الحمد للّه ربّ العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا محمّد المصطفى الأمين ، وعلى آله الطيبين الطاهرين المعصومين .
وبعد: فإنّ من المسائل التي وقع فيها الخلاف بين الفريقين مسألة التفضيل بين قرّة عين الرسول فاطمة الزهراء البتول ،وبين عائشة بنت أبي بکر زوج النبي صلى الله عليه و آله .
وقد أجمع أهل الحقّ قاطبةً ـ تبعا للنصوص المستفيضة المتکاثرة ـ على أفضلية البَضْعة الطاهرة الزکية عليها أفضل الصلاة وأزکى التحية ، کما ذهب إلى ذلک ـ أيضا ـ محقّقون من أهل السنّة والجماعة؛ کالإمام مالک ، وأبي بکر بن أبي داود ، وتقي الدين السُّبْکي وغيرهم .
والخلاف في هذه المسألة قديم يرجع عهده إلى القرون الأُولى من تاريخ الإسلام ، فلذلک عُني به العلماء حتّى ذکروه في مسائل العقيدة ، ومنهم من عَمِلَ فيه تأليفا خاصّا(1) .
وکان ممّن تکلّم في هذا الباب فأفاد وأجاد شيخنا العلاّمة المحدّث المجاهد السيد عبدالعزيز بن محمّد بن الصدّيق الحسني الغماري المغربي رحمه اللّه تعالى المتوفّى سنة (1418ه) حيث تعقّب في کتابه (السوانح) کلامَ القاضي أبي بکر بن العربي المالکي المعافري في (أحکام القرآن) و (تحفة الأحوذي شرح جامع الترمذي) وبين خطأه في ما ذهب إليه في هذه المسألة ، کما خطّأه في مسائل أُخرى.
وقد رأينا ـ لمزيد الفائدة ـ تجريد هذا البحث القيم وانتزاعه من کتاب (السوانح) وإعداده للنشر لينتفع به أرباب العلم وروّاد الفضيلة إن شاء اللّه .
قال أبو بکر ابن العربي المالکي المعافري في (أحکام القرآن)(2) في تفسير قوله تعالى: وَتَبَتَّلْ إِلَيهِ تَبْتِيلاً . . . ومنه مريم العذراء البتول ، أي التي انقطعت عن الرجال .
وتسمّى فاطمة بنت رسول اللّه صلى الله عليه و آله البتول؛ لانقطاعها عن نساء زمانها في الفضل والدِين والنسب والحسب ، وهذا قولٌ أحدثته الشيعة ، وإلاّ فقد اختلف الناس في التفضيل بينها وبين عائشة ، وليست من المسائل المهمّة ، وکلتاهما من الدِين والجلال في الغاية القصوى ، وربّک أعلم بمن هو أفضل وأعلى (انتهى) .
قوله: «اختلف الناس في التفضيل بينها وبين عائشة» يقال عليه: وليس کلُّ خلافٍ جاء معتبرا إلاّ خلافا له حظٌّ من النظر
فلا يختلف لخلاف الناس وقولهم ، مع ورود النصّ عن الرسول المعصوم صلى الله عليه و آله في تفضيل فاطمة عليهاالسلام على نساء العالمين ، ممّا لايبقى معه قول ولا خلاف ، ويمحق کلّ تقوّلٍ بالباطل ، واختلاف .
فإن قال الناصبي الزنيم: وأين النصّ في ذلک؟ والدليل على ما هنالک ؟
قلنا له: خُذْ ما يملأ فمک حجرا ، ويقطع الوتين منک غيظا ، ويفتّت قلبک حسرةً ، ويمزّق الکبد إرْبا إرْبا ، حتّى لاتعُد بعد ذلک إلى إظهار سخيمتک بمحض الهوى والخذلان من غير أن تستند إلى حجّة أو برهان ، وإن کنت لاترجع عن غيک وفاسد عقيدتک ، لأنّ اللّه تعالى طبع على قلبک ، وختم على سمعک وبصرک ، فسينتفع بذلک المؤمن المهتدي ليزداد إيمانا وهدايةً ، وحبّا في جانب آل بيت النبوّة والرسالة ، وکفى بذلک أجرا وثوابا .
