إجابة آیة الله جوادی آملی فی درس التفسیر الذی عقد یوم الأحد الرابع عشر من شوال على إحدى الشبهات المطروحة فی باب قضیة فدک.
تعرض سماحة آیة الله جوادی آملی لتفسیر الآیة المبارکة: (یَرِثُنِی وَیَرِثُ مِنْ آلِ یَعْقُوبَ) معتبرا الروایة التی یحتج بها البعض؛ على کون فدک صدقة، ما یستتبع عدم تحصّل الزهراء الطاهرة الصدیقة (سلام الله علیها)علیها کإرث من أبیها(ص)؛ من الروایات المجعولة، ثم استطرد فی حدیثه لیقدم الأدلة المتعلقة فی باب رد هذا الإدعاء.
وفیما یلی نص حدیثه المتعلق بهذه المسألة:
من خلال قوله تعالى: ﴿اللّهُ أَعْلَمُ حَیْثُ یَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾ نستنتج أنّ الرسالة لا تورث؛ لأنّ الرسالة والنبوة والإمامة من المسائل المتعلقة بالعصمة التی لا یمکن أن تورث.
توجد فی مسألة الإرث ـ التی طرحت فی الآیات القرآنیة التی تشیر إلى أنّ الأنبیاء یورثون ـ أقوال متعددة، فقد قال البعض إنّ المقصود من الإرث النبوة، وقال البعض إنّ المقصود منه العلم والحکمة، وقال آخرون إنّه المال.
إنّ هذه الأقوال الثلاثة هی الغالبة فی کتب التفاسیر، وهذا ما جاء فی جامع القرطبی.
لا یمکن أن یکون المقصود من الإرث النبوة؛ لأنّ قوله تعالى: ﴿اللّهُ أَعْلَمُ حَیْثُ یَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾ یدل على أنّ الرسالة لا تورث، ولم یرث أی نبی النبوة من النبی الذی قبله، فإنّ سلسلة أنبیاء الدین الإبراهیمی (علیهم السلام) لم یرثوا النبوة من إبراهیم أو الأنبیاء الذین جاءوا بعده، بل وصلت لهم النبوة عن طریق الاختیار الإلهی، وإنّ ما جاء فی الحدیث الشریف فی باب العلم والحکمة من کون «العلماء ورثة الأنبیاء» له مفهومه الخاص، فالعلماء یرثون الأنبیاء فی هذا الأمر، باعتبار أنّ الأنبیاء یعلّمون الکتاب والحکمة، ویرث العلماء ذلک منهم، وهذا الأمر لیس مختصاً بأی نبی من الأنبیاء.
أما بالنسبة لمسألة المال، فعلینا أن نعلم هل إنّ هذا الإرث هو إرث للمال أو لغیر المال؟
توجد روایة ینقلها الشیخ الکلینی (رضوان الله علیه) فی الکافی مفادها: إنّ الأنبیاء لم یورّثوا دیناراً ولا درهماً ولکنْ ورَّثوا العلم، وهی من الروایات الصحیحة؛ والمقصود منها أنّ الأنبیاء لا یهدفون إلى جمع المال لینقلوه للآخرین، فلیس هذا محل النزاع بین الفریقین، بل إنّ محل النزاع هو ذیل الحدیث المجعول: «ما ترکناه صدقه» فإنّ هذا التعبیر الذی نقل فی کتب المخالفین هو تعبیر مجعول وغیر مسند، ولم ینقل فی الموسوعات الروائیة المعتبرة، کما أنّه لم یذکر فی کتاب الکافی الشریف.
إنّ القوم قد وضعوا هذه العبارة فی الحدیث؛ لیدّعوا بأنّ فدک وأمثال فدک صدقة، ویترتب على ذلک وجوب رجوعها لبیت المال، وعندما تعود لبیت المال ستنتقل لحاکم ذلک الزمان، وهذا ما فعلوه.
