عربي
Saturday 20th of April 2024
0
نفر 0

مظاهر أثر القرآن على المؤمنين


أـ من القرآن الكريم:
عندما نتتبع أثر كلام الله _القرآن _ فيمن سمعه وتدبره من البشر فإننا نجد ان أول من يتأثر بكلامه هم من تلقوه، وكلفهم الله ببلاغة للبشر، وهم الأنبياء والرسل، ولذلك يقول سبحانه _بعد ان تحدث عن من الأنبياء والرسل في سورة مريم: (أولئك الذين أنعمَ اللهُ عليهم من النبيينَ من ذريةِ آدمَ وممّن حملنا معَ نوحٍ ومن ذُريةِ إبراهيم وإسرائيلَ ومِمَّن هدينا واجتبينا إذا تُتلى عليهم آياتُ الرَّحمانِ خرُّوا سُجَّداً وبُكياً)، فهؤلاء إذا سمعوا كلام الله المتضمن حججه ودلائله وبراهينه سجدوا لربهم، خضوعاً واستكانة، حمدا وشكرا على ما هم فيه من النعم العظيمة، والبُكيّ جمع باك، فلهذا أجمع العلماء على شرعية السجود ههنا اقتداء بهم، واتباعا لمنوالهم. ولما قرا عمر بن الخطاب رضي الله عنه سورة مريم سجد وقال: (هذا السجود فأين البكي) يريد البكاء.
ويقول سيد قطب في تفسير الآية وأولئك النبيون، ومعهم من هدى الله واجتبى من الصالحين من ذريتهم، صفتهم البارزة: (إذا تُتلى عليهم آياتُ الرَّحمنِ خرُّوا سُجداً وبُكياً) فهم أتقياء، شديدوا الحساسية بالله، ترتعش وجداناتهم حين تتلى عليهم آياته، فلا تسعفهم الكلمات للتعبير عما يخالج مشاعرهم من تأثر، فتفيض عيونهم بالدموع، ويخرون سجداً وبكيا.
والسجود حركة ظاهرية، تعبر عن أعلى وأصدق درجات الانقياد والاستسلام والتذلل للمسجود له، وأما البكاء: فهو تنفيس عن انفعالات داخلية شديدة، يعجز صاحبها عن التعبير عنها، فتعبر عيناه بالدمع، وكان سيدنا محمد(ص) أول المتأثرين بالقرآن الكريم، تأثرا باطنيا وظاهريا، وكفى سلوكه شاهدا على ذلك وبرهانا عليه.
فقد روى (مطرف بن عبد الله بن الشخير عن أبيه قال: رأيت رسول الله(ص) يصلي ولصدره أزيز كأزيز المرجل من البكاء)، الأزيز (بزايين): صوت الرعد، وغليان القدر)، وما رواه الأئمة عن عبد الله بن مسعود قال: قال النبي(ص): (اقرأ عَلَيّ) فقرأت عليه سورة النساء، حتى إذا بلغت (فكيفَ إذا جئنا من كُلِ أُمةٍ بشهيدٍ وجئنا بكَ على هؤلاءِ شهيداً)، فنظرت إليه فإذا عيناه تدمعان.
والمواقف والمواضع التي تبرز تأثر الرسول (ص) بالقرآن كثيرة، بيد أن ذلك يعد أمرا لا غرابة فيه، ولا إعجازاً، إذ كيف لا يتأثر الرسول (ص) بالقرآن وعليه أنزل؟ وقد رأى الملائكة، وقد أعرج به إلى السماء، وسمع صرير الأقلام، ورأى من آيات ربه ما رأى؟ فتأثره بالقرآن الكريم أمر لا يحتاج إلى دليل أو برهان. وكان (ص) يحرص على أن يغرس في اتباعه من المسلمين التأثر بالقرآن عند تلاوته، فقد أمر المسلمين بالبكاء عند تلاوته، فإن لم يجدوا بكاء فليتباكوا، وامتثل المؤمنون لتوجيه الرسول (ص) ففتحوا اذانهم وقلوبهم لآيات الله، لتعمل فيها عملها، تؤثر فيها ماشاء الله لها من تأثير، وحال بينهم وبين كل ما من شأنه أن يمنع قلوبهم من التأثر بالقرآن. ولنتتبع بعض آياته التي عبرت عن ذلك وأظهرته:
1_ وجل في القلوب:
لقد حاز المؤمنون عند ربهم درجة سامقة رفيعة لتأثرهم بكتاب ربهم، تأثرا عمليا صادقا، له نتائجه في واقع حياتهم وحياة مجتمعهم. يقول سبحانه وتعالى: (إنّما المؤمنونَ الَّذينَ إذا ذُكرَ اللهُ وجِلت قُلُوبهُم وإذا تُليت عليهم ءايتهُ زادتهُم إيماناً وعلى ربِهِم يتوكّلون)، ولنا مع هذه الآية بعض الوقفات:
الوقفة الأولى: ما هي حقيقة التأثر بذكر الله وتلاوة القرآن؟
هذه الحقيقة تتحدث عنها الصحابية الجليلة (أم الدرداء) من خلال تجربة عاشتها متأثرة من آيات القرآن، فوجل قلبها، فقال تصف هذا الوجل: (الوجل في القلب كاحتراق السعفة، أما تجد له قشعريرة؟ قال: بلى. قالت: إذا وجدت ذلك فادعوا الله عند ذلك، فإن الدعاء يذهب ذلك.
