الحسين في ظلال القرآن الكريم
علق الفخر الرازي على آية (المودة) مشيداً بآل النبي (صلي الله عليه وآله) قال ما نصه:
(وإذا ثبت هذا - يعني اختصاص الآية بآل البيت (عليهم السلام) - وجب أن يكونوا مخصوصين بمزيد التعظيم قال ويدل عليه وجوه:
(الأول): قوله تعالى:(إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) ووجه الاستدلال به ما سبق وهو ما ذكره من قبل أنّ آل محمد (صلي الله عليه وآله) هم الذين يؤول أمرهم إليه فكلّ من كان أمرهم إليه أشدّ وأكمل كانوا هم الآل، ولا شكّ أنّ فاطمة، وعليا،ً والحسن، والحسين كان التعلق بهم وبين رسول الله (صلي الله عليه وآله) أشدّ التعلقات، وهذا كالمعلوم بالنقل المتواتر، فوجب أن يكونوا هم الآل.
(الثاني): لا شكّ أنّ النبي (صلي الله عليه وآله) كان يحبّ فاطمة (عليها السلام) قال (صلي الله عليه وآله: (فاطمة بضعة مني يؤذني ما يؤذيها) وثبت بالنقل المتواتر عن محمد (صلي الله عليه وآله) أنّه كان يحبّ علياً، والحسن، والحسين، (عليهم السلام)، وإذا ثبت ذلك وجب على كلّ الأمّة مثله لقوله تعالى: ( وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) ولقوله تعالى: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ) ولقوله: (قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ) ولقوله سبحانه: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ).
(الثالث): إنّ الدعاء للآل منصب عظيم، ولذلك جعل هذا الدعاء خاتمة التشهد في الصلاة وهو قوله: (اللهمّ صلّ على محمد وعلى آل محمد، وارحم محمداً وآل محمد) واجب....
أنّ مودّة أهل البيت (عليهم السلام) من أهمّ الواجبات الإسلامية، ومن أقدس الفروض الدينية، يقول الإمام محمد بن إدريس الشافعي:
يا أهل بيت رسول الله حــــــبكم فــــرض من الله فـــي القرآن أنزله
كفا كم من عظيم القدر أنكــــــم من لم يصل عليكم لا صلاة له.
وقال ابن العربي:
رأيت ولائــــي آل طــــــه فريضـــــة على رغم أهل البعد يورثني القربى
فما طلب المبعوث أجراً على الهدي بتبليغــــه إلا المــــــــودة في القربى
ويقول شاعر الإسلام الكميت:
وجدنا لكم في آل أحمد آية تأولها منا تقي ومعرب
إنّ في مودّة آل البيت (عليهم السلام) أداء لأجر الرسالة، وصلة للرسول الأعظم (صلي الله عليه وآله) وشكراً له على ما لاقاه من عظيم العناء والجهد في سبيل إنقاذ المسلمين من الشرك، وتحرير عقولهم من الخرافات، وقد جعل تعالى حقّ نبيه العظيم على هذه الأمّة أن توالي عترته، وتكنّ لها المودة والولاء.
آية المباهلة:
من آيات الله البينات التي أعلنت فضل أهل البيت (عليهم السلام) آية المباهلة قال تعالى: (فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةَ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ ).
واتفق المفسرون ورواة الحديث أنّها نزلت في أهل البيت.
وأنّ أبناءنا إشارة إلى (الحسنين) ونساءنا إشارة إلى (فاطمة)، وأنفسنا إلى علي.. نزلت الآية الكريمة في واقعة تاريخية بالغة الخطورة، جرت بين قوى الإسلام وبين القوى الممثلة للنصارى، وموجز هذه الحادثة أنّ وفداً من نصارى نجران قدموا على رسول الله (صلي الله عليه وآله) ليناظروه في الإسلام، وبعد حديث دار بينهم وبين النبي (صلي الله عليه وآله) اتفقوا على الابتهال أمام الله ليجعل لعنته، وعذابه على الكاذبين والحائدين عن الحق، وعينوا وقتاً خاصاً لذلك، وانصرف وفد النصارى على موعد للعودة للمباهلة حتى يستبين أمر الله، ويظهر الحق، ويزهق الباطل، وقد هامت نفوسهم بتيارات من الهواجس والأحاسيس، لا يعلمون أنّ النبي (صلي الله عليه وآله) وقد اختار للمباهلة أفضل الناس، وأكرمهم عند الله، وهم باب مدينة علمه، وأبو سبطيه الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) وبضعته فاطمة الزهراء سيدة نساء العالمين، والحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة.
