«الصحیفة» کتاب تزکیة وتهذیبها، أما من الناحیة الأدبیة فإنّه یمتلک ناصیة أدب الدعاء والنجوی، وله منزلة خاصة یتفرد بها وهو من أجمل النصوص الأدبیة الدینیة.
کریمی فرد، غلامرضا
الجمالیة فی أدعیة الامام السجاد(ع)[القسم الأول]
إن الصحیفة السجادیّة المتداولة حالیاً، مشتملة علی أربعة وخمسین دعاء رواها عمید الرؤساء رضی الدین أبو منصور هبة الله ابن حامد الحلی.فمن المؤکد أنّ الموجود الآن فی ید المسلمین باسم «الصحیفة السّجادیّة» هو ما رواه الام زین العابدین علیه السلام ولایتطرق الیها اٌدنی شک وشبهة من ناحیة قیمتها واسنادها.
«الصحیفة» کتاب تزکیة وتهذیبها، أما من الناحیة الأدبیة فإنّه یمتلک ناصیة أدب الدعاء والنجوی، وله منزلة خاصة یتفرد بها وهو من أجمل النصوص الأدبیة الدینیة.
لو طالعنا هذه «الصحیفة» بدقّة حتی نهایتها لأدرکنا أن الامام کلما استعمل التشبیه والکنایة ولغة المجاز والاستعارة استعملها فی لطف وجمال دون التکلف والتصنّع اللفظی. کلامه کالماء الجاری الّذی یسیل فی مجری لیّن مسترسل بألفاظ بدیعة جمیلة مفعمة بالمعانی وتراکیب فصیحة ولم یکن یصدر من الامام تکلّفا والتماساً للصنعة قطّ بل نشأ عن موهبتة واستعداده للفصاحة والبلاغة وعن ضمیره التقی السامی مستلهماً معانیه وصیاغة الفاظه من القرآن الّذی هو فوق قدر البشر.
مقدمة
الامام السجّاد علی بن الحسین، زین العابدین (ع)آحد أباة وأجواد التاریخ الانسانی، وینتمی الی آخر أنبیاء الله علی وجه الارض، ویعتبر من أعلام وزعماء آخر أدیان الله عن جدارة وحق.
کان الامام زین العابدین (ع) یعیش فی زمان کان الاسلام فیه یخطو خطواته عبر العقود الاولی لظهوره ومع ذالک ففی هذه الفترة القصیرة واجه حوادث کثیرةً لقد خلّف وراءه حروباً عدیدةَ وخسِر جوهاً منیرًة وفریدةً وسیطر الارهاب علی الجتمع الاسلامی خاصة علی العلویین.
و من الطبیعی أنه اذا کان وضع الجتمع بهذا الصورة فالتربیة والارشاد الدینیان بین الناس وتوجیههم الروحی، کم کانت صعبة والی أی درجة کانت عسیرة غیر مستطاعة
ففی مثل هذا الاحوال الاجتماعیة السیئة وغیرالملائمة، اعتبر الامام السجاد (ع) أن أهم وأفضل عمل یقوم به لخلق وحفظ علاقة الناس الروحیة والتعبدیة بالله، هو الدعاء، فدعم بذلک الجانب الروحی للأمّة وذکّرها خلال ذلک بالمحاذیر السیاسیة والنصائح الاجتماعیة والأخلاقیة المهمةْ.
لم یجد الامام بداَ من ترک لهجة الصراحة فی هدیه وارشاده والتوسل بلغة الدعاء فی توجیهاته، لأنّ الدعاء لغة عالم الغیب. إنّه اللغة التی یستعملها الانسان دائماً فی التعبیر عن حاجته للقوة التی تعلو علی وجوده.
الدعاء علاقة روحیة ومثالیة بین المخلوق والخالق، ومن هذه الناحیة صار رکناً اساسیاً فی عبادتنا العملیة والنظریة معاً ومن الطبیعی ان الدعاء لیس کلمات تلفظ فحسب وانما النیة وحدها نوع من الدعاء أیضاً ولکنه اذا ظهر فی ثوب الالفاظ اکتسب رونقه ومظهره الخارجی الذی یتجاوز خصوصیة المکان والزمان. ففی کل زمان ومکان یجب علی الانسان أن یخشع فی محضر الربوییة ویرجو فضله وکرمه.
