عربي
Saturday 23rd of November 2024
0
نفر 0

ولایة الفقیه

من نافلة القول الحدیث عن لزوم وجود ولي أمر للمجتمع ینهض بأعباء رسالته ، ویحقق طموحاته ، و یوفق بین متناقضاته ، و یعید الخارجین منه عن المسیرة إلی جادة الصواب ، و یتحمل مسؤولیة ما یجري علی الصعید العام.

و لا بدّ لولي الأمر هذا من امتلاک حق الطاعة و الفصل في الامور الأمر الذي یعمم قراراته علی الجمیع ، و یحقق الغرض المنشودة من الحکومة الصحیحة.

أدلة ولایة الفقیه:

لا یمکننا هنا أن نستدل بالتفصیل علی هذا المبدأ المهم ، و إنما نکتفي بالإشارة إلی بعض ما یذکر في هذا الصدد.

فأولا یقال بأن الاسلام منح الفقیه:

أـ المرجعیة في الفتوی.

ب ـ المرجعیة في القضاء.

ج ـ المقدار الذي یثبت له من الولایة بمقتضی النصوص.

و کل هذا یحقق للفقیه النیابة عن المعصوم (ع) في مختلف الشؤون الاجتماعیة و تأمر الآیة القرآنیة الکریمة بإطاعة الله و إطاعة الرسول و أولي الامر « أطیعوا الله و أطیعوا الرسول و أولي الامر منکم» . و یستفاد منها لزوم إطاعة الفقیه الجامع للشرائط کامتداد لإطاعة المعصوم. و بما إنّا نفسر أولي الامر بخصوص أهل البیت ، فإن العرف یفهم منها أن لهم ولایة أصلیة للأمر ، و أنّه یمکن أن یکون من دونهم من نوابهم ولاة بالنیابة عنهم.

و ثانیا: الروایات الواردة في هذا الصدد( و فیها ما صدر عن المعصوم و هو في حالة غیبیة کان یتوقع لها أن تدوم طویلا) و هذه الروایات تجعل الفقهاء هم الامناء و الحجج علی الامة ، و هي علی نحوین :

الف ـ ما ثبتت صحته و قوة دلالته من مثل ما روي عن الامام المهدي (عج) قوله :

« و أما الحوادث الواقعة فارجعوا فیها الی رواة أحادیثنا ، فإنهم حجتي علیکم ، و أنا حجة الله».

و لا ریب في ان المقصود من (الرواة ) هم الفقهاء العبّرون عن خط المعصوم و قیادته.

کما یلاحظ أن هذا التقارن بین الحجیة التي یملکها الفقیه و الحجیة التي یملکها الامام یوضح المدی الذي یملکه الفقیه من ولایة شرعیة.

باءـ ما استفاض النقل فیه و کثر مما قد یغنینا عن ملاحظة السند و ذلک من مثل قوله (ص):

« اللهم ارحم خلفائي» قیل : یا رسول الله ، و من خلفاؤک ؟ قال : « الذین یأتون من بعدي یروون حدیثي و سنّتي».

و روایة الحسین (ع) عن الامام علي (ع) في کتاب « تحف العقول» :

« مجاري الامور و الأحکام علی أیدي العلماء بالله ، الأمناء علی حلاله و حرامه» .

و قوله (ص) : « العلماء ورثة الانبیاء».

و قوله (ص): « الفقهاء أمناء الرسل، ما لم یدخلوا في الدنیا».

و قول الامام علي (ع) : « العلماء حکام علی الناس».

و ینبغي أن یلاحظ هنا أنه لا ریب في لزوم قیام حکم إسلامي حال غیاب المعصوم ، کما لا ریب في لزوم ولایة شرعیة لمثل هذه الحکومة . فإذا علمنا بهذا و رجعنا إلی النصوص ، لم نجد فیها أطروحة للولایة سوی (ولایة الفقیه) طبعا مع إیماننا بأن الشوری لا تنتج ولایة.

و إذا ما رجعنا إلی الفتاوی المشهورة في عصرنا هذا فإنا نجد فریقا من أعاظم العلماء یقولون بهذه الولایة ، و علی رأسهم الامام الخمینی (دام ظله ) علی رؤوس المسلمین ، إذ یقول في کتاب البیع مانصه:

« فللفقیه العادل جمیع ما للرسول و الأئمة علیهم السلام مما یرجع إلی الحکومة و السیاسة» ، کذا المرحوم الشهید الصدر (قدس سره) و غیرهما من الاعاظم.