ونحن عندما نرید أن نعلم أن هذه الحدیث صحیح أم لا، علینا أولاً أن نعلم هل أنّ نص الروایة التی رواها الکلینی رحمه الله فی الکافی والتی مفادها أنّ الأنبیاء لم یورّثوا دیناراً ولا درهماً ولکنْ ورَّثوا العلم، تختم بعبارة «ما ترکناه صدقه» أم لا؟
کلا، إنّها لم تختم بذلک، بل إنّ ذلک لم ینقل فی الموسوعات الروائیة هذا أولا، وثانیاً إنّنا لو أردنا أن نعرف أنّ الروایة حجة أم لا فعلینا أن نعرضها على کتاب الله سواء کان لها معارض أم لم یکن.
إنّ کلا الطائفتین من الروایات التی رواهما الکلینی رحمه الله، ذکرهما الأعلام من علمائنا فی موسوعاتنا الروائیة، منها طائفة جاءت بعنوان النصوص العلاجیة وهو ما طرح فی کتب أصولیة کثیرة، ومثل هذه النصوص تسعى للإجابة على السؤال التالی: إذا تعارض الخبران فما هو السبیل لرفع التعارض؟
فقد روی عن رسول الله (ص) أنّه قال: (إذا جاءکم حدیث عنی فاعرضوه على کتاب الله فما وافق کتاب الله فاعملوا به وما خالف کتاب الله فاضربوا به عرض الجدار)، فإنّ هذا الخبر وأمثاله جاءت کنصوص معالجة تبین أنّ معیار الحجیة وعدم الحجیة أو الترجیح لإحدى الحجتین للروایات المتعارضة هو القرآن الکریم.
أما الطائفة الأخرى من الروایات فهی مطلقة، فسواء کان لها معارض أم لم یکن لها معارض لابد أن تطرح؛ لأنّ الرسول الأکرم (ص) وکذلک الأئمة (علیهم السلام) ذکروا بأنّ هناک أحادیث ستوضع وتنسب إلیهم، لکن لا یمکن لأحد أن یجعل آیة قرآنیة وینسبها لله تعالى، ومن جملة ذلک قول الرسول (ص): (ستکثر علی القالة) وقوله (ص): (أنّه سیکذب علی کاذب کما کذب على من کان قبلی، فما جاءکم عنی من حدیث وافق کتاب الله فهو حدیثی، وما خالف کتاب الله فلیس من حدیثی).
رحم الله العلامة المجلسی حیث کان یقول: "على ضوء هذه الروایات یعلم أنّ القوم کانوا یجعلون الأحادیث وینسبونها للرسول (ص)؛ وذلک لأنّ روایة (ستکثر علی القالة) إما أن تکون صادرة عن الرسول (ص) أو لا، فلو کانت صادرة عن الرسول حقاً، فإنّ ذلک یدل على وجود الأحادیث المجعولة، وإذا لم تکون هذه الروایة صادرة، فإنّها ستکون دلیلاً على الجعل؛ لأنّها منسوبة للرسول (ص)".
بناء على ذلک فإنّ هذه الروایة سواء کانت صادرة عن الرسول أم لم تکن صادرة، فإنّها ذات مضمون له دلالة حقیقیة؛ أی یعلم منه أنّ هناک أحادیث توضع وتنسب للرسول (ص).
بناء على ذلک یجب أن تعرض کل روایة سواء کان لها معارض أم لم یکن لها معارض على القرآن الکریم، وهذا یستدعی أن نبحث بالخطوط العریضة للقرآن الکریم ثمّ نعرض الروایات علیها، فعندما نبحث فی الآیات القرآنیة نجد أن لها عمومیات ومطلقات کما أنّ لها خصوصیات، فإنّ عمومیاتها ومطلقاتها تشمل الأنبیاء وغیر الأنبیاء، أما خصوصیاتها فتقتصر على الأنبیاء فقط، فالمطلق من قبیل: ﴿أَقِیمُوا الصَّلاَةَ﴾ و ﴿کُتِبَ عَلَیْکُمُ الصِّیَامُ﴾، ومسألة الجهاد والحج والأمر بالمعروف والنهی عن المنکر، فإنّ مثل هذه التکالیف شاملة للأنبیاء والمعصومین علیهم السلام کما تشمل غیرهم، ولاشک أن لهم أحکامهم الخاصة بهم مثل وجوب صلاة اللیل على الرسول (ص)، وأمثال ذلک، أما قوله تعالى: ﴿یُوصِیکُمُ اللّهُ فِی أَوْلاَدِکُم﴾ فهی من قبیل العمومات الشاملة للرسول (ص)، والتی تبین أنّ مسألة الإرث تشمل الأنبیاء وغیر الأنبیاء، هذا أولاً.
