فقد كان المسلمون على عهد رسول الله (ص) يسألون ما يشكل عليهم من معاني ومفاهيم آيات القرآن. وقد كان لبعض صحابته بصيرة. فائقة في فهم معاني القرآن، ولذلك فقد عرف هؤلاء بـ (المراجع) في التفسير فمن هؤلاء عبدالله بن عباس وعبدالله بن مسعود، وكان لابن عباس شهرة أكثر في ذلك، ولذلك فقد نقلت آراؤه في كتب التفسير كثيراً. وكان ابن عباس تلميذ الإمام علي (ع) وكان يفخر بهذا. ابن مسعود أيضاً كان من شيعة علي (ع) وتلاميذه. وتذكر كتب التفسير اسم كتاب لابن عباس في ذلك ويدعي بعضهم وجود نسخة من هذا الكتاب اليوم في المكتبة الملكية بالقاهرة وكان ابن عباس مع علمه الجم في التفسير إذا سئل عن علمه قياساً بعلم علي (ع) يقول: علمي من علم ابن عمي علي (ع) كقطرة أمام بحر لجيّ!
ويدّعي جرجي زيدان أن التفسير كان حتى أواخر القرن الأول الهجري يروى ((وكانوا يتناقلون التفسير شفاهاً إلى أواخر القرن الأول. فكان أول من دون التفسير في الصحف مجاهد المتوفي سنة 104هـ ثم اشتغل فيه سواه وهم كثيرون حتى انتهى ذلك إلى الواقدي المتوفى سنة 207 والطبري المتوفى 310هـ وغيرهما)).
ولا تصح هذه النظرية قطعاً، فإن ابن عباس وحتى سعيد بن جبير، كانا قد كتبا في التفسير قبل مجاهد. بل إن هذه النظرية لجرجي زيدان هي فرع نظرية عامة تدعي أن المسلمين في القرن الأول لم يؤلفوا شيئاً.
وكما اهتم الإيرانيون بفنّ القراءة كذلك اهتموا بفن تفسير القرآن، بل إن اهتمام الإيرانيين بالقراءة والتفسير والفقه والحديث والعلوم التي تتعلق بمصادر الاسلام كان أكثر من أي إهتمام لهم في أي مجال آخر. ولا يمكننا هنا أن نعرف بجميع المفسرين الإيرانيين، ففي كل قرن منهم العشرات بل المئات ممن كتب في ذلك وألف وصنف، والتحقيق بشأن جميع هؤلاء وفصل الإيرانيين منهم عمن عداهم يحتاج إلى عمر مديد، ولكن لكي نقدم نموذجاً من خدمات الإيرانيين في التفسير لا بأس من النظر إلى أهم التفاسير وأشهر المفسرين والمعروفين بين المسلمين، وسنرى أن أكثرهم كانوا غيرانيين. ونختار هؤلاء من بين من يذكر اسمه ورأيه كثيراً في كتب التفاسير لأنه من كبار القدماء أو ممن خلفوا كتباً معروفة في التفسير.
أما الطبقة الأولى أي المفسرين الأوائل الذين تنقل آراؤهم في كتب التفسير كثيراً فبعضهم من الصحابة وبعضهم من التابعين وبعضهم من تابعي التابعين، كابن عباس وابن مسعود وأبي بن كعب، والسدي ومجاه
ومقاتل وقتادة والكلبي والسبيعي والثوري والزهري والعمش وعكرمة وعطاء والفراء، وغيرهم.
فبعض هؤلاء شيعة وبعضهم غير شيعة وبعضهم إيرانيون وبعضهم غير إيرانيين،وبدهي أن الأكثرية في هذه الطبقة لغير الإيرانيين، إنما المعدود منهم عجم إيرانيون هم مقاتل والأعمش والفراء.
فمقاتل بن سليمان من أهل خراسان أو الري، كان يعيش في القرن الثاني للهجرة مات عام 150هـ وكان من العامة. ويبالغ الشافعي فيه فيقول: ((إن الناس في التفسير عيال على مقاتل)).
وأما سليمان بن مهران الأعمش فهو ـ على ما في ريحانة الأدب ـ من أهل دماوند ولد بالكوفة وسكن بها وتشيع لعلي ع) وأثنى عليه علماء العامة. وكان يعرف باللطائف والطرائف وتنقل عنه أمور من ذلك. مات حوالي 150هـ .
وأما الفراء فهو يحيى بن زياد الأقطع من مشاهير اللغويين والنحويين، وله ذكر واسع في كتب الأدب العربي وكان الفراء تلميذ الكسائي ومعلماً لأبناء هارون من بعده، وقد صرح صاحب ((رياض العلماء)) و ((تأسيس الشيعة)) بتشيعه، وهو إيراني وكان أبوه زياد الأقطع في وقعة فخ المعروفة مع شهيد فخ الحسين بن علي بن الحسن المثنى، فقطعت يده عقوبة له ولذلك عرف بالأقطع مات الفراء عام 207 أو 208هـ .