لقد ظلت أدعیة الامام السجاد الموسومة بـ «الصحیفة السجادیة الکاملة» سنوات طوالاً فی متناول ید المسلمین عموماً ولاسیما الشیعة وکل من کان جدیراً باستعداده ولیاقته الانتفاع بها والاستفادة منها. ان الصحیفة السجادیة المشهورة والمتداولة حالیاً تحوی أربعة وخمسین دعاءً بناءً علی روایة- رواها عمید الرؤساء رضی الدین أبو منصور هبة الله ابن حامد الحلی (المتوفی سنة 609 ﻫ).
عن بهاء الشرف أبی الحسن محمد به الحسن بن أحمد بن علی بن محمد بن عمر بن یحیی العلوی الحسینی، وهو نقلها أیضاَ عن ثمانیة رواة مذکورین فی مقدمة الصحیفة نفسها، رووها عن یحیی بن زید بن علی بن الحسین(ع).
فمن المؤکد أن الموجود الان فی ید الاستفاده باسم «الصحیفة السجادیة» هو نصّ ما قاله الامام زین العابدین (ع) کی یکون مصباحاً ینیر طریق الحیاة ویهدی الناس لیس فقط فی ذلک الزمان بل فی جمیع المراحل ولکل الأجیال.
وبناء علی ذلک لایتطرق إلیها أدنی شک وشبهة من ناحیة قیمتها واسنادها.
الصحیفة هی موسوعة تحمل فی طیّاتها أصول العقائد الاسلامیة وأسس وقواعد الفضائل الاخلاقیة، غنیةً بالمسائل العرفانیة الدقیقة والمفاهیم السیاسیة والاجتماعیة. والمعنویة الرائعة. کتاب تزکیة النفس وتهذیبها ونضج وکمال الروح.
أما من الناحیة الأدبیة فمن حیث أنه یمتلک ناصیةَ أدب الدعاء والنجوی، فله شأن ومقام خاص یتفرد به. فهو من أجمل النصوص الادبیة التی لم تحظ بتحلیل وتدقیق کافیین مع الأسف حتی الآن من ناحیة «علم الجمال الأدبی» وأسلوب ونمط تعبیره، وإنّما أقتصر الامر علی شرح الصحیفة وتفسیرها من حیث معناها وأسسها الاعتقادیة وطرائفها العرفانیة.
إنّ لغة الامام (ع) کلغة علی (ع) وجدّه العظیم النبی الکریم (ص) مستلهمة من الوحی الالهی الینبوع الأصلی لنبوغهم المتمثل فی الأدعیة الجمیلة البدیعة التی تفتح سبیل الخلاص. والجدیرة جداً بالتحقیق والتتبع. الصحیفة هی التراث السامی الرفیع للرسول وأهل بیته الطاهرین، الذی «هو فوق کلام المخلوق ودون کلام الخالق2» انها أثر خالد قیم تعتبر رعایته وحراسته واجباً علی جمیع المسلمین.
الحقیقه هی أن سعة الساحة البلاغیة للصحیفة ذات آفاق واسعة جداً او أغوار بعیدة جداً وعند البحث والتدقیق فیه ندرک أن الامام (ع) بناءً علی ظروف زمانه ومقتضی الحال والمقام وما توجبه الطبیعة الذاتیة للدعاء والنجوی، اختار لهجةً بسیطةً وأسلوباً سهلاً فی کلامه هو بما یحمل من سلاسةٍ وسهولةٍ وبغیر أن یحمل أقل مسحةٍ من التعقید اللفظی أو المعنوی أصبح فی صورةٍ استطاع معها العامة والخاصة علی اعادتها ودراستها والاستفاده المیسورة منها. وإدراک معانیها ومفاهیمها العالیة وکل إنسان ینتفع ویستفید منها علی قدر إحساس وفهمه.
إن أدب الدعاء یمتلک أساساً مزایا وأسالیب خاصةًَ به. منها بساطة التعبیر والبیان تمیّزه عن إسلوب الخطابة والرسالة والوعظ.