و هناک قسم من العلماء لا یری ذلک و لکنه یفتي بلزوم قیام الفقیه بحمل عبء الأعمال الضروریة في المجتمع، کالامور الحسبیة و أمثالها ، و حینئذ یقترب في النتیجة من الرأي الاول.

و الواقع أن نفي وجود أیة ولایة شرعیة یعني بالتالي نفي إمکان قیام حکومة إسلامیة ؛ لتلازم الأمرین کما هو واضح للمتأمل.

و لایة الفقیه و النصوص

من الملاحظ أن علماء السنة في بحوثهم عن النظام السیاسي و بالخصوص في بحوثهم عن الإمام و شروطه ، قلیلا ما یستندون إلی النصوص في ذلک ، و إنّما یرکزون علی الدلیل العقلي الذي سنتحدث عنه . إلا أننا نستطیع أن نفترض بحوثا نصیة نافعة علی ضوء الروایات التي تمنح العلماء و الفقهاء مقامات رفیعة في المجتمع الاسلامي فتجعلهم ورثة الانبیاء ، و تجعلهم خلفاء الرسول(ص)، تأمر باتّباعهم و تکریمهم ، و تحمّلهم مسؤولیة هدایة المجتمع ، و بالتالي قیادته . و من هذه الروایات : الحدیث المشهور« العلماء ورثة الانبیاء» و هو مسلّم لدیهم إذ رواه البخاري في صحیحه في کتاب العلم ، کما رواه أبو داود و الترمذي و غیرهم . و بالرغم من أن الحدیث یذکر في مجال العلم و تعلّمه ، إلّا أن هذا التعبیر تعبیر مقامي یشعر بأحقیّتهم بالجلوس في مقام الأنبیاء ، و حملهم الرسالة التي حملوها، و ما کانت مجرد تعلّم و تعلیم ، بل کانت تستبطن قیادة و هدایة و بناء للمجتمع.

و من تلک الأحادیث حدیث الخلفاء إذ جاء فیه :

« رحم الله خلفائي ، قالت الصحابة : ألسنا خلفائک یا رسول الله ؟ قال : أنتم أصحابي ، و إنما خلفائي الذین یأتون بعدي ، و یتعلمون سنّتي ، و یعلّمونها الناس» و هذا الحدیث نقله بعض العلماء دون اعتراض و ضعفه بعضهم.

إلّا أن اشتهاره بین علماء الفریقین (الشیعة و السنّة ) یعطیه قوة و اعتبارا.

فإذا تمّ ذلک ، کان أکثر دلالة من سابقه علی کون العلماء هم الذین یحملون مشعل النبوّة في قیادة الحیاة الاسلامیة.

ألا أنّنا نعتقد أن هذه الاحادیث إنما یمکنها أن تؤکّد الدلیل العقلي الآتي ذکره .

فالأولی إذن الترکیز علی الایات القرآنیة الکریمة :

« ... أطیعوا الله و أطیعوا الرّسول و أولي الأمر منکم...»

فالقرآن الکریم یرکّز علی وجود منصبین للرسول الأکرم هما:

وظیفة التبلیغ:

« ... و أنزلنا إلیک الذّکر لتبیّن للنّاس ما نُژّل إلیهم...»

و وظیفة القیادة و الحکم بین الناس:

« إنّا أنزلنا إلیک الکتاب بالحق لتحکم بین الناس بما أراک الله....».

و حینئذ فهو یطلب من المؤمنین أن یطیعوا الله و الرّسول (ص) باعتبار أنّ طاعته (ص) هي امتداد لطاعة الله ، و ربما کان تکرار الطاعة لتأکید طاعة الرسول في المجالین معا.

و إذا سرنا مع التصور السني الذي یرفض تفسیر « أولو الامر » بأهل البیت (ع) أو أنهم في طلیعة أولي الأمر فإن من اللازم القول بأنّ سیاق الایة بل وحدة اللسان و المحل تفرض أن یکون أولو الامر أقرب الناس إلی الرسول من حیث الصفات ؛ لیستطیعوا أن ینهضوا بالحمل الثقیل ، و لیس هناک إلا العلماء الواعون للرسالة أکثر من غیرهم ، و العادلون الملتزمون بالخط الرسالي الاصیل.