وأقبل (صلي الله عليه وآله) وقد احتضن الحسين، وأمسك بيده الأخرى الحسن، وسارت خلفه الزهراء مغشاة بملأة من نور الله، يسير خلفها الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) وهو باد الجلال..
على هدى كربلاء:
نحو قراءة إستراتيجية للملحمة الحسينية
بقلم: م.غريبي مراد عبد الملك
مدخل منهجي :
اختلفت المدارس الإسلامية بكل مذاهبها ومشاربها في طريقة تعاطيها مع واقعة الطف العظيمة، نتيجة التباين الواضح في المنظومات الفكرية والثقافية والاجتماعية التاريخية والتي تمثل ليس فقط ترجمة فعلية لأزمة المنهج التاريخي الإسلامي، ولكن تشكل المرآة العاكسة للمحنة الإسلامية في كتابة تراثها الخالد. في هذا الصدد نجد أن بعض أدباء التاريخ من الطبري إلى ابن كثير مرورا بالنابغة شيخ الإسلام(؟!) ابن تيمية وصولا إلى العصامي ابن حزم وأخيرا السياسي المحنّك ابن خلدون، هذه النخبة وغيرها ممن أضفت حللاً من القداسة على بعض الشخصيات، في حين أنها تطيّرت من بعضها الآخر لأسباب عديدة، وتركت ما تبقى من الشخصيات الرائدة في دائرة الاحتشام الديني.
ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل إن عمليات التداخل بين التراث والأديولوجيا نتيجة للتراكمات الإستكبارية، جعلت هذه الواقعة تأخذ أنفاقا تأويلية وأنماطاً ومناهجا مغايرة لمنظومة المنطق الإسلامي الأصيل، وهذا ما جعل من الصعوبة بمكان التمييز من قبل شرائح كبيرة من المسلمين، بين الأصيل والدخيل، وربما انعكس ذلك على طبيعة المعتقد الديني، ما قد شكّل انحرافاً عن الفهم الحقيقي لجوهر الدين.
ولفض التعتيم والتمويه الحاصل بالنسبة لواقعة الطف، وما تشكله من إطار جامع لأصول الدين وآفاقه الرسالية في الحياة، ومن منطلق السعي لرؤية جديدة لكربلاء الإسلام والفكر والثقافة والسياسة والاجتماع، كان لا بد من لفت النباهة لبعض الإشكاليات الكبيرة والعميقة في أزمة الوعي التاريخي الإسلامي، واستكشاف سبل السلام في عاصمة الوعي الإسلامي التاريخي كربلاء الحرية والعدالة والرشاد والرسالية الصادقة، لأجل تحديد ماهية القراءات الجديدة والشاملة والعميقة لمواطن القلق الإستكباري من كربلاء العزة والكرامة، وكيفية التعاطي معها نهجاً وأسلوباً وسلوكا وما إلى ذلك.
