من خلال الحديث الشريف: "من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية"
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين، ولعنة الله على أعدائهم أجمعين.
في هذه الأيام من شهر شعبان المبارك، التي تنتسب للمولى صاحب العصر والزمان (عجل الله تعالى فرجه الشريف)، أودّ الإشارة لموضوعين؛ الأوّل: يتعلّق بمعرفة الإمام (سلام الله عليه وعلى آبائه)، والآخر: يتعلّق بنا وبمسؤوليتنا وواجبنا في عصر الغيبة.
1 ـ لنعرف إمامنا أكثر
أمّا الموضوع الأوّل فقد روي عن النبيّ الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: (مَن مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهليةً)(2).
فكما تكون الميتة الجاهلية، على كفر وشرك وإلحاد؛ لأنّها ليست في ظلّ الإسلام، فكذلك تكون حال مَن يموت ولا يعرف إمام زمانه، أي يموت وحكمه حكم المشرك والملحد والكافر.
قضية الإمام المهديّ (عجل الله تعالى فرجه الشريف) من الأمور المسلّمة
إنّ البحث العلمي حول هذا الموضوع واسع ومتشعّب، ولكنّي لا أريد التعرّض إلى تفاصيله. فأصل وجود المولى صاحب الزمان (عجل الله تعالى فرجه الشريف)، ومعرفته بصفته إماماً مفترض الطاعة، يُعدّ من أصول الإسلام، وهو من الأمور المسلّمة والمتواترة. وإذا ما بلغ أمرٌ حدّ التواتر، فإنّ الجدال فيه يكون من باب السفسطة وإنكار الوجدانيات(3).
إنّ المولى سيشرّفنا بحضوره إن شاء الله تعالى، ويظهر للناس كافة، ويعلن للعالم أنّه المهديّ من آل محمّد (صلّى الله عليه وعلى آبائه الطيّبين أجمعين). فكيف سيكون حاله (سلام الله عليه) في ذلك اليوم المبارك؟ وكيف سيكون حال الناس؟!
إنـّه يصدع بالحكمة والموعظة الحسنة
قال الله تعالى يخاطب نبيّه الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم): (ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَة)(4). فمن صفات الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه كان يدعو بالحكمة والموعظة الحسنة.
هذا التعبير نفسه، وهاتان المفردتان عينهما (الحكمة والموعظة الحسنة) وردتا في زيارة الإمام المهدي (عليه السلام) المرويّة عن المعصوم (سلام الله عليه) حين يصفه بأنّه:
(الصادع بالحكمة والموعظة الحسنة)(5). فهو كجده (صلى الله عليه وآله وسلم)، يصدع بالحكمة والموعظة الحسنة.
ويسير بسيرة جدّه أمير المؤمنين (عليهما السلام)
روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال: (إن قائمنا أهل البيت (عليهم السلام) إذا قام لبس ثياب علي (عليه السلام) وسار بسيرة أمير المؤمنين علي (عليه السلام) ( (6).
وتقول الروايات أيضاً: إن علياً (عليه السلام) سار بالمنّ والكفّ (7)، أي أنّه (سلام الله عليه) كان لا يعاقب بل يمنّ.
فإذا أردتم أن تعرفوا سيرة الإمام الحجّة (عجل الله تعالى فرجه الشريف) في التعامل مع الأصدقاء والأعداء فانظروا إلى سيرة الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام). فهذا تاريخه (صلوات الله عليه) بين أيديكم دوّنه الشيعة والسنّة والنصارى واليهود وغيرهم في صفحات مشرقة.
لقد كان أمير المؤمنين (سلام الله عليه) يدفع مَن ناهضه وبارزه بالنصح والموعظة ما أمكن، وكان يسعى للحؤول دون وقوع الحرب وإراقة الدماء، سواء عن طريق المواعظ الفردية والجماعية أو غيرها.. ولكن إذا وصل الأمر بالطرف الآخر أن يهجم ويريد القتال قام الإمام (عليه السلام) بدور الدفاع لا أكثر، ولكن ما إن يتراجع الخصم أو ينهزم حتّى يتوقّف الإمام عن ملاحقته ولا يسعى للانتقام منه، ولم يروَ أن الإمام (عليه السلام) بدأ أحداً بقتال أبداً. وهذا الأمر مشهود في تاريخ أمير المؤمنين (سلام الله عليه).
