إن حركة الاجتهاد تتحدد وتكسب اتجاهاتها ومعالمها على أساس عاملين وهما: عامل الهدف وعامل الفن، ومن خلال ما يطرأ على هذين العاملين من تطور أو تغيير تتطور الحركة نفسها. وأقصد بالهدف: الأثر الذي تتوخى حركة الاجتهاد ويحاول المجتهدون تحقيقه وأنجازه في واقع الحياة. وأريد بالفن: درجة التعقيد والعمق في أساليب الاستدلال التي تختلف في مراحل الاجتهاد تبعاً لتطور الفكر العلمي. ونحن حين نريد أن ندرس الاتجاهات المستقبلة لحركة الاجتهاد أو نتنبأ عنها شيء لا نملك طريقاً إلى ذلك إلا أن نفحص بعناية البدايات والبذور التي تحملها حركة الاجتهاد في واقعها المعاصر ونربط هذه البذور بأحد العاملين السابقين: الهدف والفن ونقدر على ضوئهما ماذا يمكن أن تصبح هذه البذور في يوم ما، وكيف تنمو وماذا سوف تدخل على حركة الاجتهاد من تغيير. ويمكننا أن نقسم البحث عن الاتجاهات المستقبلة لحركة الاجتهاد إلى قسمين: أحدهما الاتجاهات المستقبلة التي يمكن التنبؤ بها على أساس العامل الفني في الحركة، والآخر الاتجاهات المستقبلة التي يمكن التنبؤ بها من زاوية الهدف. فعلى أساس العامل الفني يمكن أن ندرس فكرة معينة منذ دخولها حركة الاجتهاد وأطوارها المتعددة من حيث العمق والتعقيد فيتاح لنا أن نقدر الوضع الذي سوف تنتهي إليه في نموها الفني. وعلى أساس الهدف قد نلمح تغيراً في هذه الزاوية، ومن الطبيعي أن يكون للتغيير في جانب الهدف آثاره وانعكاساته على مختلف جوانب الحركة، وفي ضوء تقدير معقول لنوعية هذه الانعكاسات يمكن أن نضع فكرتنا عن الاتجاهات المستقبلة للاجتهاد. وأنا أحس أن تناول الموضوع من الزاوية الفنية الخالصة لا مجال له الآن بالرغم من أنه طريف وممتع لأن ذلك يضيع على غير الاختصاصيين من الحاضرين فرصة متابعة الحديث ولهذا سوف أقتصر على عامل الهدف وأدرس البدايات النامية في الواقع المعاصر لحركة الاجتهاد وما تشكل من اتجاهات مستقبلة لهذه الحركة من زاوية الهدف ونوعية تأثيره على الحركة كلها. ماهو الهدف من حركة الاجتهاد: وأظن أننا متفقون على خط عريض للهدف الذي تتوخاه حركة الاجتهاد وتتأثر به، وهو تمكين المسلمين من تطبيق النظرية الإسلامية للحياة، لأن التطبيق لا يمكن أن يتحقق ما لم تحدد حركة الاجتهاد معالم النظرية وتفاصيلها. ولكي ندرك أبعاد الهدف بوضوح يجب أن نميز بين مجالين لتطبيق النظرية الإسلامية للحياة أحدهما تطبيق النظرية في المجال الفردي بالقدر الذي يتصل بسلوك الفرد وتصرفاته، والآخر تطبيق النظرية في المجال الاجتماعي وإقامة حياة الجماعة البشرية على أساسها بما يتطلبه ذلك من علاقات اجتماعية واقتصادية وسياسية. وحركة الاجتهاد من حيث المبدأ ومن الناحية النظرية وإن كانت تستهدف كلا مجالي التطبيق لأنهما سواء في حساب العقيدة، ولكنها في خطها التاريخي الذي عاشته على الصعيد الشيعي كانت تتجه في هدفها على الأكثر نحو المجال الاول فحسب، فالمجتهد _خلال عملية الاستنباط_ يتمثل في ذهنه صورة الفرد المسلم الذي يريد أن يطبق النظرية الإسلامية للحياة على سلوكه لا يتمثل صورة المجتمع المسلم الذي يحاول أن ينشىء حياته وعلاقاته على أساس الإسلام. وهذا التخصيص والانكماش في الهدف له ظروفه الموضوعية وملابساته التاريخية فأن حركة الاجتهاد عند الإمامية تأسست منذ ولدت _تقريباً_ عزلاً سياسياً عن المجالات الاجتماعية للفقه الإسلامي نتيجة لارتباط الحكم في العصور