عندما نتحدث عن الإسلام وثقافة تحرير العقل والفكر، أو بمعنى آخر: منهج الإسلام في تحرير العقل والفكر، يجب أن نضع في الاعتبار أنّ الإسلام حرر الإنسان من أغلال الحجر العقلي، وربّاه على حرية الفكر واستقلال الإرادة، كما حرره من أصفاد الجهل وظلمته، لأن الجهل يقتل مواهب الفكر والنظر، ويميت عناصر الحياة والقوة في الأفراد والأمم، كما أنه دعاه إلى عدم طاعة الأهواء، والانقياد الأعمى. وعبر هذه السطور سنحاول أن نوضح كيف واجه الإسلام الحجر العقلي: - في مواجهة الحجر العقلي: لقد حرر الإسلام الإنسان من أغلال الحجر العقلي، وسيطرة التبعية العمياء المقيتة، ورباه على حرية الفكر، واستقلال الإرادة، ليكمل بذلك عقله، ويستقيم تفكيره، وتكتمل له شخصيته وإنسانيته، فإن كمال العقل، واستقامة التفكير، واستقلال الإرادة، هي أسس صحة العقائد، واستقامة التدين، ورقي الأخلاق، ومعرفة الحق الذي يجب أن يتبع، ومعرفة الباطل الذي يجب أن يجتنب، وقد أشار إلى ذلك رسول الله (ص) حينما قال: \"ما اكتسب رجل مثل فضل عقل، يهدي صاحبه إلى هدى، ويرده عن ضلال\" [متفق عليه]. فالإيمان لا يتم عند الإنسان، وكذلك الدين لا يستقيم، حتى يكمل العقل، وقد عني الإسلام ببناء هذه الدعامة عناية كبرى، وذلك من عدة زوايا: - أولاً: البرهان أساس الإيمان لقد جعل الإسلام البرهان أساساً للإيمان الصادق، والعقيدة الصحيحة، وبين أن كل اعتقاد، أو عمل لا يقوم على دلائل الحق فهو مردود على صاحبه، كما أنذر بشدة الذين يجادلون في الله، وفي آياته بغير علم، ولا هدى، ولا كتاب منير. يقول سبحانه وتعالى: {ومن يدع مع الله إلهاً آخر لا برهان له، فإنما حسابه عند ربه، أنه لا يفلح الكافرون} [المؤمنون: 17]. وقال تعالى: {ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى، ولا كتاب منير، ثاني عطفه، ليضل عن سبيل الله، له في الدنيا خزي، ونذيقه يوم القيامة عذاب الحريق} [الحج: 8 - 9]. هذا، وقد وردت كلمة (برهانكم) في القرآن الكريم أربع مرات. - ثانياً: ضلال القادة وكشف الإسلام عن ضلال القادة الدينين، الذين انحرفوا عن العهود والمواثيق المأخوذة عليهم، وافتروا على الله الكذب، وتاجروا بالدين والعقيدة، وانتحلوا لأنفسهم حق التشريع والتحليل والتحريم إرضاءً لأهوائهم، وتحقيقاً لمصالحهم الدنيوية، وإشباعاً لشهواتهم، وتلبيساً على الناس في دينهم. قال الله تعالى: {وإذا أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لنبينه للناس، ولا تكتمونه، فنبذوه وراء ظهورهم، واشتروا به ثمناً قليلاً، فبئس ما يشترون} [آل عمران: 187]. وقال عز وجل: {فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم، ثم يقولون: هذا من عند الله، ليشتروا به ثمناً قليلاً، فويل لهم مما كتبت أيديهم، وويل لهم مما يكسبون} [البقرة: 79]. ويقول جل شأنه: {ولا تقولوا لما تصفوا ألسنتكم الكذب هذا حلال، وهذا حرام، لتفتروا على الله الكذب، إن الذين يفترون على الله الكذب، لا يفلحون} [النحل: 116]. وقال تعالى: {ولا تلبسوا الحق بالباطل، وتكتموا الحق، وأنتم تعلمون} [البقرة: 42]. - ثالثاً: الدعوة إلى الحق كما دعا الإسلام البشر جميعاً إلى كلمة