ان فهم السنن التی یشیر الیها البارئ عز وجل فی قوله : ﴿ ... فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِیلًا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِیلًا ﴾ (1) . یشکل منفعة لحاضرنا وهدى لمستقبلنا . فما تراجعت أمة عرفت سنن الله تعالى ، وتعاملت معها تعاملاً حسناً ، وما تقدمت أمة تولت عن هذه السنن وجهلتها او تجاهلتها .
والعوامل التی تسببت الیوم فی بث الفرقة بین المسلمین هی ذاتها التی کانت وراء اختلافاتهم فی الماضی ؛ والدواعی التی تفرق بین أمة وأخرى ، وبین أشیاع مذهب وآخر ، هی نفسها التی تفرق بیننا کأفراد وجماعات وأحزاب وخطوط .
والمهم ان نبحث فی التأریخ لنلتقط تلک السنن العامة التی تعیننا على معرفة التأریخ ، وبالتالی تنفعنا فی طریق التخطیط للمستقبل .
وفی الواقع فان أعظم نقمة ینزلها الخالق على البشر هی سلبهم هداه ، وعلى سبیل المثال فان سورة الحمد التی هی أعظم سورة فی القرآن نجد ان آیاتها السبع تتمحور حول اعظم وأهم آیة وهی قوله سبحانه وتعالى : ﴿ اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِیمَ ﴾ (2) .
أی انها تتمحور حول مسألة ( الهدى ) التی لو کانت هناک نعمة أفضل منها لبحث الإنسان عنها ، بل ولأمر الله بالبحث عنها .
ان الهدى هو مفتاح جمیع أنعم الله عز وجل دنیویة واخرویة ، وهذه النعم وفیرة وکثیرة ، وهی فی الآخرة أکثر منها فی الدنیا . لکن الإنسان ـ على الرغم من ذلک ـ یضل عنها ، ولا ینتفع منها ، فیکون ظالما لنفسه بنفسه .
والهدى هو دلیلنا الى هذه النعم کما ان العین هی دلیلنا ونافذتنا الى معرفة مختلف الألوان فی الطبیعة . فالله عز وجل یهب البشر ما لا یحصى من النعم وما علیه الا ان یبحث عن دلیله الیها وهو ( هدى الله ) ، ولذلک أمرنا ان نقول عشر مرات او اکثر فی کل یوم :
﴿ اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِیمَ * صِرَاطَ الَّذِینَ أَنعَمتَ عَلَیهِمْ غَیرِ المَغضُوبِ عَلَیهِمْ وَلاَ الضَّالِّینَ ﴾ (3) .
ترى لماذا اختلف المسلمون ، وما الذی جعلهم ینقسمون على أنفسهم على امتداد أربعة عشر قرنا من الزمان ، ولماذا بقیت قضیة الوحدة معلقة طیلة هذه الفترة ، وما الذی یجب ان نفعله لکی نوحد الأمة ، وما هو برنامج الإسلام لتوحید الأمة ، وما هی فائدة الوحدة ؟
أسئلة عدیدة تدور فی ذهن کلّ منا ، وتتمحور بمجملها حول قضیتین متضادتین وهما ؛ الوحدة والفرقة ، وسنحاول فی سیاق هذا البحث الإجابة عن تلک التساؤلات .
ان الأنظمة البعیدة عن الإسلام والعمیلة التی تتحکم الیوم فی مصیر الامم والشعوب المسلمة ، والتخلف الذی سلب و یسلب کل نعم الله سبحانه على الأمة الإسلامیة ، والقمع والإرهاب ، وبالتالی جمیع المحن والمساوئ التی تتوالى على شعوبنا المسلمة انما هی نتیجة طبیعیة للتشتت والفرقة . فلو توحدت الأمة الإسلامیة من اندونیسیا إلى نیجیریا ، ومن قلب الصین إلى قلب أوروبا لتساقطت القوى السیاسیة العمیلة والدخیلة کما تتساقط أوراق الخریف . فلسنا بحاجة الى مزید من العقل لنفهم ان أکثر هذه الأنظمة ـ إن لم نقل کلها ـ هی مفروضة علینا من قبل قوى أجنبیة ، وهذا یعود إلى تضامن هذه القوى مع تلک الأنظمة .
وهنا نعود لنتساءل : من وما الذی فرقنا خصوصا وان عوامل الفرقة بدأت تدب فی کیاننا منذ العهد الأول للإسلام ؛ فهل کانت فی ذلک الوقت قوى استکباریة عظمى کالقوى الموجودة الیوم ؟
وبالطبع فان الإجابة على هذا السؤال بالنفی سلفا ، فالسبب فی تمزیق المسلمین ، وبث الفرقة بین صفوفهم هو معلم البریطانیین ، واستاذ الأمریکیین ، وشیخ الروس وغیرهم إبلیس (لعنه الله) الذی تمثل فی إتباع الأهواء ، وإطاعة الشهوات وحب الرئاسة واستفحال الجهل والتخلف وما أشبه ذلک .
وبعد أن عرفنا الآن المسبب الأول للفرقة ، والمحرض علیها ، نرید ان نعرف العوامل الأساسیة للوحدة .
لقد عاش البشر منذ بدء ظهوره على هذه الأرض فرداً وحیداً کما هو شأن سائر الأحیاء ، ولکن بفضل الله سبحانه وتعالى حصل للبشریة تقدم حضاری فتکونت الأسرة ، ثم تکونت القبیلة ، ثم الدولة . وبالرغم من هذا التقدم المضطرد ما یزال الإنسان یعیش منذ عهد بعید والى الیوم مرحلة سابقة لمرحلة (الوحدة المبدئیة) ، وما یزال یعیش حالة الطفولة فیما یرتبط بتلک الوحدة .
وبناء على ذلک فإننا بحاجة إلى ان نرفع مستوى الوعی لدى البشریة لتصل الى مستوى الوحدة على أساس المبدأ . فالقرآن الکریم انما نزل من اجل خلق هذا المستوى ، والنبی الأعظم (صلى الله علیه وآله) والأئمة من بعده سعوا بکل ما فی وسعهم من اجل توحید هذه الأمة ، والحیلولة دون تمزقها وتفرقها .