الإسلامية المختلفة وفي أكثر البقاع بحركة الاجتهاد عند السنة، وهذا العزل السياسي أدى تدريجياً إلى تقليص نطاق الهدف الذي تعمل حركة الاجتهاد عند الإمامية لحسابه، وتعمق على الزمن شعورها بأن مجالها الوحيد الذي يمكن أن تنعكس عليه في واقع الحياة وتستهدفه هو مجال التطبيق الفردي. وهكذا ارتبط الاجتهاد بصورة الفرد المسلم في ذهن الفقيه لا بصورة المجتمع المسلم. بدايات التطور أو التوسع في الهدف: وبعد أن سقط الحكم الإسلامي على أثر غزو الكافر المستعمر هذه البلاد لم يعد هذا العزل مختصاً بحركة الاجتهاد عند الإمامية بالخصوص، بل لقد شملت عملية العزل السياسي التي تمخض عنها الغزو الكافر الإسلام ككل والفقه الإسلامي بشتى مذاهبه، وأقيمت بدلاً عن الإسلام قواعد فكرية أخرى لإنشاء الحياة الاجتماعية على أساسها واستبدل الفقه الإسلامي بالفقه المرتبط حضارياً بتلك القواعد الفكرية. وقد كان لهذا التحول الأساسي في وضع الأمة أثره الكبير على حركة الاجتهاد عند الإمامية لأن هذه الحركة أحست بكل وضوح بالخطر الحقيقي على كيان الإسلام والأمة من المستعمر الكافر ونفوذه السياسي والعسكري وقواعده الفكرية الجديدة وقد صدمها هذا الخطر العظيم بدرجة استطاع أن يجعلها تتمثل الكيان الاجتماعي للأمة الإسلامية وتنفتخ على الإيمان بصورة المقاومة ودفع الخطر بقدر الإمكان. وقد أحست حركة الاجتهاد خلال المقاومة أحساساً ما، بأن الجانب الفردي من تطبيق النظرية الإسلامية للحياة مرتبط كل الارتباط بالجانب الاجتماعي منه إذ بدأ الجانب الفردي ينهار شيئاً بعد شيء بسبب انهيار الجانب الاجتماعي. ومن ناحية أخرى أخذت الآن نفسها تعي وجودها وتفكر في رسالتها الحقيقية المتمثلة في الإسلام بعد أن اكتشفت واقع القواعد الفكرية الجديدة ونوع التجارب الاجتماعية المزيفة التي حملها عليها الاستعمار، ومن الطبيعي أن ينعكس هذا الوعي على حركة الاجتهاد نفسها ويؤكد إحساسها الذاتي خلال التجربة المريرة التي عاشتها في عصر ما بعد الاستعمار بأن الإسلام كل لايتجزأ، وأن التطبيق الفردي للنظرية لايمكن أن يفصل بحال عن التطبيق الإجتماعي لها أو أن يظل ثابتاً إذا تعطل التطبيق على الصعيد الاجتماعي. كل هذا ساعد على تحويل حركة الاجتهاد عند الإمامية إلى حركة مجاهدة في سبيل حماية الإسلام وتثبيت دعائمه، وقوة مطالبة بتطبيق الإسلام على كل مجالات الحياة. وكان من الطبيعي نتيجة لذلك أن توسع نطاق هدفها وتبدأ بالنظر إلى مجالي التطبيق الفردي والإجتماعي معاً، وهذا ما نلحظ بداياته بوضوح في الواقع المعاصر لحركة الاجتهاد عند الإمامية وما تمخض عنه من محاولات التعبير عن نظام الحكم في الإسلام أو عن المذهب الاقتصادي في الإسلام ونحو هذا وذاك من ألوان البحث الاجتماعي في الإسلام. وما دامت الأمة في حالة الارتفاع وقد بدأت تعي الإسلام بوصفه رسالتها الحقيقية في الحياة والتقت بحركة الاجتهاد عند الإمامية ضمن هذا المفهوم الرسالي الشامل للإسلام. فمن الطبيعي التأكيد على أن التطور في الهدف الذي تتبناه حركة الاجتهاد واتساع الهدف لمجالات التطبيق الاجتماعي للنظرية سوف يستمر ويبلغ أقصاه تبعاً لنمو الوعي في الأمة ومواصلة الحركة لخطها الجهادي في حماية الإسلام. ولكي نتنبأ في ضوء ذلك بالاتجاهات المستقبلة للاجتهاد التي سوف تنجم عن التطور في الهدف لابد أن نرجع إلى ما قبل بدايات هذا التطور لندرس الآثار التي عكسها