تسمح مذاهب التشريع الخمسة الكبرى في الاسلام أي، الحنفية، المالكية، الشافعية، الحنبلية والجعفرية بممارسة (العزل) وينما يسمح المذهب الشافعي (بمنع الحمل غير المشروط للرجل الذي لا يحتاج لفعله موافقة الزوجة) فإن المذاهب الأربعة الأخرى تسمح به فقط بموافقة الزوجة.
وبينما كانت ممارسة منع الحمل ممنوعة فقط من قبل المسلم الأندلسي في القرون الوسطى عند ابن حزم زاهيري أو المدرسة (الحرفية) التي لديها تابعين قلائل، فإنه كان مسموحاً من قبل مذهبي الزيدية والإسماعيلية. من بين المشرعين المسلمين الذين كانت لآرائهم التأثيرات الأكثر انتشاراً، الغزالي الذي كان فيلسوفاً متفوقاً وصوفياً بالاضافة إلى كونه عالم تشريعي شافعي وقد لخّص Fazlur Rahman موقف الغزالي من منع الحمل في النص التالي:
((يرى الغزالي أن الشخص الورع حقاً الذي بلغ مرحلة (الثقة بالله) ـ من بين أعلى المراحل الروحية الصوفية ـ لا يستطيع أن يلجأ إلى منع الحمل، لأنهي عرف أن الله الذي خلق روحاً لن يتركها دون قوت. لذلك فمن أجل شخص كهذا فإن ممارسة التحكم بالحمل أمراً غير شرعي لكن الناس الذين لديهم هذه الثقة بالله نادرون جداً بينما الشخص العادي تنتابه أفكار دنيوية بشكل مستمر، من أجل أشخاص كهؤلاء فإنه من المسموح لهم ممارسة التحكم بالحمل لتحريرهم من همومهم الاقتصادية. وأكثر إذا كان الشخص يخاف من أن تجبره ولادة أطفال على الحصول على سبل العيش بوسائل غير شرعية كالسرقة، فإنه من الإلزامي بالنسبة له أن يتجنب أن يكون له أطفالاً وذلك ليتجنب احتمالاً غير مشكوك فيه في ارتكاب معصية. ويذهب الغزالي أبعد من ذلك ليرى أن الرجل الذي يخشى من تأثر صحة زوجته أو مظهرها الحسن بإنجاب الأطفال وأنه قد يكرهها يجب عليه أن يحجم عن إنجاب الأطفال.
ـ ملاحظة عن الإجهاض:
هنا قد يكون من الهام ذكره أن عدة مشرعين من القرون الوسطى لم يسمحوا فقط بمنع الحمل، ولكن أيضاً بالإجهاض خلال الأشهر الأربعة للحمل قبل (نفخ الروح) في الجنين. بشكل عام، يتبنى المشرعون المسلمون وجهتي نظر متعارضتين حول الإجهاض: الأولى أنه ممنوع كلياً. وجهة النظر هذه يتبناها أغلبية المذهب المالكي، بينما تسمح أقلية قليلة بالإجهاض خلال الأربعين يوماً الأولى من الحمل. ويمنع المذهب الجعفري الإجهاض أيضاً.
أما وجهة النظر الأخرى فترى أن الإجهاض مسموح حتى (نفخ الروح) والذي يعتقد أنه يحدث بعد 120 يوماً من الحمل. يتبنى هذه الفكرة المذهب الحنفي والشافعي والحنبلي والزيدي. مع أن هناك اختلاف في الرأي بين المشرعين الفرديين فيما يتعلق بوقت (نفخ الروح) وفيما إذا كان يجب أن يكون هناك سبب يجبر على الإجهاض. من ضمن الأسباب التي تفرض الإجهاض من الممكن ذكر الخطر على حياة الأم أو الرضيع، واحتمالية ولادة طفل مشوّه أو متخلف عقلياً أو جسدياً.
ـ انعكاسات على صحة المرأة ورفاهيتها:
استناداً إلى المراجعة لمصادر العرف الاسلامي المقدمة في الصفحات السابقة، نستطيع القول بثقة أن هناك دعماً كبيراً لتنظيم الأسرة ضمن الاطار لاديني والأخلاقي بالاضافة إلى الكتابات الفلسفية والتشريعية للاسلام.