المحور الأول:إن مشكلة الإسلام، في تجارب المؤرخين المسلمين، من خلال النظرة التجزيئية والانتقائية المصلحية التي حاولت أن تنظر إلى التاريخ الإسلامي كأجزاء بمقاييس متباعدة ومستقلة، فحين نقرأ عن البعثة فكأن الحديث عن أسطورة والطامة الكبرى هي في الحديث عن شخصية النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، لا حياء ولا تقوى، كأن النبي شخصية عادية لم تكن تنتظر الوحي فجاءه بغتة فذهل وجاء العارف بخطوب السماء ابن عم السيدة خديجة عليها السلام فثبته وعقله، وعن السيرة النبوية بعد الهجرة فأمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام صحابي عادي، وعن السقيفة فهناك الشورى الإسلامية ومجلس الوفاق الإسلامي الأول، وعن صلح الإمام الحسن عليه السلام فهنا الباب مفتوح للنقد والتجريح، أما عن خروج أبي عبد الله الحسين عليه السلام ففيه غثّ وسمين من لدن مؤرخينا العظماء الذين حفظوا لنا بعين واحدة وقائع هذه الفاجعة الأليمة التي بكى لها الأنبياء والمرسلين واحمرت من ظلامتها السموات واهتزت من وقعتها الأرضين... كل هذا وغيره كثير ما أدى إلى بعض الانعكاسات السلبية على واقع الوعي الإسلامي، والعلاقة الحكمية العملية للإنسان المسلم في التزامه بالحق والعدل والعزة والكرامة .
وهذه النظرة تبعدنا عن التصور المتكامل للإسلام؛ لأن القراءة لوقائع كربلاء المنفتحة على ما قبلها من تاريخ إسلامي تختزن في كل جانب من جوانبها، عناصر الوعي الإسلامي السليم .. فنحن مثلاً عندما ندرس شهادة الإمام الحسن عليه السلام وتسلم الإمام الحسين عليه السلام ولاية المسلمين العامة، فإننا لا نجد فيها جوّاً سياسيا بحتا يتحدث عن النظم السياسية، وطريقة انتقال السلطة، وما إلى ذلك، بل نجد ـ إلى جانب حقيقة الولاية السياسية ـ عمقاً روحياً ومنهاجاً أخلاقياً وأدبا إماميا يعطي للحقيقة الإسلامية متنفسا جديدا، وحركةً اجتماعيةً ممتدة في نطاق حركة الإسلام الأصيل في الفرد والمجتمع، كما يوحي لنا بأن تواصل الحجة مع الناس هو لطف الهي يتكامل ليكوّن العلم والحق والعدل في المنهج، وفي النظرية الإسلامية.. وعلى ضوء ذلك فإننا لا نستطيع أن نفصل الجانب الذاتي للإمام عن الجانب الموضوعي في مسألة الإمامة.
كما أننا في حال أردنا أن ندرس واقعة الطف، فإنه ليس عدلا دراستها في نطاق التاريخ الأيديولوجي المرتكز على الجانب الفلسفي السياسي(وهو غير فلسفة التاريخ) الذي يراعي الكليات، بل لا بد لنا من استحضار النظرية المعرفية الإسلامية المستوحاة من القرآن والسنة المطهرة التي أغنت المنطق الإسلامي والمنهج الاستقرائي التاريخي بالأسس والمرتكزات التي تنمي الوعي الإسلامي في المجالات الفردية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية كافة، إلى غاية بلوغ مستوى عبادي راقٍ ورفيع، يتبلور في خطوط أخلاقية ممتدة في الحياة الإسلامية...
هكذا لا نجد الجانب الروحي مفصولاً عن روح التاريخ، بل نجد لوناً من التزاوج الواقعي والعملي، والتفاعل النظري بينهما على مستوى التصور في تركيز النظرية الإسلامية في تفسير الكون والحياة والإنسان وفي صياغة منهج الإصلاح والتغيير والعدل والكرامة وكل القيم الإسلامية الأصيلة.