وثانیاً أنّ آیة ﴿أُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَی بِبَعْضٍ﴾ فی سورة الأحزاب المبارکة تبین طبقات الإرث وهی تشمل الأنبیاء وغیر الأنبیاء، وثالثاً أنّ قوله تعالى ﴿وَوَرِثَ سُلَیْمَانُ دَاوُدَ﴾ یختص بمسألة النبوة، ورابعاً أنّ قوله تعالى ﴿وَلِیّاً ٭ یَرِثُنِی وَیَرِثُ مِنْ آلِ یَعْقُوبَ﴾ ظاهرها الإرث فی مسألة المال؛ لأنّ إرث النبوة أو إرث العلم أو إرث الحکمة یحتاج إلى قرینة، وعندما یقال إرث؛ فإنّ الذی یتبادر للذهن بحسب العرف، المال الذی کان لشخص وورثه شخص آخر؛ أی أنّ فلان سیرث أموال فلان.
نعم من الممکن أن یقال إنّ الشخص الفلانی ورث علم فلان وحکمته، لکن ذلک یجب أن یکون مع القرینة، فمع القرینة یمکن أن ندعی أن الإرث متعلق بمسألة العلم والحکمة، ولکن بدون القرینة لابد أن ینتقل الذهن إلى المال؛ لأنّ اللغة والعرف والحقیقة العقلیة تنطق بذلک؛ بناء على ذلک، فإنّ الأدلة الأربعة المتقدمة تؤکد أنّ الأنبیاء علیهم السلام مشمولون بهذه العمومات والاطلاقات کبقیة الأشخاص الآخرین.
وإن الأهم من ذلک کله احتجاج الصدیقة الکبرى (سلام الله علیها) من خلال الخطبة التی ألقتها بحضور جمع من المهاجرین والأنصار على مرأى ومسمع من إمام زمانها؛ أی الإمام علی بن أبی طالب (علیه السلام)، فقد کان یعلم بقدرة الصدیقة الکبرى وکیفیة استدلالها، علماً أنّ من جملة الذین حفظوا هذه الخطبة ورووها زینب الکبرى (سلام الله علیها)، فقد حفظت هذه الخطبة وروتها عن أمها الزهراء.
بناء على ذلک، علینا أن نتمعن بهذه الخطبة النورانیة لنتعرف على الجوانب التی کانت تشتمل علیها، والمحاور التی کانت تستدل بها الزهراء (علیها السلام).
لا شک أنّ لهذه الخطبة مقدمة، وإنّ المعصومین (علیهم السلام) عندما یتکلمون مع الناس، فإنّ المقاطع التی یخاطبون بها عموم الناس هی مقاطع مفهومه، لکن فی المقاطع التی تتعلق بخطابهم لله تعالى لا یفهمها إلا الفرید من الناس، وهذا یصدق على الأدعیة کالمناجاة الشعبانیة وأمثالها.
وعلى سبیل المثال إنّ بمقدورنا أن نفهم أجزاء کتاب الکافی، وإنّ الشخص الذی یدرس خمس أو ست سنوات، یستطیع أن یفهم الروایات التی فی هذا الکتاب بشکل جید إذا استعان بقاموس اللغة، لکنه عندما یرید مطالعة الصحیفة السجادیة أو نهج البلاغة فلا یمکن له فهمها بسهولة حتى لو درس الفقه والأصول لمدة سبع أو ثمان سنوات.