وإليک هذه التحفة الغالية ، والدرّة الثمينة قبل سرد الأدلّة القاطعة ، والبراهين النيرة الساطعة .
قال شيخ الحفّاظ وأميرهم ـ جعل اللّه مأواه الجنّة ـ في (فتحه)(3) الذي فتح اللّه به کلّ مغلق:
وقيل: انعقد الإجماع على أفضلية فاطمة عليهاالسلام.
وهذا إجماع صحيح في نظري ، فإنّه لاينبغي لمؤمنٍ ولامؤمنةٍ إذا قضى اللّه ورسوله أمرا أن يفتحوا بابا لردّه تحت ستار وقوع الخلاف فيه ، ولايفعل ذلک إلاّ مُهَلْهَل الإيمان(4) سخيف العقيدة ، ضعيف العلم ، عظيم الجهل ، لأنّ الخلاف نتيجة النظر وإعمال الفکر في مسألة لم يتّضح دليلها ، وتجاذبتها القواعد ، فيرجّح کلّ ناظر ما أدّاه إليه نظره وفکره .
وکيف يقع هذا في مسألة ثبت النصّ فيها جليا ، وحکم فيها الرسول المعصوم صلى الله عليه و آله الذي لايؤمن أحد إلاّ بالإذعان لحکمه ، والاتّباع لقوله ، والقول بغير قوله والخروج عن نصّ حکمه تقدّم بين يدي اللّه ورسوله الذي نهانا اللّه تعالى عنه في کتابه ، فکن من هذا على بالٍ ، واحفظه ينفعک في محلٍّ آخر إن شاء اللّه تعالى .
والآن هاهي النصوص التي هي في المسألة کعِقْدٍ من الفصوص ، تزين به صدر عقيدتک ، وتجعله في جِيدها تثبيتا لمحبّتک ، وبرهانا على إخلاصک وولائک .
(فَصٌّ)
فيه نَصٌّ على أنّ فاطمة عليها الصلاة والسلام سيدة نساء العالمين.
وذلک ورد من طرقٍ، وسأسوق إليک ذلک بدون إسنادٍ، لظهور مخرجه وصحّته ممّايکون معه ذکر الإسناد غيرمفيد، لأنّ الفائدة من الإسناد هي التوصّل ـ بالوقوف عليه ـ إلى معرفة صحّة أو ضعف المستند ، فإذا قام ما يغني عنه من عَزْو الحديث إلى الصحيحين مثلاً أو ذکره مع بيان حاله من صحّةٍ وضعف؛ حصل المراد ، وکانت في ذلک الکفاية ـ کما هو معلوم ـ وعلى هذا العمل استقرّ عمل الحفّاظ ، فاحفظه .
الحديث الأوّل: عن عائشة: أنّ النبي صلى الله عليه و آله قال ـ وهو في مرضه الذي توفّي فيه ـ: «يافاطمة ، ألا ترضين أن تکوني سيدة نساء العالمين ، وسيدة نساء هذه الأُمّة ، وسيدة نساء المؤمنين» .
رواه الحاکم في (المستدرک)(5) وقال: هذا إسناد صحيح ولم يخرّجاه ، وأقرّه الذهبي.
الحديث الثاني: عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله : «خير نساء العالمين أربع: مريم بنت عمران ، وآسية بنت مزاحم ، وخديجة بنت خويلد ، وفاطمة بنت محمّد» .
رواه أبو عمر بن عبدالبرّ في (الاستيعاب)(6) : حدّثنا عبدالوارث بن سفيان ، حدّثنا قاسم بن أصبغ ، حدّثنا أبو قلابة عبدالملک بن محمّد الرقاشي ، حدّثنا بدل ابن المحبّر ، حدّثنا عبدالسلام ، سمعت أبا يزيد المدني يحدّث عن أبي هريرة ، فذکره .
الحديث الثالث: عن عبدالرحمن بن أبي ليلى مرفوعا: «فاطمة سيدة نساء العالمين بعد مريم بنت عمران وآسية بنت مزاحم وخديجة بنت خويلد» .
رواه ابن أبي شيبة(7) وهذا مرسل ، ولکن يشهد له ما تقدّم .
الحديث الرابع: عن عائشة، عن فاطمة عليها الصلاة والسلام ـ في حديث المسارّة ـ ثمّ قال: «يافاطمة ، أما ترضين أن تکوني سيدة نساء العالمين ـ أو سيدة نساء هذه الأُمّة ـ فضحکت» .