الحق، التي هي جوهر الخيرية، والتي يستجيب لها كل ذي قلب سليم، وعقل رشيد، والتي لم يختلف فيها نبي مرسل، ولا كتاب منزل. قال الله تعالى: {قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء، بيننا وبينكم، ألا نعبد إلا الله، ولا نشرك به شيئاً، ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله، فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون} [آل عمران: 64]. - رابعاً: النظر في عوالم السماوات والأرض لقد طلب الإسلام من كل ذي عقل، أن ينظر ويتأمل في عوالم السماوات والأرض، وما فيها من الدلائل الواضحة على وحدانية الله سبحانه وتعالى في ألوهيته، وربوبيته. فعلى الإنسان أن ينظر إلى السماء التي فوقه، كيف بنيت، وكيف زينت، وإلى الأرض كيف مدت، وكيف ألقيت فيها الرواسي، وكيف أنبت فيها من كل زوج بهيج، وما هذا الخلق العظيم إلا تذكرة لكل قلب يشعر ويعي، ولكل عقل يدرك ويفهم. يقول تعالى: {أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت، وإلى السماء كيف رفعت، وإلى الجبال كيف نصبت، وإلى الأرض كيف سطحت} [الغاشية: 17] . وعلينا أن نعي جيداً أن في خلق السماوات والأرض، واختلاف الليل والنهار، والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس، وما أنزل الله تعالى من السماء من ماء، فأحيا به الأرض بعد موتها، وبث فيها من كل دابة، وكذلك تصريف الرياح، والسحاب المسخر بين السماء والأرض، كل ذلك آيات لأهل العقل والرشاد، الذين يمشون في طريق النور والمعرفة. إن الإنسان إذا نظر إلى نفسه، وعرف مما خلق، وأنه خلق من ماء دافق، يخرج من بين الصلب والترائب. وإذا نظر الإنسان إلى الأرض التي هي مصدر الحياة، ونظر إلى طعامه، يجد أن الله تعالى بقدرته صب الماء صباً من السحب، ثم شق الأرض شقاً، فأنبت فيها حباً، وعنباً، ورطباً، وزيتوناً ونخلاً، وحدائق وافرة الثمر،وفاكهة ومرعى، كل هذا متاعاً لنا ولإنعامنا، وبهذا التأمل المقترن بالتدبر والنظر العقلي، يزداد الإنسان علماً ومعرفة، ومن ازداد علماً ازداد إيماناً، ومن ازداد إيماناً ازداد رقياً وأخلاقاً وتحضراً. لقد دعانا الله سبحانه وتعالى أن نمعن الفكر في هذا الكون الفسيح، ونمعن النظر فيما حوى من موارد عديدة، وطلب منا أن نسعى لمعرفة أسراره الكثيرة، وأسباب الحياة فيه. قال تعالى: {قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق} [العنكبوت: 20]. ويجدر بالذكر هنا أن قوله تعالى: {سيروا في الأرض} ذكر في القرآن الكريم أربع مرات. وقال تعالى: {وفي الأرض آيات للموقنين، وفي أنفسكم أفلا تنظرون} [الذاريات: 20]. - خامساً: الدعوة إلى استنهاض العقول استنهض الإسلام العقول، ووجه الأفهام، وأيقظ الحواس، ونبه المشاعر، وذلك بالتعقيب على بيان الآيات الكونية والتشريعية، وذلك بمثل قوله تعالى: {إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون} [الروم: 24]، وقال تعالى: {إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون} [الرعد: 3]، وقال: {إن في ذلك لآيات لأولي النهى} [طه: 54]، ونفس تعبير (أولي النهى) ورد في الآية (128) من سورة طه أيضاً. ويقول تعالى: {إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون} [يونس: 67]، وقال: {ويبين آياته للناس لعلهم يتذكرون} [البقرة: 221]، وقال: {إنما يتذكر أولوا الألباب} [الرعد: 19]، و(أولوا الألباب) هم أصحاب العقول الراجحة، الفاهمة، الواعية، المدركة، وقد ورد ذكرهم في القرآن الكريم (16) مرة. - سادساً: نظرة الناقد البصير لقد دعا الإسلام البشر جميعاً إلى أن ينظروا إلى ما يستمعون من أقوال نظرة الناقد الواعي البصير، الذي يستطيع أن يقيم الأمور تقييماً عقلياً سديداً، فيتبعون منها ما يدل على الحق ويهدي إلى الخيرية، وإلى الرُّشد، هؤلاء هم الذين يستمعون إلى القول، فيسيرون على طريق الهدى، ولما لا؟، وقد هداهم الله، لأنهم أصحاب العقول الراجحة. قال تعالى: {فبشر عباد الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، أولئك الذين هداهم الله، وأولئك هم أولوا الألباب} [الزمر: 18]. - سابعاً: الذم للغافلين لقد ذمّ الإسلام الغافلين المتبلدين، ونعى عليهم غفلتهم، وإعراضهم عن دلائل الآيات الكونية التي يشاهدونها، ويرونها رؤية العيان، في كل لحظة، وهم عنها غافلون، معرضون، هذه الآيات الكونية المعجزة تطالعهم بدلائلها في كل الآونة، وهم كما يقال: لا حياة لمن تنادي !، وهم معرضون عن كل آيات الله، ألم يسيروا في الأرض الممتدة،ليروا نعم الله التي لا تحصى، فتكون لهم قلوب يعقلون بها، أو أذان يسمعون بها؟، حقاً وصدقاً: إن الأبصار لا تعمى، ولكن القلوب التي في الصدور، التي هي أساس المشاعر والأحاسيس، هي التي تعمى. هؤلاء الذين في غفلة وإعراض عن دلائل الله الكونية لهم قلوب لا يفقهون بها، ولهم أعين لا يبصرون بها، ولهم أذان صماء لا يسمعون بها، حقاً أنهم كالأنعام، بل هم في غفلتهم أضل منها. قال تعالى: {وكأ ين من آية في السماوات والأرض، يمرون عليها، وهم عنها معرضون} [يوسف: 105]. - ثامناً: في مواجهة أسرى التقليد لقد عاب الإسلام على أسري التقليد إعراضهم عن الحق الذي جاء به أنبياء الله، ورسله، وجمودهم على إتباع ما وجدوا عليه آباءهم، وأجدادهم، وهم إذ يرتكبون الفواحش باسم الدين، فهم يفعلون ذلك تعصباً للجمود والتبعية العمياء المخالفة للعقل والمنطق السليم. قال تعالى: {وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله، وإلى الرسول، قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا أو لو كان آباؤهم لا يعلمون شيئاً ولا يهتدون} ]المائدة: 104[. وهؤلاء النفر من الناس إذا قيل لهم اتبعوا منهج ما أنزل الله، منهج الهدي والرشاد، ردوا قائلين: بل نتبع ما الفينا عليه آباءنا، حتى لو كان هؤلاء الآباء لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون. وإذا فعلوا فاحشة، كرروا القول: بأن الآباء والأجداد كانوا يفعلون ذلك، وكانوا يأمرونهم بها. وعليهم أن يدركوا جيداً أن الله تعالى لا يأمر بالفحشاء، إنهم يقولون على الله مالا يعلمون!!