ومع أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) يصرّح لـه بالقول:(يا عليّ حربك حربي، وسلمك سلمي)(8) ، نلاحظ أنّ الإمام (سلام الله عليه) لم يأسر حتّى فرداً واحداً من أعدائه، ولا صادر أو سمح لأصحابه بمصادرة أيّ شيء من أموال الخصم وإن كان ذلك الشيء رخيصاً أو عديم الثمن.
تروى في هذا المجال أمور لا نظير لها في التاريخ، ولا في الحاضر، ولا في الآتي من الزمان، إلاّ ما كان عن الإمام أمير المؤمنين وما سيكون من الحجّة المنتظر (سلام الله عليهما).
فقد روي أنّ الإمام أمير المؤمنين (سلام الله عليه) لم يسمح بمصادرة حتّى "ميلغة" واحدة من العدوّ! (9).
ويلبس ثياب عليّ (سلام الله عليه)
أما عن السيرة الشخصية للإمام المنتظر (عجل الله تعالى فرجه الشريف)، فقد روى البرقي عن حماد بن عثمان قال: حضرت أبا عبد الله (عليه السلام)، وقال لـه رجل: أصلحك الله ذكرت أنّ عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) كان يلبس الخشن، يلبس القميص بأربعة دراهم وما أشبه ذلك، ونرى عليك اللباس الجديد؟ فقال لـه: (إن علي بن أبي طالب كان يلبس ذلك في زمن لا يُنكر ولو لبس مثل ذلك اليوم شُهّر به، فخير لباس كل زمان لباس أهله، غير أن قائمنا أهل البيت (عليهم السلام) إذا قام لبس ثياب عليّ (عليه السلام) وسار بسير أمير المؤمنين علي (عليه السلام) )(10).
فهو (عجل الله تعالى فرجه الشريف) لا يرتدي طيلة عهده الشريف والمبارك حتّى حلّة ثمينة واحدة مع أنّ الله تعالى يملّكه الدنيا وما فيها. فكلّ شيء في الوجود هو من أجل المعصومين (سلام الله عليهم) ـ كما في حديث الكساء الشريف ـ ولكنّهم يزهدون عنها، ويعيشون في بساطة كسائر الناس العاديين بل أبسط؛ ففي كتاب الكافي كثير من المطالب حول أحوال الأئمّة (عليهم السلام) وقد جمعها المجلسي (رحمه الله) في كتابه "بحار الأنوار الجامعة لأخبار الأئمة الأطهار"؛ منها:
عن المعلى بن خنيس قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) يوماً: جُعلت فداك ذكرت آل فلان وما هم فيه من النعيم فقلت: لو كان هذا إليكم لعشنا معكم، فقال:
(هيهات يا معلّى، أما والله أن لو كان ذاك ما كان إلا سياسة الليل وسياحة النهار ولبس الخشن وأكل الجشب، فزوي ذلك عنا، فهل رأيت ظلامة قط صيّرها الله تعالى نعمة إلا هذه)(11).
أجل هكذا كانت حياة الأئمة (سلام الله عليهم)؛ وذلك (كيلا يتبيّغ بالفقير فقره)(12)، كما يقول الإمام أمير المؤمنين (سلام الله عليه). أي لا يتأذّى الفقير بفقره إذا رأى كيف يعيش زعيم القوم وإمام المسلمين وقائدهم ورئيسهم.
عن أبي إسحاق السبيعي، قال: كنت على عنق أبي يوم الجمعة وأمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) يخطب وهو يتروّح بكمّه، فقلت: يا أبه! أمير المؤمنين يجد الحر؟ فقال لي: لا يجد حرّاً ولابرداً، ولكنه غسل قميصه وهو رطب ولا لـه غيره فهو يتروّح به (13).