يقول سيد قطب: إنها الارتعاشة الوجدانية التي تنتاب القلب المؤمن حين يذكر الله في أمر أو نهي (في القرآن)، فيغشاه جلاله، وتنتفض فيه مخافته، ويتمثل عظمة الله ومهابته، إلى جانب تقصيره _هو _ وذنبه، فينبعث إلى العمل والطاعة.
الوقفة الثانية: ما هي مظاهر تأثرهم بالقرآن؟
يقول سيد قطب موضحا هذه المظاهر: فالقلب المؤمن يجد في آيات هذا القرآن ما يزيده إيمانا وما ينتهي به إلى الاطمئنان، إن هذا القرآن يتعامل مع القلب البشري بلا وساطة، ولا يحول بينه وبينه شيء إلا الكفر الذي يحجبه عن القلب، ويحجب القلب عنه، فإذا رفع هذا الحجاب بالإيمان وجد القلب حلاوة هذا القرآن، ووجد في إيقاعاته المتكررة زيادة في الإيمان، تبلغ إلى درجة الاطمئنان.
الوقفة الثالثة:
إن نتيجة هذا التأثر واضحة جلية في سلوك المؤمنين ونهج حياتهم، فهم (على ربهم يتوكلون)، يقول ابن كثير في ذلك: (أي لا يرجون سواه ولا يقصدون إلا إياه، ولا يلوذون إلا بجنابه، ولا يطلبون إلا منه، ولا يرغبون إلا إليه، ويعلمون إنه ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، وأنه المتصرف في الملك، لا شريك له، ولا معقب لحكمه، وهو سريع الحساب.
2_ اطمئنان القلوب:
إن اطمئنان القلوب مرحلة تأتي بعد إيمان عميق، وسماع واع، وتدبر للقرآن دقيق، فإذا عاشت القلوب على هذا المنوال تصل إلى مرحلة من الاطمئنان إلى وعد الله في كتابه، لا تحركه الزلازل، وإلى درجة من الرقة والحذر والخوف من وعيد الله تجعلها تسجد وتخشع وتبكي لمجرد سماعه، إنها القلوب المطمئنة التي بلغ فيها القرآن مبلغا من التأثير، فقال سبحانه وتعالى واصفا إياها: (الَّذينَ ءامَنُوا وتطمئنُّ قلوبُهُم بذكرِ اللهِ ألا بذكرِ اللهِ تطمئنُّ القُلوبُ) إن النفس الإنسانية تحتاج إلى الاطمئنان في الأمور الهامة:
فهي تريد الاطمئنان عما بعد الحياة. ماذا بعد هذه الحياة؟ ويجيب القرآن (ثمَّ إنّكُم بعد ذلك لميتونَ، ثمَّ إنَّكُم يومَ القيامةِ تُبعثونَ)، ويوم القيامة يتميز الناس، (فأمّا من أُوتيَ كتابَهُ بيمينهِ فيقولُ هآؤمَ اقرءوا كتابيه، إنّي ظننتُ أنّي مُلاقٍ حسابيه، فهو في عيشةٍ راضيةٍ، في جنّةٍ عاليةٍ، قطوفها دانيةٌ، كُلُوا واشربوا هنيئاً بما أسلفتُم في الأيامِ الخالية، وأمّا من أُوتيَ كتابَهُ بشمالهِ فيقولُ ياليتني لَم أُوتَ كتابيه، ولم أدر ما حسابيه، ياليتها كانتِ القاضيةَ ما أغنى عني ماليه، هلك عنّي سُلطانيه، خُذوهُ فغُلُّوه، ثمَّ الجحيم صلُّوه، ثمَّ في سِلسلةٍ ذرعُها سبعونَ ذراعاً فاسلُكُوه، إنّهُ كان لا يؤمنُ بالله العظيمِ ولا يحُضُّ على طعامِ المسكينِ، فليس له اليوم هاهُنا حميمٌ ولا طعامٌ إلاّ من غسلينٍ، لا يأكُلُهُ إلاّ الخاطئونَ).