ومع ذلک فان الإنسان لم یع هذه الضرورة (ضرورة الوحدة) ، وکان یهیمن علیه التفکیر السلبی المتخلف مما أوحى الیه بأنه اذا أراد ان یحیا حیاة حرة کریمة فما علیه إلاّ ان یدع الآخرین یعیشون مثلما یعیش هو ، واذا بالمصالح تتقولب حسب الآراء المختلفة .
ان الاختلاف فی الرأی سیبقى مادام الاختلاف فی المستویات لدى الانسان قائماً ؛ فکما ان أصابع الید الواحدة لا یمکن ان تتساوى وتتماثل ، فان البشر ایضاً لا یمکن ان یولدوا بمستوى واحد من العلم والفهم والوعی ، لان التنوع یمثل طبیعة بشریة .
وعلى هذا فان کل شیء یتغیر ویختلف عند الإنسان ، وهذا الاختلاف انما تملیه علیه غریزة حب التنوع فیه والتی تتغیر بدورها تبعا لنموه ، وحسب الظروف المحیطة به ، وطبقا لمعلوماته وارادته واهوائه وعشرات العوامل المؤثرة فیه .
ان المشکلة القائمة الیوم لا تکمن فی الاختلاف ذاته ، او الاختلاف المبدئی والفکری ، ولیست کامنة فی الإستراتیجیة والرؤیة ، ولکن فی طریقة التعامل مع هذا الاختلاف الأمر الذی أدى تلقائیاً الى حدوث التفرقة والتفکک والتناحر .
وعلى سبیل المثال فقد نجد فی الأسرة الواحدة اختلافاً ، ولکن طریقة التعامل مع هذا الاختلاف تتباین من أسرة الى أخرى ؛ فمنهم من یفضه بالطلاق ، ومنهم من یفضه بالمشاجرات ، ومنهم من یحله من خلال التفاوض . . . وبصورة عامة فان کل أسرة من تلک الاسر تحل الاختلاف بطریقتها المفضلة .
وهکذا کان حال البشریة التی کانت کثیرا ما تتوسل بالحر وبلتحل خلافاتها . وللأسف فان الجاهلیة ما زالت متأصلة بالبشریة حیث تنفق الیوم آلاف الملایین من الدولارات على صناعة الأسلحة ، وحتى إذا فرضنا أن البشریة لا ترید استخدام هذه الأسلحة الفتاکة إلاّ ان صناعتها تمتص الخیرات والثروات کلها ، حیث نرى الفقر المدقع منتشرا فی جمیع ارجاء العالم وخصوصاً فی بلدان العالم الثالث ؛ اما اذا أرادت استخدامها فان المصیبة ستکون اعظم ، وستنشب حینئذ الحروب النوویة التی ستدمر العالم بأجمعه .
ان البشریة کانت وما زالت بحاجة الى نمو فکری لکی تتجاوز مرحلة حل الخلافات بالسلاح ، ونحن قد نستطیع ان نحمد الله تعالى على اجتیاز هذه المرحلة . فربما لا نستخدم السلاح ضد بعضنا البعض فی حل الخلافات ، ولکن تجاوز هذه المرحلة لیس کافیاً لاننا قد ندخل فی مرحلة أخطر الا وهی مرحلة اغتیال الشخصیات .
وقد یتساءل الواحد منا فیقول : لم ظلمنا الله سبحانه وسلط علینا هؤلاء الطغاة ؟
القرآن الکریم یجیبنا على ذلک بعبارة صریحة فیقول : ﴿ ... فَلْیَحْذَرِ الَّذِینَ یُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِیبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ یُصِیبَهُمْ عَذَابٌ أَلِیمٌ ﴾ (4). فقد جاء فی روایة عن الإمام الباقر (علیه السلام) ان المقصود بهذه الفتنة سیطرة الظالمین .
فاذا عمل کل واحد منا لوحده ، وبدأ یغتال شخصیات الآخرین من خلال اغتیابهم ، وتوجیه التهم إلیهم ، فانما هو یرتکب ذنوباً کبیرة لا یحق له استصغارها کما یقول تعالى : ﴿ ... وَتَحْسَبُونَهُ هَیِّنًا وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِیمٌ ﴾ (5) . فسب الآخرین واغتیابهم والتحدث عنهم بما لا یلیق کل ذلک وغیره انما هو اغتیال لهم أشد خطراً من القتل المادی نفسه .
وعندما ینتشر مثل هذا الأسلوب بین أوساط الأمة فان الله جل وعلا سیعذبها ، ویسلط علیها حاکماً یسومها سوء العذاب وکما تؤکد على ذلک الآیة القرآنیة التالیة : ﴿ وَکَذَلِکَ نُوَلِّی بَعْضَ الظَّالِمِینَ بَعْضًا ... ﴾ (6)؛ ای ان الله سبحانه یجعل الظالمین یحکم بعضهم بعضا لأنهم ظلموا أنفسهم بأنفسهم ، واختاروا مثل هذا النظام ، ولم یکونوا اهلاً للدولة الإسلامیة ، وللنظام الإسلامی العادل . وکما یؤکد ذلک الحدیث الشریف : " الظالم سیفی انتقم به وانتقم منه " .
وعلى هذا فلکی لا یسلط الله الظالمین علینا یجب ان نطهر أنفسنا ، ونزکیها منذ الآن ، واما الخلافات فیجب ان تبقى فی حدود التسابق الى الخیرات .
والسؤال الذی یطرح نفسه بإلحاح فی هذا المجال هو : لماذا بقیت الصراعات بین المسلمین ؟
وسنحاول ان نلخص الجواب على السؤال السابق بذکر العوامل التالیة :
1 ـ انعدام الرؤیة
فالانسان المسلم لم یع ان المطلوب منه ان یکون فی مستوى التحدیات .
2 ـ القوى السیاسیة الاستکباریة
ان القوى السیاسیة التی کانت موجودة فی السابق ، والتی ترید ابقاء وتکریس الخلافات ، والمؤمنة بمبدأ ( فرق تسد ) ما تزال موجودة حتى الآن ؛ وهذا ما یمکن ان یفهمه ، ویلمسه کل فرد واع . فالإنسان الذی لا یملک وعیا لیس له الحق فی ممارسة ای دور فی الحیاة ، لان مثله کمثل الذی لا یرى والذی یقع دائما فی مختلف المطبات ؛ وهکذا الحال بالنسبة الى الأمة التی تعیش مرحلة الجهل ، وتجهل العلم واهمیته واهمیة العلماء العاملین فی سبیل هذه الأمة ، فانها هی الاخرى لا حق لها فی الحیاة .
