ان اول مرحلة من مراحل الاخرة هو الموت , وقد قال سبحانه في وصفه :
(وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد) (ق / 19).
اي جاءت غشية الموت وشدته التي تغلب على عقل الانسان , ذلك الموت الذي كنت تهرب منه .
وقال تعالى :
(قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم ثم الى ربكم ترجعون ) (السجدة / 11).
ولا مـنافاة بين قوله تعالى هذا وقوله : (اللّه يتوفى الانفس ) (الزمر 42), وقوله تعالى : (تتوفاهم الملائكة ) (النحل 28 و32), و(توفته .
رسلنا) (الانعام 61).
فان الملائكة هم رسل اللّه وهم اعوان ملك الموت في قبض الارواح , وكلهم يقبضون الروح بامر اللّه اذا فان اللّه هو يتوفى الانفس حين يامر الملائكة بذلك ((151)) .
ابـتـداءا مـن هذه المرحلة من مراحل الاخرة ينتهي تمكن الانسان من العمل الذي كان ميسرا له في الحياة الدنيا ويبدا بتلقي جزاء عمله , ومما يجزي في بدء هذه المرحلة ما رواه الصدوق بسنده عن رسول اللّه (ص ) انه قال : (صوم رجب يهون سكرات الموت ) ((152)) .
وتنقسم حال الانسان في هذه المرحلة بحسب عمله الى صنفين , كما اخبر سبحانه وقال :
(فـاما ان كان من المقربين فروح وريحان وجنت نعيم واما ان كان من اصحاب اليمين فسلام لك من اصـحـاب اليمين واما ان كان من المكذبين الضالين فنزل من حميم وتصلية جحيم ) (الواقعة 88 ـ 94).
واخبر تعالى عما يتلقاه الصنف الاول وقال :
(يـا ايـتـهـا الـنفس المطمئنة ارجعي الى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي ) (الفجر 27 ـ 30).
واخبر عن الصنف الثاني وهم الذين ظلموا انفسهم في الحياة الدنيا وقال تبارك وتعالى :
(قـل اللّه م مالك الملك توتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الـخـيـر انك على كل شي ء قدير تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي وترزق من تشاء بغير حساب ) (الايتان 26 ـ 27).
ما هي مشيئة اللّه في امر الرزق ؟.
لـقـد مر بنا في بحث (جزاء الاعمال ) ان اللّه سبحانه وتعالى جعل توسعة الرزق في صلة الرحم , وجعل الولد يرث اثر صلاح ابيه , كما مر بنا في خبر موسى والعبد الصالح عندما بنى جدارا يريد ان يـنـقض ليبقى الكنز المدفون لليتيمين لان اباهما كان صالحا وليستخرجاه عندما يبلغان اشدهما, وهذان مثلان لمشيئة اللّه في امر الرزق وانها تجري وفق سنن لا تتبدل .
ثالثا ـ مشيئة اللّه في الهداية :
ياتي ذكر هداية الانسان في القرآن بمعنيين :
1 ـ بمعنى تعليم الانسان عقائد الاسلام واحكامه :
ويسنده القرآن غالبا الى الانبياء الذين بعثهم اللّه لتبليغ الانسان عقائد الاسلام واحكامه .
واحيانا يسنده الى اللّه جل اسمه لانه الذي ارسل الانبياء بدين الاسلام .
2 ـ بمعنى توفيق اللّه الانسان الى الايمان بعقائد الاسلام والعمل باحكامه وهذا ما يسنده القرآن الى اللّه وحده , تارة مع وصف ان هذه الهداية من مشيئة اللّه , واخرى بدون ذكر مشيئة اللّه .
وفي ما ياتي امثلة من مواردها في القرآن الكريم :
وقـد اشـتـرط اللّه لـهذا النوع من الهداية ان يرضاها الناس ويختاروها ويباشروا العمل من اجل الوصول اليها كما ياتي بيانها في ثلاثة بحوث بحوله تعالى .