هكذا يجيب القرآن على هذا التساؤل الداخلي في النفس الإنسانية، فيضع أمامها الحقائق في يسر وسهولة وتأثير بالغ، فتطمئن إلى ما تعمله: إن كان خيرا، فموت، ثم بعث، ثم حساب، ثم جنة. وإن كان شرا. فموت ثم بعث، ثم حساب، ثم نار.
إنها حقائق خالية من التعقيد الفلسفي، تجعل القلب يطمئن في هدوء إلى ربه، والنفس تريد الاطمئنان على الرزق. وقد طمأننا الله في قرآنه على ذلك فقال: (وفي السَّماء رزقُكُم وما توعَدون، فوربِّ السماءِ والأرضِ إنّهُ لحقٌ مثل ما أنَّكُم تنطِقونَ) وتريد النفس أن تطمئن على العمر، وقضية البقاء، والعدم، والموت، والابتلاءات.
ويحسم القرآن كل ذلك في كلماته السهلة الميسرة المؤثرة، فيقول سبحانه: (قُل لن يُصيبنا إلاّ ما كتبَ اللهُ لنا)، (ما أصابَ من مُّصيبةٍ في الأرضِ ولا في أنفسكُم إلاّ في كتابٍ من قبل أن نَبرأها إن ذلك على الله يسير، لِكيلا تأسَوا على ما فاتَكُم ولا تفرَحوا بما ءاتاكُم)، وقوله سبحانه تعالى: (فإذا جآء أجَلُهُم لا يستأخِرونَ ساعةً ولا يستقدمونَ)، فلماذا إذن لا تطمئن النفس الإنسانية بذكر الله؟ ولماذا لا يترك القرآن فيها آثاره، فيكسبها راحة وهدوءاً وسكينة؟ إن ذلك لا يكون إلا للذين آمنوا به أولا.
3_ سجود وخشوع:
ويزداد أثر القرآن في النفوس المؤمنة، فيجعلها طيعة لأوامره، منقادة لإشارته، مستلهمة لمعانيه، تخشع أجسادهم في سجود، وتلهج ألسنتهم بذكر الله، وتتقطر أقدامهم في قيام الليل والناس نيام، وتفيض نفوسهم قبل أيديهم بالإنفاق في سبيل الله، يقول سبحانه: (إنّما يؤمنُ بآياتنا الَّذينَ إذا ذُكّروا بها خرُّوا سجداً وسبحوا بحمدِ ربّهم وهُم لا يستكبرونَ، تتجافى جُنُوبُهم عن المضاجع يدعونَ ربَّهُم خوفاً وطمعاً وممّا رزقناهُم يُنفقونَ) يقول ابن كثير: (إنّما يؤمنُ بآياتنا) أي إنما يصدق بها (الذين إذا ذُكّروا بها خرُّوا سُجّداً) أي استمعوا لها وأطاعوها، قولا وفعلا (وسبَّحوا بحمد ربِهم وهم لا يستكبرونَ) أي عن اتباعها والانقياد لها. ثم قال: (تتجافى جُنُوبهُم عنِ المضاجعِ) يعني بذلك قيام الليل، وترك النوم والاضطجاع على الفرش الوطيئة. (يدعونَ ربَّهُم خوفاً وطمعاً) أي خوفا من وبال عقابه، وطمعاً في جزيل ثوابه. (ومّما رزقناهُم يُنفقونَ) فيجمعون بين فعل القربات اللازمة والمتعدية، ومقدم هؤلاء وسيدهم وفخرهم في الدنيا والآخرة: رسول الله (ص).
4_ قشعريرة الجلود:
يقول الله سبحانه وتعالى عن القرآن الكريم: (اللهُ نزَّلَ أحسنَ الحديثِ كتاباً مُّتشابهاً مَّثانيَ تقشعرُّ منهُ جُلودُ الذين يخشونَ ربَّهُم ثُمَّ تَلينُ جُلُودهُم وقلوبهُم إلى ذكرِ الله، ذلك هدى الله يهدي بهِ من يشاءُ ومن يُضللِ اللهُ فمالهُ من هادٍ).
كثير من العلماء الذين تناولوا قضية إعجاز القرآن بالبحث والتصنيف، يستشهدون بهذه الآية في مصنفاتهم وأبحاثهم على ما للقرآن من تأثير على نفوس سامعيه.