إنّ خطب نهج البلاغة والمناجاة الشعبانیة من جملة خطاب المعصوم لله تعالى، وإنّ المعصوم علیه السلام یخاطب الله تعالى؛ سواء فهم الناس ذلک أم لم یفهموا؛ ولذلک عندما یخاطب أمیر المؤمنین فی المناجاة الشعبانیة المولى تبارک وتعالى قائلاً: «هَبْ لی کمال الانقطاع»، تتبادر للذهن عدّة أسئلة تحتاج للإجابة، ومن جملتها:وما معنى الانقطاع؟ وما المقصود من کمال الانقطاع؟ ولماذا یؤکد الإمام علیه السلام على المرحلة الثالثة؟
إنّ هذه الأسئلة لا یمکن الإجابة علیها على أساس بناء العقلاء، أو عن طریق فهمها بواسطة قاموس اللغة أو بالاستناد إلى العرف، بل لا بد من الإجابة علیها على أساس دروس أخرى، کما أنّ خطب نهج البلاغة من هذا القبیل أیضاً؛ لأنّ خطب أمیر المؤمنین علیه السلام لها شأنها الخاص، فإنّه علیه السلام عندما یلقی خطبة یتحدث مع الله ویشکر الله ویثنی علیه، ویتعرض لبیان أزلیة الخالق؛ لذا فإنّ الکثیرین لا یتمکنون من إدراک ذلک.
لکن عندما نسمع الله تعالى یقول: «یا ایّها الناس! یا ایّها الذین آمنوا» فمعنى ذلک أنّه تعالى یوجه أوامره للناس؛ وهذا ما یتمکن الناس من فهمه بسهولة.
لقد نقل المرحوم الکلینی (رضوان الله علیه) إحدى خطب أمیر المؤمنین علیه السلام ـ لأنّ الصدوق والکلینی رحمها الله وغیرهم قد رووا الکثیر من خطب نهج البلاغة، واختار السید الشریف الرضی مجموعة منها ـ فی الجزء الأول من کتابه الکافی الشریف، وهی من الخطب التی تتحدث عن مسألة التوحید، ثم قدّم لها ـ إنّ الشیخ الکلینی رحمه الله لا یتحدث فی الکافی إلا قلیلاً فهو فی الأعم الأغلب یقتصر على نقل الأحادیث فقط ـ وقال: "وهذه الخطبة من مشهورات خطبه علیه السلام وهی کافیة لمن رغب فی التوحید إذا تدبرها وفهم ما فیها، فلو اجتمع ألسنة الجن والإنس لیس فیها لسان نبی على أن یبینوا التوحید بمثل ما أتى به ما قدروا علیه، و لولا إبانته علیه السلام ما علم الناس کیف یسلکون سبیل التوحید"، هذا ما قاله الشیخ الکلینی رحمه الله فی الجزء الأول من أصول الکافی فی بحث التوحید بعد أن نقل هذه الخطبة.
لقد شرح أصول الکافی العدید من العلماء، ومن جملة ذلک شرح صدر المتألهین رحمه الله، ثم المجلسی الأول والثانی رحمها الله، ثم الملا صالح المازندرانی علیه الرحمة، کما شرح المیرداماد رحمه الله جوانب من أصول الکافی، إلا أنّ الشرح الأکثر عمقاً هو شرح الملا صدرا رحمه الله، فهو یضیف بعض الإشارات إلى ما وصلوا له من استنتاج، وعلى ضوء ذلک یقول:" لو کانت عبارة الشیخ الکلینی(فلو اجتمع ألسنة الجن والإنس، ومعهم الأنبیاء ما عدى الأنبیاء من أولی العزم، لا یمکنهم أن یأتوا بمثل ما أتى به علی علیه السلام) لکان أفضل.
أی أنّ الشیخ الکلینی عندما أشار إلى إمکانیة إتیان الأنبیاء بمثل ما أتى به علی علیه السلام من کلام، کان علیه أن یقصر ذلک على الأنبیاء من أولی العزم فقط لا جمیع الأنبیاء.