ا ـ الهداية بمعنى التعليم :
اسند القرآن هداية الناس بمعنى تبليغ الاسلام الى الانبياء في موارد منها الايات الاتية :
ا ـ في سورة الشورى :
(وانـك لـتهدي الى صراط مستقيم صراط اللّه الذي له ما في السموات وما في الارض الا الى اللّه تصير الامور) (الايتان 52 ـ 53).
واحيانا ياتي اسناد عن الانبياء في الهداية الى اللّه تعالى كما قال سبحانه :
1 ـ في سورة الانبياء:
(وجعلناهم ائمة يهدون بامرنا) (الاية 73).
2 ـ في سورة الفتح :
(هو الذي ارسل رسوله بالهدى ودين الحق ) (الاية 28).
وبهذا المعنى ـ ايضا ـ اسندت الهداية الى الكتب السماوية مثل قوله تعالى :
1 ـ في سورة البقرة :
(شهر رمضان الذي انزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان ) (الاية 185).
2 ـ في سورة آل عمران :
(وانزل التوراة والانجيل من قبل هدى للناس ) (الايتان 3 ـ 4).
وقد ياتي في القرآن اسناد الهداية التعليمية الى اللّه جل اسمه مثل قوله تعالى :
1 ـ في سورة البلد في صوف الانسان :
(الم نجعل له عينين ولسانا وشفتين وهديناه النجدين ) (الايتان 8 ـ 10).
2 ـ في سورة فصلت :
(واما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى ) (الاية 17).
اذا فـان اللّه تـبـارك وتـعالى يسند الهداية بمعنى تعليم الاسلام الى انبيائه وكتبه تارة , والى نفسه تـبـارك وتعالى تارة اخرى , لانه الذي ارسل الرسل بتلك الكتب لتعليم الناس , ثم ياتي بعد ذلك دور الانسان في قبول الهداية او رفضها كالاتي بيانه بحوله تعالى .
ب ـ اختيار الانسان الهداية او الضلالة وآثارهما:
بعد ارسال اللّه الانبياء بالكتب الى الناس فان الناس ينقسمون الى فريقين : فريق يختارون الهداية على الـضـلالـة , وفريق يختارون الضلالة على الهداية كما اخبر اللّه سبحانه وتعالى عنهم في الايات الاتية وقال عز اسمه :
1 ـ في سورة النمل :
(وان اتلو القرآن فمن اهتدى فانما يهتدي لنفسه ومن ضل فقل انما انا من المنذرين ) (الاية 92).
2 ـ في سورة يونس :
(قل يا ايها الناس قد جاءكم الحق من ربكم فمن اهتدى فانما يهتدي لنفسه ومن ضل فانما يضل عليها وما انا عليكم بوكيل ) (الاية 108).
ونظيرها في سورة الاسراء (15).
وياتي بعد ذلك توفيق اللّه سبحانه وتعالى للمهتدي , كما اخبر اللّه عز اسمه وقال :
1 ـ في سورة مريم :
(ويزيد اللّه الذين اهتدوا هدى ) (الاية 76).
2 ـ في سورة محمد:
(والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم ) (الاية 17).
انـ الـذيـن اخـتاروا الهداية بعد ارسال الرسل , وجاهدوا في سبيل اللّه , استحقوا توفيق اللّه لهم , والـذيـن كـذبوا الرسول واتبعوا هوى النفس حقت عليهم الضلالة , كما اخبر اللّه سبحانه وتعالى عنهما وقال :
1 ـ في سورة العنكبوت :
(والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وان اللّه لمع المحسنين ) (الاية 69).
2 ـ في سورة النحل :
(ولقد بعثنا في كل امة رسولا ان اعبدوا اللّه واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى اللّه ومنهم من حقت عـليه الضلالة فسيروا في الارض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين ان تحرص على هداهم فان اللّه لا يهدي من يضل ومالهم من ناصرين واقسموا باللّه جهد ايمانهم لايبعث اللّه من يموت ) (الايات 36 ـ 42).
3 ـ في سورة الاعراف :
(فـريـقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة انهم اتخذوا الشياطين اولياء من دون اللّه ويحسبون انهم مهتدون ) (الاية 30).
وهذا النوع من الهداية هي التي تاتي بمشيئة اللّه , كما ياتي بيانه بحوله تعالى .