وما ذلك كله إلا لأن هذه الآية تحتوي في كلماتها المعدودة على أهم قواعد عملية التأثير، ويتبين لنا ذلك إذا طبقناها على الآية، لنرى بوضوح إلى أي مدى جمعت من اسباب التأثير ومظاهره:
تبدأ الآية بلفظ الجلالة (الله) وهو مصدر الحديث المسموع الذي سيحدث عملية التأثير، ولا يخفى على عاقل _مؤمناً كان أو كافراً _ ما لهذا اللفظ من عمل في قلب سامعه من تأثير سلبي أو إيجابي، قبولاً أو رفضا، نفوراً أو إقبالا. وصفات الحديث المسموع وخصائصه أنه: (أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني) أما المتشابه: يقول ابن كثير: (فلأن الآية تشبه الآية والحرف يشبه الحرف، أو هو تشابه الآيات في السور المختلفات، أو أن سياقات القرآن قد تأتي في بعض المواضع متشابهة. وأما الثاني: فهو ترديد القول ليفهم الناس عن ربهم، وقيل: المثاني المردد، ردد ذكر موسى، وصالح، وهود، وغيرهم من الأنبياء كثيراً في القرآن، وقيل: المثاني ذكر الشيء وضده، كالجنة والنار، وذكر المؤمنين والكافرين، وفي قوله تعالى: (تقشعرُّ منهُ جُلُودُ الَّذينَ يخشونَ ربَّهُم ثُمَّ تلينُ جُلودهُم وقلوبُهُم إلى ذكر الله) نرى فيها نوع المتلقي وحاله، ونرى كذلك مظهرين من مظاهر التأثير:
أما نوع المتلقي _هنا _ فهو مؤمن خائف من الله، استحق بتقواه الله ومراقبته له في السر والجهر أن يوصف بالخشية.
والمظهر الأول من مظاهر التأثير: هو (تقشعر منه الجلود) والقشعريرة: حالة في القلب تشبه احتراق السعفة، كما سبق أن رأينا في حديث أم الدرداء.
والمظهر الثاني من مظاهر التأثير: هو (ثم تلين جلودهم وقلوبهم).
فلين الجلود والقلوب ينبعث من حالة الرضا والاطمئنان، والبشر والسرور التي يشعرها هؤلاء إذا غمرتهم هذه اللحظة التي يتذوقون فيها طعم الوحي الإلهي، كأنه خطاب مباشر لهم _فقط _ دون سواهم.
ولقد زاد (ابن كثير) هذه المعاني التي تحدثت عنها في هذه الآية عمقا وتفصيلا عندما قارن لنا بين نوعين من المتلقين لهذه الآية فقال: (فهذه صفة الأبرار عند سماع كلام الجبار، المهيمن العزيز الغفار، لما يفهمونه من الوعد والوعيد، والتخويف والتهديد، تقشعر منه جلودهم من الخشية والخوف. (ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله)، لما يرجون ويؤملون من رحمته ولطفه، فهم مخالفون لغيرهم من الفجار من وجوه.
أحدها: إن سماع هؤلاء: هو تلاوة الآيات، وسماع أولئك نغمات الأبيات.
الثاني: إنهم إذا تليت عليهم آيات ربهم لم يخروا عليها صما وعميانا، ولهذا لم يكونوا عند سماعها متشاغلين لاهين عنها، بل مصغين إليها فاهمين بصيرين بمعانيها، فلهذا، إنما يعملون بها ويسجدون عندها عن بصيرة، لا عن جهل ومتابعة لغيرهم.
الثالث: إنهم يلزمون الأدب عند سماعها، كما كان الصحابة _رضي الله عنهم _ عند سماعهم كلام الله تعالى _ من تلاوة رسول الله (ص) تقشعر جلودهم، ثم تلين مع قلوبهم إلى ذكر الله، لم يكونوا يتصارخون، ولا يتكلفون بما ليس فيهم، بل عندهم من الثبات والسكون والأدب والخشية ما لا يلحقهم أحد في ذلك، ولهذا فازوا بالمدح من الرب الأعلى في الدنيا والآخرة.