جرت العادة لدي أن اكتب بعقل ملتهب، لكنني هذه السنة بعد كل ما استجد في واقعنا الإسلامي ككل، لاحظت أن المسألة أكبر من الداخل، حيث هناك تحد سافر من الاستكبار العالمي، الذي أصبح يؤطر خلاياه الإستخباراتية للعب على أحجار التاريخ السياسية المذهبية، كما لا يخفى على كل أهل المتابعة للإستراتيجيات العالمية، ان الشيطان الأكبر خصص ميزانيات هائلة، لمشروع الفتن الرابحة، وعليه ارتأيت أن يكون الإحياء الكربلائي هذه السنة، إحياءا لا يستغرق في التاريخ فقط ولكن ينفتح على النهضة الحسينية إنفتاحا فيزيائيا(ما يعرف بالمستوى القطبي الذي يحتوي على معلمين أحدهما ثابت والآخر متحرك) ليغني تصوره الإسلامي الراهن، بفيتامينات الحكمة الإمامية في كربلاء الرسالة...
إننا ندعو إلى تحليل هذه المسألة بعمقٍ؛ لنصل إلى النتيجة الحاسمة التي نخرج منها بالتركيب الإسلامي الذي يستمد أصالته من إيمانه بفكرة :(الإسلام كيان فكري وتشريعي عملي يتغذى من كل عناصره)، لأن كربلاء ليست ملحمة ماركسية قابعة في المادية، إنها ملحمة قرآنية تجسدت إماميا فاحتلت التاريخ الإسلامي كله بشهادتها الخالدة...
فكربلاء الرسالة، فيها الحقيقة الإسلامية كلها التي تجدد الحياة وتنقذ الملهوف وتروي العطشان وتحرر أسير النفس والشيطان وتفتح البلدان وتقهر العدوان والنفاق والبهتان... إنها صدى يستطيع أن يدخل مدخل صدق إلى الواقع الإسلامي للإنسان المسلم فقط، من خلال بعث الوعي التكاملي لتاريخها، لنتحرك إلى مواجهة مسألة كربلاء من موقع المسؤولية التي تحرر واقعنا الإسلامي من الاستكبار كله، فكربلاء لا تريدنا أن ندخل في رحابها لنسجن أنفسنا ونطأطئ رؤوسنا في غمارها كالنعام ونواري سوآتنا في صفحاتها الزكية، لا أبدا ما كانت ولن تكون كربلاء لمثل هؤولاء، إنها تريدنا أن ندخل في رحابها لنتعلم الإسلام الحي الحركي الذي ترتفع فيه الروح لتصافح ملائكة الرحمان وتعانق الأرواح الطاهرة لتعود من جديد إلى الأرض لتملأها قسطا وعدلا وتصلح ما أفسد المبطلون، إنها كربلاء الإسلام المحمدي الأصيل التي ارتوت من دم السبط الشهيد لتنبت في كل عام أزهار تعبق برحيق الشهادة والحق والعدالة والعزة والكرامة والحرية في نفوس أبيّة عاشقة لروح الله الذي به تنال المكارم...
لنتخلص من التخلف الفكري والروحي والمذهبي والطائفي والخدع التاريخانية الرهيبة التي أثارها وركبها الكفر المتدين في وعي الأمة، وحرّكها الاستكبار في حياتها عندما فصل الإسلام عن تراثه الطاهر، من خلال الفصل بين أجزاء الواقع ومفرداته، فجعل القضية المطروحة، هي أن هناك ديناً ودنياً، وأن للدين دائرته، وللدنيا دائرتها، فآفاق الدين هي آفاق الغيب والروح والمثال، التي تنطلق معها العبادة في أجواء الصلاة والصوم والحج والدعاء والابتهال والتصوف وغيبوبة الذات عن الواقع.