وإذا تجاوزنا هذه الطبقة، نصل إلى طبقة المؤلفين في التفسير. وسنكتفي هنا بذكر أشهر التفاسير المعروفة اليوم بين السنة والشيعة، ونبدأ البحث في تفاسير الشيعة فنقول:
إن المفسرين الشيعة ينقسمون إلى: المفسرين على عهد الأئمة (ع) والمفسرين في عصر الغيبة، فقد كان لكثير من أصحاب الأئمة (ع) تفاسير، من قبيل أبي حمزة الثمالي وأبي بصير الأسدي ويونس بن عبدالرحمان وحسين بن سعيد الأهوازي وعلي بن مهزيار ومحمد بن خالد البرقي القمي وفضل بن شاذان النيسابوري وكثير منهم إيرانيون.
والمفسرون الشيعة في عصر الغيبة أيضاً كثيرون، وهنا نكتفي بذكر نماذج من كتب التفسير المعروفة بين الشيعةن لنعرف من خلالها أن أكثر تفاسير الشيعة كتبها إيرانيون.
1 ـ تفسير علي بن إبراهيم القمي: وهو من أشهر تفاسير الشيعة والكتاب مطبوع وإبراهيم بن هاشم أبو علي كوفي انتقل إلى قم وهو من مشايخ الشيخ الكليني. وكان علي حياً حتى عام 307.
2 ـ تفسير العياشي: العياشي هو محمد بن مسعود السمرقندي، وكان عامياً فتشيع وكان معاصراً للشيخ الكليني وقد ورث من أبيه ثلاثة آلاف دينار صرفها جميعها في النسخ والمقابلة والاستنساخ واقتناء الكتب، حتى أصبح بيته مثل المدرسة ففيه جمع من أهل العلم، كل في شن من الشؤون العلمية، يصرف عليهم العياشي من إرث أبيه. وكان له ـ فضلاً عن الحديث والفقه والتفسير ـ يد في الطب والنجوم. ذكره ابن النديم في الفهرست وعدد له كتباً كثيرة وادعى أنها كانت كثيرة الانتشار في خراسان وما والاها. وكان العياشي إيرانياً والظاهر أنه كان من أصل عربي، قال ابن النديم: قيل انه تميمي. وهو من علماء المائة الثالثة.
3 ـ تفسير النعماني: وهو أبو عبدالله محمد بن إبراهيم النعماني، وكان يكنى عنه أحياناً بابن أبي زينب. وهو من تلامذة الشيخ الكليني. ويقول صاحب ((تأسيس الشيعة)): ان لديه نسخة من تفسير النعماني. وهو من علماء المائة الرابعة من العراق أو مصر. وله ابن أخت يدعى أبا القاسم الحسين بن المرزبان الوزير المغربي. وكان قد حفظ القرآن قبل أن يكمل الخامسة عشرة من عمره، وكان ماهراً في النحو واللغة والحساب والجبر والهندسة والمنطق وبعض الفنون الأخرى، وكان أديباً قديراً، وله كتاب بعنوان ((خصائص القرآن)) مات سنة 418 أو 428 وأوصى أن ينقل جثمانه من بغداد إلى النجف الأشرف ليدفن عند أمير المؤمنين (ع).
4 ـ تفسير التبيان: لشيخ الطائفة أبي جعفر محمد بن الحسن بن علي الطوسي الخراساني، الإمام في الفقه والحديث والتفسير والكلام، ولد سنة 385. وتوفي سنة 460هـ وكان قد هاجر من خراسان إلى العراق في الثالثة والعشرين من عمره وحضر محضر الشيخ المفيد والسيد المرتضى علم الهدى ثم أصبح إمام الشيعة على عهده بعدهما، ولا زال إماماً يعد في الرعيل الأول من علماء الشيعة في زمن لغيبة. وانتقل في أواخر عمره من بغداد إلى النجف الأشرف على أثر حوادث جرت هناك فأسس الحوزة العلمية للشيعة في جوار مرقد مولانا أمير المؤمنين (ع)، الحوزة العلمية النجفية التي لا زالت مصدر إشعاع علمي للشيعة بعد مرور ألف عام.