قال قتادة في قوله تعالى: (تقشعر منه جلود الذين آمنوا...) هذا نعت أولياء الله، نعتهم الله (عز وجل) بأن تقشعر جلودهم، وتبكي أعينهم، وتطمئن قلوبهم إلى ذكر الله، ولم ينعتهم بذهاب عقولهم، والغشيان عليهم، إنما هذا من أهل البدع، وهذا من الشيطان، ونستنبط من هذا التفسير لهذه الآية بعض المسائل الهامة:
إن دور المتلقي في عملية التأثير من الأهمية بمكان، فكلما كانت استعداداته النفسية مهيأة لما يسمعه كان ذلك أدعى للتأثر بما يسمع، وإن ابن كثير قد ميز لنا بين مستويين من المستمعين للقرآن من المؤمنين به:
الأول: يتأثر به عن بصيرة، وهو الذي يدخل في دائرة بحثنا هذا.
والثاني: وهو ما لا يدخل في بحثنا هذا، مما يدعيه غلاة التصوف من ذهاب العقل والغشيان، وما إلى ذلك.
وأخيراً: إن مسالة التأثير غير قاصرة على القرآن، ولا على المؤمنين به، وإنما قد تحدث من كل ما يسمعه الإنسان ويعقله، ولكن كل مؤثر وله نتائجه في حياة الأفراد والمجتمعات. والله أعلم.
5_ فيض من الدمع:
قد يقول قائل: ولماذا لا يبكي المؤمنون ولا يسجدون ولا تقشعر جلودهم تأثراً بالقرآن؟ فهم مؤمنون به، فتأثرهم لا غرابة فيه؟ وقد يكون لهذا السائل بعض الحق في سؤاله، ولكننا نسأله: فلماذا تفيض عيون بعض ممن أوتوا العلم من أهل الكتاب عند سماع القرآن بالدمع؟ بل ويخرون للأذقان سجداً تأثرا به؟ يقول الله سبحانه وتعالى في حق هؤلاء: (لتجدنَّ أشدَّ الناسِ عداوةً للذين ءامَنوا اليهودَ والذينَ أشرَكوا، ولتجدنَّ أقربَهُم مودَّةً للذينَ ءامنوا الَّذين قالوا إنَّا نصارى، ذلكَ بأنَّ مِنهُم قسسينَ ورهباناً وأنَّهُم لا يستكبرونَ، وإذا سَمِعوا ما أُنزلَ إلى الرَّسولِ ترى أعيُنهُم تفيضُ من الدَّمعِ مما عَرَفوا من الحقِّ يقولونَ ربَّنا ءامنّا فاكتُبنا مع الشّاهدينَ) وقال ابن عباس عنهم: كانوا كرابين _يعني فلاحين _ قدموا مع جعفر بن أبي طالب من الحبشة، فلما قرأ الرسول (ص) عليهم القرآن فاضت أعينهم من الدمع وآمنوا.
ويقول الله _سبحانه _ في حقهم أيضاً: (وقُرءاناً فرقناهُ لتقرأهُ على النَّاسِ على مُكثٍ ونزَّلناهُ تنزيلاً، قُل ءامِنوا به أو لا تؤمِنُوا، إنَّ الَّذينَ أوتوا العلمَ من قبلهِ إذا يُتلى عليهم يَخرُّونَ للأذقانِ سُجّداً، ويقولونَ سُبحانَ ربنا إن كان وعدُ ربِّنا لمفعولاً، ويخرُّونَ للأذقانِ يبكونَ ويزيدُهُم خُشُوعاً).
يقول سيد قطب مصورا لهذا المشهد المؤثر: (وهو مشهد موح، يلمس الوجدان. مشهد الذين أوتوا العلم من قبله وهم يسمعون القرآن، فيخشون، ويخرون للأذقان سجدا) إنهم لا يتمالكون أنفسهم، فهم لا يسجدون، ولكن (يخرون للأذقان سجدا) ثم تنطق ألسنتهم بما خالج مشاعرهم من إحساس بعظمة الله، وصدق وعده: (سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا)، ويغلبهم التأثير الغامر فلا تكفي الألفاظ في تصوير ما يجيش في صدورهم منه، فإذا الدموع تنطلق معبرة عن ذلك التأثر الغامر الذي لا تصوره الألفاظ (ويخرون للأذقان يبكون).. (ويزيدهم خشوعا) فوق ما استقبلوه به من خشوع.
إنه مشهد مصور لحالة شعورية غامرة، يرسم تأثير القرآن في القلوب المتفتحة لاستقبال فيضه، العارفة بطبيعته وقيمته، بسبب ما أوتيت من العلم قبله. والعلم المقصود: هو ما أنزله الله من الكتاب قبل القرآن. فالعلم الحق: هو ما جاء من عند الله.
