأنّ ما نجده في يومنا ليس إلاّ الخطوط والنقوش، والإجازةُ من اللّه تعالى أو النبيّ  صلى الله عليه و آله أو الأئمّة منتفية، فينتفي كونه قولَ اللّه تعالى لفظاً أو معنى؛ فتدبّر.

 

كيفيّة نقل الحديث

وأمّا كيفيّة رواية الحديث فقد أشرنا إليها في طرق التحمّل. (20) ولكنّهم اختلفوا فيما به يجوز رواية الحديث: فعن مالك وأبي حنيفه وبعض الشافعيّه أنّه لا حجّيّة إلاّ فيما رواه الراوي من حفظه وتذكّره. ومنهم من أجاز الإعتماد على الكتاب بشرط بقائه على يده، فلو أخرجه عنها ولو بإعارته لثقة، لم تجز الرواية منه لغيبته عنه المجوّزةِ للتغيير.

والحقّ جواز الرواية من حفظه ومن الكتاب إن خرج من يده مع أمن التغيير؛ فإنّ الإعتماد في الرواية على الظنّ الغالب الموجب للاطمئنان الحاصل بكلا الأمرين. (21)

ومَن لا يعلم مقاصد الألفاظ وما يختلّ به معانيها ومقادير التفاوت بينها لم يجز له رواية الحديث بالمعنى بغير خلاف، بل يقتصر على رواية ما سمعه باللفظ الذي سمعه، وإن كان عالماً بذلك، جاز على الأصحّ كما يشهد به أحوال الصحابة والسلف وكثيراً مّا كانوا ينقلون معنى واحدا بألفاظ مختلفة، والأخبارُ ورد في ذلك.

منها: صحيحة محمّد بن مسلم، قال: قلت لأبي عبد اللّه : أسمع الحديث منك فأزيد وأنقص ؟ قال: «إن كنت تريد معانيَه فلا بأس » (22) مضافاً إلى أنّ التعبير للعجمي بلسان العجم جائز اتّفاقاً فبالعربيّة أولى فتدبّر. (23)

وقيل: إنّما تجوز الرواية بالمعنى في غير الحديث النبويّ؛ لأنّه أفصحُ مَن نطق بالضاد، وفي تراكيبه أسرار ودقائقُ لا يوقَف بها كما هي إلاّ بها، ومن ثَمَّ قال: «نضّر اللّه عبداً سمع مقالتي ووعاها وأدّاها كما سمعها فربّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه (24)» ولاريب أنّه أولى وإن كان الاصحّ الأوّلَ.

هذا في غير المصنَّفات، وأمّا فيها فلا يتغيّر أصلاً؛ لأنّ المجوّز في غيرها إنّما كان لزومَ الحرج الشديد في الجمود على الألفاظ، وهو غير موجود في المصنّفات المدوّنة إلاّ أن يشير إليه. وينبغي تلك الإشارة في الحديث المرويّ بالمعنى.

ولم يجوّز مانعوا الرواية بالمعنى وبعضُ مجوّزيها تقطيعَ الحديث بحيث يروي بعضُه دون بعض إن لم يكن رواه في محلٍّ آخَرَ أو غيرُه تامّاً.

ومنهم من منعه مطلقاً. وجوّزه آخرون مطلقاً لمن عرف عدم تعلّق المتروك منه بالمرويّ بحيث لا تختلف الدلالة فيما نقله بترك ما تركه؛ لأنّ المرويّ والمتروك حينئذٍ بمنزلة خبرين مستقلّين منفصلين، ولذا ارتكبه السلف من أصحابنا، وفرّقوه على الأبواب اللائقة به.

ويتعلّم من يريد قراءة الحديث قبل الشروع فيها من العربيّة واللغة ما تَسلم به من اللحن، ففي صحيحة جميل بن دراج قال: قال أبو عبد اللّه : «أعربوا حديثنا؛ فإنّا قوم فصحاء (25) ».