الانكماش في الهدف الذي عاشته حركة الاجتهاد وما أدى إليه هذا الإنكماش في الهدف الذي عاشته حركة الاجتهاد لنستطيع أن ندرك الاتجاهات المستقبلة التي تحل محلها حينما يستكمل التطور أو التوسع في الهدف أبعاده المنتظرة. نتائج الإنكماش في الهدف: إن الإنكماش في الهدف وأخذ المجال الفردي للتطبيق بعين الاعتبار فقط نجم عنه انكماش الفقه من الناحية الموضوعية فقد أخذ الاجتهاد يركز باستمرار على جوانب الفقهية الأكثر اتصالاً بالمجال التطبيقي الفردي وأهملت المواضيع التي تمهد للمجال التطبيقي الاجتماعي نتيجة لانكماش هدفه واتجاه ذهن الفقيه حين الاستنباط غالباً إلى الفرد المسلم وحاجته إلى التوجيه بدلاً عن الجماعة المسلمة وحاجتها إلى تنظيم حياتها الاجتماعية. وهذا الاتجاه الذهني لدى الفقه لم يؤد فقط إلى انكماش الفقه من الناحية الموضوعية بل أدى بالتدريج إلى تسرب الفردية إلى نظرة الفقيه نحو الشريعة نفسها فإن الفقيه بسبب ترسخ الجانب الفردي من تطبيق النظرية الإسلامية للحياة في ذهنه واعتياده أن ينظر إلى الفرد ومشاكله عكس موقفه هذا على نظرته إلى الشريعة فاتخذت طابعاً فردياً، وأصبح ينظر إلى الشريعة في نطاق الفرد وكأن الشريعة ذاتها كانت تعمل في حدود الهدف المنكمش الذي يعمل له الفقيه فحسب وهو الجانب الفردي من تطبيق النظرية الإسلامية للحياة. ولأذكر مثالين من الأصول والفقه تجدون خلالهما كيف تسربت الفردية من نظرة الفقيه إلى هدفه إلى نظرته للشريعة نفسها. أما المثال الأصولي فنأخذه من بحوث دليل الانسداد الذي يعرض الفكرة القائلة بأننا ما دمنا نعلم بأن في الشريعة تكاليف ولا يمكننا معرفتها بصورة قطعية فيجب أن يكون المتبع في معرفتها هو الظن. إن هذه الفكرة يناقشها الأصوليون قائلين لماذا لايمكن أن نفترض أن الواجب على المكلف هو الاحتياط في كل واقعة بدلاً عن اتخاذ الظن مقياساً، وإذا أدى التوسع في الاحتياط إلى الحرج فيسمح لكل مكلف بأن يقلل من الاحتياط بالدرجة التي لا تؤدي إلى الحرج. انظروا إلى الروح الكامنة في هذا الافتراض وكيف سيطرت على أصحابه النظرة الفردية إلى الشريعة فإن الشريعة إنما يمكن أن تأمر بهذا النوع من الاحتياط لو كانت تشريعاً للفرد فحسب، وأما حيث تكون تشريعاً للجماعة وأساساً لتنظيم حياتها فلا يمكن ذلك بشأنها لأن هذا الفرد أو ذاك قد يتم سلوكه كله على أساس الاحتياط، وأما الجماعة كلها فلا يمكن أن تقيم حياتها وعلاقاتها الاجتماعية والاقتصادية والتجارية والسياسية على أساس الاحتياط. وأما المثال الفقهي فنأخذه من الاعتراض الشهير الذي أثاره الفقهاء حول قاعدة لا ضرر ولا ضرار إذ قالوا أن هذه القاعدة تنفي وجود أي حكم ضرري في الإسلام بينما نجد في الإسلام أحكاماً ضررية كثيرة كتشريع الديات والقصاص والضمان والزكاة فإن في تشريع هذه الأحكام إضراراً بالقاتل الذي يكلف بالدية وبالقصاص، وإضرار بالشخص الذي يتلف مال غيره إذ يكلف بضمانه، وإضراراً بصاحب المال الذي يكلف بدفع الزكاة. إن هذا الاعتراض يقوم على أساس النظرة الفردية إلى التشريع فإن هذه النظرة هي التي أتاحت لهم أن يعتبروا هذه الأحكام ضررية بينما لا يمكن أن تعتبر هذه الأحكام ضررية في شريعة تفكر في الفرد بوصفه جزءاً من جماعة ومرتبطاً بمصالحها بل أن خلو الشريعة عن تشريع الضمان والضرائب يعتبر أمراً ضررياً. وقد كان من نتائج ترسخ النظرة الفردية قيام اتجاه عام في