ج ـ الهداية بمعنى توفيق الايمان والعمل مسندة الى مشيئة اللّه .
جاء ذكر الهداية بمعنى توفيق الايمان والعمل مسنده الى مشية اللّه في قوله تعالى :
1 ـ في سورة البقرة :
(واللّه يهدي من يشاء الى صراط مستقيم ) (البقرة 142 و213) و(النور 46) و(يونس 25).
2 ـ في سورة الانعام :
( من يشا اللّه يضلله ومن يشا يجعله على صراط مستقيم ) (الاية 39).
3 ـ في سورة القصص :
(انك لا تهدي من احببت ولكن اللّه يهدي من يشاء, وهو اعلم بالمهتدين ) (الاية 56).
شرح الكلمات .
صراط مستقيم :
الصراط من السبيل الواضح والمستقيم بلا التواء فيه .
والصراط المستقيم من امر الدين ما شرحه اللّه تعالى في سورة الفاتحة وقال :
(صراط الذين انعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين ) (الاية 7).
عليهم وقد بين اللّه تعالى من انعم علهيم في سورة مريم وقال بعد ذكره خبر زكريا ويحيى ومريم وعـيسى (ع ): واذكر في الكتاب ابراهيم واذكر في الكتاب موسى و اسماعيل و ادريس ) ثم قال تعالى :
(اولئك الذين انعم اللّه عليهم من النبيين وممن هدينا واجتبينا) (مريم 1 و63).
وصراطهم هو دين الاسلام الذي كانوا يدعون اليه , وسيرتهم في عملهم بالاسلام .
والمغضوب عليهم هم اليهود خاصة كما وصفهم اللّه تبارك وتعالى في سورة البقرة وقال عز اسمه :
(وضـربت عليهم الذلة والمسكنة وباءوا بغضب من اللّه ذلك بانهم كانوا يكفرون بيات اللّه ويقتلون النبيين بغير الحق ذلك بما.
عصوا وكانوا يعتدون ) (الاية 61).
وكذلك في سورة آل عمران الاية (112).
و(ولا الـضالين ) الضالون هم الذين لا يتخذون الاسلام دينا كافة كما صرح بذلك تبارك وتعالى في سورة آل عمران وقال عز من قائل :
(ومن يبتغ غير الاسلام دينا فلن يقبل منه واولئك هم الضالون ) (الايات 85 ـ 90).
يهدي : راجع شرحه في بحث هداية رب العالمين للاصناف الاربعة من الخلق .
رابعا ـ مشيئة اللّه في العذاب والرحمة :
قد جاء ذكر مشيئة اللّه في العذاب والرحمة في موارد من القرآن الكريم منها الايات الاتية :
ا ـ في سورة الاعراف حكاية قول كليم اللّه موسى (ع ):
(واكـتـب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الاخرة انا هدنا اليك قال عذابي اصيب به من اشاء ورحمتي وسـعت كل شي ء فساكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بياتنا يؤمنون الذين يتبعون الرسول الـنبي الامي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والانجيل يامرهم بالمعروف ويناهم عن المنكر ويـحـل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم اصرهم والاغلال التي كانت عليهم فالذين آمـنـوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي انزل معه اولئك هم المفلحون ) (الايتان 156 ـ 157).
ب ـ في سورة الانبياء:
(اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون ما ياتيهم من ذكر من ربهم محدث الا استمعوه وهم يـلـعبون لاهية قلوبهم واسروا النجوى الذين ظلموا هل هذا الا بشر مثلكم افتاتون السحر وانتم تـبـصـرون قـال ربي يعلم القول في السماء والارض وهو السميع العليم بل قالوا اضغاث احلام بل افتراه بل هو شاعر فلياتنا بية كما ارسل الاولون ما آمنت قبلهم من قرية اهلكناها افهم يؤمنون .
وما ارسلنا قبلك الا رجالا نوحي اليهم فسئلوا اهل الذكر ان كنتم لا تعلمون وما جعلناهم جسدا لا يـاكـلـون الـطعام وما كانوا خالدين ثم صدقناهم الوعد فانجيناهم ومن نشاء واهلكنا المسرفين لقد انزلنا اليكم كتابا فيه ذكركم افلا تعقلون ) (الايات 1 ـ 10).
