من مؤلفات الاستاذ راشد الراشد، باحث اسلامي وقيادي في تيار العمل الإسلامي البحريني.
الإمام الحسن (ع) وتجربة الصلح والمرونة السياسية
الظروف السياسية:
بعد حادثة الغدر التي أودت بحياة الإمام علي (ع) هرعت الأمة لمبايعة الإمام الحسن (ع) كقيادة شرعية لها، إلّا أنّ قراءة سريعة لمجمل الظروف والأوضاع السياسية التي كانت سائدة عند تولي الإمام الحسن (ع) مهام القيادة في الأمة، نجد أنّها لم تكن تتعدی ظروف القلق والأضطراب التي كانت تعيشه الساحة، علی أنه يمكننا تلخيص الوضع السياسي خلال هذه الفترة بالشكل الآتي:
1_ القوی السياسية:
إن ثلاث القوی الرئيسية التي كانت تتحكم في أحداث الساحة، وترسم وقائعها التفصيلية بكل دقائقها تتمثل في الحركة الإسلامية (الكوفة) والحزب الأموي (الشام) والخوارج (الكوفة)، تتجه كل واحدة منها في إتجاهات مغايرة للقوی الأخری بغية المزيد من تحقيق القوة، بل وتسير في أحايين كثيرة في إتجاه تحطيم وإضعاف القوی الأخری، للتفرد بالساحة ومن ثم السيطرة عليها تماماً.
فالحزب الأموي القابع في الشام يستعد لشن هجوم علی الكوفة (مركز الدولة الإسلامية)، كما أن الخوارج لازالوا يواصلون باستمرار حملاتهم الهوجاء للتشكيك في قيادة الأئمة (ع) للأمة، وقد أدّت حملاتهم المسعورة في هذا الإتجاه إلی ايجاد وخلق مجتمع متمزق تسود فيه نوازع الإختلاف وعدم الثقة والإنحراف.
مما جعل الإمام الحسن (ع) يبدأ قيادة للأمة في ظل ظروف سياسية بالغة التعقيد، فمن جهة تتوالی علی الأسماع أنباء إستعداد جيش الشام لمعركة الفصل، ومن جهة ثانية وضع المجتمع الكوفي في حالة يرثی لها من التمزق والتفكك لتأثره بحملات التشكيك التي يشنها (الخوارج) ضد الإمام علي (ع).
ومن الأفكار والدعايات المضللة التي راجت في بداية عهد الإمام الحسن (ع) إن الصراع الحقيقي علی الدولة الإسلامية هو بين بيتين، البيت الهاشمي والبيت الأموي، حيث إنتشرت مثل هذه الأفكار كما النار في الهشيم بالذات لتقاربها مع مقولة (إن الحكم إلا الله).
إن موجة التشكيك التي تنامت في هذه الفترة بفعل هذه الدعايات والأفكار الضّالة، نتيجة واقعية للتخلف والجهل الذي كان يعيشه المجتمع الإسلامي حينها.
والسؤال: ما هي الخطة المثلی التي يجب أن يواجه بها الإمام الحسن (ع) الواقع السياسي الذي تعيشه الأمة؟
أو ما هو المنهج الأفضل لمواجهة التحديات الخارجية المتمثلة في تصاعد رغبة القتال عند الحزب الأموي (الشام) ضد الدولة الإسلامية، ولمواجهة التحديات الداخلية التي تعيشها الأمة في المجتمع الكوفي؟
وبعبارة موجزة: ما هي الإستراتيجية المثلی التي يجب أن يتبعها الإمام الحسن (ع) في مواجهة الحزب الأموي والخوارج؟
والجواب: كان علی الإمام (ع) في تلك الفترة خوض صراع مزدوج، تتسم إحدی أطرافه بأقصی مراحل العنف لمواجهة الحزب الأموي الذي يرغب بالقتال، والأخر بأقصی مراحل الصبر والأناة لمواجهة موجة التحريف في الأمة التي يروّج لها الخوارج. ولكن لماذا صالح الإمام (ع) معاوية؟
إن الصلح الذي عقده الإمام الحسن (ع) مع زعيم الحزب الأموي (معاوية) هو من أبرز المفاصل التي ينبغي التركيز عليها حين تناول السيرة المباركة للإمام الحسن (ع) لكونه _الصلح_ أحد المنعطفات المهمة في سياق مسيرة الأمة الإسلامية، خاصة عند النظر بصورة مجملة إلی عموم المسيرة الإسلامية المباركة طوال فتراتها التاريخية.