أمّا آفاق الدنيا فهي آفاق الحياة العامة والخاصة في أجوائها المادية.. وهكذا دخل الإسلام هذه الدائرة.. وبقيت الدوائر الأُخرى تنتظر الفكر الآخر،والقوة الأُخرى التي لا مكان فيها للإسلام. كما هناك قضية حسّاسة، قد تبدو غريبة في الوهلة الأولى بينما هي الحقيقة كلها في تاريخ كربلاء الحق، لم يقف في صف الإمام الحسين عليه السلام إلا المسلمون الصادقون ولم يقف في صف يزيد إلا المبطلون المجرمون، أبدا لم تكن قراءة شيعة أهل البيت عليهم السلام توحي بأن من وقف مع يزيد هم السنة، لأن يزيد لم يكن يمثل الإسلام الذي كان عنوان حق وعدل وصدق وعزة وكرامة، لقد حدث إجرام فكري في الكتابة التاريخية لواقعة الطف من قبل العديد من أزلام الطواغيت والطائفيين عبر الزمن الإسلامي كله، بحيث صاغوا الواقعة صياغة استحمارية للمسلم العامي وعملوا على التحكم ـ من خلال ذلك التمويه التاريخي ـ بسيكولوجية الجماهير الإسلامية، مما أودى بالمجتمع الإسلامي في القرون الأخيرة إلى إنشطارات واضطرابات واحتقانات مذهبية وعرقية وطائفية مقيتة...
أيها المسلم، الإمام الحسين عليه السلام إمام كل إنسان قال لا إله إلا محمد رسول الله حقا وعدلا، الإمام الحسين سلام الله عليه شئنا أم أبينا هو زين السموات، وهذا كلام جده المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم ومن كان زينا للسموات فحقا هو النور الساطع على التاريخ الإسلامي كله، والنور لا يجتمع مع الظلام فالظلمة الطائفية في الثقافة الحسينية والملحمة الكربلائية ليس لها مكان لأنها حرجة ضيقة في حين شهادة أبي عبد الله عليه السلام رحيبة منفتحة عارفة صادقة جمعت الإسلام كله فكلما شعت في وجه تائه نبهته للقضية الإنسانية في الإسلام وأثارت بداخله حقيقة الشهادة التي لا تموت لأنها تختزن الخلود الإسلامي ...
المحور الثاني: إنني أريد ـ من خلال شمولية هذه الواقعة للنظرة الإسلامية إلى الحياة ـ أن نركّز جيدا في الحديث على كربلاء الإسلام ونقترب من الأخلاق الإسلامية والآفاق العبادية التي ناقشت الظروف السياسية والاجتماعية والإستراتيجية في الطف بروح إسلامية اختزلت بدر والأحزاب والجمل وصفين والنهروان في بطولات عظيمة حضرها النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) وعلي أسد الله الغالب بأرواح أولادهما الأتقياء، كما لابد أن نغني عباداتنا بالثقافة الكربلائية التي تسعفنا بمقررات الإسلام المختصرة مع بداية كل سنة هجرية ؛ لنصل إلى تأكيد أصالتنا في تكامل الإسلام في كل مفردات حياتنا.. فننهج نهج أبي عبد الله الحسين عليه السلام الذي يؤكد على أن العبادة في الإسلام تلتقي بالسياسة في مفهومها الواسع، كما تطل على ساحة الحياة الاجتماعية.. والمسجد منارة الواقع الإسلامي ورمزه الخالد وعنوانه الرافض للظلم والتشويه والعزل وبالتالي ندخل المسجد المكان ورمضان الزمان والحج الاجتماع للعبادة التي ترشد قلب الحياة، بدلاً من أن تتزمت وتتعصب وتنغلق في الآنا والنحن.
ثم إذا دققنا في أشواط كربلاء الزمنية والمكانية أقصد المسار من المدينة مرورا بمكة إلى الطف، في الشخصيات والعبادات والكلمات وفي الأفعال، وفي الإيحاءات.. وإذا درسنا هذا كله دراسة هندسية تراعي الترابط الموضوعي والأخلاقي فيما تثيره من أجواء ثقافية فكرية ونفسية وحضارية، وفيما تؤكده من قوةٍ حركية روحية، ولاحظنا ما في ليلة العاشر من معطيات ومؤثراتٍ وأجواء ونتائج.. فإننا نجد أنها تنتج بزخرفتها الروحية الصفاء الإنساني في أعظم تعابيره وتشكلاته، وترشد بتوجهاتها الإدارية إلى ما يحقق توازن الحركة الإسلامية في كل زلازل الحياة.. لأن سرّ مشكلة المسلم المقهور والمستحمر تاريخيا في علاقته بكربلاء الحسين عليه السلام هو ذلك الانفصام المنهجي الحاصل بداخله بخصوص ثنائية(المذهب/الدين) وفيما حوله من مضاربات الحياة الدنيا، وغفلته عن جوهر الإسلام الأخلاقي والفكري والحضاري المتجه نحو هدف العدل والحق والعزة والكرامة الكبيرة الذي ينطلق من أصول ومواقع وبطولات القيم الخيّرة في حركة الرسالات.