ج ـ في سورة الاسراء:
(من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا ومن اراد الاخـرة وسـعـى لها سعيها وهو مؤمن فاولئك كان سعيهم مشكورا كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محضورا) (الايات 18 ـ20).
د ـ في سورة الانسان :
(انـ هـؤلاء يحبون العاجلة ويذرون وراءهم يوما ثقيلا ان هذه تذكرة فمن شاء اتخذ الى ربه سبيلا ومـا تشاءون الا ان يشاء اللّه ان اللّه كان عليما حكيما يدخل من يشاء في رحمته والظالمين اعد لهم عذابا اليما) (الايات 27 ـ 31).
كان ذلك معنى مشيئة اللّه رب العالمين , ومن صفات اللّه تعالى انه يمحو ما يشاء ويثبت كما ياتي معناه في البحث الاتي باذنه تعالى .
(17).
البداء او يمحو اللّه مايشاء ويثبت
1 ـ معنى البداء.
ب ـ البداء في مصطلحات علماء العقائد الاسلامية .
ج ـ البداء في القرآن .
د ـ روايات مدرسة الخلفاء في البداء.
هـ ـ روايات ائمة اهل البيت (ع ) في البداء.
اولا ـ البداء في اللغة .
للبداء في اللغة معنيان :
ا ـ بدا الامر بدوا وبداء: ظهر ظهورا بينا.
ب ـ بدا له في الامر كذا: جد له فيه راي , نشا له فيه راي .
ثانيا ـ البداء في مصطلح علماء العقائد الاسلامية :
بدا اللّه في امر اي ظهر له في ذلك الامر ما كان خافيا على العباد.
واخـطـا مـن ظن ان المقصود من بدا للّه في بداء جد له في ذلك الامر غير الامر الذي كان له قبل البدا, تعالى اللّه عن ذلك علوا كبيرا.
ثالثا ـ البداء في القرآن :
ا ـ قال اللّه تعالى في سورة الرعد:
(ويقول الذين كفروا لولا انزل عليه آية من ربه ) (الايتان 7 و27).
ثم قال تعالى :
(وما كان لرسول ان ياتي بيتة الا باذن اللّه لكل اجل كتاب يمحو اللّه ما يشاء ويثبت وعنده ام الكتاب وان ما نرينك بعض .
الذي نعدهم او نتوفينك فانما عليك البلاغ وعلينا الحساب ) (الايات 38 ـ 40).
شرح الكلمات .
1 ـ آية :
الاية في اللغة : العلامة الظاهرة كما قال الشاعر:
وفـي كـل شـي ء لـه آية تدل على انه واحد وسميت معجزات الانبياء آية لانها علامة على صدقهم وعـلى قدرة اللّه الذي مكنهم من الاتيان بتلك المعجزة , مثل عصا موسى وناقة صالح , كما جاءت في الاية (67) من سورة الشعراء والاية (73) من سورة الاعراف .
وكـذلك سمى القرآن انواع العذاب الذي انزله اللّه على الامم الكافرة بالاية والايات , كقوله تعالى في سورة الشعراء عن قوم نوح :
(ثم اغرقنا بعد الباقين ان في ذلك لاية ) (الايتان 120 ـ 121).
وعن قوم هود:
(فكذبوه فاهلكناهم ان في ذلك لاية ) (الاية 139).
وعن قوم فرعون في سورة الاعراف :
(فارسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات ) (الاية 133).
2 ـ اجل :
الاجل : مدة الشي ء والوقت الذي يحدد لحلول امر وانتهائه , يقال : جاء اجله اذا حان موته , وضربت له اجلا: اي وقتا محدودا لعمله .
3 ـ كتاب :
لـلـكـتاب معان , متعددة , والمقصود منها هنا: مقدار مكتوب او مقدر, ويكون معنى (لكل اجل كتاب ): لوقت اتيان الرسول بية زمان مقدر معين .