فإن هذه الصحیفة لو طالعناها بدقة حتی نهایتها لأدرکنا أن الامام کلما استعمل التشبیه والکنایة ولغة المجاز والاستعارة، استعملها فی لطف وجمال وعبّر عن المطلوب بتراکیب تُداعب الروح، لذلک یمکن الاستنتاج من أن الامام لوشاء واقتضی «ادب الدعاء» ذلک لاختار تعبیراً أفضل وأکثر اختلافاً مما قاله من الناحیة الأدبیة ولاستعمل کلماتٍ وترکیب فی المجاز والاستعارة اکثر عمقاً.
کلامه مسجع وسلس وبسیط وبعید عن کل اشکال التکلف والتصنع اللفظی ویتمتع بمسائل اخلاقیةٍ واجتماعیةٍ وسیاسیةٍ مهمةٍ وبارزة.
یبدأ الامام علیه السلام کلامه بالحمد والثناء علی الله سبحانه وذکر بعض صفاته وخلق الکائنات کما کان الامام علی (ع) یفعل مثل ذلک فی نهج البلاغة ایضاً دأب الرسول (ص) فی خطابه وحدیثه وأصحابه وأولی من ذلک القرآن نفسه الذی یبدأ بالحمد والثناء علی الله (سورة الحمد) فالامام السجاد بهذا إتبع طریقة القرآن الکریم وأجداده العظام. ونظم حدیثه مع شکل أحادیثهم، وهذا الشکل من ترتیب الحدیث یلاحظ أیضاَ بعد الامام السجاد فی إحادیث سائر الائمة علیهم السلام ثم فی أحادیث أعلام الأدب وعلماء الدین ألی یومنا هذا.
بل أنّ ذلک أصبح أحد شروط «آداب العبودیة» الذی ظهر فی الدعاء کسبب بارز وباعث علی الاطمینان لصلة الانسان باالله کما قال الامام الصادق علیه السلام:
«إن الدعاء الذی لایکون قبله تحمید فهو أبتر إنما التحمید ثم الدعاء».
وقال الرسول (ص) «کل أمر ذی بالٍ لم یبدأ فیه بالحمد فهو أقطع».
نظراَ لبدایة الامام بحمد الله وهو تناسب شأن ومقتضی الدعاء وبیان الحاجة، من «حسن الابتداء» الذی یطلقون علیه أیضاً «حسن الافتتاح» و« براعة المطلع» و «براعة الاستهلال» بشکل یجعل المستمع مشدوداَ بالکلام ومشتاقاً لسماعه حتی نهایته.
إن «حسن الابتداء» أمر مهم مؤثر جداً فی کل حدیث نثراً کان أو شعراً ذلک لأنّه مطلع الحدیث وأول ما یصل الی أذن السامع وجاعله للسمع والاصغاء واذا لم یکن مرغوباً ولطیفاً وواضحاً وقریباً للقب ومناسباً للمقام ومقتضی الحال فهو یبعث السامع أو القاری علی النفور والاشمئزاز ویصرفه عن سماع أو قراءة باقی الحدیث. الکلام یشبه قفلاً مفتاحه ابتداؤه، لذا یجب فتح قفل کل حدیثٍ بمفتاحه المناسب کما فعل الامام ویقول: «الحمدُ لله الأولِ بلا أوّلِ قبلَه والآخِر بلا آخِرٍ یکون بعده، الّذی قَصُرَت عن رؤیته أبصارُ النّاظرین وعجزت عن نعته أوهام الواصفین. ابتدعَ الخلق ابتداعاً واخترعهم علی مشیته اختراعاً».
ففی جمیع الاجزاء من الادعیة- لا فی الدعاء الاول فقط- وردت الکلمات والعبارات یتلو بعضها بعضاَ، فی انتظام ونسق متینِ جمیل وبانسجام سلیم وحسن دون أن یرد فیها اصطلاح ناشز معیب لاینسجم مع المقصود والمضموم. فالجمل متناسبة فی ترکیبها وتتابعها وعطف بعضها علی بعض فکأنّ العبارة السابقة مختصر ومجال للعبارة اللاحقة، والعبارة اللاحقة توضیح وکمال للعبارة السابقة.