5 ـ مجمع البيان: للشيخ المفسر الفضل بن الحسن الطبرسي (بفتح الطاء) وسكون الباء وكسر الراء أي معرب: تفرش ـ على الوزن نفسه، وهي مدينة قرب قم إلى أراك، وقد فرغ من تحرير هذا التفسير في شهر ذي القعدة الحرام عام 536هـ وكتابه أحسن التفاسير من حيث الأدب وحسن التصنيف والتأليف والتحرير، ويعني به الشيعة والسنة وقد طبع مراراً في إيران ومصر وبيروت. وله تفسير مختصر آخر يدعى ((الكشاف)) للزمخشري ووجد فيه نكاتاً أدبية فاتته في مجمع البيان، فألف ((جوامع الجامع)) استدراكاً لما فاته من ذلك. ويجد أهل الفن في مجمع البيان من الأمور الأدبية ما لا يوجد في الكشاف، وإن كان في الكشاف من البلاغة ما ليس في مجمع البيان.
6 ـ روض الجنان: للشيخ المفسر أبي الفتوح الرازي الطهراني، فارسي. وهو من أغنى تفاسير الشيعة، ويرى البعض أن الطبرسي المذكور آنفاً والشيخ فخر الدين الرازي قد انتفعا من هذا التفسير كثيراً. وكان أبو الفتوح نيسابورياً يسكن بالري، وهو من أصل عربي ينتهي إلى عبدالله بن بديل بن ورقاء الخزاعي، من أصحاب أمير المؤمنين (ع) في صفين عاصر أبو الفتوح الشيخ الطبرسي والزمخشري وقد قرأ على تلامذة الشيخ الطوسي (قده) وعاش في القرن السادس الهجري. وقبره اليوم بري يزار ويكرم في جوار مرقد السيد عبدالعظيم الحسني والسيد حمزة بن موسى بن جعفر (ع) في واجهة القبلة.
7 ـ تفسير الصافي: وهو للمولى محسن الفيض الكاشاني، من مشاهير علماء الشيعة في القرن الحادي عشر الهجري فقيه محدث ومفسر حكيم عارف، وكان كثير البركة في عمره تأليفاً وجودة في التأليف. أقام مدة بقم في المدرسة المعروفة المنسوبة إليه: ((الفيضية)) ثم سافر إلى شيراز وقرأ الحديث على السيد ماجد البحراني، والفلسفة والعرفان لدى الحكيم الإلهي صدر المتألهين الشيرازي وصاهره. ومات في كاشان في سنة 1019هـ .
8 ـ تفسير المولى صدر الدين الشيرازي: كان معروفاً بالفلسفة والعرفان بل هو صاحب مدرسة فلسفية خاصة ألا أن له يداً طولى في تفسير القرآن وشرح الأحاديث، فقد شرح كتاب الأصول من الكافي، وسورة البقرة إلى الآية الخامسة والستين: (ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت...) وسور السجدة ويس والواقعة والحديد والجمعة والطارق والأعلى والزلزال، وآيات الكرسي والنور، وآية (وترى الجبال تحسبها جامدة) فتفسيره وإن لم يكن كاملاً، إلا أنه مفصل تفصيلاً يقرب من نحو تفسير الصافي، وقد طبع مراراً في إيرن وقد اتفقت وفاته في البصرة في طريقه إلى الحج عام 1050هـ.
9 ـ منهج الصادقين: وهو تفسير فارسي طبع في ثلاثة مجلدات كبار في تبريز، وكان إلى فترة قريبة هو التفسير الفارسي الوحيد تقريباً. مؤلفه المرحوم المولى فتح الله الكاشاني من علماء كاشان في المائة العاشرة، وأكثر كتبه بالفارسية منها شرح نهج البلاغة بالفارسية.
10 ـ تفسير شبر: وهو السيد عبدالله شبر المعاصر للشيخ جعفر كاشف الغطاء والمولى الميرزا القمي صاحب القوانين كان عالماً عابداً متتبعاً متبحراً، له كتب كثيرة في الفقه والأصول والكلام والحديث والرجال والتفسير. توفي في 1242هـ ودفن بالكاظمية.
11 ـ تفسير البرهان: ومؤلفه المولى المرحوم السيد هاشم البحراني المحدث المتتبع الشهير وقد كتب هذا التفسير على مبنى الإخباريين الذين يفسرون القرآن بالحديث فحسب بدون أي توضيح آخر بل حتى بدون توضيح لتلك الأخبار والأحاديث وكيفيتها في تفسير الآية، بل إنما بنقل الأحاديث المرتبطة بتلك الآية فقط. مات هذا العالم عام 1107 أو 1109هـ .
12 ـ نور الثقلين: مؤلفه أحد علماء الحويزة في شيراز معاصر للمرحوم المجلسي والحر العاملي، وقد عنى في تفسيره هذا بنقل الأخبار فقط، وهو المرحوم الشيخ عبدالعلي بن جمعة، ولا يعلم وفاته بالضبط.