وبمطالعة سريعة لمجمل الكتابات التي تناولت حياة الأئمة (ع) نجد أنّ (المصلح) هو المحور الذي دارت عليه أقلام الكتاب عند تناول سيرة الإمام الحسن (ع) أو عند التعرّض لها ضمن البحوث والدراسات المطوّلة التي تهتم بتدوين أحداث التاريخ ورجالاته، أو بالإشارة إليها عرضاً.
فيما تعرضت المسيرة الإسلامية المباركة التي كان يقودها الأئمة الأثنی عشر (ع) إلی تشويه وتحريف مغرض من قبل الأشخاص الذين حاولوا بوعي أو بغير وعي إعطاء صورة مشوهة عن تلك المسيرة.
ومن أبرز تلك المغالطات، المنهج الذي إتبعه بعض المؤرّخين في تناول سيرة كل إمام معصوم علی حدة وبصورة منفردة دون ربطها بموضوع «الإمامة» بل والأدهی من ذلك قيام بعض المؤرّخين بمقارنة منهج كل إمام في التحرك مع غيره من الأئمة ومحاولة إبراز الصفات القيادة لكل واحد منهم دون غيره من الأئمة (ع).
وتبرز خطورة هذه الكتابات حين يصف أحد الكتاب الإمام الحسن (ع) مثلاً بأنه أقل شجاعة من أخيه الحسين (ع) أو أن الإمام علي بن الحسين (ع) عابداً زاهداً علی عكس حفيده الإمام علي بن موسی الرضا (ع) الذي أقترب من ديوان الحكم وأستلم منصب ولاية العهد...وهكذا.
إن خطورة مثل هذه الإتجاهات في تناول حياة الأئمة تتمثل في تغييب إحدی المواضيع الهامّة والحسّاسة التي ترتبط بشخص كل إمام وهو موضوع «الإمامة»، ذلك أن كل إمام في حقيقة الأمر يمثل قضية جوهرية واحدة وهي موضوع «الإمامة» بكل مقوماتها وشروطها.
«والإمامة» تعني في إحدی أبرز مصاديقها، إستلهام الموقف من معين السماء لمعالجة الواقع الحياتي للبشرية بما يحوي من وقائع وأحداث.
ولكي تتضح الفكرة: إن كل موقف إتخذه كل إمام لاينفك أبدا عن كونه يمثل دور الإمامة. ولذلك فإننا يمكن أن نفهم موقف جميع الأئمة (ع) بيسر وسهولة حينما ندرك أنه لو بدلنا مواقع الأئمة في دورتهم الحياتية بإبقاء الظروف الزمانية لما وجدنا أي إختلاف في المواقف ومناهج التحرك عند الأئمة (ع)، فلو وضعنا علی سبيل الفرض الإمام الحسن (ع) في موقع الإمام الرضا (ع) لإتبع ذات المنهج والطريقة التي إتبعها الإمام الرضا (ع) لمعالجة الموقف في تلك الفترة. بملابساتها وظروفها المختلفة، وكذلك لو وضعنا الإمام علي بن الحسين (ع) مكان الإمام الصادق (ع) لاتخذ نفس الدور وطبق ذات المنهج الذي سار عليه الإمام الصادق (ع)، ولو جئنا بالصادق (ع) محل الإمام الحسين (ع) لقام بثورته كما فعل الإمام الحسين (ع) وهكذا دواليك.
ذلك أن كل إمام يمثل دور الإمامة ولا يمكن بأي حال من الأحوال تصور تناقض ما في دور الإمامة إلّا إذا كنا نتحمل الخطأ في دور الإمامة ذاته وهذا محال في واقع الأمر.
إذن فالصلح الذي قام به الإمام الحسن (ع) هو موقف كانت تمليه عليه حقيقة هامة، أكبر من الجانب الشخصي البسيط في التصور ألا وهي «الإمامة».
2-الواقع الجماهيري الإجتماعي:
صحيح أن المسلمين هرعوا لمبايعة الإمام الحسن (ع) بعيد إستشهاد والده الإمام علي (ع). ولكنه (ع) ولعدة اسباب كانت تعيشها جماهير المسلمين في تلك الفترة، كان دائماً يؤكد علی وجوب المبايعة بشرط السمع والطاعة. وتقول المصادر التاريخية إنّه كلما دخل فوج لمبايعته قال لهم:
«تبايعون لي علی السمع والطاعة وتحاربون من حاربت وتسالمون من سالمت».