4 ـ يمحو:
محاه في اللغة : ازاله وابطله , او ازال اثره مثل قوله تعالى :
ا ـ في سورة الاسراء:
(فمحونا آية الليل وجعلناه آية النهار مبصرة ) (الاية 12).
وآية الليل هي الليل , ومحو الليل : ازالته .
ب ـ في سورة الشورى :
(ويمح اللّه الباطل ويحق الحق بكلماته ) (الاية 24).
اي يذهب بثار الباطل .
تفسير الايات .
اخبر اللّه سبحانه وتعالى في هذه الايات ان كفار قريش طلبوا من رسول اللّه (ص ) ان ياتيهم بيات , كما بين طلبهم ذلك في قوله تعالى في سورة الاسراء:
(وقـالـوا لـن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الارض ينبوعا او تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا او تاتي باللّه والملائكة قبيلا).
(الايتان 90 و92).
وقال في الاية (38) من سورة الرعد: (وما كان لرسول ان ياتي بية ) مقترحة عليه (الا باذن اللّه ) وان لكل امر وقتا محددا سجل .
في كتاب .
واسـتثنى منه في الاية بعدها وقال : (يمحوا اللّه ما يشاء) من ذلك الكتاب ما كان مكتوبا فيه من رزق واجل وسعادة وشقاء وغيرها (ويثبت مايشا) مما لم يكن مكتوبا في ذلك الكتاب (وعنده ام الكتاب ) اي اصل الكتاب وهو اللوح المحفوظ الذي لا يتغير ما فيه ولا يبدل .
وبـنـاء على ذلك قال بعدها: (وان ما نرينك بعض الذي نعدهم ) من العذاب في حياتك (او نتوفينك ) قـبل ذلك (فانما عليك البلاغ ) فحسب ويدل على ما ذكرناه ما رواه الطبري والقرطبي وابن كثير في تفسير الاية وقالوا ما موجزه :
ان الخليفة عمر بن الخطاب كان يطوف بالبيت ويقول : اللّه م ان كنت كتبتني في اهل السعادة فاثبتني فـيـهـا, وان كنت كتبتني في اهل الشقاوة والذنب فامحني واثبتني في اهل السعادة والمغفرة , فانك تمحو ما تشاء وتثبت , وعندك ام الكتاب .
وروي عن الصحابي ابن مسعود انه كان يقول :
اللّه م ان كـنـت كـتبتني في السعداء فاثبتني فيهم , وان كنت كتبتني في الاشقياء فامحني من الاشقياء واكتبني في السعداء, فانك تمحو ما تشاء وتثبت , وعندك ام الكتاب .
وروي عـن ابـي وائل انه كان يكثر ان يدعو: اللّه م ان كنت كتبتنا اشقياء فامح واكتبنا سعداء, وان كنت كتبتنا سعداء فاثبتنا, فانك تمحو ما تشاء وتثبت وعندك ام الكتاب ((207)) .
وفـي الـبـحار: وان كنت من الاشقياء فامحني من الاشقياء واكتبني من السعداء, فانك قلت في كتابك المنزل , على نبيك صلواتك عليه وآله : (يمحو اللّه ما يشاء ويثبت وعنده ام الكتاب ) ((208)) .
واسـتدل القرطبي ـ ايضا ـ على هذا التاويل بما روى عن صحيحي البخاري ومسلم ان رسول اللّه (ص ) قال :
(من سره ان يبسط له في رزقه وينساله في اثره ـ اجله ـ فليصل رحمه ).
وفي رواية : (من احب ان يمد اللّه في عمره ويبسط له رزقه فليتق اللّه وليصل رحمه ) ((209)) .
ونـقـل عـن ابن عباس انه قال في جواب من ساله وقال : كيف يزاد في العمر والاجل ؟ قال اللّه عز وجل : (هو الذي خلقكم من طين ثم قضى اجلا واجل مسمى عنده ) فالاجل الاول اجل العبد من حين ولادته الى حين موته , والاجل الثاني ـ يعني المسمى عنده ـ من حين وفاته الى يوم يلقاه في البرزخ لا يعلمه الا اللّه , فاذا اتقى العبد ربه ووصل رحمه , زاده اللّه في اجل عمره الاول من اجل البرزخ ما شاء, واذا عصى وقطع رحمه , نقصه اللّه من اجل عمره في الدنيا ما شاء, فيزيده من اجل البرزخ الحديث ((210)) .