رواه أبو داود الطيالسي في (مسنده)(8) في مسند فاطمة البتول بنت الرسول صلوات اللّه [عليه] وآله وسلّم وکرّم وعظّم .
الحديث الخامس: عن أنسٍ مرفوعا: «حسبک من نساء العالمين مريم بنت عمران ، وخديجة بنت خويلد ، وفاطمة بنت محمّد ، وآسية امرأة فرعون» .
رواه أحمد في (المسند) والترمذي في (السنن) والحاکم في (المستدرک) وابن حِبّان في (الصحيح) وابن عبدالبَرِّ في (الاستيعاب)(9) .
وقال الحاکم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ، ولم يخرّجاه بهذا اللفظ ، فإنّ قوله صلى الله عليه و آله : «حسبک من نساء العالمين» يسوّي بين نساء الدنيا .
وأقرّه الذهبي ، ورواه الطحاوي في (مشکل الآثار)(10) .
(فصٌّ)
فيه نصٌّ على أنّ فاطمة صلوات اللّه على والدها وعليها وعلى أولادها
الکرام وسلّم تسليما سيدة نساء هذه الأُمّة ، وسيدة نساء العالمين ،
فتدخل في عمومه عائشة.
الأوّل: عن عائشة، عن فاطمة عليها الصلاة والسلام ـ
في حديث المسارّة ـ : «يافاطمة ، أما ترضين أن تکوني سيدة نساء المؤمنين أو سيدة نساء هذه الأُمّة» رواه الإمامان ، واللفظ لفظ مسلم(11) .
الثاني: عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله قال: «إنّ ملَکا من السماء لم يکن زارني فاستأذن اللّه في زيارتي فبشّرني وأخبرني : أنّ فاطمة سيدة نساء أُمّتي» .
رواه الطبراني ورجاله ـ کما قال الهيثمي(21) ـ رجال الصحيح ، غير محمّد بن مروان [الذهلي] ، ووثّقه ابن حبّان.
(فصٌّ)
فيه نصٌّ على أنّ فاطمة الزهراء بنت سيد أهل الأرض والسماء صلى الله عليه و آله سيدة نساءأهل الجنّة.
وفيه ردٌّ بل أبلغ الردّ ، وأعظم النقد ، وأقبح الطرد لقول من تمسّک بکون عائشة مع الرسول صلى الله عليه و آله في المقام، وفاطمة عليهاالسلام مع علي الإمام .
فقد أثبت النصّ الخصوصية للزهراء عليها السلام في السيادة والرفعة على نساء أهل الجنّة ، فلا يسع القول بخلافه ، ولا يعرض عنه إلاّ جاهل غبي ، أو ناصبٌ عن الإيمان عَرِي .
وبهذا النصّ يخصّ عموم کون الزوجات مع أزواجهنّ في المقام؛ بحيث يرتفعن بسببهم عن کلّ خاصٍّ وعامّ ، کما تشبّث بذلک ابن حزم تعالى وشايعه بل وتبعه المعافري النويصبي ـ والتصغير هنا للتعظيم وليس على حقيقته ـ رغم بغضه لابن حزم وکراهيته له لأجل محاربته لما عرى عن الدليل
من أقوال مذهبه ، فکان المعافري في ذلک أسوأ رجلٍ ابن حزم وتبعه فيما أخطأ فيه ، وذمّه عليه غيره .
فقد سئل السُّبْکي وهو الرجل السُنّي الصوفي ـ : هل قال أحد إنّ أحدا من نساء النبي صلى الله عليه و آله غير خديجة وعائشة أفضل من فاطمة ؟
فقال: قال به من لايعتدّ بقوله ، وهو من فضّل نساء النبي صلى الله عليه و آله على جميع الصحابة ، لأنّهنّ في درجته في الجنّة . قال: وهو ساقط مردود (اه) .
قال أمير الحفّاظ في (الفتح)(13) عقبه: وقائله هو أبو محمّد بن حزم ، وفساده ظاهر (اه) .
