عربي
Thursday 9th of May 2024
0
نفر 0

البعد التاریخي لنهضة الامام الخمیني

 البعد التاریخي لنهضة الامام الخمیني

ليست الاحداث التاریخیة کائنات من اجناس شتی ... لیست احجارا یقذف بها المجهول في برکة راکدة فتهز میاهها لتحدث فیها دوائر تتباعد عن المرکز ثم تتلاشی الی الابد... انها کائنات حیة تتوالد و تتعاطی عبر صیرورة التاریخ ... انها حرکة ، و للحرکة دوافعها و تحرکاتها الکامنة و الفاعلة ، و لها آثارها التي هي أحداث جدیدة ، ولیدة ، ستنجب هي الاخری عبر حرکتها الدائبة أحداثا اخری ...

فلیس هناک حدث تاریخي مقطوع الجذور عن الاسباب و المبررات .. و ما هذه الاسباب و المبررات الا معطیات التاریخ التي تتعاضد في صناعة ذلک الحدث القادم . هذا هو التاریخ في حرکته و صیرورته ، سواء کانت حرکته تصاعدیة مطردة ، او انها رسمت مسارا متعرّجاً ، صعوداً و هبوطاً، فعلی اي حال کان فلیس في التاریخ (طفرات تاریخیة ) من صنف الطفرات الوراثیة في الجینات، لیس فیه معجزة خارقة للعادة، إلّا في احداث معدودة ، کالطوفان ، انفلاق البحر لموسی لیهلک فرعون ، و حتی في مثل هذه الاحداث لا تأتي المعجزة الا حلقة في نسق تاریخي، و من خلاله فقط تکتسب مبرراتها ، فحتی المعجزة بهذا المعني هي ولیدة الحدث او النسق التاریخي...

و من هنا فان الحدث التاریخي، اي حدث ، انما یکتسب معناه الحقیقي من خلال البحث عن جذوره التاریخیة، و موقعه في صیرورة التاریخ، و لیس من خلال اجتثاث جذوره من الارض و تحویلها صوب السماء ، کما یفعل المغالون عادة و هم یستعرضون عظماءهم ظانین خطأً ان الارتباط بالسماء یکون من قبل الجذور، بل ظانین ان المقدس لیس له بالارض صلة ، و ما کان له صلة بالارض فهو ارضي لا تمتزج به القداسة.

و لیس الامر کذلک ، فکل ما یستحقه صانع الحدث التاریخي الکبیر من تعظیم انما هو آت من تفعیل کامل قدراته في استثمار المعادلات التي اذا ما احسن استثمارها ، اتت بالتغییر المطلوب ، الحدث التاریخي ، خلافا لسائر الناس الذین تمر علیهم الفرص دون ان یشعروا، و تطرق علی رؤوسهم المنبهات و المحفزات ، فلا یستفیقون ، بل و حتی اولئک الذین ینفعلون مع التحدیات و لکن دون المستوی المثمر الخلّاق ... الشریحة الاولی هم عظماء البشر ، و هم صانعوا التاریخ بهذا المعنی.

في هذه القراءة نود الوقوف علی هذا المعنی الاخر للنهضة ، نهضة الامام الخمیني، المعنی الذي یضفیه علیها موقعها في حرکة التاریخ، و استجاباتها الخلاقة لتحدیاته ، و حواراته البناءة مع متغیراته.

هذا ما اردناه من البعد التاریخي ، و قد وضعنا له تخطیطاً رباعیاً ، سنقف عند ابعاده الاربعة: « الجذر التاریخي» و « المعرفة التاریخیة » و « المعطی التاریخي الفکري، التراث» و « المعطی الفلسفي، تفسیر التاریخ».


1ـ الجذر التاریخي
تعد التحدیات التي اسهمت في تکوین الحوافز نحو التحرک و الاصلاح و النهوض، هي اقرب الجذور التاریخیة لهذا النوع من الحرکة .. و في العصر الحدیث ، حیث ظهر اکثر من مشروع اصلاحي اسلامي کبیر، تعد الاخفاقات العثمانیة و التدهور السریع امام الغرب و ظهور حرکات قومیة اوم وطنیة انفصالیة متأثرة بالفکر الغربی ، هي اهم الحوافز الداعیة الی التحصن بالدین من خلال تجدید النظر في طبیعة تفسیر الدین و تطبیقاته ، اذ اصبحت التجربة العثمانیة ، و مثلها الصفویة ، فاشلة علی هذا الصعید.