بالرغم من هذه الحقيقة تستمر عملياً حالة برامج تنظيم الأسرة سوءاً في معظم بلدان العالم المسلم. إنه ليس من موضوع هذه الورقة فحص كل العوامل المسؤولة عن هذه الحالة. ولكن أود أن أذكر عاملين أسهما في رأيي إلى حد كبير في عجز برامج تنظيم الأسرة في مجتمعات وتجمعات المسلمين. العامل الأول والأكثر أهمية هو أن النساء اللواتي هن أكثر الأشخاص تأثراً بوضوح وبشكل مباشر بتنظيم الأسرة الأولى (حيث فقط هنّ يستطعن أن يحملن) يُنظَر إليهن عملياً في كل مجتمعات المسلمين بأنهن أقل من انسان كامل. لقد سبق لي أن بينتُ في كتابات عدة كيف بُنِيَت فكرة كون المرأة أدنى من الرجل ـ الذي هو وحده انسان كامل أو مستقل بذاته ـ في التقليد الاسلامي واليهودي والمسيحي، استناداً إلى ثلاثة افتراضات لاهوتية أصلية، وهذه الافتراضات هي:
أ ـ الخلق الأول لله كان الرجل وليس المرأة، حيث يُعتقد بأن المرأة قد خُلقت من ضلع الرجل فهي لذلك مشتقة وثانوية وجودياً.
ب ـ أن المرأة وليس الرجل كانت السبب في ما يوصف عادة بـ(سقوط الانسان) أو طرده من الجنة ولذلك فإن (كل بنات حواء) يجب أن يُنظر إليهن ببغض وشك وازدراء.
ج ـ أن المرأة لم تُخلق فقط من الرجل بل من أجله أيضاً مما يجعل وجودها مساعداً وليس أوَليِّ الأهمية.
إن السبب الرئيسي في بقاء هذه الافتراضات ـ والتي هي غير مسوغة بقراءة صحيحة للقرآن ـ دون مقاومة طوال هذا الوقت ليس فقط أن جماهير النساء المسلمات مغموسات في الفقر والأمية، بل أيضاً أنه حتى النساء المسلمات المثقفات المتميزات ـ مثل نظيراتهن في الأعراف الدينية الأخرى ـ قد أنكرن تنظيمياً الفرصة في إحراز وسائل نقدية يستطعن بواسطتها فحص جذور كل الأعراف والتقاليد واكتشاف كيف أصبحن محرومات، ولذلك هن غير قادرات على دحض الحجج التي تفرض قوانين غير عادلة وتقييدات عليهن باسم الاسلام.
هنا من الضروري ملاحظة أن النساء كنّ الهدف الأساسي من عملية (التوجه الاسلامي) التي ابتدأتها الحكومات في عدد من البلدان المسلمة في السنوات الأخيرة.
من أجل فهم هذه الظاهرة، من الضروري أن نعرف أن المسلمين بعامة يرون في النساء المثقفات أو المتحررات (المنطلقات) رمزاً ليس لـ(التحديث) بل لـ(التغريب) أو التوجه الغربي وبينما يرتبط الأول بالعلم والتقنية والتقدم وهو موافق عليه بشكل كبير فإن الأخير مرتبط برموز حضارة الكتلة الغربية كالاختلاط والأسر والمجتمعات المفككة والأولاد غير الشرعيين والإدمان الكحولي والمخدرات وهو مرفوض بشكل كبير.
يشعر وكلاء التقليدية المسلمة بحاجة قوية وعاجلة لوضع النساء في (مكانهن المناسب). إنهم يسعون لفعل ذلك بحجزهن وتقييدهن في بيوتهن وبتخفيضهن تصنيفياً ـ وبشكل يقيني عملياً ـ إلى حالة أقل من انسان كامل.
إن النساء المسلمات لسن معرضات لاستعباد جسدي واقتصادي فقط، لكن أيضاً إلى تجريد فكري عقلي وأخلاقي وروحي من خلال تشويه وتحريف الرسالة الأساسية للاسلام. لذلك، فقد قيل لهن أنه تبعاً لـ(السورة 2: البقرة 223) فإن الزوجة هي (حرث) يستطيع الرجل أن يحرثها متى شاء. وأنه تبعاً لـ(السورة 2: البقرة 228) و(السورة 4: النساء 34) فإن الرجال (لهم درجة) عليهن وأن لهم الحق في السيطرة وحبس النساء وحتى ضرب اللاتي يرفضن أن يكنّ تابعات ومطيعات كلياً لأزواجهن الذين يُشار إليهم بـ(الله في صيغة أرضية).