و إلا فقد لا یصح الطلب المطلق لطاعة أولي الامر.

و قد ذرک الامام الفخر الرازي أن هذا الطلب المطلق یقتضي لزوم کون أولي الامر معصومین معتبرا أن المراد به هو الإجماع ،و أنه دلیل علی حجیة الاجماع لأن فیه إدخالا للرسول و أولي الامر في لفظ واحد.

و راح النیشابوري و الشیخ محمد عبده یصححان هذا الاستنتاج . و یعقّب صاحب المنار علی ذلک فیقول: فأهل الحل و العقد من المؤمنین : إذ أجمعوا علی أمر من مصالح الامة .... فطاعتهم واجبة ، و یصح أن یقال هم المعصومون في هذا الإجماع.

فإذا استبعدنا أن یعبر القرآن عن الاجماع بتعبیر أولي الأمر ، و لم نقبل ما ترکزه الروایات الشیعة و السنیة من کون المراد هم أهل البیت(ع) ـ و هو الحق ـ لم یبق لدینا إلّا أن نرکز علی العلماء باعتبارهم أقرب الناس الی المعصوم.

علی أننا یجب أن لا ننسی أنّ الشیخ محمد عبده اشترط في أهل الحل و العقد صفة العلم و أنهم ینتخبون أصلحهم للإمامة و هذا یؤدي بالنتیجة الی امامة العالم الفقیه.

ولایة الفقیه من خلال الدلیل العقلي

بعد هذا النقل للأقوال ینبغي أن نشیر إلی أن علماء السنة في بحوثهم عن النظام السیاسي لا یعتمدون کثیرا البحث النصي لعدم وجود نصوص واضحة في هذا المجال. فهم إذن یعتمدون ما یمکن أن نسمیه الدلیل العقلي دون أن یذکروا ذلک ، أو ربما عبّروا عن أمثال هذا الاستدلال بالاستحسان .

و من هنا نجد هذا الاختلاف في شروط القائد ، کما نجد عدم الوضوح و اختلاف الاجتهاد في کثیر من موارد هذا النظام ، و بالخصوص في نظام الشوری ـ إلی الحد الذي قد یفقده شکل نظام متکامل؛ الأمر الذي یعبّر عنه الدکتور قحطان الدوري بغایة المرونة فیقول عن نظام الشوری إنه: « لم یجعل بقالب معیّن فهو مرن إلی أبعد حدود المرونة» و الواقع أنه بهذا یصل إلی المیوعة لا المرونة . فالنظام یجب أن یحتوي علی قواعد رئیسة ثابتة تحفظ له صفة النظام و لا نجد مثل هذه القواعد فیما یذکر من نظام الشوری.

و علی هذا الغرار فلا نجد تحدیدا واضحا لحدود ولایة الحاکم هل یجب علیه أن یشاور أصلا؟ و لو شاور فهل یجب علیه إلتزام نتیجة الشوری ؟و ما إلی ذلک . و علی أي حال، فإننا إذا لاحظنا مایضعه العلماء من واجبات علی الإمام نستطیع بکل سهولة أن نشترط لزوما عنصر الفقیه فیه. و هذا هو ما فعله الجویني و الغزالي و مبارک في النصوص التي نقلناها عنهم.

و کمثال علی تلک الواجبات التي تذکرونها للإمام نذکر ما نقله الاستاذ العوّاعن کتب مختلفة من واجبات علی الامام هي:

1ـ حفظ الدین علی أصوله المستقرة و ما أجمع علیه سلف الأمة.
2ـ تنفیذ الأحکام بین المتشاجرین ، و قطع الخصام بین المتنازعین.

3ـ حمایة البیضة لیتصرف الناس في المعایش ، و ینتشروا في الاسفار آمنین.

4ـ إقامة الحدود لتصان محارم الله عن الانتهاک ، و تحفظ حقوق عباده .

5ـ تحصین الثغور بالعُدّة المانعة ، و القوّة الدافعة.

6ـ جهاد من عاند الاسلام بعد الدعوة حتی یسلم أو یدخل في الذمة لیقام بحق الله تعالی في إظهار الدین کله.