في مثل هذه الظروف کان مشروع السید جمال الدین المعروف بالافغاني الانموذج الافضل لمشروع نهضوي اسلامي، یعید الوعي الی المسلمین ، و یوحّد صفوفهم و یفجّر طاقاتهم ، و قد کان لهذا المشروع صیت حسن ، و اثر کبیر في عموم بلدان المسلمین ، و لا سیما بعد وفاة صاحبه في سنة 1897م. و ان کان السید جمال الیدن قد طاف و تحرک في بلاد کثیرة ، و کان یحب ان یظهر بأنه افغاني سنّي ، فهو ایراني المولد درس بعض علوم الشریعة في حوزة النجف ، و هو علی صلة بکثیر من علماء الدین الشیعة و قد کان له الاثر الکبیر في حرکة التنباک ، سنة 1895م ، بل في نظر الشهید المطهري کان له دور کبیر ایضاً في ثورة الدستور« المشروطة» التي حدثت بعد وفاته بنحو عشر سنین.

فلقد عاصر السید جمال الدین الفترة التي کانت فیها ایران اکثر دول الشرق الاوسط تنازلاً للغرب و لروسیا القیصریة ، ففي عام 1872 منح ناصر الدین شاه بریطانیا اضخم تنازل تحصل علیه في التاریخ ، اذ وضع تحت اختیارها . جمیع مصادر الثروة ا لصناعیة ... الامر الذي أثار غضب الروس الذین کانوا ینافسون الانجلیز علی (جنة ایران) ، علی حد تعبیر السید جمال الدین نفسه.

حلقات هذا الصراع الدائر حول استغلال و انتهاب العالم الاسلامي کان یدور کله في ذهن الامام الخمیني و هو یؤسس لمشروعه النهضوي الاصلاحي، فهو یقول : « ان المستعمرین و الحکام المستبدین و طالبي الجاه قد قسّموا الوطن الاسلامي و فصلوا الامة عن بعضها، وجعلوها شعوباً متفرقة، کما قام المستعمرون بتقسیم الدولة العثمانیة الکبری في زمانها ، فقد اتحدت روسیا و انجلترا و النمسا و سائر الدول الاستعماریة و دخلوا معها في حرب ، و من ثم احتلت کل دولة قسما من مناطقها ، و لئن کان اکثر حکام الدولة العثمانیة لا یتمتعون باللیاقة المطلوبة ، و بعضهم کان فاسداً و کان نظامهم نظام سلطنة ، لکن کان لا یزال خطر ظهور اشخاص صالحین من بین الشعب قائما بالنسبة للمستعمرین ، لانه ربما قام هؤلاء باستلام الحکم بمساعدة من الناس و قضوا علی وجود الاستعمار . لذا قاموا بتقسیمها في الحرب العالمیة الاولی و بعد حروب متعددة ... لا سبیل لدینا لتحقیق وحدة امتنا الاسلامیة و اخراج وطننا و تحریره من تحت سیطرة و نفوذ المستعمرین و الدول العمیلة لها ، سوی بتأسیس دولة».

و في عام 1890 منحت حکومة الشاه ناصر الدین ما عرف بـ « امتیاز التنباک » للتاجر الانجلیزي تالبوت و شرکائه ، امتیازاً شاملا لعملیات شراء التبغ و بیعه و تصنیعه في کل البلاد. الامر الذي اثار سخط الشعب ، و تصدت له هذه المرة الزعامة الدینیة المیدانیة ، بقیادة المیرزا محمد حسن الشیرازي الذي کان آنذاک في سامراء ،و مساندة عدد من علماء الدین المخلصین ، من امثال : الشیخ حسن الکربلائي ، و الحاج میرزا جواد ، و آقا نجفي ، و میرزا محمد حسن آشتیاني، فحاولوا صرف الشاه عن هذا العقد لکنه لم ینصع تمام الانصیاع ، فاصدر المرجع الکبیر في وقته المیرزا الشیرازي فتواه الشهیرة بتحریم استعمال الدخانیات باي شکل من الاشکال. فاستجاب الشعب لهذه الفتوی استجابة اذهلت الشاه و اصحاب الامتیاز مما ادی الی ابطاله.

یستفید الامام الخمیني من هذه الفتوی في التنظیر لولایة الفقیه ، قائلا: « ان موضوع ولایة الفقیه لیس موضوعاً جدیداً جئنا به نحن ، بل ان هذه المسألة وقعت محلاً للبحث منه البدایة ، فحکم المرحوم الشیرازي في حرمة التنباک کان واجباً اتباعه حتی من الفقهاء الآخرین ایضاً ، و قد اتبع ذلک الحکم جمیع علماء ایران ما عدا بضعة اشخاص ، و هو لم یکن حکماً قضائیاً في خلاف بین بعض الاشخاص، بل کان حکماً ولائیاً ،حکومیاً ، اصدره ، رحمه الله بالعنوان الثانوي مراعاة لمصالح المسلمین. و کان الحکم مستمراً مادام العنوان موجوداً ، و بزوال العنوان ارتفع الحکم، و المرحوم المیرزا محمد تقي الشیرازي الذي حکم بالجهاد( في ثورة العشرین بالعراق) و کان ذلک بصفة دفاع بالطبع ، فقد اتبعه بقیة العلماء ، لانه کان حکماً ولائیاً حکومیاً.