وربما يدل هذا التأكيد والحرص الشديد من الإمام (ع) علی التذكير بوجوب الطاعة، علی الواقع الجماهيري الذي كان يعيشه علی أنّه متذبذب الحال وأنّه ليس في مستوی وعي حقيقة الصراع ومتطلباته.
ولنا أن نتسائل عند دراستنا لمسيرة الإمام الحسن (ع) عن التالي:
1_ ما هي دوافع الحرب التي كان يجب أن يخوضها ضد الحزب الأموي؟
2_ وما هي خليفات الصلح؟ أو لماذا صالح الإمام الحسن (ع)، معاوية؟ وعلی ما تصالحوا؟ وفي مصلحة من جاءت وثيقة الصلح؟
تعتمد نظرية الإسلام في مسألة (الحرب) علی أساس أنها وسيلة لتحقيق (السلام)، ومنع الإعتداءت، وصد الإنحرافات في الأمة، كما يرفضها كوسيلة لتحقيق المطامع والمصالح المادية الضيقة. أو الدخول فيها بمنطق الثارات، والحميات الجاهلية، والاحقاد، فلذلك فهو يدعوا إلی ما يحقق (السلام) أولاً ثم يقر (الحرب) إذا كان تحقيق (السلام) متعذرا الّا بها، بعد أن يضع قيوداً هائلة في أساليب الحرب من تأكيده علی عدم التمثيل أو التعرض للشيوخ والنساء والكهول والأطفال وحتی الأشجار.
وهناك روايات وقصص عديدة مستفيضة عن ضرورة التأهب للقتال والإستعداد للمواجهة المسلحة لكنها إنّما لصدّ الإعتداءات ولشل حركة المناوئين لأهداف الإسلام السامية.
وأما بالنسبة لأهمية حرب الإمام (ع) ضد الحزب الأموي فأنها تنبع من أسباب عديدة نوجزها في الآتي:
1_ عدم شرعية الحزب في إستيلاءه علی ولاية الشام.
2_ إعلان الحزب حالة التمرّد علی الخلافة الإسلامية خاصة بعد وصول الإمام علي (ع) إلی سدّة القيادة والتوجيه.
3_ حالة الفساد المتفشية في أروقة ودوائر ومؤسسات الحزب الأموي في الشام.
وفضلاً عن كل ذلك فإن محاولة الحزب لإثارة الدولة الإسلامية أكثر من مرة وعبر أساليب وأشكال متعددة، كانت تستدعي أخذ الإجراءت اللازمة من قبل الإمام علي (ع).
وفي عهد الإمام الحسن (ع) بلغت نشاطات الحزب ذروتها، وجعلت من مسألة السلم أمراً غير منطقياً. خاصة وأن جلّ تلك النشاطات كانت تدفع بإتجاه إعلان الحرب ضد الدولة الإسلامية بقيادة أئمة أهل البيت (ع).
فلقد كانت أنباء جيش الحزب الأموي القابع في الشام تذاع بوفرة في الكوفة والبصرة وسائر البلاد التي تحتمي تحت ظل الدولة الإسلامية مع كثير من المبالغة والتضخيم...حتی أن الناس تصوروا بأن حرباً ضروساً سوف تنشب ضدهم من قبل الحزب الأموي.
وبالفعل كان الحزب الأموي قد جهّز جيشاً تعداده ستون ألفاً بعضهم من الذين تم تحريكهم بقوة المال وأخرون من الذين لازالوا يحتفظون في ذاكرتهم بأحقاد وثارات بدر وحنين.
وحينما إبتدأ الجيش الأموي بالزحف ناحية الكوفة قاعدة إرتكاز الدولة الإسلامية ومقر الخلافة لم يكن هناك بديل عن التأهب والإستعداد لإعلان الحرب وصد الهجوم المضاد.
ولكن نظراً لطبيعة الظروف النفسية والإجتماعية التي كان يعيشها المجتمع الإسلامي حينها، إضافة إلی ضعف الوعي بجوهر رسالة الإسلام لم يكن من السهل اقتحام غمار الجهاد المقدس وإعلان حالة المواجهة والحرب مع جيش يتصف بجميع اشكال القوة والدهاء والحيلة والمكر.