7ـ جبایة الفي ء و الصدقات علی ما أوجبه الشرع.

8ـ تقدیر العطایا و ما استحق في بیت المال من غیر سوف و لا تقتیر.

9ـ إستکفاء الأمناء ، و تقلید النصحاء ، لتحفظ الاموال بالامناء ، و تضبط الأعمال بالاکفاء.

10ـ أن یباشر بنفسه مشارفة الامور ، تصفّح الاحوال ؛ لینهض بسیاسة الامة ، و حراسة الملة.

و هذه الواجبات طبیعیة جدا لا تحتاج إلی مزید استدلال ، و ربّما أضفنا إلیها من خلال معرفتنا

للطبیعة التربویة الاسلامیة بل و من خلال النصوص التوجیهیة الرائعة التي وصلتنا من أهل البیت علیهم السلام ، مسألة (تربیة الامة و صیاغة مجتمع المتقین الذي یحمل کل خصائص الأمة الاسلامیة).

هل تری یستطیع غیر الفقیه العادل أن ینهض بهذه الأعباء؟

أن الجواب لن یکون إلّا بالنفي . فالفقیه وحده هو الذي یحمل العبء الثقیل ، و هذا ما أکده الکثیر من علماء السنة.

النتیجة من البحث

لاحظنا أن فکرة تخصیص الإمامة بالفقیه العادل لیست فکرة غریبة علی الفکر السنّي ، کما أنها منسجمة مع المباني مع المباني الاستدلالیة له؛ الأمر الذي یستدعي قیام الباحثین بعمل جاد لاستقراء الآراء و الأدلة المختلفة للوصول إلی نتیجة تنسجم مع طبیعة الحکم الاسلامي التربویة للمجتمع.

إلّا أنّ الإنصاف یقتضینا أن نقول إن علماء الشیعة امتدوا ببحوثهم إلی آفاق أوسع و أعمق ، و ذلک في رأیي ناتج من :

أولاـ وجود روایات کثیرة تحدد معالم الحکم الاسلامي بشکل واضح .

ثانیاـ العمق العملي الذي حظیت به مدرسة أهل البیت (ع) نتیجة العامل الأول و انفتاح باب الاجتهاد علی مدی العصور الطویلة.

شروط الفقیه الولي

و إذا لاحظنا النصوص الانفة و غیرها ،و ما تقتضیه المناسبات العرفیة من شروط یفهمها العرف المتشرع من الأدلة ؛ رأینا أن مجمل الشروط هي کما یلي :

1ـ الفقاهة . و قد عبرنا عنها تارة بأنه (نظر في حلالنا و عرف أحکامنا)

2ـ الکفاءة . و تفهم من التناسب بین الحکم و الموضوع.

و لا بأس بذکر روایة سدیر عن الباقر (ع) .

قال : قال رسول الله (ص) « لا تصلح الإمامة إلّا لرجل فیه ثلاث خصال : ورعٌ یحجزه عن معاصي الله ، و حلمٌ یملک به غضبه، و حسن الولایة علی من یلي حتی یکون لهم کالوالد الرحیم» (اصول کافي)
و یجب أن ننبه هنا إلی حقیقة یکثر التساؤل عنها فقال : إنّي یمکن افتراض فقیه متخصص في مختلف الحقول الاجتماعیة إلی جنب تخصصه في الفقه ؟

و الجواب: ان الکفاءة التي یتطلبها الفهم العرفي یکتفي فیها أن یکون الفقیه ـ بالاضافة إلی اختصاصه الفقهي ـ ملمّا إجمالا بالشؤون الاجتماعیة و الوضع العام ، مستعدا للاستعانة بالاختصاصیین الموثوق بهم في حقولهم الخاصة ، أي مطبقا للشوری الاسلامیة في هذا المجالات....

و هذا هو مقتضی الفهم العرفي لروایات الولایة و مناسباتها.

ثالثاـ العدالة ، بمعنی تأصل المناقبیة الاسلامیة في نفسه و تحولها الی ملکة السیر علی الخط المستقیم دون اتباع الهوی أو مخالفة المولی جل و علا.

رابعاـ الذکورة.


مساحة الولایة

أشرنا من قبل إلی وجود آراء ثلاثة في البین:

ألاول : الولایة العامة

الثاني : ولایة الإشراف و المراقبة .