فالربط والعلاقة بین العبارات محکم ومنسجم إحکاماَ لفظیاَ ومعنویاً عمیقاً بحیث نلاحظ بوضوح أنّ کلّ عبارة تستوجب عبارتها التالیة بصورة عفویة وطبیعیة.
کلامه کالماء الجاری الذی یسیل فی مجری لین مسترسل بألفاظ بدیعة جمیلة مفعمةٍ بالمعانی، وتراکیب صحیحةٍ فصیحةٍ وفی فراش دقیق ناعمٍ فیصبّ فی النفوس الطاهرة ویهب القلوب من مائه الزلالٍ صفاءً وجلاءً.
هذا النسق الحسن والانسجام التام والاتحاد المعنوی المقرون بأشکال فنون البلاغة المتنوعة لم یکن یصدر من الامام تکلفاً والتماساً للصنّعةٍ قط بل نشأ عن موهبته واستعداده للفصاحة والبلاغة وعن ضمیره النقی السامی ملهماً عن القرآن الذی هو فوق قدر البشر.
فی جمیع أدعیه الامام علیه السلام نشاهد أنها علاوةً علی ما فیها من «حسن ابتداء» و «حسن التنسیق» ، فیها أیضاً «حسن الختام» بشکل ملائٍم جذاب وبلیغ فی التألقّ والنظام أعلی مستویً یمکن أن یصل الیه حدیث ولاسیما إذا لاحظنا أن الجزء الأخیر من الکلام یبقی فی أذن السامع اکثر مما یبقی رنین الاجزاء الأخری أحیاناً لایبقی فیه سوی الجزء الأخیر ولاتستقر سوی لذّته الأخیرة.
فکما نری فی «الدّعاء الأول» الذی یدور حول الحمد والثناء علی الله ویتضمن صدره ووسطه وآخره عباراتٍ عدیدةً تکرر الحمدلله وبیان أهلیّته ولیاقته وتردد شکره وحمده فإنَّ آخر عبارةٍ فیه هی «إنّه ولیٌّ حمیدٌ» وابتداء الدعاء بعبارة الحمد، وختمه بعبارة الحمد أیضاً یعتبر ترتیبا ذا جمال خاص وفی غایة اللّطف والرقّه فیمکننا أن نقول هذا نوع من ردّ العجر علی الصدر: الحمد الله علی ماعَرَّفنا من نفسه... حمداً یُضیءُ لنا به ظُلُماتِ البرزخ.... و الحمد لله الّذی دلّنا علی التوبة التی لم نُفدِها إلّا من فضله... حمداً لامنتهی لحدّه ولاحسابَ لعدده... إنّه ولیٌّ حمیدٌ.
هذه عناصر البلاغة الثلاث التی عدّدناها وهی «حسن الابتداء» و «حسن النسق» و «حسن الختام» تظهر فی أدعیة الصحیفة جمیعاً .
وبعد افتتاح الامام علیه السلام الکلام بالحمد والثناء علی الله علی حسب ما یقتضیه الدعاء یواصل فی الدعاء الثانی ذلک بذکر الاسم المقدس لرسول الله (ص) والصلاة والسلام علیه وآله، والذی هو من أدب الدعاء لانّ من الأنسب قبل ذکر الحاجة فی محضر الألوهیة الابتداء بالحمدٍ والثناءٍ علی الله وبیان استحقاقه لحمدٍ و ثناءٍ لاحدَّ و لانهایةَ لهما ثم السّلام والصّلاة علی النبی (ص) وأهل بیته علیهم السّلام کأنما ذلک بمثابة تمهیدٍ ومقدمةٍ لعرض الحاجة واستجابة الدعاء.
الصحیفة السجادیة من حیث فصاحة الکلمة والکلام تطابق قواعد ومقاییس «علم البلاغة» تماماً. فکلماتها- کلٌ منها بمفردها- خالیةٌ من العیوب التی أحصوها فی «علم المعانی» وعدّوها مُخلةً بفصاحة الکلمة، أی أنه لاتوجد کلمة أو تعبیر واحد فی الصحیفة کلها لها صفة «الکراهة فی السمع» أو «غرابة الاستعمال» أو«تنافر الحروف » ولیست کذالک مخالفة للقیاس.