، والله سبحانه وتعالى يوضح لنا عاقبة التبعية العمياء ومدى جنايتها على الناس. يقول تعالى: {يوم نقلب وجوههم في النار يقولون: يا ليتنا أطعنا الله، وأطعنا الرسولا. وقالوا: ربنا آنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا. ربنا آتهم ضعفين من العذاب، والعنهم لعناً كبيراً} [الأحزاب: 66 - 68]. - تحليلنا لظاهرة التقليد الأعمى: إنّ التقليد الأعمى أكبر شر يبتلى به الأفراد والجماعات، لأنه يميت مواهب الفكر والإبداع والابتكار، ويقف حجر عثرة في طريق النظر الواعي، والتفكير السليم، فهو يجمد قدرات الإنسان الفكرية، وطاقاته الإبداعية، ويجعلها راكدة، آسنة غير متحركة أو متطورة. إنّ التقليد الأعمى يجعل الإنسان لا يميز بين الحق والباطل، ولا بين الصواب والخطأ، ولا يفرق بين التقليد في الخير والتقليد في الشر، ويحمل أهله على الإعراض عن الحق، ومعاداة أهله. إنه يدعوهم إلى الوقوف في طريق الإصلاح والمصلحين، ويدعوهم إلى الجمود على العقائد، والمذاهب الموروثة، أضف إلى ذلك التعصب الجماعي لحمايتها، وذلك لأن قيام العقائد على أساس الوراثة، وتقليد الآباء والأجداد دون وعي وإدراك، يضفي عليها قداسة تستحوذ على عواطف الوارثين لها، وتصرفهم عن التفكير السليم في صحتها، أو بطلانها. إنّ التقليد الأعمى يدفعهم دفعاً إلي التعصب الجماعي لحماية المذاهب والأفكار الموروثة، والإبقاء عليها، ومعارضة كل إصلاح جديد يخالفها أو ينتقص من قداستها، حتى لو كان هذا الإصلاح أساسي وجوهري لخير الناس وصالحهم. وقد أشار القرآن الكريم إلي هذه الحقائق في آيات كثيرة كقوله تعالي في شأن معاداة الأمم الماضية لدعوة رسلهم: {وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير، إلا قال مترفوها: إنا وجدنا آباءنا على أمة، وإنا على آثارها مقتدون. قال: أو لو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم؟، قالوا: إنا بما أرسلتم به كافرون} [الزخرف: 23 - 24]. وكان نفس الأمر في شأن معاداة قريش للدعوة المحمدية، فقد كان عجبهم أن جاءهم منذر منهم، فما كان منهم إلا أن اتهموا محمد (ص) بالكذب والسحر وسخروا منه أشد السخرية، مدافعين عن آلهتهم التي لا تضر ولا تنفع، رافضين طريق الهدى والرشاد. - ما يترتب على التقليد الأعمى: وهكذا - كما أوضحنا في الجزئية السابقة - يفعل التقليد الأعمى الضار للأفراد والجماعات، والذي تقدس فيه المعتقدات القائمة على الوراثة، لقد كان أهل قريش يعرفون الرسول الكريم محمداً (ص) معرفةً جيدة، بل يعرفونه حق المعرفة، ويعلمون صدقه، وأمانته حق العلم، أضف إلي ذلك درايتهم الكاملة بحسن أخلاقه، وطيب معشره، ولكن التعصب الجماعي القائم على التقليد الأعمى وتقديس ما وجدوا عليه الآباء والأجداد، حملهم حملاً على أن يتعجبوا من دعوته، ويتنكروا لها، ويسخروا منه. وهذه الحقيقة التي ذكرناها، مقررين إياها، وهي: أن قيام المذاهب والعقائد على أساس الوراثة والتقليد الأعمى، دون درس أو تمحيص، يضفي عليها هالة من التقديس الزائف، فالذي ينجم عن استحواذها على عواطف الوارثين، انصرافهم عن التفكير الواعي السليم في فسادها وبطلانها، وبالتالي يأتي تعصبهم الأعمى الجماعي من أجل حمايتها من كل دعوة تخالفها، أو تنتقص من قداستها. وقد علمنا الإسلام التسامح، وعدم التعصب، وقبول الأخر لأن الجميع في حق الحياة سواء، كما علمنا احترام الرأي والرأي الأخر، والحوار بالتي هي أحسن. كما أن الإسلام يؤمن بالتعددية الفكرية، ويرفض أحادية