كما يشير لمثل هذا الموضوع الإمام (سلام الله عليه) بنفسه في (نهج البلاغة) في رسالته إلى عثمان بن حنيف واليه على البصرة عندما يقول: (ألا وإن إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه)(14)، أي بقميص واحد وإزار واحد يرتديهما لا غير، فقد كان لباس الناس في ذلك الوقت يتألّف من قطعتين؛ قميص وإزار. ولم يكن الإمام (عليه السلام) يملك أكثر منهما، وهذا هو المقصود بقولـه (سلام الله عليه): بطمريه. أي ما يكفي لملبس واحد فقط.
هذه هي حياة الإمام أمير المؤمنين (سلام الله عليه)، وهكذا ستكون حياة الإمام المهديّ (عجل الله تعالى فرجه الشريف).
أهل البيت (عليهم السلام) كلّهم رحمة
هل تريدون أن تعرفوا عن حكومة المهديّ (عجل الله تعالى فرجه الشريف) أكثر؟ إذن انظروا إلى تاريخ الرسول وأمير المؤمنين (صلوات الله عليهما وآلهما)، وكيف كان حكمهما، فهكذا سيحكم المهديّ (عليه السلام) أيضاً.
إنّ رسول الله ئ لم يبدأ المناوئين لـه بقتال، بل إنّ العدوّ هو الذي كان يتعرّض للرسول الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهكذا كان حال الإمام عليّ (سلام الله عليه)، وكذلك الإمام الحسين (سلام الله عليه)؛ فمع أنّ العدوّ كان قد حاصره إلا أنا نراه (سلام الله عليه) يقول:
(إني أكره أن أبدأهم بالقتال( (15).
هذا هو واقع أهل البيت (سلام الله عليهم). فإن أردتم أن تعرفوا الحجّة (عجل الله تعالى فرجه الشريف)، فانظروا إلى هذه الوقائع عن حياة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمّة المعصومين من أهل بيته (سلام الله عليهم)، وكيف كانوا يعيشون، وكيف كانت معاشرتهم للناس، وكيف كانوا في الحرب والسلم.
الإمام المهدي مرآة المصطفى والمرتضى(عليهم السلام)
والإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه الشريف) هو مرآة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في كلّ شيء، ما عدا مقام نبوّته. وهو (عجل الله تعالى فرجه الشريف) مرآة الإمام أمير المؤمنين (سلام الله عليه) في كلّ شيء ما عدا مقام أفضليته (سلام الله عليه). فما أحلى العيش وأطيبه آنذاك: في ظلّ الإمام صاحب العصر (عجل الله تعالى فرجه الشريف)!
حقّاً إنّ التعلّق بالإمام المهديّ (عليه السلام) وحبّه هو تعلّق وحبّ لشخصه وللحياة الطيّبة أيضاً التي تكون في ظلّ حكومته، (صلوات الله وسلامه عليه).
أحوال الناس في زمن الظهور
كان ذلكم جانباً من سيرة الإمام (سلام الله عليه) في عصر ظهوره، أمّا عن حال سائر الناس في زمن الظهور فيروى عن الإمام الباقر (سلام الله عليه) أنّه قال: (إذا قام قائمنا وضع يده على رؤوس العباد فجمع بها عقولهم وكملت بها أحلامهم)(16).
و(اليد) هنا تعني القدرة كما في قولـه تعالى: ?يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِم?(17) أي إنّ قدرة الله فوق قدرة كلّ أحد. وهكذا الإمام (عجل الله تعالى فرجه الشريف) فإنّه يضع يد ـ قدرته ـ على رؤوس العباد فتكمل عقولهم.
ولهذا الأمر معنى طبيعي وآخر غيبيّ، ولا مانع أن يكونا معاً، أي بعض يُشمل بالأوّل وبعض بالثاني، كما في الحيوانات حيث تتآلف ويسود التعايش حتّى بين المتعادية منها. فقد يكون هذا من ضمن (يضع يده( أيضاً وإن كان النصّ يقول: (على رؤوس العباد) لأنّه كما قلنا لا مانع أن يكون لهذا الأمر معنى غيبي أيضاً، يكون هذا من مصاديقه؛ إلى جانب المعنى الطبيعي للجملة، أي البشر.
وإذا كمل عقل الإنسان فإنّه لا يلهث بعد ذلك وراء حطام الدنيا، لأنّ ضعف العقل هو الذي يسوقه صوب التهافت على الدنيا.