واضاف ابن كثير على هذا الاستدلال وقال ما موجزه :
وقد يستانس لهذا القول ما رواه احمد والنسائي وابن ماجة عن النبي (ص ) انه قال :
(انـ الـرجـل لـيـحـرم الـرزق بـالـذنب يصيبه ولا يرد القدر الا الدعاء ولا يزيد في العمر الا البر) ((211)) .
وقال : وفي حديث آخر:
(ان الدعاء والقضاء ليعتلجان بين السماء والارض ) ((212)) .
كـان مـا ذكـرناه وجها واحدا مما ذكروه في تاويل هذه الاية وذكروا معها وجوها اخر في تاويل الاية مثل قولهم :
ان الـمـراد محو حكم واثبات آخر, اي نسخ الاحكام , والصواب في القول , انه يعم الجميع وهذا ما اختاره القرطبي ـ ايضا ـ وقال :
( الاية عامة في جميع الاشياء وهو الا ظهر واللّه اعلم ) ((213)) .
وروى الـطـبـري والـسـيوطي عن ابن عباس في قوله تعالى (يمحو اللّه ما يشاء ويثبت وعنده ام الكتاب ) قال : يقدر اللّه امر السنة في ليلة القدر الا السعادة والشقاء ((214)) .
يـمـحـو اللّه ما يشاء ويثبت قال : من احد الكتابين هما كتابان يمحو اللّه من احدهما ويثبت وعنده ام الكتاب اي حملة الكتاب ((215)) .
ب ـ قال سبحانه وتعالى في سورة يونس :
(فلولا كانت قرية آمنت فنفعها ايمانها الا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم الى حين ) (الاية .
98).
شرح الكلمات .
ا ـ كشفنا:
كشف عنه الغم : ازاله , وكشف العذاب : ازاله .
ب ـ الخزي :
خزي خزيا: هان وافتضح .
ج ـ حين :
الحين : الوقت والمدة من غير تحديد في معناه بقلة او كثرة .
تفسير الاية .
قـصـة يونس بايجاز كما في تفسير الاية بتفسير الطبري والقرطبي ومجمع البيان ((216)) : ان قـوم يـونس كانوا بنينوى من ارض الموصل وكانوا يعبدون الاصنام , فارسل اللّه اليهم يونس (ع ) يـدعوهم الى الاسلام وترك ما هم عليه فابوا, وتبعه منهم عابد وشيخ من بقية علمائهم وكان العابد يشير على يونس بالدعاء عليهم والعالم ينهاه ويقول له : لا تدع عليهم فان اللّه يستجيب لك ولا يحب هـلاك عـبـاده فقبل يونس قول العابد فاخبر اللّه تعالى انه ياتيهم العذاب في شهر كذا في يوم كذا فاخبرهم يونس بذلك فلما قرب الوقت خرج يونس من بينهم مع العابد وبقي العالم فيهم وقال قومه :
لـم نـجـرب ـ يونس ـ عليه كذبا فانظروا فان بات فيكم الليلة فليس بشي ء وان لم يبت فاعلموا ان العذاب مصبحكم فلما كان في جوف .
الـلـيل خرج يونس من بين اظهرهم ولما علموا ذلك وراوا آثار العذاب وايقنوا بالهلاك ذهبوا الى الـعالم فقال لهم : افزعوا الى اللّه فانه يرحمكم ويرد العذاب عنكم , فاخرجوا الى المفازة وفرقوا بـيـن الـنساء والاولاد وبين سائر الحيوان واولادها ثم ابكوا وادعوا, ففعلوا خرجوا الى الصعيد بـانـفـسهم ونسائهم وصبيانهم ودوابهم ولبسوا المسوح واظهروا الايمان والتوبة واخلصوا النية وفـرقـوا بـين كل والدة وولدها من الناس والانعام , فحن بعضها الى بعض وعلت اصواتها واختلطت اصـواتـهـا بـاصـواتهم وتضرعوا الى اللّه عز وجل وقالوا آمنا بما جاء به يونس , فرحمهم ربهم واسـتـجاب دعاءهم وكشف عنهم العذاب بعدما اظلهم , بعد ان بلغ من توبتهم الى اللّه , ردوا المظالم بينهم حتى ان كان الرجل لياتي الحجر وقد وضع عليه اساس بنيانه فيقتلعه ويرده وكذلك محا اللّه العذاب عن قوم يونس بعد ان تابوا وكذلك يمحو اللّه ما يشاء ويثبت وعنده ام الكتاب .