ویجب علینا- فی الوقت نفسه- أن نشیر الی ثلاثة مواضع یبدو أنها تخالف قواعد الصرف العربی المألوفة ظاهراً ولیس موضع غیرها:
ففی الدعاء الاول- العبارة السادسة- لفظة «یتخطّأ» استعملت بمعنی یخطو خطواته وهی: مضارع من باب «التفعّل» من فعل: خَطا یَخطُو خَطواً أی یسیر وکما هو واضح فإنّ لامَ الفعل «واو» فی الأصل ولکنّه صار «همزةً» فی المضارع ویظهر للوهلة الأولی أنه من مادة «خطأ» (بالهمز) بمعنی الغلط وعدم الصحّة فی حین أن المقصود بالعبارة الخَطو من الخُطوَةِ لا الخطأ بمعنی الغلط:«... ثم ضَرَبَ له فی الحیوة أجلاً مَوقوتاً ونَصَبَ له أمَدَاً محدوداً یَتَخَطَّاٌ إلیه بأیّام عُمُرهِ ویَرهَقٌه بأعوامِ دَهرِه...».
فهذا نجیب عنه بجوابین:الأول:أنّ «الواو» أبدلت بالهمزة (ابدال الهمزة من الواو) کما کان شائعاً عند العرب3 فورد مثله فی کلام الامام ولهذا فأنّ هذا الاستعمال مناسب الاستعمال لهم والّذین هم المعروفون بالفصاحة.
والتوجیه الثانی أنّ تساهلاً جری فی ضبط هذه الکلمة من قِبَل النُسّاخ وأن أصل الکلمة هو «یتخطّی» کما ورد فی نسخة خطّیة اخری من الصحیفة انها اکتشفت فی الحضرة الرضویة المقدسة بمشهد عام 1348 ﻫ. ش «یتخطّی» علی وجهه الصحیح.
فعلی هذا فلا وجه للنقد أو تخطئة صرف الکلمة ابداً.
أما الموضع الثانی والثالث: فقد ورد فی الدعاء الثامن- العبارة السادسة- «أن یَستحوِذَ علینا الشَّیطانُ» وفی الدعاء الواحد والثلاثین- العبارة السادسة- «إستَحْوَذَ علیه الشَّیطانُ». فنلاحظ أن الفعلین معاً «الماضی و المضارع» استعملا خلافاً لقواعد الصرف العربی المألوفة ولم تُعَلّ اعلال القلب: قلبُ «الواو» یاءً فی المضارع، وألفاً فی الماضی. لکن بالرغم من ذلک فهذه الکلمات لاتخلّ بالفصاحة لانّ هاتین العبارتین استعملتا من باب التلمیح مشاراً بهما الی الایة (9) من سورة المجادلة «استَحوَذَ علیهم الشّیطانُ» والقران الکریم استعملها حسب استعمال الناس لها مطابقهً للتداول والاستعمال اللّسانی فی ذلک الوقت فهذا لیس فقط غیر مخالفٍ للقاعدة الصرفیة بل أنّه هو الفصاحة بعینها فهذه الکلمة وأمثالها نظیر «مغرِب و مشرِق» والّذی یظهر أنها- فی ظاهرها- مخالفة للقاعدة الصرفیة وقد وردت کذلک فی القرآن الکریم، تعتبر من شواذّ مبادی اللّغة العربیة، فاذا استُعملت کلماتٌ غیرُ هذه التی عُرِفت وصُنّفَت کشواذّ عن القاعدة فهی فی نظر من جَرَوا فاعلی استعمالها موافقةً للقاعدة تُعتبر غریبهً عصیّةً علی الفهم.
فهذه الکلمات والعبارات موافقة للاستعمال الشائع علی مخالفتها للقاعدة العامة الصرفیة لأنّ اللغة تتطوّر وتتبدل وتحرز تقدّماً کمّیّاً ونوعیّاً وتحل القواعدُ الجدیدة الملائمة للطور مَحَل القواعد القدیمة.
فهذه الکلمات التی وردت فی کلام الامام علیه السلام للاسباب التی شرحناها لاتعتبر مُخلّةً بالفصاحة بل إنّ استعمالها یفصح عن واقع الثقافة اللّغویة لذلک العصر وهو أنّ العربکانت تألف تراکیب کلماتٍ کهذه، وتستعملها فی کلامها وتفهمها.