الرأي، في نفس الوقت الذي ينادي فيه بالأخذ والعطاء، والحوار المفيد بين الثقافات، فقد خلقنا الله تعالى لنتعارف ونتفاهم، من أجل واقع أفضل للبشرية جمعاء، ويكون ذلك عن طريق تبادل الأفكار والآراء، والمنافع والخبرات، وليس عن طريق الصدام والخلاف. إنّ الأمم والطوائف والجماعات التي تتمسك بالعقائد والمذاهب الموروثة، رغم أنها لا تستند إلى نظر صحيح، ورؤية سليمة واعية، هؤلاء يكون مصيرهم الجمود والتخلف والتأخر، لأن ما يتمسكون به لا يقوم على أساس من الحق، وقصارى ما يعتمدون عليه هو التقليد القائم على التبعية العمياء، وتقديس مواريث الآباء والأجداد، دون أدنى إعمال للعقل والفكر. - القضاء على سلطة المتألهين: وبهذه الدعامة المهمة التي منطلقها تحرير الإنسان من الحجر العقلي، وسيطرة التبعية العمياء، وتربيته على حرية الفكر، وعلى الإرادة الحرة، قضى الإسلام الحنيف على سلطة المتألهين من أصحاب القيادات الضالة المضللة، وخلع عنهم رداء القداسة التي انتحلوها لأنفسهم، وموهوا على الناس بأنها رفعتهم فوق النقد أو الجرح والتعديل، وأجرى عليهم من أحكام المسؤولية والجزاء ما أجراه على سائر الأفراد. هذا، وقد بيّن الإسلام أن ربوبية العبادة والتشريع إنما هي حق خالص لله تعالى وحده، وأهاب بأسرى التقليد والتبعية العمياء، أن يحرروا أنفسهم من هذه الأغلال الجاثمة على عقولهم وأفهامهم، وتلك الأكنة المعقودة على أسماعهم وأبصارهم. وقرر الإسلام بوضوح وجلاء: حق الإنسان في حرية الفكر والاعتقاد، وحرية الرأي، واستقلال الإرادة، كما فتح للإنسان في كل زمان ومكان طريق التحرر الفكري، والاستقلال الإرادي، وبوأه المنزلة اللائقة بإنسانيته وكرامته. كما عرف الله سبحانه وتعالى الإنسان بأنه لم يخلقه عبداً يقاد، كما تقاد بهيمة الأنعام،و في نفس الآن لم يجعل لمخلوق مهما كان، حق السيطرة على عقله وفكره وإرادته، وإنما خلقه حراً مالكاً لقياد نفسه، وعبداً لربه الواحد الأحد فقط، جعله يفكر بعقله، ويسترشد بمواهبه وقدراته التي منحها إياه، ويعمل باختياره وإرادته، ويهتدي بنور العلم في مسيرته الحياتية، وفي اتخاذ قراراته المصيرية، وفي أداء أعماله. عرف الله الإنسان وعلمه أن لا يظهر بمظهر العبودية إلا لخالقه الأعظم، ولا يدين في عقائده وسلوكه إلا بدين الحجة والبرهان. ولا يفوتني في نهاية حديثي عن هذه الدعامة الأولى من دعائم المنهج الإسلامي في تحرير العقل والفكر، أن أوضح حقيقتين مهمتين، قد يقع الخلط من البعض في فهمهما: الحقيقة الأولى: التقليد الذي نقصده: إنّ التقليد الذي نقصده، هو ذلك التقليد الذي ذمه الإسلام، وشدد النكير على أهله، والذي أوضحنا مفاسده، وآثاره السيئة في الأفراد والجماعات، عبر سطورنا الفائتة، هذا التقليد هو: التقليد الأعمى الذي ينطلق من الجمود، والثبات على القديم الموروث دون إعمال الفكر فيه، مع التبعية العمياء، ومحاربة كل جديد يخالفه، ولو كان هذا الجديد فيه صالح الناس وخيرهم، أو هو أقوم طريقة وأهدى سبيلاً. التقليد الذي نعنيه هو الذي لا يميز بين التقليد في الخير، والتقليد في الشر، وعليه فهو لا يفرق بين إتباع الحق من الأئمة الراشدين، والعلماء الصالحين، والمفكرين