ومما یجب ان نعیه ان مؤامرات الاعداء المکشوفة هی دلیل دامغ على وجود تلک القوى السیاسیة المخربة ، فالأعداء المستعمرون لا یقولون للشعب صراحة انهم یریدون ان یقودوهم ، وانما یستخدمون شتى الأسالیب والوسائل للقضاء علیه .
وهکذا فعلى کل واحد منا ان یکون فی وعی کامل لکل ما یجری علینا ، فالأسالیب الخبیثة تتطور شیئا فشیئا حتى تتحول الى مؤامرة ، ولذلک یجب ان نکون حذرین فلا نصدق کل ما یقال ویلفق حول هذه الجماعة او تلک لان کلامهم یلقى هوى فی نفوسنا ، او لاننا لا نحب تلک الجماعة ، فهذا لا یجوز حتى بالنسبة الى عدونا إلاّ إذا کانت التهمة ثابتة وصحیحة وإلاّ فاننا سنتورط فی الجهل .
وفی الحقیقة فان هذا هو شأن الاستکبار ، فهو یوحی بایحاءات علینا ان ننتبه الیها بذکاء وفطنة لانها قضیة فی مستوى الأمة کلها . فهناک العشرات من الکتب تسود بین الفینة والاخرى ، وتنشر بین المسلمین ، وتحاول اثارة الفتن ، ولذلک یجدر بنا ان نکون فی مستوى التحدی والتصدی لها ، وان نتبع هدى القرآن ، ونعتصم بالله تعالى وبرسوله وبالقیادة الإسلامیة التی تنتهج نهج رسول الله (صلى الله علیه وآله) ، وتتقی الله حق تقاته ، علماً ان التقوى لا یمکن ان تجدی نفعاً إلاّ إذا استمرت فی نفس الانسان حتى الموت . فالقرآن الکریم یقول : ﴿ یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ﴾ (7) فالتقوى یجب ان تشمل جمیع مرافق الحیاة ، ولذلک یأمرنا القرآن بالاعتصام بحبل الله وهو (التقوى) ومن یجسد القرآن فی الواقع : ﴿ وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِیعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْکُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَیْکُمْ إِذْ کُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَیْنَ قُلُوبِکُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَکُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَکُم مِّنْهَا کَذَلِکَ یُبَیِّنُ اللّهُ لَکُمْ آیَاتِهِ لَعَلَّکُمْ تَهْتَدُونَ ﴾ (8) .
فالهدایة هی رأس کل خیر ، وقمة کل فضیلة .
ومن اجل ان نحافظ على الوحدة لا بد ان یقوم کل واحد منا بدور المصلح ، ولیحاول ان یقوم بدوره الذی کلفه الله سبحانه به ، کما یؤکد على ذلک فی قوله الکریم : ﴿ وَلْتَکُن مِّنکُمْ أُمَّةٌ یَدْعُونَ إِلَى الْخَیْرِ وَیَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَیَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنکَرِ وَأُوْلَئِکَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ (9) فیجب ان نقوم بدور الاصلاح سواء خسرنا أم ربحنا ، على ان القرآن یعدنا بالفلاح ان قمنا بهذا الدور ﴿ ... وَأُوْلَئِکَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ (10) . فلیس من الصحیح ان نعطل دور الإصلاح فنقول : نحن بانتظار نمو القوة السیاسیة الفلانیة لنکون معها ، لان الحسابات السیاسیة عادة ما تکون فاشلة ، فروی عن الإمام الصادق ( علیه السلام ) أنه قال لبعض أصحابه : " کن لما لا ترجو أرجى منک لما ترجو فإن موسى خرج لیقتبس لأهله ناراً فرجع إلیهم وهو رسول نبی فأصلح الله تبارک وتعالى أمر عبده ونبیّه موسى فی لیلة " (11) .
فلنحاول ان لا نکون ممن یصطادون فی الماء العکر ، ویحبون الصعود مع القوى السیاسیة الصاعدة فنکون انتهازیین ، بل لنسع من اجل ان نکون مصلحین ، ونبحث عن الحق أنّى کان . فأولئک الذین یدخلون فی الصراعات ، ویتحولون الى وقود لها سوف یعذبون فی الدنیا والآخرة ، حیث یقول الله سبحانه وتعالى عنهم : ﴿ وَلاَ تَکُونُواْ کَالَّذِینَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَیِّنَاتُ وَأُوْلَئِکَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِیمٌ ﴾ (12) .
هناک حقیقة لو وعیناها لوعینا من العلم شیئاً کثیراً ، الا وهی ان المسافة بیننا وبین ما یدعونا الیه القرآن الکریم ما تزال مسافة شاسعة ، وان علینا ان نسعى سعیاً حثیثاً وجذریاً ودؤوباً لعلّنا نصل الى ما یدعونا الیه القرآن .
ترى أین نحن ، وأین ذلک المستوى الأسمى الذی یأمرنا القرآن الکریم ان نرقى الیه ؟ ان هناک مقیاساً لامناص لنا من ان نعود الیه لکی نعرف أنفسنا ، وهل نحن کما نتمنى وکما ندّعی ، أم ان واقعنا یختلف بشکل جذری عما نحلم به ؟ انه القرآن الکریم ، فلنعرض أنفسنا علیه ، ولنسأل أنفسنا : هل نحن فی مستوى ما یدعونا الیه القرآن أم لا ؟
ان القرآن یدعونا إلى أن یکون وعینا بالساعة وعیاً حاضراً لا یغیب عنا لحظة واحدة ، ویدعونا إلى أن تکون عقیدتنا بالله تبارک وتعالى خالصة من ایة شائبة ، وان لا نعتقد بان هناک من یؤثّر فی حیاتنا سوى الله وباذنه ، وبالتالی فان کل شیء یعود الیه . کما ویدعونا القرآن الکریم الى ان یکون خوفنا ورجاؤنا واملنا وثقتنا بالله سبحانه وتعالى ، وان یکون المقیاس الذی نرجع الیه هو الدین ؛ وبالتالی ان یکون المعیار واحداً ، وان لا نتفرق فی الدین لانه واحد ، وجمیعنا نتبعه . فلماذا التفرق ؟
ان هذا التفرق الموجود فیما بیننا لهو دلیل على ان بیننا وبین الدین فواصل ؛ ای اننا لسنا مع الدین کله ، بل معه ومع اهوائنا فی نفس الوقت . فقد خلطنا الدین بالاهواء ، ولذلک یقول تعالى فی سورة الشورى مذکراً إیانا بهذه الحقیقة :﴿ شَرَعَ لَکُم مِّنَ الدِّینِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا ... ﴾ (13) .