أما من ناحیة فصاحة الکلام فالصحیفة تتمّع بمراعاة جمیع معاییر وأصول البلاغة التی یجب أن یراعیها الأدیب البلیغ والشاعر والمتحدّث.
فلست تری أیّ عیب من عیوب فصاحة الکلام فی الصحیفة کلها: مثل«ضعف التألیف» و «و التعقید اللّفظی أو المعنوی» و «تنافر الکلمات» و «تتابع الاضافات» و «کثرة التکرار» مع أن العیبین الأخیرین لایخّلان بفصاحة الکلمة إلا إذا سبّبا ثقلاً وصعوبةُ فی التلفظ وأخلّا بالذوق السلیم وإلّا فما اکثر ما یعدّان من محسنات الکلام کما ورد فی القرآن الکریم: «مثلَ دأبِ قومِ نوحٍِ» ففیه تتابع اضافات هو فی الوقت نفسه جمیل حسن. وکذالک قوله تعالی: «و نفسٍ و ما سوّاها فألمهَمَها فجورَها و تَقواها» ففیه «کثرة تکرار» للضمیر «ها» ولم ینتج عنها إیة صعوبة وثقل بل انّها نسق جمیل جّداً جیّد الوقع واللّحن فی الأسماع.
وورد فی الصحیفة السجادیة موضع واحد یلفت النظر- فی الدعاء 47 العبارة السادسة والثلاثون- من «تتابع الاضافات» و«کثرة التکرار» اللذین اجتمعا معاً فی عبارة واحدة وانجلت العبارة منهما فی انسیاق وبساطةٍ تامَّین، ولم یتسبّبا أی صعوبةٍ فی التلفّظ بل اعطَتا العبارة صورةًَ جمیلةً ووقعاًُ جذّاباًَ مثیراً فیها: «و لکَ الحمدٌ مَعَ حمدِ کلَّ حامدٍ». فی هذه العبارة التی جمعت بین ظاهرتین بلاغیتین: کثرةُ التکرار وتتابع الاضافات بوجه احسن یلاحظ انها رغم تکرار الحمد وتوالی الاضافه فی حمد کلّ حامدٍ تخلو من الثقل والصعوبة فی اللّفظ والتکلّف والقبح ولاتزعج الذوق السلیم. بل انها ذات نغمة لطیفة ومترقرقة فضلاً عن جناس الاشتقاق.
فکل ما ذکره علماء «علم المعانی» عن أحوال المسند والمسند الیه، والایجاز والاطناب والمساواة والفصل والوصل والحصر والقصر یلاحظ جیّداً من بدایة الی نهایة الصحیفة وتظهر بوضوح النماذج المبیّنة لذلک وجمیعها تمثل توافقاً تامّاً مع أصول ومبادی «علم المعانی» ولمّا «لغة الدعاء» تبتعد أصلاً عن الاطناب فإننا نری هنا العبارات موجزةً وقصیرةً ویتلو بعضُها بعضاً أو یعلو ویتجاوز بعضُها البعضَ الآخرَ.
نراها قد إبتعدت عن الإسهاب والإطالةِ حتی تبلغ بالحاجات الی عتبة اللهِ فی اقصر مدّةٍ من الوقت إلّا عند ما یکون المقصود هو التأکید أو غیر ذلک من المقاصد المعنویة الأخری کالشعور واللّذة من الجلوس مجلس المتحدث مع المعبود الأسمی والربّ الأحد الذّی لاکفء ولانظیر له.
فمثلاً ورد فی الفقرة الأولی من الدعاء الثانی والخمسین قوله: «وکیف یَخفی علیک- یا إلهی- ما أنتَ خلقْتَهُ و کیفَ لاتُحْصی ما أنتَ صنعتَهُ أو کیفَ یَغَیبُ ما أنتََ تٌدَبّرُهُ»
نشاهد هنا الضمیر المنفصل «أنتَ» قد تکرر- مسنداً ومسند الیه - فی کل جملة ولو حذف هذا الضمیر واکتفی مکانه بالضمیر المتصل- تاء المخاطب- لکان التعبیر تاماً یفی بالمقصود، ولکنّ الإمام علیه السلام- رغب عامدا ًفی إطالة الکلام تلذُّذاً بالحدیث مع الحق تعالی وتأکیداَ علی أن کلّ شیٍءٍ منه والیه، وکذلکَ استعمال الجملة الندائیة المعترضة- یا الهی- خلال الدعاء، وهو ظاهرة إطناب- انما جاء استدراراً لشفقة ورحمة وعطف المعبود.