وإذا كمل عقل الإنسان لم يركض خلف أهوائه، فهل سيكون ثمّة ظلم أو فقر أو بؤس حينئذ؟ كلاّ بالطبع.
وإذا كمل عقل الإنسان كملت عقيدته وكمل إيمانه بل كملت حياته أيضاً، فتكون حياة الناس هانئة طيّبة ومريحة بل أحسن حياة يحياها جيل من الأجيال.
وهكذا سيكون حال معظم الناس يومذاك وليس حالة استثنائية لبعض الناس، فمعظم الناس سيحيون في راحة وهناء ورغد وعيش كريم.
2. لنعرف وظيفتنا بنحو أفضل
أمّا الموضوع الثاني الذي أودّ الإشارة إليه في هذه المناسبة المباركة، فهي معرفة وظيفتنا في عصر الغيبة.
إنّ الوظيفة شيء والرغبة شيء آخر، ويحسن الفصل جيّداً بينهما. تأمّلوا في هذا المثال: إذا مرض شخص ما، حينها تصبح بعض الأغذية مضرّة بالنسبة إليه، وهذا لا يعنى أنّ هذه الأغذية مضرّة بذاتها، بل هي حسنة في الأصل، ولكنّها لا تصلح لهذا الشخص بسبب مزاحمة الأهمّ في حقّه. فتناول هذه الأغذية تشكّل رغبة لهذا الشخص، ولكنّ وظيفته شيء آخر.
فكذلك الحال بالنسبة لنا تجاه المولى صاحب الزمان (عجل الله تعالى فرجه الشريف). إنّ لنا في لقائه (سلام الله عليه) رغبة، ولنا إزاءه وظيفة، فإذا كان هذان الأمران قابلين للجمع فما أحسن ذلك! أمّا إذا لم يمكن الجمع بينهما فهل على الفرد أن يسعى لتحقيق الرغبة أم العمل بالوظيفة؟ لا شكّ أنّ الواجب هو السعي للعمل بالوظيفة.
إنّ علقتنا الشديدة ـ جميعاً ـ بوليّ العصر (صلوات الله وسلامه عليه) هو الذي يدفعنا لأن نهتمّ ونعمل ونجدّ ونجتهد لسلوك الطريق الذي ينتهي بنا إلى التوفيق للانضواء تحت لوائه الشريف، أمّا الأمل بزيارة حضرته في عصر الغيبة، فهو مطلب مهمّ أيضاً ولكنه رغبة عظيمة؛ فمن وُفّق لها فقد نال مقاماً شامخاً وشرفاً رفيعاً، ولكنّها ليست الوظيفة.
إنّه لشرف كبير وكرامة عظيمة أن يلتقي الإنسان بإمامه (عليه السلام) عن قرب ويقبّل يده، وهذا لا شكّ فيه ولا شبهة، ولكن هل هذا هو ما يريده الإمام منّا؟ وهل هذا هو واجبنا؟
الواجب مقدّم على الرغبة
وهو تعلّم الإسلام والعمل به وتعليمه، صحيح أنّ الذين وفّقوا أو سيوفّقون أو هم موفّقون لنيل هذا الشرف العظيم بلقاء الإمام الحجّة (عجل الله تعالى فرجه الشريف) وزيارته في الغيبة الكبرى، هم ـ في الغالب وحسب القاعدة ـ ممّن يعرفون الواجب ويعملون به، وإلاّ لما حصلوا على هذا الشرف، ولكن هذا ـ أي الطموح للقائه (عجل الله تعالى فرجه الشريف) ـ ليس هو الواجب، بل من الأفضل أن نجمع بينهما، وإلاّ فإنّ الواجب مقدّم على الرغبة، والواجب هو معرفة الواجبات الشرعية والعمل بها وتشخيص المحرّمات والاجتناب عنها، تجاه النفس والآخرين، وتعليم الجاهلين كلّ حسب قدرته ومعرفته، والسعي لكسب المزيد من المعرفة على هذا الطريق.