ب_ من السيرة النبوية:
1_ إسلام عمر بن الخطاب:
يحفظ التاريخ ويعي _باهتمام شديد _ قصة إسلام عمر بن الخطاب، وكيف أنه أسلم بعد سماعه القرآن، على اختلاف في الروايات في اسم السورة التي سمعها عمر، فرواية تذكر أنه سمع سورة طه، ورواية تذكر أنه سمع سورة الحاقة، وقد ورد ذكر هذه القصة عند أغلب من كتب في إعجاز القرآن، كأوضح دليل على إعجاز القرآن التأثيري فيمن يسمعه، وبخاصة في عمر صاحب المواقف المحفوظة في قلوب المسلمين، والمشهورة في كتبهم، وعلى ألسنتهم، بعد رسول الله (ص). وقد اتفقت عدة روايات في أن عمر قد نطق بكلمات تعبر عن مدى تأثره بالقرآن الذي سمعه:
أ_ ففي رواية بن إسحاق عن عطاء ومجاهد التي تذكر تسلل عمر إلى الكعبة ودخوله تحت ثيابها يسمع القرآن من رسول الله (ص) وهو يصلي، فيحكي عن نفسه قائلات: (فلما سمعت القرآن وقوله رق له قلبي، فبكيت، ودخلني الإسلام).
ب_ وفي رواية أخرى لابن إسحاق: أن عمر لما علم بإسلام أخته ضربها فأدمى وجهها، وطلب منها الصحيفة التي يسمع منها طرفا قبل دخوله دارها، فأعطته إياها، وفيها (طه)، فقرأها، فلما قرآ منها صدرا، قال: (ما أحسن هذا الكلام وأكرمه!).
ج_ وفي حاشية سيرة ابن إسحاق أورد المحقق رواية عن شريح بن عبيد، عن عمر، يتحدث عن إسلامه، فيقول: إنه وقف خلف رسول الله (ص) وهو يصلي في المسجد فاستفتح (سورة الحاقة) فجعلت أتعجب من تأليف القرآن. فقلت: هذا والله شاعر كما قالت قريش، فقرأ (إنه لقول رسول كريم وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون) فقلت: كاهن علم ما في نفسي، فقرأ (ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون) إلى آخر السورة، فوقع الإسلام في قلبي كل موقع) (الحاقة 40_42).
د_ وفي مختصر السيرة لمحمد بن عبد الوهاب: أنه قرأ سورة طه (فتعظمت في صدري، فقلت: ما أحسن هذا الكلام وأجمله!).
2_ إسلام الطفيل بن عمر والدوسي
الطفيل بن عمرو _كما تصفه الرواية _ يختلف عمن سواه، إنه شاعر، شريف، لبيب. إنها صفات تجمع بين الذكاء العقلي الحاد، والإحساس الوجداني المرهف، إضافة إلى شرف المكانة السامقة في قبيلته. ومن هنا كان اهتمام قريش بهذه الشخصية المؤثرة فيمن حولها، فلتبدأ قريش بغزوها الفكري لهذه الشخصية الفذة الوافدة عليها، قبل أن يسمع القرآن فيفكر فيه، ويتأثر به، أو يؤثر فيه، فيسلم، فتعظم بذلك طامة قريش ومصيبتها. وها هم يتحدثون مع الطفيل بكل ما من شأنه أن يصده عن الإسلام، ويمنع عنه تأثير القرآن، فيصفون له محمدا: إنه (قد أعضل بنا، وفرق جماعتنا، وشتت أمرنا)، ويصفون له القرآن: إنه (كالسحر، يفرق بين الرجل وبين أبيه، وبين الرجل وبين أخيه، وبين الرجل وبين زوجته)، ووصيتهم له ولغيره (وإنا نخشى عليك وعلى قومك ما قد دخل علينا، فلا تكلمنه، ولا تسمعن منه شيئا).
هكذا _بكل أسلوب من أساليب التوكيد _ قدمت قريش كل ما لديها من غزو فكري مضاد لتأثير القرآن على ضيفها، وألقت الرعب والخوف في قلبه، وصورت له الأمر على غير حقيقته، وبغير صورته. فإياك يا طفيل، ثم إياك أن تسمع شيئا من القرآن، لكن المحاربين للقرآن في كل العصور والأزمات ينسون حقيقة وبديهة هامة، هي: أنهم بحربهم الضروس على القرآن إنما يفتحون له بذلك العقول والقلوب الحية النابضة، لتتساءل عما فيه من سر يشعل الحرب حوله بين أعدائه وبين متبعيه، أنهم سيرون أنه كتاب يختلف عن سائر ما يعهده البشر من كتب، إن البشر يختلفون حياله هذا الاختلاف ويتعادون بسببه هذا العداء، إنها مسألة لابد ان تثير ذهن من له مسكة عن عقل أو فكر أو وجدان.