إن خطبة أمیر المؤمنین علیه السلام تشتمل على بیت القصید وبیت الغزل وواسطة العقد، حیث حل المیرداماد رحمه الله واسطة العقد فی شرح أصول الکافی، علماً أنّ واسطة العقد وبیت القصید؛أی النکتة البارزة فی خطبة علی علیه السلام نجدها فی خطبة فاطمة الزهراء (سلام الله علیها) أیضاً، وخلاصة ذلک تتمثل فی تلک المادة التی تطرح شبهة أزلیة العالم، فقد جاء فی خطبة أمیر المؤمنین علیه السلام: الحمد لله الواحد الصمد المتفرد الذی لا من شیء کان، ولا من شیء خلق ما کان، قدرة بان بها من الأشیاء وبانت الأشیاء منه.
إذاً فقد اتضح أنّ ذلک الشیء هو أزلی.
فلو قلنا: یا من خلق من لا شیء، سنقع فی محذور وهو إنّ اللاشیء لا یمکن أن یکون مبدأ لشیء، بأنّ یخلق الله شیئاً من لا شیء، کما أن ذلک یوقعنا فی اجتماع النقیضین.
لأنّ الخلق من شیء یکون محالاً ومن لا شیء یکون محالاً أیضاً، وهنا تکمن الشبهة.
إنّ الحل الذی توصل إلیه المیرداماد (رضوان الله علیه) على أساس خطبة الإمام أمیر المؤمنین علیه السلام وخطبة السیدة الزهراء (سلام الله علیها)، وأجاب من خلاله على هذه الشبهة، هو أنّ نقیض من شیء لیس هو من لا شیء، بل نقیضه هو لا من شیء، وهاهنا تکمن الشبهة بأنّ یکون قد خلق العالم من شیء أو من لا شیء وکلاهما محال، فإذا قلنا خلقه من شیء فهو محال، وإذا قلنا من لا شیء فهو محال، وإذا أردنا أن نرفع النقیضین فهو محال أیضاً.
والجواب على ذلک هو أنّ نقیض من شیء هو لا من شیء «نقیض کل رفعٌ أو مرفوع»، ولیس نقیض من شیء هو من لا شیء، وإلا سیکون کلاهما وجودیان؛ لذا فإنّ نقیض من شیء هو لا من شیء.
إنّ هذه النکتة موجودة فی خطبة الإمام أمیر المؤمنین علیه السلام وکذلک فی الخطبة المبارکة للسیدة الزهراء (سلام الله علیها)، حیث تبدأ خطبتها بهذه الجملة: «ابتدأ الأشیاء لا مِن شیء» الله بَدِیعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ.
بدیع؛ أی لم یخلق العالم من شیء، لا أنّه خلقه من لا شیء «ابتدأ الأشیاء لا مِن شیء»، إنّ جملة (من لا شیء) موجودة فی خطبة نهج البلاغة وفی خطبة السیدة الزهراء (سلام الله علیها) أیضاً، مع أن الفرق بینهما هو أنّ السید الزهراء قالتها قبل أمیر المؤمنین بحوالی 25 عاماً تقریباً؛ لأنّ خطب أمیر المؤمنین علیه السلام قد خطبها فی زمان حکومته وخلافته، وإلا فإنّه قبل ذلک کان منعزلاً فی بیته أو یعمل فی الزراعة، حیث لم تکن الأجواء تسمح بإلقاء الخطب آنذاک، ولقد نقل هذه الخطبة الشیخ الکلینی رحمه الله، وأعقبها بقوله: إنّ أمیر المؤمنین علیه السلام استنهض الناس فی حرب معاویة فی المرة الثانیة، فلما حشد الناس قام خطیباً.
إنّ أمیر المؤمنین علیه السلام قد خطب هذه الخطبة بعد 25 عاماً أو ما یقرب من ثلاثین عاماً من بعد خطبة الزهراء، وقد کانت تتمتع بالخصوصیة التی تتمتع بها خطبة الزهراء التی بعد أن قدمت لها الزهراء (سلام الله علیها) بالحمد والثناء وتوحید الله، وذکر الوحی والنبوة وأمثال ذلک، وما یترتب على الإیمان من أثر، وأثر الصلاة والزکاة، تعرضت من خلالها إلى مسألة الإرث موجهة خطابها للمهاجرین والأنصار الحاضرین فی المسجد، ثم خاطبت الجهاز الحاکم قائلة: (أفحکم الجاهلیة تبغون ومن أحسن من الله حکماً لقوم یوقنون؟! أفلا تعلمون؟ بلى قد تجلى لکم کالشمس الضاحیة: أنّی ابنته).