ومما يزيد الطين بلة سرعة تأثير الإشاعات التي كانت تبثها عناصر الحزب الأموي في صفوف جيش الدولة الإسلامية وقد كانت من الشائعات ما لعب دور النار في الهشيم كالنبأ الإي يقول: إن الحسن يكاتب معاوية علي الصلح فلم تقتلون أنفسكم!
ولم تبدأ الإنهيارات والتراجعات في صفوف الجيش الإسلامي من صغار القوم، بل كانت محاولة الحزب الأموي في التأثيرعلی أبرز قيادات الجيش تؤتي ثمارها يانعة، فكان ممن تم التأثير عليهم (عبيد الله بن العباس) وهو القائد الأعلی للجيش الإسلامي، إذ كتب إليه معاوية: «إنّ الحسن قد راسلني في الصلح وهو مسلّم الأمر إليّ فإن دخلت في طاعتي الآن كنت متبوعاً، وإلّا دخلت تابع، ولك إن أجبتني الآن أن أعطيك ألف ألف درهم (مليون درهم) أعجل لك في هذا الوقت بنصفها وأذا دخلت الكوفة النصف الأخر. فانسلّ عبيد الله إلی صفوف الحزب الأموي دون أن يخبر أحداً وقد أحدث هذا بلبلة في صفوف جيش الدولة الإسلامية، وإضاف شيئاً أخر علی المعنويات الهابطة التي كان يتمتع بها الجند.
وثمة أسباب عديدة أخری تضافرت فيما بينها لتجعل من موضوع الحرب مسألة في غاية الصعوبة، وأنّ الإقدام عليها كخطوة في الصراع بمثابة إنتحار حقيقي خاصة، من خلال إطلالة سريعة علی الواقع المجتمعي العام الذي كانت تعيشه الأمة في تلك الفترة، وهي كالتالي:
يقسم المؤرّخون المجتمع الإسلامي في هذه الفترة إلی خمسة أقسام:
1_ الرساليون المخلصون: الذين إتبعوا الحركة الإسلامية يدفعهم لذلك واجبهم الديني والشرعي وهم القلة القليلة من أبناء الأمة.
2_ الخوارج: وهم الذين يريدون محاربة طرفي الصراع (الإمام الحسن (ع)، معاوية) إستنادا إلی الإسس السابقة التي بنوا تفكيرهم علی إساسها من قبيل إن هذا الصراع ما هو الّا صراع بين إسرتين وكلتاهما لا تمثلان شريعة الله في الأرض.
3_ الإنتهازيون: الذين يريدون الحرب للفتنة ولإشباع مطامعهم الدنيوية وهم أولئك الذين تعبوا من ظروف الصراع ولم يجدوا مبرراً مقنعا لإستمرارها.
4_ المشككون: وهم الكثرة الذين إعتراهم الشك في عدة إتجاهات إبرزها مشروعية هذا الصراع، ومن معه الحجة، أو بتعبير آخر لمن الشرعية في هذا الصراع؟!
5_ العصبيّون: وهم أصحاب العصّبية الذين أتبعوا رؤساء القبائل وكان تحركهم علی أساس النوازع الشخصية والقبلية.
مضافاً إلی ذلك أن معاوية إستعمل الرشاوی والوعود بشكل قوي حتی إستمال إليه عدد كبير من رجال الجيش الإسلامي الذي لم يكن وضعه_ هو الآخر_ يرضي الإمام الحسن (ع).
يقول اليعقوبي: سار عبيد الله إلی معاوية في ثمانية آلاف من أصحابه!(1)
كما أن عدداً من رؤساء القبائل كتبوا إلی معاوية بالسمح والصاعة بعد أن منّاهم بولاية من ولايات الشام وقدر غير يسير من المال، ووصل بهم الحال أن استحثوه علی المسير نحوهم، وضمنوا له تسليم الإمام الحسن (ع) أو الفتك به(2).
وتولت التراجعات في صفوف أنصار الإمام الحسن (ع) قن جه ةكانت الإشاعات تلعب دورها في زعزعة قناعات الكثيرين، ومن جهة ثانية أسهمت الأموال الطائلة والإغراءات المختلفة التي كان يقدمها الأمويون في تفكيك التماسك الصلب الذي كان يربط بين قيادات ورجالات الجيش الإسلامي، فإذا بهم ينسحبون بالعشرات بل بالمئات إلی صفوف جيش الحزب الأموي، حتی وصلت الأوضاع في الجيش الإسلامي إلی حدٍ لا يمكن الإطمئنان به للمجابهة.