وظلت قريش بوسائلها المتنوعة مع الطفيل، ترهبه مرة، وتغريه أخرى، حتى تأثر الطفيل بما قالته، فسلك مسلكا عجيبا للمبالغة في البعد عن تأثير القرآن فأخذ لنفسه الحيطة والحذر من أي لقاء لمحمد (ص) أو سماعه، ولكن لا يكفي هذا، إذ ربما تسللت آيات القرآن إلى أذنيه _عبر الأثير _ من فم طاهر يتلوها، فلابد من قطع هذه الطريق أيضا، ولابد من إقامة موانع _ولو مادية _ تمنع وصول الإشعاع القرآني إلى عقله أو قلبه، ماذا يصنع الطفيل حيال هذا الغازي الذي ينتقل عبر الأثير فيغزو العقل والقلب معا؟ فلنسمعه يقول:
(فو الله ما زالوا بي حتى أجمعت أن لا أسمع منه شيئا، ولا أكلمه، حتى حشوت في أذني _حين غدوت إلى المسجد _كرسفا، فرقا من أن يبلغني شيء من قوله، وأنا لا أريد أن أسمعه.
لقد آتت حرب قريش للقرآن _أو بالأحرى لتأثير القرآن على النفوس _ أكلها، فإن الإنسان بما أودعه الله فيه من أجهزة متنوعة ومختلفة ومن نفس _ عجز الباحثون عن إدراك كل جوانبها ومناحبها _ لابد له أن يتأثر بما يسمع، ولكن ماذا يسمع؟ وإلى أي مدى يلتقي هذا الذي يسمعه مع فطرة الإنسان وجبلته، وطوايا نفسه؟من هنا تكون غلبة المؤثر على من يتأثر به.
فالطفيل تأثر بكلام قريش ضد القرآن قبل سماعه، فعزم على عدم السماع، والتمس لذلك حيلة لا تليق بالعقلاء الكبار من أمثاله، وقد نسي الطفيل أن الموانع المادية أضعف آلاف المرات من العوامل النفسية أمام التأثيرات الخارجية، وبخاصة إذا كانت تأثيرات آيات الرحمن القرآنية !! ليضع الطفيل كرسفا، أو رصاصا، فإن ذلك لا يلبث أن ينهار بأيدي صانعيه، ذلك أنه يخالف ما تعرفه الفطر السليمة، وما تعتاده العقول الصحيحة.
وسنرى بيان ذلك وصدقه على لسان الطفيل نفسه إذ يقول: (فغدوت إلى المسجد، فإذا رسول الله (ص) قائم يصلي عند الكعبة، فقمت قريبا منه، فأبى الله إلا أن يسمعني بعض قوله، فسمعت كلاما حسناً!! فقلت في نفسي: واثكل أمي، والله إني لرجل لبيب شاعر، ما يخفي علي الحسن من القبيح، فما يمنعني أن أسمع من هذا الرجل ما يقول! فإن كان الذي يأتي حسناً قبلته، وإن كان قبيحاً تركته، إذاً لتفعل قريش وأمثالها ما شاءت من اساليب مختلفة لحرب التأثير القرآني على النفوس، وكتمان إعجازه، فلابد من نفاذ تأثيره. (واللهُ غالبٌ على أمرِهِ ولكنَّ أكثرَ النَّاسِ لا يعلمونَ).
لقد أغفلت قريش وأسقطت من حسبانها في حربها إعجاز القرآن التأثيري قدرة، منزّل هذا الكتاب، تلك القدرة التي لا زال كل المحاربين للقرآن والمحاولين النيل منه، والواقفين أمام تأثيره الصحيح في نفوس المؤمنين به، لازالوا متناسين لها، لا يقيمون لها حسابا، فإذا بها تصنع معجزات القرآن فيمن يسمعه.
وقصد الطفيل بيت رسول الله (ص) فعرض عليه الرسول (ص) الإسلام، وتلى عليه القرآن، ونطق الطفيل اللبيب الشاعر الشريف بأصدق وصف لما تأثر به من القرآن، فقال: (فلا والله ما سمعت قولا (قط) أحسن منه، ولا أمراً أعدل منه)، وأسلم الطفيل، وإسلامه كان الغاية والهدف من تأثير القرآن في نفسه. ولتهزم قريش، ولتخفق كل أساليب التأثير التي شنتها على الطفيل أمام أثر القرآن على النفوس!.