إنّ المسؤولية هي تعلّم الإسلام والعمل به وتعليمه، وتقع على عاتق كلّ فرد، سواء كان رجلاً أو امرأة، زوجاً أو زوجة، أولاداً أو آباءً وأمّهات، أساتذة أو تلاميذ، وباعة أو مشترين، ومؤجّرين أو مستأجرين، وجيراناً أو أرحاماً، وفي كلّ الظروف والأحوال.
على كلّ فرد منّا أن ينظر ما هي وظيفته تجاه نفسه وتجاه الآخرين؛ وما هي الواجبات المترتّبة عليه، وما هي المحرّمات التي يجب عليه الانتهاء عنها.
وعلى كلّ فرد منّا أن يعرف ما هي الواجبات بحقّه وما هي المحرّمات عليه. فعلى الزوج أن يعرف واجباته تجاه نفسه وتجاه عائلته وتجاه الآخرين، وكذا المرأة عليها أن تسعى لمعرفة ما يجب عليها تجاه زوجها وأولادها والمجتمع. وهكذا الأولاد تجاه والديهم والوالدين تجاه الأبناء، وكذا الإخوة فيما بينهم، وهكذا الجيران والأرحام والمتعاملون بعضهم مع بعض.
إنّ الواجب هو أن يعرف الإنسان أحكامه ـ ولا أقلّ من الواجبات والمحرّمات ـ ثم يلتزم بها. وعلى رأس الواجبات معرفة المولى صاحب العصر والزمان (أرواحنا فداه وعجّل الله تعالى فرجه الشريف). وهذا واجب الجميع فإنّه (مَن مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية)(18).
ولكي لا يموت أحدنا بحكم الكافر، عليه أن يعرف ما هي واجباته وما هي المحرّمات عليه، فيما يخصّ العقائد والعمل، لنفسه وللآخرين.
يقول الفقهاء: إنّ على كلّ شخص أن يسعى للحصول على ملَكة العدالة في نفسه، وهذا من المسلّمات، وهو ـ على حدّ التعبير العلمي ـ مقدّمة وجود الواجب المطلق.
إذن على كلّ فرد منّا سواء كان رجلاً أو امرأة، شاباً أو شيخاً، أن يحصل على ملَكة تحصّنه من ارتكاب المحرّمات أو التخلّف عن الواجبات، ثمّ عليه بتعليم الآخرين حسب مقدرته ومعرفته.
أمّا ما لا يعرفه فيلتعلّمه إن كان يستطيع ذلك، ثمّ يعلّمه للآخرين، فإنّ نسبة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى العلم هي نسبة الواجب المطلق، وليس المشروط، ولكنّه واجب كفائي، فإذا لم يكن مَن فيه الكفاية صار واجباً عينياً أيضاً. أي أنّ على كلّ شخص مكلّف أن يتعلّم الواجبات والمحرّمات التي عليه وعلى الآخرين للعمل بها وتعليمها والأمر بها للوصول إلى حدّ تتحقّق فيه الكفاية. فهذا هو الواجب، وهذا ما يسرّ الإمام الحجّة (عجل الله تعالى فرجه الشريف)، ويجعله يرضى عنّا. فإنّ مَن أدّى واجبه بصورة صحيحة كان مرضيّاً عند الإمام (سلام الله عليه) أمّا مَن لم يؤدِّ واجبه فليس بمرضيّ عنده.
الشيخ المفيد(رحمه الله)
نال أوسمة من الحجّة لم ينل مثلها أحد
لو راجعتم كلّ ما وصلنا من عبارات المدح والتقريظ من الإمام الحجّة (صلوات الله وسلامه عليه وعلى آبائه الطاهرين) بشأن جملة من الأفراد، وخاصّة نوّابه الأربعة الخاصّين، والسفراء الآخرين ووكلائه(19) قد لا تجدون في كلّ كلمات المديح والتقريظ التي تفضّل بها الإمام (عليه السلام) بحقّ هؤلاء الأشخاص ما يرتقي لمستوى ما قاله (سلام الله عليه) بحق الشيخ المفيد (رحمه الله)؟
ينقل العلاّمة المجلسي في كتابه "بحار الأنوار" رسالتين عن الإمام الحجّة (سلام الله عليه) إلى الشيخ المفيد(20) يذكر فيهما بعض المطالب التي في بعضها إشارة بالمدح للشيخ المفيد، وهذا المدح قد لا تجدون لـه نظيراً حتّى في حقّ نوّابه الخاصّين وهم الحسين بن روح والسمري والعمريّان.