الهادين، والقادة المصلحين، وإتباع أهل الباطل من أصحاب القيادات الضالة المضللة، والأهواء الجامحة، وأصحاب النزعات التي يسيطر عليها الأنانية والمصالح الخاصة. هذا هو التقليد، الذي ذمه الإسلام وشدد النكير على أصحابه، أما تقليد أهل الخير والصلاح، والحق والفلاح، من الأئمة الراشدين، والعلماء العقلاء المعتدلين، الراسخين في العلم والمعرفة، والمتميزين بالأخلاق الصالحة، هؤلاء الذين استمدوا أفكارهم، وعلومهم، ومذاهبهم من هدى كتاب الله المجيد، والسنة النبوية المطهرة، واستقاموا على الطريقة المثلى، والمحجة البيضاء، وتقليد هؤلاء ليس من قبيل التبعية العمياء التي لا تنظر، ولا تفكر فيما تقلد، وإنما إتباع هؤلاء من قبيل القدوة الواعية المستبصرة، فمن واجبنا أن نتبع أهل العلم والمعرفة إن كنا لا نعلم أو لا نعرف. يقول تعالى: {فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون} [النحل: 43] - ويجدر بالقول هنا أن تعبير (أهل الذكر) ورد في القرآن الكريم مرتين، أما كلمة (الذكر) فقد وردت (19) مرة. ونحن نعرف قول الرسول (ص) الذي جاء في حديث العرياض بن سارية: \"فإنه من يعش منكم بعدي، فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين\" (متفق عليه). نقول: إن طريق العصمة من ضلال الرأي، وطغيان الهوى والنجاة من شرور التفرق، والاختلاف، والتمزق، والخروج من ظلمة الجهل وضلاله، هو الاعتصام بكتاب الله، وسنة رسوله الكريم (ص)، وسؤال أهل العلم والمعرفة الذين عرفوا بالرسوخ، والأمانة في العلم، والاعتدال في القصد والتفكير. الحقيقة الثانية: الحرية التي نقصدها: إن حرية الفكر التي جعلها الإسلام رائداً للتفكير السليم، ونبراساً للعقول والأفهام في الاهتداء إلى معالم الحق والخيرية، هي الحرية التي تطلق عقولنا وأفكارنا من أغلال الحجر العقلي، والكبت الفكري، وتحررها من سيطرة التقليد والتبعية العمياء، وتجلي لها معالم الحقائق التي كانت محجوبة عنها. الحرية التي نقصدها، والتي دعا إليها الإسلام، أن الإنسان حر دائما وأبداً ما لم يضر الآخرين، مع مراعاة أن قيادة التوجيه والإرشاد يجب أن تكون قيادة بناء وإصلاح وتربية وتعليم، لا قيادة هدم وإفساد وتضليل، قيادة تستمد مقوماتها العلمية من هدي الإسلام، وتعاليمه، من نضوج العقل واستقامة التفكير، من الاعتماد على قضايا الحق والمنطق، وتحكيم الحجة والبرهان، مع التحري الواعي في فهم نصوص كتاب الله المجيد والسنة النبوية المطهرة، والاستدلال بهما على قوانين النظر والفكر. وعلى من يتصدى للرأي والحل والعقد أن يفهم القرآن والسنة جيداً انطلاقاً من فهمه ووعيه بدلائل وخصائص وأوضاع اللغة العربية، والثقافة الإسلامية بوجه عام، لأنه إذا وكل الأمر إلى الناس يفهمون ويستنبطون كما يريدون ويشتهون، لاختلت موازين الصواب والخطأ، في الفهم والاستنباط، وغابت الحقائق عن الأفهام في غمرة الأهواء، لأن العقول والأفهام متفاوتة، والأهواء والنوازع متحكمة، والكملة أو الذين يشتاقون إلى الكمال أو يتطلعون إليه في كل زمان ومكان قليلون. هذه هي حرية الفكر التي نادى بها الإسلام، وجعلها نبراساً للعقل ورائداً للفكر، فهل آن لنا أن نعيها ونتدبرها؟!
|