وهذه الآیة الکریمة توحی لنا بان الشریعة الاساسیة المتکاملة التی نزلت على الانبیاء علیهم السلام تکاملت اول ما تکاملت على ید شیخ المرسلین نوح علیه السلام لأنه اول اولی العزم من الأنبیاء . فالشریعة واحدة منذ بدایة الشرائع الى انتهائها بالشریعة التی ختم الله جل وعلا بها شرائعه ، وانزلها على نبینا محمد (صلى الله علیه وآله) ، وهذه الحقیقة یؤکد علیها تعالى فی قوله :
﴿ شَرَعَ لَکُم مِّنَ الدِّینِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِی أَوْحَیْنَا إِلَیْکَ وَمَا وَصَّیْنَا بِهِ إِبْرَاهِیمَ وَمُوسَى وَعِیسَى أَنْ أَقِیمُوا الدِّینَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِیهِ کَبُرَ عَلَى الْمُشْرِکِینَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَیْهِ اللَّهُ یَجْتَبِی إِلَیْهِ مَن یَشَاء وَیَهْدِی إِلَیْهِ مَن یُنِیبُ ﴾ (14)
فهؤلاء الأنبیاء الذین هم فی قمة القمم ، شریعتهم واحدة ، لان مصدر الشریعة من عند الله الواحد . وقد اوصاهم الخالق سبحانه ان لا یخلطوا الدین بالاهواء ، وان یقیموه . ومن المعلوم ان اقامة الشیء لا تکون إلاّ من خلال اکماله واتمامه وتوفیر کل الشروط الموضوعیة التی یعتمد علیها .
ولکی تعرف هل انک ممن یقیم الدین ام ممن یلتزم بجانب من الدین دون الجانب الآخر ؛ لکی تعرف ذلک بمقیاس واضح فانظر الى طبیعة علاقتک مع المؤمنین الآخرین ، فان کانت علاقتک معهم علاقة وثیقة متینة ، بل اذا کانت بینک وبین الآخرین وحدة موضوعیة فی جمیع الجوانب فاعلم انک قد أقمت الدین ، ولذلک یقول عز من قائل : ﴿ ... أَنْ أَقِیمُوا الدِّینَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِیهِ کَبُرَ عَلَى الْمُشْرِکِینَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَیْهِ ...)
والعبارة القرآنیة : ﴿ ... کَبُرَ عَلَى الْمُشْرِکِینَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَیْهِ ... ﴾ تعنی انکم ـ أیها المؤمنون ـ تدعون الى حضارة راقیة ، ومستوى رفیع ، وحیاة فاضلة ، وهذه الحیاة لن یبلغها الإنسان بسهولة ؛ فمن السهل علیک ان تطلب من شخص ان یرکض ، لان الرکض عمل یتعلمه الانسان منذ طفولته . اما ان تطلب منه ان یلقی خطابا فی حفل کبیر حاشد على ان یکون الخطاب ذا محتوى جید ، واسلوب رائع ، واثر عمیق ، فان هذا العمل صعب ـ بطبیعة الحال ـ على الإنسان .
وبناء على ذلک فان من الصعب على المشرکین ـ کما تصرح بذلک الآیة السابقة ـ ان تدعوهم الى الصدق والایجابیة والتحرک والنشاط والهمة الروحانیة ، وحیاة ملؤها الفضیلة والتقوى والأخلاق الحسنة .
فالذی یرید ان یحقق هدفاً عظیماً هو اقامة الدین ، وإقامة حکم الله فی الارض لابد ان یدفع ثمن هذا الهدف العظیم . فعندما تدعوک نفسک الى مخالفة صاحبک تساءل فی نفسک : هل من الصحیح ان اضحی بهدفی العظیم الذی هو اقامة الدین فی الحیاة ، وانقاذ الناس من الضلالة ، من اجل ان اشبع غرور نفسی وریاءها ، واتحدى صاحبی ؟
ونحن نرى فی بعض الأحیان ان هناک أعمالا تصل الى مستوى اسقاط الطاغوت سرعان ما تنهار وتتلاشى ، لان هناک خلافاً بینی وبین اخی على أمور ثانویة تافهة ، وعلى ستراتیجیات او تکتیکات ثانویة . وبالتالی فاننا عندما نستیقظ ونعید النظر فی أنفسنا نرى ان سنین طویلة من عمری او عمره مرت دون ان نحقق هذا الهدف . فنبدأ نلقی وننثر التهم یمیناً ویساراً فإذا بالسماء متهمة ، والأرض متهمة ، والناس متهمون ، وکل شیء فی التاریخ متهم ، ونحن البریؤون فقط . فی حین ان العکس هو الصحیح ، فنحن المتهمون ذلک لان القرآن الکریم یقول : ﴿ وَأَن لَّیْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى ﴾ (15) .کما ویقول تعالى : ﴿ ... إِنَّ اللّهَ لاَ یُغَیِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى یُغَیِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ ... ﴾ (16) . والحکمة المعروفة تقول : " کما تکونون یولى علیکم " .
وبناء على ذلک فان الواحد منا هو المتهم وتهمته تنبع من انه فسح المجال للنظام الطاغوتی الجائر ان یستمر نتیجة للاختلاف فی الأسلوب . ولندرس فی هذا المجال تأریخ الحرکات الفاشلة ، وبالطبع فان الآخرین یدعون الى دراسة تاریخ الحرکات الناجحة ، ولکننی ادعو الى دراسة الحرکات الفاشلة ، والقرآن کذلک یدعونا الى دراسة تأریخ هذا النوع من الحرکات حیث یقول : ﴿ ... فَسِیرُواْ فِی الأَرْضِ فَانظُرُواْ کَیْفَ کَانَ عَاقِبَةُ الْمُکَذِّبِینَ ﴾ (17).