وهكذا كان أمام الإمام الحسن (ع) الخيارات التالية:
1_ إما الإصرار علی المجابهة المسلحة مع قوات الحزب الأموي، بكل عوامل الضعف التي كان يعاني منها الجيش الإسلامي، ومن ثم الدخول في معركة غير متكافئة من جميع النواحي، مما يسبب في تعريض الأمة إلی خسارة غير محتملة.
2_ أو التنازل والإستسلام للحزب الأموي والإنسحاب من الصراع كلية وترك الساحة ليكسبها الأمويون من غير منازع أو منافس.
3_ أو التفكير في صيغة وسطية تخرج فيها الأمة من أزمة التورط في حرب غير متكافئة، وكذا الخروج من أزمة الإستسلام الذليل للقيادة السياسية للدولة الأموية.
ولمّا كان الخياران الأول والثاني يضعان الإمام (ع) في مواضع حرجة للغاية، ففي الأول إبادة التحرك الإسلامي وتصفية من الوجود وفي الثاني العمل الناقض تماماً لأخلاقيات الإسلام في الصراع والتحدي.
لذلك كان الخيار الثالث هو الفرصة الوحيدة للإمام (ع) للمحافظة علی الإنجازات والمكاسب التي حققتها الأمة طوال الفترات الماضية ولأجل مواصلة بناء القوة الذاتية والوصول بمستوی المجتمع الإسلامي إلی حالة التمكين من كسب جولات الصراع القادمة.
ولذلك كان (الصلح) قراراً حكيماً، جاء متناسباً مع حقيقة الوضع الذي كانت تعيشه الأمة حينها. وهو بحاجة إلی قدر كبير من المرونة السياسية في التعاطي مع الأحداث.
وعن مبررات الصلح، أجاب الإمام الحسن (ع) وفي مناسبات عديدة إن الهدف الأساسي هو المحافظة علی البقية الباقية من كوادر الأمة الإسلامية.
فقد قال (ع) لملك بن صخرة لمّا عاتبه علی الصلح: «إني خشيت أن يجتّث المسلمون من علی وجه الأرض، فأردت أن يكون للدين ناعي»(1).
وقال (ع) لأبي سعيد لما سأله عن علّة الصلح أيضاً: «لولا ما أتيت لما ترك من شيعتنا علی وجه الأرض أحد إلّا قتل»(1).
وحينما قال له سفيان بن ياليل: السلام عليك يا مذّل المؤمنين وكان يقصد الإساءة إلی الإمام (ع) بسبب إتخاذه قرار الصلح مع معاوية، فقال له (ع): «ما أذللتهم ولكن كرهت أن أفنيهم وأستأصل شأفتهم»(2).
وكان واضحاً من خلال الأحداث والتطوارات التي وقعت خلال هذه الفترة أن القضاء علی قوة الحركة الإسلامية من قبل الحزب الأموي، هي الخطوة الأولی التي كانت ترمي إليها القيادة السياسية للحزب ثم يأتي دور ملاحقة كل المؤيدين لها بغرض تصفيتهم، ثأراً لقتلی بدر وحنين.
وقد قال ذلك معاوية عدة مرات وفي أوقات مختلفة حينما يتعرض بالحديث عن سبب عداءه للأئمة (ع) وأشخاص أهل البيت (ع).
وتنقل كتب التاريخ أن معاوية إجتمع ذات مرة بإبن عباس فقال له: «إن في نفسي منكم لحزازات يابني هاشم وإني لخليق أن أدرك فيكم الثأر، وأنفي العار، فإن دماءنا قبلكم، وظلامتنا فيكم»!(3).
والسؤال الآن: كيف جاءت وثيقة الصلح؟ ولمصلحة من؟
لقد تصالح الطرفان علی مجموعة من الشروط وضعت في وثيق يلتزم بها الطرفان وهي:
بسم الله الرحمن الرحيم
هذا ما صالح عليه الحسن بن علي بن أبي طالب (ع)، معاوية بن أبي سفيان، صالحه علی أساس أن إليه ولاية الأمر علی:
1_ أن يعمل فيها بكتاب الله وسنة رسوله وسيرة الخلفاء الصالحين.