ولا يسلم من التصحيف بذلك بل بالأخذ من أفواه الرحال ومتى سمع بعض حديث من شيخ، وبعضَه الآخَرَ عن آخَرَ، روى جملته عنهما مبيِّناً أنّ بعضه عن أحدهما وبعضه عن الآخر، فيصير الحديث مشاعاً بينهما، فإن كانا ثقتين فالأمر في العمل سهل وإن كان أحدهما مجروحاً لا يجوز به بحال إلاّ إذا تبيّن الجزء الذي رواه الثقة.

 

أسماء الرجال وطبقاتهم

وأمّا أسماء الرجال وطبقاتهم وما يتّصل به:

فالصحابي من لقي النبيَّصلى الله عليه و آله مؤمناً به ومات على الإسلام وإن تخلّلت رِدّته، والمراد ب  «اللقاء» الأعمّ من المجالسة والمماشاة ووصول أحدهما إلى الآخر وإن لم يره، والتعبير به أولى من التعبير بمن رأى النبيّ  صلى الله عليه و آله؛ لخروج ابن أُمّ مكتوم عن التعريف مع كونه صحابيّاً بغير خلاف.

واحترزوا ب  «الإيمان به» عمّن لقاه كافراً وإن أسلم بعده أو لقاه مؤمناً بسائر الأنبياء دونه، وب  «الموت على الإسلام» عمّن ارتدّ ومات على الردّة كعبد اللّه بن جحش ونحوه، ودخل بقولنا: «وإن تخلّلت ردّته» ما إذا رجع إلى الإسلام في حياته وبعده ـ سواء لقيه ثانياً أم لا ـ على إشكال في الأخير خلافاً في كثير من تلك القيود؛ لاشتراط بعضِهم عدم تخلّل الإرتداد، وبعضِهم رواية الحديث، وبعضِهم كثرة المجالسة وطول الصحبة، وبعضِهم الإقامةَ سنة وسنتين والغزاوة معه مرّة ومرّتين إلى غير ذلك.

ثمّ الصحابة على مراتبَ كثيرةٍ بحسب التقدّم في الإسلام والهجرة والملازمة والقتال معه والقتل تحت رايته والرواية عنه ومكالمته ومشاهدته وإن اشترك الجميع في شرف الصحبة. ويعرف كونه صحابيّاً بالتواتر والإستفاضة والشهرة وإخبار الثقة.

وحكمهم عندنا في العدالة حكم غيرهم. وأفضلهم أمير المؤمنينعليه السلام وولداه وهو أوّلهم إسلاماً، وآخرهم موتاً على الإطلاق أبو الطفيل عامر بن واثلة، مات سنة مائة من الهجرة. (26) 

قيل: وقبض النبيّصلى الله عليه و آله عن مائة وأربعةَ عَشَرَ ألفَ صحابي. (27) والتابعي من لقي الصحابيَّ بالقيود المذكورة، واستثنى منها قيد الإيمان به فذلك خاصّ بالنبيّ  صلى الله عليه و آله.

بقي قسمٌ ثالث بين الصحابي والتابعي اختُلف في إلحاقه بأيّ القسمين وهم المخَضْرَمون الذين أدركوا الجاهليّة والإسلام ولم يَلقَوْا النبيّ، سواء أسلموا في زمانه كالنجاشي أم لا ؟ واحدهم خضرم كأنّه قُطع من نظرائه الذين أدركوا الصحبة.

ثمّ الرواي والمرويّ عنه إن استويا في السنّ أو في الأخذ عن المشايخ فهو النوع الذي يقال له: رواية الأقران؛ لكونه راوياً عن قرينه وذلك كالشيخ والسيّد، فإنّهما أقران في طلب العلم والقراءة على المفيد  رحمه الله، فإن روى كلّ منهما عن الآخر فهو النوع الذي يقال له: المدبَّج ـ بفتح الدال المهملة وتشديد الباء الموحّدة وآخره الجيم ـ مأخوذ من ديباجتَيِ الوجه كأنّ كلاًّ من القرينين يبدّل ديباجة وجهه للآخر ويروي عنه، وهو أخصّ من الأوّل، فكلّ مدبَّج أقران ولا عكس.