مسألتنا كسنة وشيعة أن نحيي عنوان المسلمين فكرا وسلوكا... وواقعا هي مسألة القضايا الكبيرة التي تضيع في البلادة المحركة للقضايا الصغيرة، والتي تسجن إنساننا في دائرة شهواته وملذاته وأطماعه الذاتية، حتى أصبح يعرف عن يزيد أكثر مما يعرفه عن الحسين عليه السلام، وهذا ما جعل عوامنا يحزنوا على صدام كما برأ أجدادهم فيما مضى يزيد من دم الحسين، وحاولوا التخندق تحت عنوان السنة والجماعة ولكنها في العمق هي سنة وجماعة معاوية وأذنابه وليست سنة النبي الأكرم(صلى الله عليه وآله) وعلي(عليه السلام) وأبي ذر وعمار والمقداد وسلمان وغيرهم من أهل السنة الحقيقية التي تعنونت بالتشيع وتوطنت بالتسنن الأصيل الذي يحمي التشيع من التحوير والمراوغات السياسية والإستكبارية .
وكانت الوحدة الإسلامية في كربلاء قليلة العدد قوية العزيمة عظيمة الإرادة ناصعة البياض تحركت على أساس أن ترشد دنيا المسلمين إلى الآخرةً، وأن تكون آخرة منطلقةً من حركة المسؤولية في بناء الدنيا على النهج الذي يحبه الله ورسوله...
إنه الحسين بن علي وفاطمة وحب رسول الله وبهجته، إمام المتقين نصير المستضعفين حبيب الصادقين لا تمثل الآخرة ـ في ثقافته ـ منطقة مستقلة عن الدنيا، بل تمثل أهداف الدنيا الكبيرة التي تخضع لها حركتها الصاعدة إلى الله.
لنفكر إسلاميا كما أرادنا الحسين وآباؤه وأولاده عليهم الصلاة والسلام أجمعين، فالتشيع هو صميم الإسلام وليس من شيعتهم عليهم السلام إلا من اتقى الله، يريدنا أن نمارس دورنا في الدنيا على أساس الإسلام.. (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ)(القصص:77)
ذيل الآية يرشدنا لنظرية العلاقات، فولايتنا للإمام الحسين عليه السلام ليست ولاية اعتباطية وراثية، إنها ولاية رشيدة عاقلة إيمانية نبيهة متطلعة لرضوان الله تعالى، لا تبغ الفساد في الأرض، هكذا علمنا الحسين أن نحب المصلحين ونبغض المفسدين ونجاهدهم لإرساء دعائم الصلاح والإصلاح.. لأن الله لا يحب المفسدين.
المحور الثالث:إننا نستطيع ـ من خلال ما أثرناه في المحور الثاني ـ أن ندنو دنو المخلصين من أجواء كربلاء العظيمة، لنستلهم واجبنا تجاه امتدادات مشروعها الإسلامي الإصلاحي الكبير في عدة جوانب استراتيجية...
سنحاول ـ بتوفيق من الله وببركة دعاء الأحبة المؤمنين ـ في قراءات مقتضبة على طول شهر محرم الحرام وحتى الأربعينية المباركة... أن نبكي البكاء الثقافي النبيه الذي يوقف الضلال الطائفي ويصلح ما أفسد خوارج هذا الزمان وطواغيت هذا العصر...وخير الختام، لبيك يا حسين، لبيك يا شهيد الحق...ولا جعله الله آخر العهد مني إليكم سادتي فبولايتكم أسلمنا الإسلام الحق ...