2_ وليس لمعاوية بن أبي سفيان أن يعهد إلی من بعد عهداً بل يكون الأمر بعده للحسن ثم لأخيه الحسين.
3_ وعلی أن الناس آمنون حيث كانوا في شامهم وعراقهم وحجازهم ويمنهم.
4_ وعلی أن أصحاب علي وشيعته آمنون علی أنفسهم ونسائهم وأولادهم، وعلی معاوية بن أبي سفيان بذلك عهد الله وميثاقه وما أخذ الله علی أحد من خلقه بالوفاء وبما أعطی الله من نفسه.
5_ وعلی أن لايبغی للحسن بن علي ولا لأخيه الحسين ولا لأحد منهم في أفق من الأفاق.
تعهد عليه فلان من فلان وبذلك وكفی بالله تعهيداً»(1).
هكذا تمت وثيقة الصلح، وعلی الشروط التي تضمنهتا تصالح الطرفان، ويتضح جلياً أن الإمام (ع) أراد تحقيق أهداف عديدة لم يكن بإلإمكان إنجازها في ظل الحرب والمواجهة المسلحة مع الأمويين ومن أبرزها:
1_ وضع الحزب الأموي في زاوية حرجة لأي اختراق ممكن أن يقوم به، وبالتالي إبراز الوجه الحقيقي للحزب وفضح إدعاءاته بالشرعية وتمثيل قيم السماء(2).
2_ الإستفادة من فرصة الصلح لإعادة ترتيب البيت الداخلي للحركة، وبناء قاعدتها بناءاً روحياً عالياً للاستعداد لمعركة الفصل.
يقول الأديب(3): ومن هنا جاءت قرارات الإمام (ع) الصائبة بأن يهادن مؤقتاً ويقبل بالصلح، ويفسح المجال لمعاوية يستولي علی العالم الإسلامي، ليكشف واقعه وواقع اطروحته الجاهلية ولكي يعرف هؤلاء المسلمين البسطاء والذين لم يكونوا يعرفون إلّا ما يرون بأعينهم وحواسهم، من هو معاوية وما هو واقعه وواقع حكمه ومن كان علي بن أبي طالب وماذا كانت اطروحته.
تطورات ما بعد الصلح:
إن عشرين عاماً من سيطرة القيادة السياسية للحزب الأموي علی العالم الإسلامي كانت كفيلة بكشف واقع هذا الحزب وحقيقة أطروحته، بالذات حينما إعتقد معاوية أنّ الساحة خاتم في معصمه، ولا أحد من جمهور المسلمين يراقبه ويمكن أن يقف لمحاسبته، بعد ما أصبح في تصوره أن العالم الإسلامي بحاضرة ومستقبله مرهون بأوامره.
ولكنه بذلك ساعد إطروحة الإمام (ع) في فضح واقعه وكشف زيف إدعاءاته، بالذات حينما ردد مقولته الشهيرة: «والله ما قاتلتكم لتصلوا ولتصوموا ولتحجوا ولا لتزكوا ولكني قاتلتكم لأتأمر عليكم وقد أعطاني الله ذلك وأنتم لها كارهون»(1).
حينها بدأت بوادر التململ والتذمر تذب في نفوس المسلمين خاصة بعد ما نقض معاوية أحد بنود الهدنة وأخل بشروط الصلح المتفق عليها، والتي تم إقناع المسلمين بها.
وجاءت أفواج المسلمين الذين أبعدهم قلة وعيهم بحقيقة الصراع في المرة الأولی، إلی الإمام (ع) تطلب منه فسخ الهدنة، ومن ثم إعلان المواجهة المسلّحة مع الحزب الأموي، الذي أكتشفوا حقيقته.
لكنّ الإمام (ع) لم ير بأفقه البعيد حلول الوقت المناسب لفسخ الهدنة وإعلان الحرب ضد معاوية، لأن قطاعات واسعة من جماهير المسلمين لا تزال تعيش حالة التشكيك وآثارها المدمرة في تحديد مسيره ومستقبل الصراع.
ورأی الإمام (ع) ضرورة الإنتظار، ريثما تنجلي سحب الشك والإرتياب عن أكبر مسامحة ممكنة من عامة الناس، وبجعل الأيام تكشف حقيقة الحزب الأموي ورجاله وأتباعه، في الوقت الذي كانت فيه طلائع الأمة الإسلامية تواصل نشاطها المكثف في الإتصال بمفاتيح المجتمع الإسلامي آنئذٍ لبلورة الخطة وتكريسها.