3_ أثر القرآن في أهل المدينة:
صدق القائلون: فتحت الأمصار بالسيوف، وفتحت المدينة بالقرآن)، فقد كان القرآن الكريم هو السلاح الحاسم في تحويل أهل المدينة _خزرجهم وأوسهم _ من الشرك والوثنية إلى الإسلام والقرآن، ففي بيعة العقبة الأولى دار هذا الحوار بين الرسول (ص) ونفر من خزرج المدينة: قال (ص): من أنتم؟ قالوا: نفر من الخزرج. قال: (من موالي اليهود؟ قالوا: نعم. قال: (أفلا تجلسون أكلمكم؟) قالوا: بلى. فجلسوا معه، فدعاهم إلى الله (عز وجل)، وعرض عليهم الإسلام، وتلا عليهم القرآن) فآمنوا وصدقوا.
فالقرآن في الخطوة الأولى التي يخطوها الإسلام نحو المدينة معقل اليهود وغيرهم. والقرآن في الخطوة الثانية: (فلما انصرف عنه القوم، بعث رسول الله(ص): مصعب بن عمير، وأمره أن يقرئهم القرآن، ويعلمهم الإسلام، ويفقههم في الدين، فكان مصعب يسمى المقريء بالمدينة).
3_ إسلام عباد بن بشر:
وفي أنصار رسول الله (ص) يتجسد الإعجاز التأثيري للقرآن الكريم، متمثلا في شخصية عباد بن بشر المدني الأنصاري، الذي انتدبه الرسول (ص) _هو وعمار بن ياسر المهاجري للحراسة في ليلة من ليالي غزوة ذات الرقاع، (فلما خرج الرجلان إلى فم الشعب للقيام بالحراسة من خلاله _، قال الأنصاري للمهاجري: أي الليل تحب أن أكفيكَه: أوله أم آخره؟ قال عمار: بل اكفني أوله.
فأضطجع عمار فنام، وقام عباد يصلي، وأتى الرجل _أي من الأعداء _ فلما رآى عبَّاداً قائما عرف أنه ربيئة، (أي طليعة) القوم. فرمى بسهم فوضعه فيه، فنزعه ووضعه، فثبت قائماً، ثم عاد له بالثاني، ثم عاد له بالثالث، فوضعه فيه، فنزعه فوضعه، ثم ركع وسجد، ثم أهب صاحبه، فقال اجلس فقد أُثبتُّ (جُرحت)، فوثب عمار، فلما رآهما الرجل عرف أن قد نذرا به فهرب.
وهنا قد نتساءل: لماذا تحمل عباد كل هذه الجراحات، هل تحملها شجاعة؟ أم تحملها إيثارا لراحة أخيه المهاجري النائم؟ أم أن هناك سببا آخر شغل هذا الأنصاري المجاهد عن نفسه وعن صاحبه وعن جراحاته، سهام ثلاثة تصوب ناحيته، ثم تصيبه، ثم تنفذ خلال جسده، فيسيل دمه، فيثبت أمام كل ذلك متأثرا بشيء أقوى من هذه الأسهم! هذا التساؤل هو ما ثار في ذهن عمار قائلا لصاحبه بعد ما رأى ما به من الدماء: سبحان الله! أفلا أهبتني أول ما رماك؟ فيقول عباد بن بشر المدني الأنصاري: كنت في سورة أقرؤها فلم أحب أن أقطعها، حتى أنفدها، فلما تابع علي الرمي ركعت فآذنتك، وأيم الله، لولا أن أضيع ثغراً أمرني رسول الله (ص) بحفظه، لقطع نفسي قبل أن أقطعها، أو أنفدها، أي سور القرآن تلك التي سلبت من هذا الأنصاري كل مشاعر الألم والخوف والحرص على الحياة؟ لم تخبرنا الرواية باسمها، ولعل في ذلك ما يجعلنا نؤكد تأثير القرآن بجملته على من يؤمن به.

0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

آيات بحق أهل البيت عليهم السلام
علماء أهل السنة يكتشفون أن المهدي المنتظر من أهل ...
النبي عيسى وآدم (ع) من منظار القرآن الكريم
تزوجه ص بخديجة( س )و فضائلها و بعض أحوالها
أسباب الغيبة الصغرى للإمام المهدي
في أن الاستقامة إنما هي على الولاية
صُبت علـَـيَ مصـــائبٌ لـ فاطمه زهراعليها ...
التقیة لغز لا نفهمه
الحجّ في نصوص أهل البيت(عليهم السلام)
وصول الامام الحسین(ع) الى کربلاء

 
user comment