وإن روى عمّن دونه في السنّ أو في اللُقَى أو في المقدار فهو النوع المسمّى برواية الأكابر عن الأصاغر، كرواية الصحابي عن التابعي ونحو ذلك، ومن هذا القسم رواية الآباء عن الأبناء والواقع كثيراً في الخارج عكس ذلك.

ومن الأوّل رواية العبّاس بن عبد المطّلب عن ابنه الفضل أنّ النبيّ جمع بين الصلاتين بالمزدلفة (28)، وفي الثاني قد تقع رواية الأبناء عن الآباء وقد تقع روايتهم عن الأجداد في مرتبة واحدة أو أزيدَ وقد يقع التسلسل بأربعةَ عَشَرَ أباً.

وإن اشترك اثنان عن شيخ وتقدّم موت أحدهما على الآخر، فهو النوع المسمّى بالسابق واللاحق.

والرواة ان اتّفقت أسماؤهم وأسماء آبائهم واختلف أشخاصهم ـ سواء اتّفق في ذلك اثنان منها أو أكثرُ ـ فهو النوع الذي يقال له: المتّفق والمفترق أي المتّفق في الاسم والمفترق في الشخص.

وفائدة معرفته الإحتراز عن أن يُظنّ الشخصان شخصاً واحداً. وذلك كرواية الشيخ ومن سبقه من المشايخ عن أحمد بن محمّد عند الإطلاق؛ فإنّ هذا الاسم مشترك بين جماعة: منهم أحمد بن محمّد بن عيسى، وأحمد بن محمّد بن خالد، وأحمد بن محمّد بن أبي نصر، وأحمد بن محمّد بن الوليد، وجماعةٌ أُخرى من أفاضل أصحابنا في تلك العصر. وفائدة تلك المعرفة إنّما تظهر عند اشتراكهم في الاسم واختلافهم في الوثاقة وعدمها، وعند الإشتراك في المقامين لا تظهر الثمرة. وقد أشرنا إلى طرق تلك المعرفة في تمييز المشتركات.

وإن اتّفقت الأسماء خطّاً واختُلفت نطقاً فهو النوع الذي يسمّى بالمؤتلف والمختلف، ومن أجل عدم معرفته يقع التصحيف في الأسماء، وذلك كجرير ـ بإعجام الأوّل وإهمال الأخير ـ وحريز بالعكس، فالأوّل جرير بن عبد اللّه البجلي صحابي، والآخَرُ حريز بن عبد اللّه السجستاني يروي عن الصادق، فاسم أبيهما واحد واسمهما مؤتلف، والمايز بينهما الطبقة، وكبريد ـ بالموحّدة والمهملة ـ ابن معاوية العجلي من أصحاب الباقرعليه السلام والصادق عليه السلام، ويزيد ـ بالمثنّاة والمعجمة ـ المشترك بين الثقة والضعيف ونحو ذلك.

وقد يقع الإئتلاف والإختلاف في النسبة والصنعة، كالهمداني ـ بسكون الثاني وإهمال الثالث ـ نسبةً إلى قبيلة، والهمذاني ـ بفتح الثاني وإعجام الثالث ـ نسبةً إلى بلد معروف، والحنّاط ـ بالمهملة والنون ـ والخيّاط ـ بالمعجمة من فوقُ والمثنّاة من تحتُ ـ ونحو ذلك.

وإن اتّفقت الأسماء خطّاً ونطقاً واختلفت الآباء نطقاً مع ائتلافهما أو بالعكس فهو النوع الذي يقال له: المتشابه، كمحمّد بن عَقيل النيسابوري ـ بفتح العين ـ  ومحمّد بن عُقيل بضمّها إلى غير ذلك من الاصطلاحات.