الثالثة : ولایة الإشراف و المراقبة.

(مناطق الفراغ التي تشع النصوص بکیفیة ملئها، أو حقل الامور الحسبیة و الضروریة).

فعلی الرأي الاول الذي رکّزنا علیه فإن مساحة الولایة تتصور علی النحو التالي :

أولا: ـ تطبیق الاحکام الاسلامیة العامة و اقامة الحدود الاسلامیة ، و إلزام الأفراد العمل بواجباتهم .

ثانیا: ـ تحقیق المصلحة الاجتماعیة التي تتمثل في اتباع أفضل سبیل لقیام مجتمع متوازن وفق تصورات الاسلام و تحقیق المصلحة العامة. و هذا قد یتطلب ما یلي:

أـ ملء منظقة المباحات ، أو کما أسماها بعض العلماء (منطقة الفراغ التشریعي) بالأحکام الإلزامیة ، کقوانین المرور، و الاستیراد و تحدید الأسعار و غیر ذلک.

ب ـ تغییر موضوعات بعض الأحکام الالزامیة کما لو وجب الحج علی بعض و رأی الامام أن الجهاد فرض علیه فحینئذ یفقد عنصر الاستطاعة و یسقط عنه وجوب الحج في تلک السنة.

ج ـ ایقاف العمل ببعض الاحکام الالزامیة موقتا، نظرا لاقتضاء حفظ النظام العام ـ مثلا ـ فإذا تزاحم تطبیق حکم إسلامي أوّلي مع حکم الاسلام بحفظ النظام و السیر الطبیعي للمجتمع قدم الاخیر لأنه الأهم و هذا تقدیم متفق علیه.

رابعا :ـ توحید الموقف الاجتماعي کما في الاهلّة ، و الحج ، و الصوم و الجهاد.

و الواقع ان عمق تأثیر ولایة الفقیه یبدو في مجالین مهمین :

المجال الاول: منحه للقانون ـ أيّ قانون في أيّ جانب ـ صفة الارتباط بالشریعة الاسلامیة و الله تعالی ؛ مما یحقق ضمانة تطبیقیة ذاتیة حین ینسجم الانسان الفرد مع القانون باعتبار أن عمله به إطاعة لله تعالی و انسجام مع معتقده ، و حیث یشعر بأنّ الله تعالی سوف یحاسبه علی أيّ مخالفة فضلا عن الحساب الاجتماعي المفروض علی المخالفة .

و هذه الصفة لا یمکننا أن نجدها في أيّ تشریع أرضي.

المجال الثاني : مجال تنفیذ تصورات الشریعة للأهداف التي یجب أن یسعی لتحقیقها ولي الامر في المجال الاجتماعي ... ذلک أن هناک اتجاهات أو تصریحات في النصوص الاسلامیة و الاحکام تشکّل أهدافا مثالیة یسعی لها المجتمع الاسلامي بقیادة الامام ، و الفقیه هو الذي یتملک ـ بمقتضی صلاحیاته ـ القیام بهذه المهمة العظمی.

فعن مسؤولیة الدولة یتحدث ـ بالتفصیل ـ الإمام الشهید السید محمد باقر الصدر (رض) في کتابیه: « اقتصادنا» و « خطوط تفصیلیة» ذاکرا أنها تحدّد في خطین عریضین.

أحدهما : تطبیق العناصر الثابتة .

و الثاني : ملء العناصر المتحرکة وفقا لظروف الواقع و علی ضوء المؤشرات الاسلامیة العامة ، و قد ذکر بعض هذه المؤشرات بالتفصیل فلتراجع في محلها.

و هنا نود أن نشیر إلی مؤشر واحد یتحدث عن جانب من جوانب المجتمع الاسلامي ، و هو ما جاء في کتاب الامام أمیر المؤمنین إلی محمد بن أبي بکر حین أرسله إلی مصر ، و هو قوله(ع) :

« یا عباد الله ، إنّ المتقین حازوا عاجل الخیر و آجله ، شارکوا أهل الدنیا في دنیاهم ، و لم یشارکهم أهل الدنیا في آخرتهم ، أباح لهم الله الدنیا ، ما کفاهم به و أغناهم .. سکنوا الدنیا بأفضل ما سکنت، و أکلوها بأفضل ما أکلت ، و شارکوا أهل الدنیا في دنیاهم ...»