ولکن نری الامام فی الدعاء التاسع والعشرین یذکر «اللّهمَّ» مرةً واحدةً فی مطلع الدعاء ولم تتکرر هذه العبارة حتی آخره بالرغم من قصر الدعاء وبالرغم من أن عبارة «اللّهم» ذٌکرت کراراً فی الأدعیة الاخری باهرةً مکررةً.
فمثلاً کرّرت عبارة «اللّهّم » ثلاث مرّاتٍ فی الدعاء الثلاثین الّذی یشابه الدعاء التاسع والعشرین فی الطول تقریباً.
فإذا تعمقنا بدقةٍ فی عمق معنی ومفهوم کل من الدعاءین، ونظرنا الی أغوار الروح من کلامه، فسنَفهم أن الحدیث فی الدعاء التاسع والعشرین یدور علی الضیق والبلاء وشکوی العبد السّیء الظّن بلطف ورحمة الله حتی طفق یلتمس طلبه من غیر الله (حتی التمسنا أرزاقَکَ من عند المرزوقین).... العبد الذی لم یصل بعدٌ الی تلک الدرجة من الیقین والثبات القلبیّ الراسخ بالفضل والرحمة الالهیّة وبأنه اذا انفرجت ورفهت الحیاة فذلک یحدث من قِبَل الرزاق القادر لا المرزوق العاجز فهو غیر جدیرٍ أن یذکر اسمَه تعالی حین یناجیه وما اکثر من لایتامَّلُ الامورَ لجهله وإعوجاج تفکیره فینسب التنعّم بالنعم الحیاتیّة الی العوامل المّادیّة والاشخاص المرتزقین لابمبدأ الوجود والله المرسل الارزاق بل انقطعت صلتهم بالله وعندما یبتلوُن بالمِحَن والبلایا فقد یٌقلبون عند ذلک علی خالقهم.
أما الامام علیه السلام فهو منزّه عن هذه الأوصاف بل انّه فی أعلی مراتب القرب والمنزلة الالهیة وما یذکره فی أدعیته عن وضع الداعی وتقصیره فهو لسان حال العباد المخطئین أمثالنا- نحن الّذین نطلب الرزق من غیر الله لأننا نشکُّ فی أن المصدر الوحید الرازق المُنعم بالوجود علی کل شیء هو الله سبحانه.
أما الدعاء الثلاثون فالاهتمام متوجّه فیه بتمامه الی فضل الله واحسانه واللجوء الیه والعیاذ به من شرّ الحقد والعداوة والاستدانة وأن الله هو وحده مصدر طلب العون والاعانة لیبقی عبده العاجز حافظاً لکرامتة، ناجیاَ من غُصَص العجز والحاجات. وإنّ عبداً یتصف بالثقة لذلک لجدیر بذکر اسمه الأقدس عند شرح حاجته لمولاه والتماس مواهبه وأفضاله، لیتوسّل بذلک الی أن یقول: إنّ الله والله فقط هو الملجأ الأوحد الجدیر برفع الحاجة الیه وطلب اجابتها منه.
وکذلک قد کرر فی الدعاء السابع والأربعین بعض العبارات فمثلاً: جملة «أنت الله لا اله إلّا أنت» کررها عشرَ مرّاتٍ أوّلً الدعاء و «سبحانک» کرّرها اکثر من ذلک فهذا الاطناب والتکرار من باب تأکید وتقریر المعنی فی النفس والتلذّد من مصاحبة الله تعالی. و قد بدأ کثیراً من العبارات بب «ربّ» و کثیراً غیرها بـ «اللّهّم» وهذا «مقتضی الحال» والتکرار لأجل ایضاح وتقریر المبدأ الوحید للأمل والرجاء ومن ناحیة أخری فإن تکرار إسمه الأقدس یهب الداعی اللذة والحیاة.