إننا نلمس تقريظاً من خلال هاتين الرسالتين والعبائر الأخرى التي نُقلت عنه (سلام الله عليه) بحقّ المفيد ما لا نلمسه ـ من حيث المجموع ـ بحقّ أيّ شخصية أخرى على الإطلاق، ممّن تشرّفوا بلقاء الحجّة (سلام الله عليه).
فمما ورد في إحدى هاتين الرسالتين الموجّهتين للشيخ المفيد (رحمه الله) قوله (عجل الله تعالى فرجه الشريف):
للأخ السديد، والولي الرشيد، الشيخ المفيد، أبي عبد الله محمد بن محمد النعمان (أدام الله إعزازه) من مستودع العهد المأخوذ على العباد.
بسم الله الرحمن الرحيم
أما بعد: سلام عليك أيها المولى المخلص في الدين، المخصوص فينا باليقين، فإنا نحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، ونسأله الصلاة على سيدنا ومولانا ونبينا محمد وآله الطاهرين، ونعلمك ـ أدام الله توفيقك لنصرة الحق، وأجزل مثوبتك على نطقك عنا بالصدق ـ : أنه قد أُذن لنا في تشريفك بالمكاتبة، وتكليفك ما تؤديه عنا إلى موالينا قبلك ـ أعزهم الله بطاعته، وكفاهم المهمّ برعايته لهم وحراسته ـ فقف ـ أيّدك الله بعونه على أعدائه المارقين من دينه ـ على ما نذكره، واعمل في تأديته إلى من تسكن إليه بما نرسمه إن شاء الله.
نحن وإن كنا ثاوين بمكاننا النائي عن مساكن الظالمين حسب الذي أراناه الله تعالى لنا من الصلاح ولشيعتنا المؤمنين في ذلك ما دامت دولة الدنيا للفاسقين، فإنّا نحيط علماً بأنبائكم، ولا يعزب عنّا شي ء من أخباركم، ومعرفتنا بالذلّ الذي أصابكم مذ جنح كثير منكم إلى ما كان السلف الصالح عنه شاسعاً، ونبذوا العهد المأخوذ منهم وراء ظهورهم كأنهم لايعلمون.
إنّا غير مهملين لمراعاتكم، ولا ناسين لذكركم، ولولا ذلك لنزل بكم اللأواء واصطلمكم الأعداء، فاتقوا الله جل جلاله وظاهرونا على انتياشكم من فتنة قد أنافت عليكم يهلك فيها من حمّ أجله ويحمى عنها من أدرك أمله، وهي أمارة لأزوف حركتنا ومبائتكم بأمرنا ونهينا، والله متمّ نوره ولو كره المشركون ... والله يلهمكم الرشد، ويلطف لكم في التوفيق برحمته.
نسخة التوقيع باليد العليا، على صاحبها السلام:
هذا كتابنا عليك أيها الأخ الولي، والمخلص في ودّنا الصفي، والناصر لنا الوفي، حرسك الله بعينه التي لا تنام، فاحتفظ به، ولا تظهر على خطنا الذي سطرناه بما لـه ضمناً أحدا، وأدّ ما فيه إلى من تسكن إليه، وأوص جماعتهم بالعمل عليه إن شاء الله، وصلى الله على محمد وآله الطاهرين (21).
أقول: إنّه لشرف كبير ومصدر فخر واعتزاز أن يمثل الشخص بين يدي الإمام (عليه السلام) ويكون في حضرته؛ يزوره عياناً ويتشرّف برؤيته وتقبيل يده. فهنيئاً ـ وألف هنيئاً ـ لأمثال الحاجّ عليّ البغدادي والسيّد بحر العلوم وغيرهما ممّن نالوا هذا الشرف الكبير وهذا المجد الرفيع وهذه الكرامة. ولكن ـ اعلموا أيّها الإخوان ـ إنّ هذا ليس هو الواجب فإنّه لم يبلغنا عن الشيخ المفيد (رحمه الله) أنّه التقى بالحجّة ـ لا يُعرف ما هو السبب، وربما التقاه ولم يصلنا خبره ـ ولكنّه مع ذلك نال هذه الأوسمة منه (سلام الله عليه).