وهذا یعنی ان علینا ان ننظر الى اولئک الذین فشلوا وانتهوا ، وان ندرس حیاتهم ، ونحاول ان نکتشف سبب انقراضهم . فقد قیل لحکیم : من أین تعلمت الأدب ؟ فقال : ممن لا أدب له ؟ فقیل له : وکیف ؟ فأجاب لأننی نظرت الى افعاله فکرهتها وتجنبتها .
وهکذا فان علینا ان ندرس التجارب الفاشلة فی العالم لکی لا نکررها ، ونعود الیها . فلندرس هذه التجارب ، ولنتأمل تأریخ الحرکات والثورات الفاشلة ، ولنحاول ان نعرف أسباب فشلها .
ان مشکلتنا الرئیسیة تکمن فی أننا لا نکلف أنفسنا عناء دراسة التاریخ والنظر فیه ، ولذلک فان حیاتنا غدت ملیئة بالهزائم ، والنکسات المتتالیة بسبب عدم اعتبارنا بما جرى على من مضى قبلنا من الأمم والحرکات .
ومن الآیة السابقة ، ای قوله تعالى : ﴿ ... أَنْ أَقِیمُوا الدِّینَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِیهِ کَبُرَ عَلَى الْمُشْرِکِینَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَیْهِ ... ﴾ نفهم ان من لا یقیم الدین ، ولا یوحد نفسه لا یستطیع ان یتغلب على المشرکین ، لانهم سوف یقاومون ویناهضون قیام الحکم الإسلامی . ثم ان الطریق الذی یوصلک الى الهدف العظیم هو ان تضحی ببعض المسائل الثانویة عبر أفکارک الخاصة وتکتیکاتک واستراتیجیاتک .
ثم یقول عز وجل : ﴿ ... اللَّهُ یَجْتَبِی إِلَیْهِ مَن یَشَاء وَیَهْدِی إِلَیْهِ مَن یُنِیبُ ﴾. ولکی نصل الى هذا المستوى لابد ان نقتل غرور أنفسنا ، ونقاوم کبریاءها ، ونزکیها تزکیة نستطیع من خلالها ان نتنازل عن ذواتنا ، ونخرج عن شحها ، وحینئذ سوف یجتبینا الله تعالى ، ویختارنا لتطبیق دینه ، والدعوة الیه .
ثم یؤکد القرآن الکریم على حقیقة ان التفرق لایصد عن جهل ،بل هو دائماً من بعد العلم کما یقول سبحانه : ﴿ شَرَعَ لَکُم مِّنَ الدِّینِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِی أَوْحَیْنَا ... ﴾ . فالانسان الذی یرید ان یوحد نفسه فان بامکانه ذلک ، ولکنه لا یرید لانه یبحث عن البغی .
والمشکلة الرئیسیة التی یعانی منها الإنسان سأحاول فیما یلی ان اجملها و أبینها بالإیجاز ، وهی ان الانسان یرید ان یسرق جهود غیره ؛ فروحه تدعوه دوما الى العدوان على الآخرین ، ولذلک نجد ان اکثر اسباب التفرق تنبع من هذه الطبیعة البشریة غیر المهذبة . فاذا رضی کل انسان بما یعمله وینتجه لما حدثت مشکلة فی العالم ، ولکن کل واحد یرید ان یأخذ من الآخرین زیادة على ما یمتلکه . فکل انسان یتصور انه اعلى واسمى من الآخرین ، وکل واحد یظن ان حقوقه اکثر من الآخرین ، وانه یستحق اکثر مما یعطى له . وهنا یستغل الشیطان هذه الثغرة فی نفس الانسان لیوسوس ، ولیوحی الیه أنه من المفترض ان یحتل المنزلة الفلانیة ، وان حقه مهضوم ، وان الآخرین لا یقدرونه حق تقدیره . . فی حین ان هذا التصور مغلوط من الاساس ، لان الانسان لایستطیع ان یقیّم نفسه حسب ما یشاء .
ولو استطاع الانسان ان یتجاوز هذه المشکلة فی ذاته لزال تجمیع الاختلافات ، لان القرآن الکریم یقول : ﴿ شَرَعَ لَکُم مِّنَ الدِّینِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِی أَوْحَیْنَا ... ﴾. ای ان کل واحد یرید ان یعتدی على الآخرین ، ویبغی مالیس له بحق . اما اذا سادت الحالة المعاکسة فی نفس الانسان ، فانه سیستشعر التقصیر دائماً فی نفسه ، ویتهم ذاته ، ویشعر انه لم یصل الى المستوى المطلوب من العطاء والتضحیة . وفی هذه الحالة فان مسیرتنا ستکون فی حالة تقدم مستمر ، لاننا نطالب بأقل مما نعطی ، ونستهلک اقل مما ننتج . فالتقدم سیکون فی هذه الحالة اکثر . فعندما یکون الانتاج ذا مستوى أعلى ، والعمل فی المستوى المطلوب ، فاننا سنرى انفسنا اننا فی حالة تقدم . اما اذا اعتدنا ان ننتج یومیاً رغیفاً من الخبز فی حین نطالب بثلاثة ارغفة فان النتیجة ستکون ان الواحد منا سیعمد الى السرقة من الآخرین ، وبالتالی سوف لا نحصل على شیء سوى التخلف والتمزق والانهیار . فلا یحبنا احد لا فی السماء ولا فی الأرض ، ونخسر الدنیا والآخرة .
ولننظر الى القرآن الکریم کم هو شدید فی هذا المجال ؛ انه یطلق تهدیداً عجیباً فی قوله تعالى : ﴿ ... إِلَیْکَ وَمَا وَصَّیْنَا بِهِ إِبْرَاهِیمَ وَمُوسَى وَعِیسَى أَنْ أَقِیمُوا الدِّینَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِیهِ کَبُرَ عَلَى الْمُشْرِکِینَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَیْهِ اللَّهُ ... ﴾ . ونحن نستنتج من هذه الآیة الکریمة ان نهایة البغی تتمثل فی خسارتین ؛ الخسارة الأولى هی خسارة الدنیا ؛ ای ان الله تبارک وتعالى سوف یأخذ هؤلاء أخذاً شدیداً ، وینهی حضارتهم ، ویقضی علیهم لأنهم تفرقوا ، ولانهم بغوا على بعضهم .