والتشبیه الذّی هو أحد مواضیع علم البیان بل یمکن القول انّه أهم من الفنون البلاغة الأخری لهذا العلم وأکثرها حساسیة قد استعُمل فی الصحیفة السجادیة بشکل جمیل وظریفٍ جداً.
إن من التشبیه بشکل یناسب الهدف ویفصح عنه ویؤثر فی نفس المخاطب وبالنظر إلی أغراضه مثل: بیان حال المشبه،
تقریر وتثیبت حال المشبه فی الذهن، مدح المشبه، ذّم المشبه وغیر ذلک لیس عملاً یستطیع أن یقوم به کلّ من شاء بل انّه عمل الأدیب أو الشاعر الواعی البلیغ المقتدر الذی یستطیع القیام بذلک.
ذلک لان «المشبّه» إذا شُبّه بشیءٍ لیس بینهما أیٌ وجه شبهٍ أو أنّ وجه الشبّه شیء لیس هو المقصود من التشبیه أو أن وجه الشبه فی المشبّه به ضعیف فی حین أنه یجب أن یکون أقوی منه فی المشبّه واذا کان وجه الشبه لایفصح عن الغرض ویمکن اختیار «مشبه به» آخر یکون فیه وجه الشبه المطلوب أقوی وأبلغ فذلک یجعل التشبیه عدیم الفائدة بل انه أحیاناً سیّء الأثر بالغ الضرر بالبیان، یزیل تأثیر الکلام فی النفوس. ولذلک ندرک أنّ شخصاً بلیغاً أو شاعراً حاذقاً ماهراً هو وحده الذی یستطیع أن یعبّر عن أغراضه وقصده بحدیثه المؤطّر بالتشابیه بشکل مناسب ومؤثر بحیث ینفذ الی نفس السامع ویکون ذلک باعتماده علی ثقافةٍ واطلّاع وافرٍ علی المظاهر والقضایا الاجتماعیة والصفات والمزایا الذاتیة والطارئة لها، ومعلومات کافیة فی «علم الجمال» والنظر محیطه القریب منه نظرة فنّیه وشعوریة وعقیلة. خاصة اذا یلقی الکلام ارتجالاً کالامام علیه السلام فی الصحیفة.
وفی الصحیفة السجادیة کثیر من هذه التشبیهات سنشیر الی بعض الموارد منها کمثال علی ذلک ففی الدعاء الثانی - العبارة الثالثة - فی وصف جناب محمد(ص) یقول‚ «اللّهم فصلَّ علی محمّد إمینک علی وحیِکَ ونجیبکَ مِن خلقکَ وصفیَکَ مِن عبادِکَ إمامِ الرَّحمَة وقائد الخیر ومفتاح البرکةِ». یشبه الرسولَ (ص) بالمفتاح. إن هذا التشبیه «تشبیه بلیغ». ²قالوا عنه إنه أرقی وأفضل أنواع التشبیه لأنه لایذکر فیه سوی المشبه والمشبّه به، وتبلغ فیه قوة التصور درجةً من الرّقی بحیث یوهم هذا النوع من التشبیه اتحّاد المشبه والمشبه به وعدم أرجحیّة أحدهما علی الآخر ویکتسب المشبّه امتیازاً فی صفته بحیث یبلغ فی وجه شبهه الی مستوی المشبّه به: وهو نوع من المبالغة فی قوّة التشبیه وقد أوضح الامام هنا بأسلوب التشبیه أن الرسول (ص) لیس مشابهاً لمفتاح البرکة بل إنّ تلکالحضرةَ المبارکةَ هی مفتاح البرکة نفسه وانّه هو المختص بفتح إبواب البرکة الالهیة، وأیضاً فی ترکیب «مفتاح البرکة» استعارة بٌنیتَ علی تشبیه البرکة بما له المفتاح فترک المشبه به وذکر ما یتعلّق به، فهی استعارة مکنیّة ومن حیث اثبات ما یلزم ویختص بالمشبّه به للمشبّه (البرکة) فهی استعارة تخییلیّة.
source : www.abna.ir