بمقدار ما نعمل بواجبنا يرضى عنّا الحجّة
على كلّ حال إنّ مسؤوليتنا هي التي يرضى بها الإمام (عليه السلام) عنّا إن نحن عملنا بها، وإذا أردنا أن نعرف نسبة رضاه عنّا فلنفكّر مع أنفسنا في مدى معرفتنا للواجب والمسؤولية والعمل بهما ـ تجاه أنفسنا والآخرين، أقرباء وأرحاماً وسواهم ـ هذه أهم مسألة وواجب يتحتّم علينا عمله في عصر الغيبة، وإنّ الدرجات التي تُمنح في الآخرة ستكون على هذا الأساس أيضاً.
نسأل الله أن نبقى أحياء حتّى ندرك ظهور الحجة (عجل الله تعالى فرجه الشريف)، ونكون في خدمته وفي ركابه، ولكن اعلموا أنّه حتّى درجات ذلك اليوم تعطى على أساس دورنا وعملنا وإنجاز وظيفتنا اليوم.
أويس القرني أفضل من كثير من الصحابة!
ولتكن لنا في أويس القرني قدوة وعبرة، فإنّ هذا العبد الصالح لم يوفّق لأن يدرك الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، مع أنّه كان في عصره، فقد كان يعيش في اليمن، وعندما توجّه منها إلى المدينة لرؤية الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وزيارته لم يدركه الوقت، فحينها كان (صلى الله عليه وآله وسلم) قد استشهد. وتأثّر أويس لذلك كثيراً. ولكن هل تعلمون أنّ أويساً هذا مقدّم على كثير ممّن صحبوا الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)؟
فإذا أردتم التحقّق من ذلك فانظروا إلى سيرته:
يُنقل أنّه كان أحد الأشخاص يسبّ أويساً كلّما مرّ به أو التقاه. وفي إحدى المرّات رآه أويس يقبل من بعيد فغيّر طريقه.
ـ ربّما كثير من الناس يتجنّب المواجهة مع مَن يريد سبّه، لأنّه قد تتوتّر أعصابه أو يراق ماء وجهه بين الناس. ولكن أويساً لم يغيّر طريقه لهذه الأسباب ـ وعندما سألوه عن السبب أجاب قائلاً: لئلاّ يقع ذلك الشخص (السابّ) في المعصية(22).
إذن فلنقتد بمثل هذه النماذج الخيّرة لننال ـ إن شاء الله تعالى ـ رضا الله تعالى ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأئمّتنا الطاهرين (عليهم السلام) لاسيما مولانا الإمام الحجّة المنتظر (عجل الله تعالى فرجه الشريف).
ختاماً: ونحن في عصر الغيبة إن أردنا أن نكسب رضا مولانا صاحب العصر والزمان (عجل الله تعالى فرجه الشريف)، فعلينا أن ندرك أنّ هذا الأمر يرتبط ارتباطاً وثيقاً وأكيداً بمدى معرفتنا للمسؤولية والواجب الملقى علينا ليتسنّى لنا العمل بهما.
أرجو من الله تعالى ببركة هذه الأيام، وببركة ميلاد الإمام ووجوده المقدّس وآبائه الطاهرين (سلام الله عليهم أجمعين)، أن يزيد في توفيق مَن كانت عنده هذه الخصلة ـ أي معرفة الواجب في عصر الغيبة ـ وأن يمنحها لمَن يفتقدها.
وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرين.
ــــــــــــــــــ
(1) ألقيت هذه المحاضرة في ليلة النصف من شعبان عام 1423هـ، ذكرى ميلاد منقذ البشرية الإمام المنتظر (عجل الله تعالى فرجه).
(2) رجال الكشي: ص266 - 267، عنه بحار الأنوار: ج23 ص89 ح 35، باب وجوب معرفة الإمام.