هذا ما يسّر اللّه تعالى لنا نظمَه في سلك التحرير من الإشارة إلى بعض فوائد علم الرجال ومصطلحات علم الدراية، وله الحمد على ذلك، جعله اللّه تعالى خالصاً لوجهه الكريم، ونَفَعَنا وإخواننا به.

وقد وقع الفراغ منه في يوم الأربعاء ثانيَ عَشَرَ شوّال من شهور سنة ثمانية وخمسين بعد ألف ومائتين من الهجرة في القريب من حائر مولانا أبي عبد اللّه الحسينعليه السلام في أسوء الأحوال من حيث الدنيا؛ لاضطراب أهل البلد من توجّه نجيب پاشا إلى بلدهم، وخوفهم على أنفسهم وعيالهم وأموالهم، وعلوّ الأسعار، وانسداد باب الاقتراض، وعدم وجدان المُؤْنة، والابتلاء بكثرة العيال، ولعدم المسكن، وشدّة مطالبة الديّانين، وغير ذلك، فرّج اللّه تعالى عنّا جميع تلك الكُرَب وأحسنها من حيثُ الآخرة؛ للتلازم غالباً بين التلبّس بتلك الكرب، وبين كمال التوجّه إليه تعالى.

وفّقنا اللّه تعالى لكمال التوجّه إليه في حال البؤس والرخاء بعزّة مَن لُذنا إلى جِواره وأقاريبه المكرمين صاعداً ونازلاً ومساوياً، ولا يسلّطْ علينا مَن لا يرحمنا من شياطين الإنس والجنّ، ولا يجعلْنا من الغافلين، آمينَ ياربّ العالمين.

 

المصدر: الفوائد الرجالية؛ الشيخ مهدي الكجوري الشيرازي – تحقيق محمد كاظم رحمان ستايش

 

 

1.     ليس «لا عبرة» في «ألف». 

2.     رجال ابن داود: 227 و228. 

3.      الكافي 1: 52 / 5. 

4.     الرعاية في علم الدراية: 240.

5.     أي أنّ القراءة على الشيخ أقوى من السماع. 

6.     حج (22): 5.

7.     الأنبياء (21): 30.

8.     تدريب الراوي: 131.

9.     الرعاية في علم الدراية: 262 ـ 263. 

10. أي إنّ السماع أرجحُ. 

11. أي إجازة غير معيّن لغير معيّن. 

12. الرعاية في علم الدراية: 267. 

13. الرعاية في علم الدراية: 271. 

14. في «ج»: «في مثل مملوكاته». 

15. الكافي 1: 52 / 6. 

16. الحاوي للفتاوي: 19 ـ 20؛ الرعاية في علم الدراية: 290. 

17. أي يرويه الموصي.

18. تدريب الراوي: 149 ـ 150. 

19. معالم الدين وملاذ المجتهدين: 212. 

20. مرّ في ص 212 ـ 224. 

21. الرعاية في علم الدراية: 304 ـ 305. 

22. الكافي 1: 51 / 2.

23. لأنّ التعبير بالعجمي له للاضطرار فالاحتياج إلى تفهيمه لا يكون موجباً لجوازها بالعربيّة فكيف يكون أولى ؟ ! «منه». 

24. الكافي 1: 403 / 1. 

25. المصدر 1: 52 / 13.

26. الرعاية في علم الدراية: 344. 

27. الرعاية في علم الدراية: 345. 

28. المصدر: 355. 


source : http://www.darolhadith.com
0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

المهدي المنتظر في القرآن الكريم
خصائص القائد الإسلامي في القرآن الكريم
الولاء لأهل البيت عليهم السلام
الظلم ممارسةً وتَحَمُّلاً ودولةً لها أركان
القضية الفلسطينية في كلمات الإمام الخميني ( قدس ...
لا توفيق مع الغشّ
تحرير المدينة المنورة والحجاز
من شهد واقعة الطف
آداب المعلّم والمتعلّم في درسهما
الألفاظ الدخيلة والمولَّدة

 
user comment