ج ـ قال سبحانه وتعالى في سورة الاعراف :
(وواعدنا موسى ثلاثين ليلة واتممناها بعشر فتم ميقات ربه اربعين ليلة ) (الاية 142).
وقال في سورة البقرة :
(واذ واعدنا موسى اربعين ليلة ثم اتخذتم العجل من بعده وانتم ظالمون ) (الاية 51).
رابعا ـ البداء في روايات مدرسة الخلفاء:
روى الطيالسي واحمد وابن سعد والترمذي واللفظ للطيالسي بايجاز.
قال قال رسول اللّه (ص ):
ان اللّه ارى آدم ذريته فراى رجلا ازهر ساطعا نوره .
قال : يارب من هذا؟.
قال : هذا ابنك داود قال : يارب فما عمره ؟.
قال : ستون سنة قال : يارب زد في عمره قال : لا الا ان تزيده من عمرك قال : وما عمري ؟.
قال : الف سنة قال آدم : فقد وهبت له اربعين سنة من عمري .
فلما حضره الموت وجاءته الملائكة قال : قد بقي من عمري اربعون سنة .
قالوا: انك قد وهبتها لداود ((217)) .
هـذه الرواية بالاضافة الى ماسبق ايراده من اخبار آثار صلة الرحم ونظائرها بمدرسة الخلفاء من مصاديق (يمحو اللّه ما يشاء ويثبت وعنده ام الكتاب ).
وقد سمى ائمة اهل البيت (ع ) المحو والاثبات بالبداء كما سندرسه ان شاء اللّه تعالى في ما ياتي :
خامسا ـ البداء في روايات ائمة اهل البيت (ع ):
فـي الـبحار عن ابي عبد اللّه (الامام الصادق ) (ع ) قال : (ما بعث اللّه عز وجل نبيا حتى ياخذ عليه ثلاث خصال : الاقرار بالعبودية , وخلع الانداد, وان اللّه يقدم مايشاء ويؤخر مايشا) ((218)) .
وفـي روايـه اخـرى وصف الامام الصادق (ع ) هذا الامر بالمحو والاثبات وقال : (ما بعث نبيا قط حـتـى يـاخـذ عـلـيـه ثلاثا: الاقرار للّه بالعبودية وخلع الانداد, وان اللّه يمحو ما يشاء ويثبت ما يشا) ((219)) .
وفـي رواية ثالثة سمى المحو والاثبات بالبداء, وقال ما موجزه : (ما تنبا نبي قط حتى يقر للّه تعالى بالبداء) الحديث ((220)) .
وعن الامام الرضا (ع ) انه قال : (ما بعث نبيا قط الا بتحريم الخمر, وان يقر له بالبداء) ((221)) .
وفـي روايـة اخرى اخبر الامام الصادق (ع ) عن زمان المحو والاثبات وقال : (اذا كان ليلة القدر نـزلت الملائكة والروح والكتبة الى سماء الدنيا فيكتبون ما يكون من قضاء اللّه تعالى في تلك السنة فـاذا اراد اللّه ان يـقـدم شـيـئا او يؤخره او ينقص شيئا امر الملك ان يمحو ما يشاء ثم اثبت الذي اراد) ((222)) .
واخـبـر الامـام الباقر (ع ) عن ذلك وقال ما موجزه : (تنزل فيها الملائكة والكتبة الى سماء الدنيا فيكتبون ما هو كائن في امر السنة وما يصيب العباد فيها قال : وامر موقوف للّه فيه المشيئة يقدم منه ما يشاء ويؤخر ما يشاء, وهو قوله تعالى : يمحو اللّه ما يشاء ويثبت وعنده ام الكتاب ) ((223)) .