ثمّ تقول علیها السلام: (أیّها المسلمون أأغلب على إرثی؟ یا بن أبی قحافة أفی کتاب الله أنّک ترث أباک ولا أرث أبی؟ لقد جئت شیئا فریاً! أفعلى عمد ترکتم کتاب الله ونبذتموه وراء ظهورکم؟ إذ یقول: (وورث سلیمان داود) [النمل: 16] وقال فیما اقتص من خبر یحیى بن زکریا إذ قال: (فهب لی من لدنک ولیاً یرثنی ویرث من آل یعقوب) [مریم: 6] وقال: (وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض فی کتاب الله) [الأنفال: 75] وقال: (یوصیکم الله فی أولادکم للذکر مثل حظ الأنثیین) [النساء: 11] وقال: (إن ترک خیراً الوصیة للوالدین والأقربین بالمعروف حقاً على المتقین) [البقرة:180] وزعمتم: أن لا حظوة لی ولا ارث من أبی، ولا رحم بیننا، أفخصکم الله بآیة اخرج أبی منها؟
ثمّ أخذت تذکر تلک الجمل المؤلمة التی أظهرت لهم بأنّهم لا یمتلکون الدلیل على حرمانها من الإرث.
واستطردت فی إیراد خطبتها قائلة: (أأهضم تراث أبی؟ وانتم بمرأى منی ومسمع، ومنتدى ومجمع).
إننا نقرأ فی نهج البلاغة فی الخطبة 202 أنّ أمیر المؤمنین علیه السلام عندما أراد دفن السیدة الزهراء (سلام الله علیها)، استقبل قبر الرسول (صلّی الله علیه وآله وسلّم) الطاهر وقال: «السَّلاَمُ عَلَیْک یَا رَسُولَ اللَّهِ عَنِّی وَعَنِ ابْنَتِک النَّازِلَةِ فِی جِوَارِک وَالسَّرِیعَةِ اللِّحَاقِ بِک، قَلَّ یَا رَسُولَ اللَّهِ عَنْ صَفِیَّتِک صَبْرِی» إلى أن قال: «وَسَتُنَبِّئُک ابْنَتُک بتَضَافُرِ أُمَّتِک عَلَی هَضْمِهَا»
کما أشیر إلى هذا الهضم فی خطبة السیدة الزهراء (سلام الله علیها) أیضاً، حیث قالت فی خطبتها: (أأهضم تراث أبی؟ وانتم بمرأى منی ومسمع)، وهذا ما أشار له أمیر المؤمنین علیه السلام أیضاً: «وَسَتُنَبِّئُک ابْنَتُک بتَضَافُرِ أُمَّتِک عَلَی هَضْمِهَا، فَأَحْفِهَا السُّؤَالَ، وَاسْتَخْبِرْهَا الْحَالَ».
بناء على ذلک، تکون الاطلاقات والعمومات حاکمة، والدلیل الخاص بإرث الأنبیاء حاکم، والأهم من ذلک حجیة تفصیل وتبیین وإیضاح السیدة الزهراء (سلام الله علیها) فی خطبتها، فقولها حجة کقول أمیر المؤمنین والإمام الصادق والإمام الباقر؛ لأنّ معیار الحجیة هی العصمة لا الإمامة فقط، أی أنّ قول المعصوم حجة سواء کان إماماً أو لم یکن إماماً.
بناء على ذلک، إنّ تفسیر الإرث بالمال، یکون محکوم للعمومات والاطلاقات؛ أی تکون العمومات والاطلاقات حاکمة وهو محکوم، کما أنّ الدلیل الخاص یکون مؤیداً، والتفصیل الذی قامت به الزهراء (سلام الله علیها) فی خطبتها شاهداً ودلیلاً.