(3) هناك أشخاص تضخّمت عندهم قوة التخيّل حتّى صاروا ينسبون كلّ شيء إلى الخيال وينكرون الوجدانيات والأمور المتعلّقة بالعلم الوجداني كالمتواترات؛ فلا شيء عندهم يسمى العلم؛ وإنكارهم لوجود المولى صاحب الزمان من هذا القبيل، أي هو إنكار للوجدانيات والمتواترات. (عنه، دام ظلّه).
(4) سورة النحل: 125.
(5) بحار الأنوار: ج99 ص102 باب زيارة الإمام الحجة بن الحسن(عليه السلام).
(6) بحار الأنوار: ج47 ص54 ح 92 ـ باب 3 النص عليه (عليه السلام).
(7) بحار الأنوار: ج53 ص353 باب 27 سيره وأخلاقه.
(8) بحار الأنوار: ج34 ص261 ب63 ح16.
(9) وذلك في حروبه التي فرضت عليه من الجمل وصفين والنهروان.
والميلغ، والميلغة والجمع مبالغ: الإناء يلغ فيه الكلب أو يسقى فيه. وكان الناس آنذاك إذا كسرت كيزان الماء الخزفية لم يرموا بكعوبها بل يتّخذون منها أوعية للماء الذي تلغ فيه الكلاب.
وقد روي أنه بعث النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) خالد بن الوليد على صدقات بني المصطلق حيّ من خزاعة، وكان بينه وبينهم في الجاهلية ذحل فأوقع بهم خالد فقتل منهم، واستاق أموالهم، فبلغ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ما فعل فقال : "اللّهمّ أبرأ إليك ممّا صنع خالد" وبعث إليهم عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) بمال وأمره أن يؤدي إليهم ديات رجالهم وما ذهب لهم من أموالهم، وبقيت معه من المال زعبة، فقال لهم: هل تفقدون شيئاً من متاعكم؟ فقالوا: ما نفقد شيئاً إلاّ ميلغة كلابنا، فدفع إليهم ما بقي من المال فقال: هذا لميلغة كلابكم، وما أنسيتم من متاعكم، وأقبل إلى النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: ما صنعت؟ فأخبره بخبره حتّى أتى على حديثه فقال النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم): أرضيتني رضي الله عنك يا عليّ أنت هادي أمّتي، ألا إنّ السعيد كلّ السعيد مَن أحبّك وأخذ بطريقتك، ألا إنّ الشقي كلّ الشقي من خالفك ورغب عن طريقك إلى يوم القيامة. بحار الأنوار : ج21 ص143 ح6 ذكر الحوادث بعد فتح مكّة.
(10) بحار الأنوار: ج47 ص54 ح92 ب3 النص عليه صلوات الله عليه.
(11) الكافي: ج1 ص410 ح2 باب سيرة الإمام (عليه السلام) في نفسه وفي المطعم...
(12) نهج البلاغة: رقم209 من كلامه (عليه السلام) بالبصرة وقد دخل على العلاء بن زياد الحارثي يعوده.
(13) الغارات لابن هلال الثقفي: ص62.
(14) نهج البلاغة، من كتاب لـه ( إلى واليه على البصرة عثمان بن حنيف.
(15) مستدرك الوسائل: ج11 ص80 ب31 ح12471.
(16) كمال الدين: ج2 ص675، الخرائج والجرائح: ج2 ص840.
(17) سورة الفتح: 10.
(18) بحار الأنوار: ج23 ص89 ح35 باب وجوب معرفة الإمام.
(19) إنّ السفراء هم غير النوّاب الأربعة، فقد سمي غير هؤلاء الأربعة سفراء وإن أُطلق عليهم أيضاً، فهم السفراء المطلقون، وكان هناك للإمام سفراء محدّدون كمَن كاتبوا الإمام (سلام الله عليه) وأجابهم، وثمّة بعض الكتب التي كتبها الإمام ابتداءً لبعض أصحاب أبيه وجدّه عليهم السلام (عنه،حفظه الله).
(20) قال المجلسي وآخرون: إنّ هذه الرسائل كانت ثلاثاً ضاعت واحدة منها ولم تصلنا (عنه حفظه الله).
(21) الاحتجاج للطبرسي: ج2 ص318 ـ324، توقيعات الناحية المقدّسة.
(22) انظر تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: ج9 ص421.