والخسارة الثانیة تتمثل فی ان الله جلت قدرته یسلب منهم حلاوة ای انهم یعیشون دائماً حالة الشک ، فالانسان الذی یفکر فی نفسه وقضایاه وأموره ومصالحه الشخصیة ، وترد الى ذهنه الکثیر من الافکار الشیطانیة ، فانه یفقد حلاوة المناجاة والصلاة والتعبد ، لان قلبه مشغول دائماً بنفسه .
وبناء على ذلک فان الجوهرة العظمى هی جوهرة الایمان ، فلنحرص على ان لا تضیع من ایدینا ، وحتى اذا حصلنا على ملک الدنیا ، فما فائدة هذا الملک إذا فقدنا الایمان .
فلنستغل الفرص ، ولننبذ جانبا الافکار الشیطانیة ، ولنطهر انفسنا مما یؤدی الى تفرقنا عن بعض ، ولنتوحد تحت رایة الدین ، وحینئذ من حقنا ان ننتظر رحمة الله تبارک وتعالى ، والنصر الالهی . فالنصر عندما یأتی من الله سبحانه فانه یأتی نصراً مؤزراً ، لانهقائم على اساس طاهر نزیه ، وقائم على اساس عدم التضحیة بدیننا واخلاقنا ومبادئنا . فهو نصر حقیقی من النوع الذی یحبه الله جل جلاله ، ویریده لعباده المؤمنین فی الدنیا حیث ستکون العاقبة لهم ، وحیث سینصرهم الخالق نصراً عزیزاً على اعداء الدین والرسالة لیقیموا حکمه فی ربوع الارض .
الانتصار لا یتحقق بالأحلام
1 ـ اننا لا نستطیع ان نأمل انتصاراً ، ونرجو فلاحاً بالأحلام والتمنیات ؛ بل من خلال العمل الجاد ، والعمل على تغییر الذات ، والانتصار على الشهوات والأهواء عبر تطبیق مناهج الرسالة التی بواسطتها نستطیع ان ننقذ انفسنا وشعوبنا من اولئک الطغاة المتحکمین بمصائر مجتمعاتنا الذین یسومونها سوء العذاب .
وهناک فرق بین من یرجو الانتصار بالأحلام ، وبین من یأمل النصر على عدوه بالحقائق ، وتوفیر العوامل المؤدیة الى النصر . وهذا الفرق یکمن فی الإعداد ، فمن ینتظر ساعة المواجهة دون استعداد وتهیؤ لاینفعه انتظاره هذا ، ولا یزیده أمله إلاّ خساراً ؛ فی حین انالذی یعمل على إعداد نفسه ، ویطبق قوله عز وجل : ﴿ وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَیْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّکُمْ ... ﴾(18) ، فانه یسعى من اجل تکثیف قدراته ، ورفع مستوى امکانیاته ، وتربیة ذاته ، وتزکیة نفسه ، وتوجیه وتنظیم طاقاته . . وبالتالی فانه یأخد بکل ما یستطیع من اسباب القوة .
والإعداد ـ بکل أبعاده ـ ینبغی ان یتم قبل ایام المواجهة ، وینبغی ان تکون تعبئة العاملین على مستوى بحیث انهم لو استنفروا استطاع خلال لحظة واحدة ان ینفروا جمیعهم خفافاً وثقالاً . فالقوة التی تکون دائماً على اهبة الاستعداد هی التی تستطیع ان ترهب عدو الله وعدوها ، کما انها سترهب جمیع المنافقین المتسللین الى صفوفها ؛ لان من یعتریه خور العزیمة ، وضعف النیة ، وشحة الایمان لا یستطیع ان یلقی الذعر فی قلب ای احد . فی حین ان من یطبق فی حیاته العملیة ، وسلوکه الیومی مضمون الآیة القرآنیة السابقة ، فان مفهومالانسان الساعی والجاد سینطبق علیه ، وإلا فانه انسان یعیش على الاحلام والتمنیات . صحیح ان الموت للطغاة ، وان الله تعالى اکبر منهم ، ولکن الذی لایعد نفسه اعداداً جدیاً فی ایام السلم فانه سوف یکون عاجزاً عن خوض الصراع فی ساعات المواجهة .
ان الطغیان یمثل حالة عمیقة الجذور جمعت حولها اکثر قوى الشر والنفاق ، ونحن لا نستطیع مقاومتها والقضاء علیها من خلال الاکتفاء بتردید الشعارات ، والنوم على فراش مخملی من الآمال والامانی والاحلام . بل ان تحدینا العقائدی للطغاة هو الخطوة الاولى التی ینبغی علینا ان نخطوها فی طریقنا الطویل .
2 ـ ضرورة الفهم العمیق للقرآن الکریم ، خصوصاً وان آیاته یفسر بعضها بعضاً ، وکل مجموعة من هذه الآیات تأتی فی سیاق واحد ؛ ولذلک یجب ان تؤخذ کبرنامج متکامل للعمل ، لا کوصایا متناثرة لا تربط بینها علاقة المنهجیة ، من مثل الآیات القرآنیة التالیة :
﴿ یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوَاْ إِن تُطِیعُواْ فَرِیقًا مِّنَ الَّذِینَ أُوتُواْ الْکِتَابَ یَرُدُّوکُم بَعْدَ إِیمَانِکُمْ کَافِرِینَ * وَکَیْفَ تَکْفُرُونَ وَأَنتُمْ تُتْلَى عَلَیْکُمْ آیَاتُ اللّهِ وَفِیکُمْ رَسُولُهُ وَمَن یَعْتَصِم بِاللّهِ فَقَدْ هُدِیَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِیمٍ * یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِیعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْکُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَیْکُمْ إِذْ کُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَیْنَ قُلُوبِکُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَکُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَکُم مِّنْهَا کَذَلِکَ یُبَیِّنُ اللّهُ لَکُمْ آیَاتِهِ لَعَلَّکُمْ تَهْتَدُونَ * وَلْتَکُن مِّنکُمْ أُمَّةٌ یَدْعُونَ إِلَى الْخَیْرِ وَیَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَیَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنکَرِ وَأُوْلَئِکَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ (19) .