هذه التفاسير هي أشهر تفاسير الشيعة حتى القرن الثالث عشر الهجري المطبوع منها والمتداول في أيدي أهله، وإذا أراد غير الشيعة أن يراجعوا تفاسير للشيعة راجعوا هذه التفاسير وقد كتب في هذا القرن الرابع عشر عدة من التفاسير القيمة أو هي في حال التأليف أمسكنا عن ذكرها.
ونعرف من هذه النماذج التي ذكرناها أن مؤلفي أكثر التفاسير المعروفة اليوم للشيعة أما هم من الشيعة الإيرانيين أو العرب المستعجمين في إيران أو من عرب الخليج الذين سكنوا إيران.
أما تفاسير السنة:
1 ـ جامع البيان في تفسير القرآن، المعروف بتفسير الطبري وهو المؤرخ والمحدث والفقيه الشهير وهو من علماء الدرجة الأولى بين علماء أهل السنة كان إماماً في أكثر علوم زمانه. وكان في الفقه عيالاً على الشافعي أول أمره ثم بنى مدرسة فقهية مستقلة واجتهد ولم يقلد أحد الأئمة الأربعة، بل أياً من أئمة الفقه السني. وكان لمذهبه أتباع إلى فترة من الزمن ثم انقرضوا بعد حصر المذاهب في الأربعة. ويذكر ابن النديم في الفهرست عدة من الفقهاء الذين كانوا يتبعون مذهب الطبري في الفقه.
والطبري نسبة إلى طبرستان وهي مازندران وهو من آمل، ولد بها سنة 224هـ ومات ببغداد سنة 310هـ طبع تفسيره في القاهرة. وترجم إلى الفارسية بأمر نوح بن منصور الساماني من ملوك السامانيين قام به وزيره البلعمي العربي في أصله ونسبه وطبعت الترجمة أخيراً بطهران.
2 ـ الكشاف: وهو من أشهر وأتقن تفاسير أهل السنة، ويمتاز من حيث الأدب ولا سيما البلاغة. مؤلفه أبو القاسم محمود بن عمر الزمخشري الخوارزمي الملقب جار الله، وكان من أكابر علماء الاسلام وقد ألف كتباً كثيرة في الأدب والحديث والموعظة. ولقب جار الله لمجاورته سنين مكة المكرمة وإن كان هو من أهل شمال بلاد إيران الباردة، وإنما تحمل ذلك الجو الحجازي الحار تيمناً تبركاً وطلباً للآثار المعنوية الكثيرة في المجاورة هنا: والظاهر أنه كتب تفسيره الكشاف أيام مجاورته بيت الله الحرام.
وفي الجزء الثالث من الكشاف بذيل الآية السادسة والخمسين من سورة العنكبوت: (يا عبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة فإياي فاعبدون) يقول: ((معنى إن المؤمن إذا لم يتسهل له العبادة في بلد هو فيه ولم يتمش له أمر دينه كما يحب فليهاجر إلى بلد يقدر أنه فيه أسلم قلباً وأصح ديناً وأكثر عبادة وأحسن خشوعاً. ولعمري إن البقاع تتفاوت في ذلك التفاوت الكثير، ولقد جربنا وجرب أولونا فلم نجد ـ فيما درنا وداروا ـ أعون على قهر النفس وعصيان الشهوة وأجمع للقلب الملتفت وأضم للهم المنتشر وأحث على القناعة واطرد للشيطان وأبعد من كثير الفتن واضبط للأمر الديني في الجملة من سكنى حرم الله وجوار بيت الله، فلله الحمد على ما سهل من ذلك وقرب ورزق من الصبر وأوزرع من الشكر. وعن النبي (ص): ((من فر بدينه من أرض إلى أرض ـ وإن كان شبراً من الأرض ـ استوجب الجنة وكان رفيق إبراهيم ومحمد...).
وفقد الزمخشري إحدى رجليه في أحد أسفاره العلمية في شتاء خوارزم الباردة وكان بعد ذلك يتكئ على عصا ورجل خشبية، ومع هذا الحال قام برحلات طويلة جاور بيت الله الحرام مدة. ولد عام 467 ومات سنة 538هـ .
3 ـ مفاتيح الغيب: أو التفسير الكبير لمحمد بن عمر بن حسين بن حسن بن علي المعروف بالإمام فخر الدين الرازي. وهو من مشاهير علماء الاسلام فهو وكتبه وآراؤه وأفكاره في الفلسفة والكلام والتفسير معروفة بين الشيعة والسنة، وله مختلف المؤلفات في مختلف الموضوعات. ولد بمازندران وسكن بالري وسافر إلى هرات وخوارزم وبلغ إلى منزلة كاملة من الاحترام والشهرة في عصره. ولد سنة 543 ومات عام 606 في هرات.