كوني قضيتُ عشرين عاماً وأنا أقوم بأبحاث على النصوص القرآنية المتعلقة بالنساء، أعلم أن القرآن لا يميز ضد النساء، بل هو في الحقيقة وبالنظر إلى حرمانهن وظروفهن الحساسة يحمي إلى درجة كبيرة حقوقهن واهتماماتهن. لكن هذا لا يغير الحقيقة أن الطريقة التي طبق بها الاسلام في معظم المجتمعات الاسلامية قد تركت ملايين النساء المسلمات مسحوقات جسدياً وفكرياً وروحياً دون أي معنى لقيمة الذات أو لاحترام الذات أو الثقة بالنفس. إنهن يجدن أنه من الصعب جداً مقاومة الضغط المطبق عليهن من مسلمين محافظين واسعي التأثير مثل أبو الأعلى المودودي الذي يخبرهم تكراراً أن تنظيم الأسرة شيطاني النية ومناقض لكل رغبات الله وخير وسعادة المجتمع.
إن ملاحظات المودودي المذكورة فيما يلي هي نموذج للخط المحافظ في التفكير والذي يعوق دون نجاح برامج تنظيم الأسرة في معظم أنحاء العالم الاسلامي:
(التعليم المختلط، توظف النساء في المكاتب، التجمعات الاجتماعية المختلطة، الثياب النسائية غير المحتشمة وعروض الجمال أصبحت الآن مظهراً شائعاً في حياتنا الاجتماعية. أيضاً تم وضع عراقيل شرعية في طريق الزواج والحصول على أكثر من زوجة واحدة، ولكن ليس هناك أي عقبات ضد الاحتفاظ بالخليلات وضد العلاقات المحرمة قبل الزواج. قد يكون في مجتمع كهذا آخر حائل من الممكن أن يمنع المرأة من الاستسلام للرجل هو الخوف من حمل غير شرعي. فلننزل هذا العائق أيضاً ولنسمح للنساء ذوات الشخصيات الضعيفة بالاستسلام بأمان لأصدقائهن الذكور وسنرى كيف سيبلى ذلك المجتمع بفيضان فسق أخلاقي).
دون تغيير جذري في طريقة فهم النساء لذواتهن، لن يكون هناك أية فرصة كي يصبح تنظيم الأسرة جزءاً كاملاً من حياة المسلم العائلية والاجتماعية. كيف لهذا التغير أن يحدث؟ هو التحدي الذي نحتاج أن يواجه به كل مَن هو مَعني بمستقبل الأمة الاسلامية والعالم بأكمله.
العامل الثاني الذي كان مسؤولاً في رأيي عن فشل العديد من مشاريع التطور بما فيها مشاريع تنظيم الأسرة في العالم الاسلامي، هو الموقف تجاه الدين بعامة والذي يوجد في عقول هؤلاء الذين يعممون هذه المشاريع.
النزعة ـ السائدة بشكل وساع عند (خبراء) التطور ـ عند معظم الذين لديهم توجه غربي دنيوي، هي أن (قضية التطور لا تتضمن مناقشة لاهوتية إنها تتعلق بقضايا أخرى مختلفة كلياً). إنني لا أتفق أبداً مع هؤلاء الذين ينظرون إلى الدين بكونه غير متصل بموضوع قضايا التطور.
حتى هؤلاء الذين يسلِّمون بأنه قد يكون الدين أحد العوامل التي يجب اعتبارها في مشاريع التطور، لا يفهمون حقيقة المجتمعات الاسلامية اليوم. مؤكداً أنه في سياق العالم الاسلامي، إنه من الأساسي في حكمي النظر إلى الاسلام (بكل تعقيداته) ليس فقط بكونه أحد العوامل المؤثرة في قضايا التطور بل بأنه المنشأ الذي تتجذر فيه كل العوامل.