وعندما نجمع هذه الآیات الکریمة الى بعضها ، ونتدبر فیها ، نستطیع ان نستوحی منها فکرة منهجیة متکاملة قابلة للتطبیق وهی فکرة " الوحدة على نطاق الأمة الاسلامیة " ، کما یوحی بذلک قوله تعالى : ﴿ وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِیعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ ... ﴾(20)، فهذه الآیة لیست ناشزة فی السیاق ، بل ترتبط بما بعدها ارتباطاً وثیقاً ، ولذلک فان علینا ان ندرسها جمیعاً ککتلة واحدة .
وبعد هذا التمهید ابدأ الآن بالتطرق الى صلب الموضوع ، فأقول : ان الإعداد الحقیقی لمواجهة الطغاة هو تکثیف وترکیز قوة الجماهیر ، لان القوة المتناثرة لیس بامکانها ان تعمل شیئاً .
والوحدة هی قوة لابد ان نعدها لساعة المواجهة فی برنامج طویل علینا ان نجهد انفسنا من اجل تطبیقه . فالوحدة تمثل بناء متکاملاً لابد ان نضع لبناته الواحدة فوق الاخرى . فهی تبدأ من الافراد ، ثم المجامیع الصغیرة حتى تبلغ ذروتها على نطاق الأمة الاسلامیة ،وهذا البناء المتکامل لا یمکن ان یشیّد مرة واحدة ، بل بشکل تدریجی ، وبعد ان یجهد العاملون انفسهم فی وضع احجاره ولبناته فوق بعضها ، ویرصونها رصا کما یشیر الى ذلک تعالى فی قوله : ﴿ إِنَّ اللَّهَ یُحِبُّ الَّذِینَ یُقَاتِلُونَ فِی سَبِیلِهِ صَفًّا کَأَنَّهُم بُنیَانٌ مَّرْصُوصٌ ﴾ (21) وهذا البنیان الذی تشیر الیه الآیة الکریمة انما یشید فی ساعة الاعداد ، ولذلک فانه یتحول الى خندق قوی من خنادق الایمان فی مواجهة الکفر .
والوحدة لا یمکن ان تتحق عندما یتبع البعض افکارا غریبة عن الأمة ، وانما تتم اذا کان مصدر التوجیه واحداً ، ولذلک یؤکد القرآن الکریم هذه الحقیقة قائلاً : ﴿ یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوَاْ إِن تُطِیعُواْ فَرِیقًا مِّنَ الَّذِینَ أُوتُواْ الْکِتَابَ یَرُدُّوکُم بَعْدَ إِیمَانِکُمْ کَافِرِینَ ﴾ (22) ، فعندما یطیع المؤمنون فریقاً من الذین اوتوا الکتاب فان وحدتهم سوف یعتریها الضعف والنقص ، لان هؤلاء لا یستهدفون تقویة الکیان الإسلامی ، بل تقویضه وهدمه .
وبالاضافة الى ذلک فان الوحدة لا تتم إلاّ بعد ایجاد قیمتین متفاعلتین فی الأمة وهما : قیمة الرسالة ، وقیمة الرسول . فالرسول او الامام هو الذی یجسد المنهج ، ویکون مثلاً حیاً له ، وهو ولی الامر ، ولذلک یقول سبحانه وتعالى : ﴿ وَکَیْفَ تَکْفُرُونَ وَأَنتُمْ تُتْلَى عَلَیْکُمْ آیَاتُ اللّهِ وَفِیکُمْ رَسُولُهُ ... ﴾ (23) . وهذان هما الثقلان اللذان اوصى بهما النبی (صلى الله علیه وآله) فی اللحظات الاخیرة من حیاته قائلاً : " إنی تارک فیکم الثقلین ما ان تمسکتم بهما لن تضلوا بعدی کتاب الله وعترتی أهل بیتی " (24) . ان الله عز وجل هو الذی انزل الآیات ، وبعث الرسول ؛ فهو بالتالی المحور الذی یلتف حوله ، وعندما یذکرنا القرآن بضرورة الاعتصام بحبل الله فان هذا یعنی التمسک بکتاب الله ، واتباع رسوله .
ومن ارکان الوحدة الاستقامة والثبات على المبدأ ، وإلاّ فاننا سوف لا نستطیع ان نبنی کیاناً مستقلاً موحداً ؛ کما ان الآخرین سوف لا یعود بامکانهم ان یعتمدوا علینا ، لاننا فی هذه الحالة سنتحول الى اشخاص مهزوزین . ففی خلال لحظة واحدة من الممکن ان ننقلب على اعقابنا ، وهذا ما یهدد الوحدة الاسلامیة . ولذلک نرى ان السیاق القرآنی الکریم یذکرنا عند حدیثه عن الوحدة بهذه الحقیقة فیقول : ﴿ یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ﴾ .
فالاستقامة هی التی تجعل عاقبة الانسان على خیر ، وهی التی تجعله لا یخشى الموت ، کما یقول الامام علی (علیه السلام) : " والله ما یبالی ابن أبی طالب أوَقَع على الموت ، أم وقع الموت علیه "(25) ، اما الانسان الذی یتردد ، ویکون له فی کل یوم شأن فانه انسان متعلق بالدنیا ، وهو یخشى على نفسه من الموت .
ومن اجل تکریس الوحدة والمحافظة علیها وبقائها ، لابد ان یکون هناک تجمع من المؤمنین الصالحین الذین یشبهون الى حد بعید الهیکل الحدیدی الذی یدعم بناء الأمة ، ویحول دون انهیاره ؛ وهؤلاء المؤمنون یمثلون التجمع الطلیعی ، والتنظیم القیادی ، والمجموعة التی نذرت نفسها فی سبیل الله تعالى ، وهم الصنف الاول الذی یشیر الیه أمیر المؤمنین (علیه السلام) فی قوله : " الناس ثلاثة : عالم ربانی ، ومتعلم على سبیل النجاة ، وهمج رعاع " (26) . وهذا التجمع القوی فی داخل الأمة یمثل فی الواقع قدرة الأمة على المقاومة . فکلما ضعفت نیة او خارت عزیمة بادر هذا التجمع الى تدارک ذلک بالنصیحة والتوجیه والعمل والتحریض ، وقد اشار القرآن الکریم الى هذا التجمع فی قوله : ﴿ وَلْتَکُن مِّنکُمْ أُمَّةٌ یَدْعُونَ إِلَى الْخَیْرِ وَیَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَیَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنکَرِ وَأُوْلَئِکَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾9 .