وفي حديث آخر له قال : (في قول اللّه : (ولن يؤخر اللّه نفسا اذا جاء اجلها).
ان عـنـد اللّه كتبا موقوتة يقدم منها ما يشاء ويؤخر فاذا كان ليلة القدر انزل اللّه فيها كل شي يكون الى ليلة مثلها, وذلك قوله : (لن يؤخر اللّه نفسا اذا جاء اجلها) اذا انزل , وكتبه كتاب السموات وهو الذي لا يؤخره ) ((224)) .
وروى الـمجلسي في هذا الباب خبر هبة آدم (ع ) اربعين سنة من عمره لداود (ع ) الذي اوردناه آنفا في روايات مدرسة الخلفاء ((225)) .
هـذا هو البداء في اخبار ائمة اهل البيت (ع ) واما البداء بمعنى ان اللّه جد له راي في الامر لم يكن يعلمه ـ معاذ اللّه ـ فقد قال ائمة .
اهـل الـبـيت (ع ) فيه ما رواه المجلسي عن الا مام الصادق (ع ) انه قال : (من زعم ان اللّه عز وجل يبدو له في شي ء لم يعلمه امس فابرؤوا منه ) ((226)) .
اثر الاعتقاد بالبداء.
لـو اعتقد الانسان ان من الناس من كتب في السعداء فلن تتبدل حاله ولن يكتب في الاشقياء, ومنهم من كـتب في الاشقياء فلن تتبدل حاله ولن يكتب في السعداء, وجف القلم بما جرى لكل انسان , عندئذ لا يـتـوب الـعاصي من معصيته بل يستمر في ما هو عليه لاعتقاده بان الشقاء قد كتب عليه ولن تتغير حاله , ومن الجائز ان يوسوس الشيطان الى العبد المنيب انه من السعداء ولن يكتب في .
الاشقياء وتؤدي به الوسوسة الى التساهل في الطاعة والعبادة , وعدم استيعاب بعض المسلمين معاني الايـات والـروايـات الـمـذكورة في المشيئة , اعتقد بعضهم ان الانسان مجبور على ما يصدر منه وآخـرون عـلى ان الامر كله مفوض للانسان , كما سندرسه في البحث الاتي لنعرف الحق في ذلك باذنه تعالى .
(18).
الجبر والتفويض
معنى الجبر والتفويض والاختيار.
الجبر والتفويض والاختيار:
ا ـ الجبر في اللغة :
جبره على الامر واجبره : قهره : عليه , واكرهه على الاتيان به .
ب ـ الجبر في مصطلح علماء العقائد الاسلامية :
الجبر: اجبار اللّه تعالى عباده على ما يفعلون , خيرا كان او شرا, حسنا كان او قبيحا, دون ان يكون للعبد ارادة واختيار الرفض والامتناع , ويرى الجبرية الجبر مذهبا يرى اصحابه ان كل ما يحدث للانسان قدر عليه ازلا, فهو مسير لا مخير وهو قول الاشاعرة ((227)) .
ج ـ التفويض في اللغة :
فوض اليه الامر تفويضا: جعل له التصرف فيه .
د ـ التفويض في مصطلح علماء العقائد الاسلامية :
هو ان اللّه تعالى فوض افعال العباد اليهم , يفعلون ما يشاؤون , على وجه الاستقلال , دون ان يكون للّه سلطان على افعالهم , (هو قول المعتزلة ) ((228)) .
هـ ـ الاختيار في اللغة :
خيره : فوض اليه الاختيار بين امرين او شيئين او اكثر.
و ـ الاختيار في مصطلح علماء العقائد الاسلامية :
ان اللّه سبحانه كلف عباده بواسطة الانبياء والرسل ببعض الافعال ونهاهم عن بعض آخر, وامرهم بطاعته في ما امر به ونهى عنه بعد ان منحهم القوة والارادة على الفعل والترك وجعل لهم الاختيار في ما يفعلون دون ان يجبر احدا على الفعل , وسياتي الاستدلال عليه بحوله تعالى .
(19).