و من الواضح کیف یشع هذا النص بمبدأ تنمیة الانتاج و تحقیق الرفاه في المجتمع الاسلامي .

و الحدیث في هذا المجال ماتع و طویل ندعو عشاق المعرفة الاسلامیة لمتابعة في مظانه.

ملاحظة مهمة :

ینبغي أن نلاحظ هنا أن الفقیه بصفته ولیّا للأمر لیس له أن یحلّ حراما و لا أن یمنع من واجب ، و لکنه یستطیع أن یغیّر مورد بعض الاحکام الالزامیة.

کموضوع الحج الذي سبق ذکره ، أو أن یأمر الفقیه أحدهم بدفع قسط من ماله للصالح العام ، فإذا لم یستجب فقد دخل في معصیة و استحق الجزاء : کالجزاء المالي المؤدّي إلی مصادرة بعض أمواله ، و أمثال ذلک.

هل تختص الولایة بفرد أو أفراد ، أم تعمّ کلَّ من جمع الشروط؟

و الجواب عن هذا التساؤل واضح ، فإن کل من جمع الشروط التي ذکرناها یتملک حق الولایة : اللهم إلّا إذا قلنا بلزوم شرط الاعلمیة أو شرط بیعة الناس له ـ ان قلنا به ـ و لکن إذا کانت الولایة تشمل کل من جمع الشروط فإنه قد یثور تساؤل آخر حول کیفیة توحید الموقف ، و تعیین القائد من بینهم ، و ضمان عدم تعارض الاحکام و التصورات المختلفة مما یعود بالضرر بالتالي علی الامة و الشؤون الاجتماعیة . فکیف نتصور الموقف الصحیح غیر المؤدي إلی الفوضي؟

هنا یجب أن نوضح حقیقة مهمة هي أن المصلحة الاجتماعیة الاسلامیة العلیا هي المقدمة علی کل شيء و حکم بلا ریب . کما أن المصلحة الاسلامیة العلیا تتقوم بوحدة النظام و انضباطه و تماسکه . و قد أکدت النصوص و الفتاوی مسألة النظام حتی عاد من ضرورات الفهم الإسلامي:

و بناءً علی هذا نقول:

إن الحال لا یخلو من فرضین ـ عرفاـ هما:

الأول : أن ینهض بالأمر وليٌ فقیه ، و تنقاد له الأکثریة الساحقة من الأمة نتیجة خبرته العملیة ،و وعیه الاجتماعي ، و فقهه العمیق ، و شجاعته الفائقة ، و مواقفه الحکیمة ، و سلوکه العادل ، و بالتالي یکون بشکل طبیعي قائدا للأمة ، و راسما لمسیرتها الاجتماعیة ،و حاملا لرایتها.

و حینئذ ، فإن المصلحة الاسلامیة العلیا تقتضي أن تکون الولایة المتقدمة له بالخصوص ، و لا یکون لغیره من الفقهاء أن یحکم بخلاف حکمه.
الثاني : أن لا تحصل مثل هذه الحالة و حینئذ فإن المصلحة الاسلامیة العلیا تقتضي اجتماع الفقهاء في مجلس أعلی یعیّن القائد حسب ما یراه من المصلحة بعد افتراض العدالة و الکفاءة.

و بعد کل هذا فإن الامة المسلمة تبقی شاهدة علی مسیرتها الاسلامیة ، مراقبة لکل التصرفات ، مالکة وجودها المحاسب الموجّه .

یبقی تساؤل أخیر عن إمکان أن تؤدي هذه الاطروحة الی الاستبداد و تحکیم الهوی الشخصي.

إلا أننا إذا مشینا وفق الذوق الاسلامي ، و لم نتأثر بالایحاءات الغربیة النابعة من أجواء الغرب المادیة الجافة ، قلنا إن المسلمین أجمعواـ کما رأینا ـ علی أن الولایة کانت للمعصوم (ع) ، و لا یوجد حینئذ أيّ اعتراض بعد افتراض العصمة عن الانحراف و السیر في السبیل المستقیم و في حدود التشریع الاسلامي الاقوم.