ولا یغیب عنا ان هذه الوحدة لایمکن لها ان ترى النور من دون تضحیات . فالواجب علینا ان نخرج من انانیاتنا ، ونضحی بمصالحنا ، بل وحتى بمستقبلنا من اجل مصلحة المجموع . فأی بناء لابد ان یقوم على اساس رصین ، والتضحیات هی هذا الاساس . وهذه حقیقة نستوحیها منقوله سبحانه وتعالى : ﴿ وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّیَاطِینُ عَلَى مُلْکِ سُلَیْمَانَ وَمَا ... ﴾ (27) ؛ ای اتقوه تقوى حقیقیة یستحقها .
ونحن ـ کأمة ـ عشنا الى الآن الواناً من التفرقة ؛ فهناک تفرقة طائفیة کانت ومازالت مستمرة ، وهناک تفرقة عنصریة ، واقلیمیة ، وعشائریة . . . بل ان الخلاف کان ـ للأسف الشدید ـ أصلاً فی بلادنا .
ونحن الآن نرید ان نتجه الى الوحدة ، ولابد ان تعترضنا الحواجز التی اذا لم نستعد لتجاوزها فانها سوف لا تدعنا نصل الى أهدافنا . ومن هذه العقبات والحواجز الرئیسیة العادات والتقالید ، وهذه العقبة لو أردنا ان نتجاوزها فان هناک من یدافع عنها ، ویقف فی وجهنا . وفی هذا الطریق لابد ان نکون صلبی الایمان ، لا نخاف فی الله تبارک وتعالى لومة لائم لکی یکون بإمکاننا تجاوز هذه العقبة .
اما العقبة الاخرى التی تقف حاجزاً امامنا فی طریق الوحدة فهی عقبة المتاجرة بالدین ، فقد یتخذ وسیلة للتفریق على أسس مختلفة ، وبأسالیب عدیدة .
وهناک عقبة ثالثة نجدها فی الاختلافات الجزئیة الهامشیة التی یحاول البعض إثارتها من مثل التفریق بین مراجع التقلید ، والتعصب لعالم دون آخر ، فی حین ان الاسلام هو الأصل ، وان التقلید انما هو طریق الى الاسلام . فنحن قد عرفنا الله جل وعلا أولاً ، ومن ثم عرفنا رسوله وولاة أمره وقادة شریعتنا ؛ وبذلک عرفنا دیننا ، ومن خلال معرفتنا به استطعنا ان نقیم الرجال ، فعرفناهم بالحق الذی عرفناه . واذا ما عکسنا الأمر فعرفنا الحق بالرجال فاننا سنکون قد سلکنا طریق الضلال والتفرقة . فالحق هو الأصل ، وهو المقیاس ، ونحن نستطیع ان نعرف مدى صلاح الرجال ، او انحرافهم بمقدار قربهم ،او بعدهم عن محور الحق .
والعقبة الاخرى التی تقف حاجزاً امامنا هی العقبات الشخصیة ؛ فهناک بیننا حجب لابد ان نمتلک الشجاعة الکافیة من اجل اختراقها وإلاّ فان کل واحد منا سیعیش فرداً ؛ وبالتالی فان القلوب سوف لا تلتقی ، ولا تتلاحم النفوس ، ولا تترکز الجهود ، ولا تتفاعل الآراء والافکار .
ان الأنانیات و الذاتیات والعصبیات لیست من الإسلام ، فلا یمکن ان یغنینا عن الله شیئاً ان ننتمی الى الحزب او التنظیم الفلانی ، بل ان عملنا الصالح هو الذی یشفع لنا .
وهکذا فان الانتصار على الطغاة لا یمکن ان یتحقق بالتمنی ، بل بالسعی . والفرق بین من یسعى وبین من یتمنى یکمن فی الإعداء لساعة المواجهة ، ومن ابرز أنواع الأعداء ترکیز الجهود وتکثیفها من خلال الوحدة .
والوحدة تمثل بناء متکاملاً لابد ان نبنیه لبنة بعد اخرى . ومن أهم واجباتنا الیوم ، واقربها الینا تجاوز الحجب والحواجز والعقبات التی وضعها الشیطان وحلفاؤه من الإنس بیننا وبین الاقربین إلینا فی العقیدة . فلنحاول ان نتجاوز هذه الحجب والعقبات لنشید شیئاً فشیئاً صرح الوحدة الذی سیمکننا بالتأکید من مواجهة الطغاة وعملائهم ومقاومتهم والقضاء علیهم ، لان الوحدة هی سرّ قوتنا واقتدارنا ، ومن دونها نصبح عاجزین عن اداء ای عمل مهم .
المصادر :
1- سورة فاطر ، الآیة : 43
2- سورة الفاتحة ، الآیة : 6
3- سورة الفاتحة ، الآیة : 6 و 7
4- سورة النور ، الآیة : 63
5- سورة النور ، الآیة : 15
6- سورة الأنعام ، الآیة : 129
7- سورة آل عمران ، الآیة : 102
8- سورة آل عمران ، الآیة : 103
9- سورة آل عمران ، الآیة : 104
10- سورة آل عمران ، الآیة : 104
11- بحار الأنوار * ج 13 * ص 42 * روایة 9
12- سورة آل عمران ، الآیة : 105
13- سورة الشورى ، الآیة : 13
14- سورة الشورى ، الآیة : 13
15- سورة النجم ، الآیة : 39
16- سورة الرعد ، الآیة : 11
17- سورة النحل ، الآیة : 36
18- سورة الأنفال ، الآیة : 60
19- سورة آل عمران ، الآیات : 100 - 104
20- سورة آل عمران ، الآیة : 103
21- سورة الصف ، الآیة : 4
22- سورة آل عمران ، الآیة : 100
23- سورة آل عمران ، الآیة : 101 ،
24- بحار الأنوار * ج 2 * ص 100 * روایة 59
25- بحار الأنوار * ج 77 * ص 384 * روایة 7
26- بحار الأنوار * ج 23 * ص 45 * روایة 91
27- القران الکریم : سورة البقرة ، الآیة : 102
source : http://ar.rasekhoon.net