الذهنية الفقهية يحاول دائماً حل مشكلة الفرد المسلم عن طريق تبرير الواقع وتطبيق الشريعة عليه بشكل من الأشكال. فنظام الصيرفة القائم على أساس الربا، مثلاً بوصفه جزءاً من الواقع الاجتماعي المعاش يجعل الفقيه يحس بأن الفرد المسلم يعاني مشكلة تحديد موقفه من التعامل مع مصارف الربا ويتجه البحث عندئذ لحل مشكلة الفرد المسلم عن طريق تقديم تفسير مشروع للواقع المعاشي بدلاً عن الإحساس بأن نظام الصيرفة الربوي يعتبر مشكلة في حياة جماعة ككل حتى بعد أن يقدم التفسير المشروع للواقع المعاش من زاوية الفرد، وليس ذلك إلا لأن ذهن الفقيه في عملية الاستنباط قد استحضر صورة الفرد المسلم والمشكلة بالقدر الذي يرتبط به بما هو فرد. وقد امتد أثر الانكماش وترسخ النظرة الفردية للشريعة إلى طريقة فهم النص الشرعي أيضاً فمن ناحية أهملت في فهم النصوص شخصية النبي أو الإمام كحاكم ورئيس للدولة، فإذا ورد نهي عن النبي مثلاً كنهيه أهل المدينة عن منع فضل الماء فهو إما في نهي تحريم أو نهي كراهة عندهم مع أنه قد لايكون هذا ولا ذاك بل قد يصدر النهي من النبي بوصفه رئيساً للدولة فلا يستفاد منه الحكم الشرعي العام. ومن ناحية أخرى لم تعالج النصوص بروح التطبيق على الواقع واتخاذ قاعدة منه، ولهذا سوغ الكثير لأنفسهم أن يجزئوا الموضوع الواحد ويلتزموا بأحكام مختلفة له، وأستعين على توضيح الفكرة بمثال من كتاب الإجارة، فهناك مسألة هي أن المستأجر هل يجوز له _بدوره_ أن يؤجر العين بأجرة أكبر من الأجرة التي دفعها هو حين الإيجار. وقد جاءت في هذه المسألة نصوص تنهى عن ذلك والنصوص كعادتها في أغلب الأحيان جاءت لتعالج مواضيع خاصة فبعضها نهى عن ذلك في الدار المستأجرة وبعضها نهى عن ذلك في الرحى والسفينة المستأجرة وبعضها نهى عن ذلك في العمل المأجور، ونحن حين ننظر إلى هذه النصوص بروح التطبيق على الواقع وتنظيم علاقة اجتماعية عامة على أساسها سوف نتوقف كثيراً قبل أن نلتزم بالتجزئة وبأن النهي مختص بتلك الموارد التي صرحت بها النصوص دون غيرها، وأما حين ننظر إلى النصوص على مستوى النظرة الفردية لأعلى مستوى التقنين الاجتماعي فإننا نستسيغ هذه التجزئة بسهولة. ماهي الاتجاهات المستقبلة لحركة الاجتهاد: إن الإنكماش الموضوعي يزول والامتداد العمودي الذي يعبر عن الدرجة العالية من الدقة التي وصل إليها الفكر العلمي يتحول في سيره إلى الامتداد الأفقي ليستوعب كل مجالات الحياة. وسوف يتحول الاتجاه نحو تبرير التعامل مع الواقع الفاسد، يتحول إلى اتجاه جهادي نحو تغيير الواقع الفاسد وتقديم البديل الفكري الكامل عنه من وجهة نظر الإسلام. وسوف يمحي في مفهوم حركة الاجتهاد أي تصور ضيق للشريعة ويزول من الذهنية الفقهية وتزول كل آثاره وانعكاساته على البحث الفقهي والأصولي. وسوف يتحول فهم النصوص وتؤخذ فيه كل جوانب شخصية النبي(ص) والإمام بعين الاعتبار، كما سترفض التجزئة التي أشرنا إليها لا على أساس القياس بل على أساس فهم ارتكاز اجتماعي للنص كما هو مشروح في بعض البحوث فإن للنص بمفهومه الاجتماعي مدلولاً أوسع من مدلوله اللغوي في كثير من الأحيان. هذه هي الخطوط العريضة للاتجاهات المستقبلة على أساس التطور في طبيعة الهدف، وتحول حركة الاجتهاد من حركة معزولة اجتماعياً إلى حركة مجاهدة تستهدف تقديم الإسلام ككل وتعتبر أن رسالتها هي توعية الأمة على ضرورة تطبيقه في كل مجالات حياتها.
|