ونظراً لجاهلية الحزب الأموي وعلی رأسه القيادة السياسية المتمثلة في معاوية بن أبي سفيان حيث لم تكن السيطرة علی مقاليد الحكم والرئاسة إلّا مطية لإشباع النزوات والشهوات الحيوانية المبتذلة، فإنّ أنباء وقصص هذا الإبتذال الرخيص أضحت تنتشر في صفوف الناس، لتقلب الموقف وتعيد النظر في مصداقية إدعاءات الحزب، وسرعان ما تناهت إلی أسماع معاوية خطة الحركة الإسلامية في ذلك، حتی بادر إلی التفكير في خطة مضادة يتمكن من خلالها إحباط محاولتها في هذا الإتجاه.
وكانت خطة معاوية هذه المرة أكثر خطورة وتحتل جانبا كبيرا من الأهمية لأنها تهدد عمق الحيوية والفاعلية التي يبثها الإمام (ع) وأنصاره في صفوف الناس.
والخطة تقتضي قتل الروح والفاعلية التي تدفع عامة المسلمين إلی التفاعل مع معادلات الساحة وإلی العطاء والتحرك. وذلك بمحاولة تمييع المجتمع الإسلامي من خلال خلق إهتمامات وتوجهات لاتخرج عن دائرة «التمتع بالدنيا»، وتشجيعها في نفوس الناس البسطاء والمتخاذلين الذين جرفتهم ملذات الدنيا لدغدغة شهواتهم الحيوانية الحاضرة.
ومع أن أجواء التمييع بدأت تؤثر في الأوساط التي لم تكن تمتلك وعياً_ ولو بسيطاً_ بحقيقة الصراع وأبعاده المختلفة التي تؤثر في رسم خارطة المستقبل لكل المجتمع بمختلف فئاته وطبقاته، لكن هذه الأجواء المنحرفة ساهمت من جهة ثانية في تكريس وتعميق أطروحة الإمام (ع) في إبراز حقيقة واقع الحزب الأموي أمام الناس.
ولما لم تنجح جهود معاوية في محاولته لإحباط خطة الإمام (ع) راح يفكر في وضع حدٍ لتنامي وتصاعد حالة الولاء له (ع) كقيادة شرعية للدولة الإسلامية وذلك عبر إغتيال الإمام الحسن (ع).
وهكذا تعّرض الإمام (ع) لمحاولات متكررة للتصفية، مع أن من بنود ميثاق الصلح، أن لا يتعرض الحزب الأموي لأحدٍ من أهل البيت رسول الله (ص) ولا لأحدٍ من الرساليين الذين يناصرونهم.
وفي كل محاولة فاشلة كان يتعمق في الإمة جرح الإنتقام من الحزب، بسبب المآسي والمظالم التي كانت تعيشها تحت ظل السياسات غير الملتزمة بحدٍ سوی رغبة معاوية في السيطرة والإستيلاء والإستئثار.
وفي المحاولة الأخيرة التي جلب فيها معاوية سماً زعافاً من ملك الروم، ودسّه للإمام عن طريق زوجته (جعده) إستشهد (ع) بعد أن مضی أربعون أو ستون يوماً علی تجرعه لذلك السم في السابع من شهر صفر لسنة خمسين للهجرة..
وذلك بعد أن هيیء الساحة ومّهد الأرضية لتتساقط جميع أوراق التوت التي كانت تغطي أعمال بني أمية وسوءاتهم..كما وساهم ف إيقاظ ضمير الأمة ناحية الألتزام الواعي وبما يتطلبه من تحمل للمسئولية، دون الإستسلام الخانع للواقع الفاسد والإنجراف في تياره المهلك.
وهكذا انتهی عهد الإمام الحسن الزكي (ع) في قيادة الأمة خلال فترة إمامته التي إستمرت عشر سنوات في ظروف سياسية وإجتماعية بالغة التعقيد ومتشابكة الخيوط والخطوط، بالذات لأنه إستلم زمام الأمور في وقت كانت الأمة تسبح في بحر شك عظيم حول جدوائية الصراع ومشروعيته، لكنّه استطاع أن يواصلها إلی مراتب متقدمة لا أقل في نفوس الكثيرين من أؤلئك الذين ساورهم الشك طوال الفترات الماضية.
source : www.abna.ir