أما في مرحلة غیبة المعصوم ، فإن أقرب الافراد إلی المعصوم علما و استقامة و کفاءة هو الفقیه بلا ریب بعد أن وعی خطة تمام الوعي ، و تخلّق بخلقه الحمید ، و استهدی بتوجیهاته ... طبعا مع علمنا بأن الفقیه لا یمکنه أن یؤدي الدور الذي یقوم به المعصوم و لکنه ـ کما قلناـ أقرب الافراد إلیه ، و إلی قیادته.

و من هنا فلا یبقی مجال للاستبداد خصوصا إذا لاحظنا الأمورالتالیة:

أولا: التربیة الاسلامیة الاصلیة حیث تتکفل بصیاغة الانسان قائدا کان أم مقودا ، و تمنع إلی حد کبیر أن یغلّب المسلم مصالحه الشخصیة علی مصالح أمته ، أو یخرج عن الحدود التي ترسمها الشریعة الاسلامیة له.

ثانیا: التقیّد المفروض لتحرک القیادة في إطار التشریعات الاسلامیة الهادیة الامر الذي یبعد هذا الفرض عن اتباع الهوی و التحکم بالامة.
ثالثا: و تبعا للأمر الثاني فإن الشریعة الاسلامیة طلبت من القائد أن یقوم بعملیة التشاور الکامل في کل حقل یقتضي ذلک.

رابعا: و تبعا لذلک أیضا فإن لم یقم بذلک فإنه بطبیعة الحال یفقد الکفاءة و العدالة أحیانا، و حینئذ یفقد ولایته بشکل طبیعي.


و نقولها أخیرا:

مؤکدین أن للأمة دورها الکبیر في الحفاظ علی نقاء المسیرة الاسلامیة ، و ا ستمرارها علی الخط الصحیح ، و قد کان همّ الطغاة السابقین منصبّا علی حذف وجود الائمة من أمامهم ،و طرح الکثیر من الفاهیم التي تحطمها و تمنعها من القیام بواجبها الاسلامي الاصیل.

و بعد کل هذا نعرف الأصالة و العمق و الروح الاسلامیة التي تمثلت في الدستور الاسلامي للجمهوریة الاسلامیة في ایران حین احتوی علی المبدأ القائل ب« ولایة الفقیه» مؤکدا أن هذه الثورة الاسلامیة بقیادة الامام الخمیني (قدس سره) و بعده السید علي الخامنه اي (حفظه الله ) هي امتداد للثورة الاسلامیة الأولی بقیادة الرسول الاعظم(ص) هذا و إن قیادة القائد لتعطي أروع صورة مجسدة للفیه القائد الولي الواعي الذي تبعته الأمة بروحها و جسدها فقادها إلی العلاء و النصر علی الطواغیت ، و حقق المنعطف الاوسع لمسیرة الحق في التاریخ المعاصر.

إذ تقول المادة الخامسة من الدستور الاسلامي:

« تکون ولایة الأمر و الأمة في غیبة الامام المهدي عجل الله تعالی فرجه ـ في الجمهوریة الاسلامیة الایرانیة ـ للفقیه العادل التقي ، العارف بزمانه ، الشجاع ، المدبّر ، الذي تعرفه أکثریة الجماهیر و تتقبّل قیادته ، و في حالة عدم إحراز أيّ فقیه لهذه الأکثریة فإن القائد (أو مجلس القیادة المرکب من الفقهاء جامعي الشرائط ) یتحمل هذه المسؤلیة وفقا للمادة السابعة بعد المائة»

ـ و یکفي التأمل في هذه المادة لاکتشاف الخطوط العریضة لولایة الفقیه فیها.

 


source : www.abna.ir
0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

مواعظه (ع)
من كلام السيد القائد الخامنئي (دام ظلّه) في ذكرى ...
كرامات الإمام الحسين ( عليه السلام ) بعد مقتله من ...
الإمام الحسين والقرآن الكريم
قصيدة تلقى قبل اذان الصبح في حضرة الامام الحسين ...
اصحاب الامام الحسين عليه السلام يوم الطف
زيارة الناحية المقدسة
شعر الإمام الحسين ( عليه السلام )
مِن فضائل زیارة الحسین علیه السلام
صفات الإمام الحسين ( عليه السلام ) الجسمية وهيبته

 
user comment