والعجب أنّ ابن تيمية على انحرافه وإدباره وإعراضه وبرودته من ناحية أهل البيت عليهم الرضوان ردّ هذا القول لابن حزم وما قَبِلَه ، مع أنّه يتمسّک بأقلّ من هذا إذا وجده موافقا لغرضه وهواه ، متّفقا مع مذهبه ومراده .
بل انتقد هذا القول وألزم ابن حزم أن يکون مقام نساء النبي صلى الله عليه و آله أعلى من مقام الأنبياء والرسل ، لأنّ نبينا صلى الله عليه و آله أفضل منهم ، وهذا لم يقله أحد .
وانظر کلامه ، فقد طال العهد به ، ورأيته في مجموعة مخطوطة بمکتبة الوالد المقدّس.
ونحن؛ وإن کنّا لا نوافق ابن تيمية على هذا الإلزام، ونراه باطلاً من وجوهٍ متعدّدة، لأنّ کينونة نساء النبي صلى الله عليه و آله معه في المقام وقعت تبعا وعَرَضا ، وليست أصالةً ـ کما هو الحال في الأنبياء والرسل ـ وهذا لايدلّ على أفضليتهنّ في الرتبة والمکانة والجاه ، کما أشار إلى ذلک تعالى بقوله: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيءٍ کُلُّ امْرِى ءٍ بِمَا کَسَبَ رَهِينٌ(14) .
لکنّ الغرض والمراد هو أنّ المعافري تبع ابن حزم في ما أخطأ فيه ، ولم يقبله منه حتّى مَن هو بارد الطبع ، ضعيف العقيدة في أهل البيت ، وأعلن عليه الحرب ، وبالغ في ذمّه فيما أصاب فيه الحقّ ، وينبغي اتّباعه فيه ، فما بعد هذا الخذلان شيء ، وهذا أبلغ مَثل يضرب في الخذلان ، أعاذني اللّه تعالى وإياک من هذا الصنيع ، وحفظني وإياک من تلاعبٍ کتلاعب الرضيع .
----------
(1) من أحسن ما أُلّف في هذا الموضوع هو کتاب «الکلمة الغرّاء في تفضيل الزهراء عليهاالسلام » للسيد الإمام الشريف عبدالحسين آل شرف الدين العاملي رحمه اللّه تعالى ، وهو مطبوع .
ولراقم هذه السطور رسالة في هذا الباب مطبوعة في نشرة (تراثنا) العدد المزدوج (45 ـ 46) باسم: (الأرائج المسکية في تفضيل البضعة الزکية) .
(2) أحکام القرآن: 4 / 332 .
(3) فتح الباري بشرح صحيح البخاري 7 / 136 .
(4) مهلهل الإيمان: أي رقيق الإيمان .
(5) المستدرک على الصحيحين: 3 / 156، الإصابة: 4 / 378.
(6) الاستيعاب في معرفة الأصحاب: 4 / 376 ـ 377 وفي 4 / 385 عن أنس ، ورواه أحمد والطبراني في (الکبير) ورمز السيوطي لصحّته في (الجامع الصغير) .
(7) المصنّف لابن أبي شيبة: 6 / 391 ح32263 .
(8) مسند أبي داود الطيالسي: 6 /196 ـ صحيح البخاري: 8 / 79 ، کتاب الاستئذان ـ صحيح مسلم: 4 / 1904 ـ 1905 ح98 کتاب فضائل الصحابة ، فضائل الخمسة: 3 / 169 ـ 171 .
(9) مسند أحمد: 3 / 135 ، سنن الترمذي: 5 / 703 ، المستدرک على الصحيحين: 3 / 157 ، الاستيعاب: 4 / 285 ـ 377 ، الإصابة: 4 / 378 عن جابر ، فضائل الخمسة: 3 / 176 ـ 177 .
(10) مشکل الآثار: 1 / 50 .
(11) صحيح مسلم: 4 / 1904 ـ 1905 ح98 ، کتاب فضائل الصحابة ، باب فضائل فاطمة عليهاالسلام ، صحيح البخاري: 8 / 79 کتاب الاستئذان: باب من ناجى بين يدي الناس و 4 / 247 ـ 248 کتاب بدء الخلق، باب علامات النبوّة .
(12) مجمع الزوائد: 9 / 201 .
(13) فتح الباري: 7 / 173 .
(14) المدثر/38
source : www.abna.ir