فهو بعد ان یستعرض هذا الحدث و طبیعته کمحفز للحرکة ضد الاستعمار و الاستبداد و النفوذ الاجنبي في البلاد، یعتمده بعداً تاریخیاً في تدعیم النظریة، وهو ما یقع ضمن البعد الثاني « المعرفة التاریخیة» و قد اکتفیت بذکره هنا مع هذا التذکیر .

في مایس 1896 م اغتیل ناصر الدین شاه برصاص احد اتباع السید جمال الدین الافغاني ، فخلفه علی العرش ابنه مظفر الدین شاه، و کان ضعیفاً ، فتفشی الفساد في الوضع الاداري للبلاد، فبدأت المطالبة الشعبیة بالاصلاح الاداري، و بعد ان تفاقم الوضع تصدی علماء الدین الغیاری لقیادة المعارضة ، و کان في المقدمة منهم : السید محمد الطباطبائي ، و الشیخ فضل الله النوري، و السید عبدالله البهبهاني و مارسوا حرکة واسعة في التوعیة و التعبئة الجماهیریة ، حتی اظهروا الحرکة الفعلیة عام 1905م عندما قرر العلماء الثلاثة الاعتصام في مرقد السید عبدالعظیم بطهران ،و قد تحقق نجاح هذه الحرکة الدستوریة التي عرفت بالمشروطة في 15/آب/1906 اذ استجاب الشاه لمطالبهم باقرار النظام الدستوري في البلاد. لکن هذا الانتصار کان مضراً بمصالح الروس من جهة ،و لم یحظ بمساندة بریطانیا، المتنفذة الاخری في البلاد من جهة اخری ، فوظفت القوتان عملاءهما لاحباط هذا الانتصار بعد عام واحد.
ذلک الحدث التاریخي المهم هو الاخر حظي باهتمام الامام الخمیني في التذکیر به کمرحلة من مراحل النهوض ضد الاستبداد و الاستکبار ، مذکراً بسبب اخفاقه، قائلا:« لقد کانت المؤامرة التي قامت بها دولة بریطانیا الاستعماریة في بدایة الحرکة الدستوریة لهدفین : الاول هو ما شاع في ذلک الوقت من السعي الی القضاء علی نفوذ روسیا القیصریة في ایران ، و الآخر هو اخراج الاحکام الاسلامیة من مجال العمل و التطبیق من خلال الاتیان بالقوانین الغربیة ».

بعد الحرب العالمیة الثانیة ، اصبحت ایران من حصة امریکا، و النفوذ الامریکي یتزاید في الشارع الایراني، فتأسست اکثر من حرکة ثوریة و اصلاحیة ، کان ابرزها تنظیم « فدائیي اسلام» بزعامة السید نواب صفوي الذي خاض کفاحاً مسلحاً ضد عملاء الاستعمار، ثم حرکة مصدّق الوطنیة ، و کان وراء الحرکتین آیة الله ابوالقاسم الکاشاني.

اخفقت تلک الحرکات لانها لم تستکمل عناصر النجاح ، فالظروف المحیطة بها کانت اقوی منها.

و هکذا تتعاقب الحرکات الثوریة و الاصلاحیة ، وقد وجدنا وراءها دائماً بعض علماء الدین الافذاذ الذین فقهوا الدین حق الفقه و وعوه حق الوعي، رسالة لاحیاء الانسانیة و تحریرها من کل اشکال الهیمنة و الاستعباد. و یستمر الحکم الملکي بالاستبداد، و یکون الحلیف الاقوی لاسرائیل في الشرق ، و یدخل الثقافة الغربیة الی البلاد بشکل لا نظیر له ، حتی « صار افتخاراً کبیراً ان یکون الانسان متغرباً في کل شؤون حیاته ، من مشیته و منطقه و ملبسه و توجهاته ، و بالخصوص عند النساء المرفهات او انصاف المرفهات ، فلقد سری التغرب الی آداب المعاشرة و کیفیة التحدث و استخدام اللغات الاجنبیة في التحدث و الکتابة».

و قد لعب المستشرقون و المتغربون دورهم الکبیر في تشویه الثقافة و مسخ الهویة و تشویه حقائق الاسلام: « ان عدداً من المستشرقین الذین هم العملاء الثقافیون للمؤسسات الاستعماریة ، ناشطون لتحریف حقائق الاسلام و قلبها ، دعاة الاستعمار یعملون بنشاط و یقومون بابعاد شبابنا عنّا بدعایاتهم السیئة في کل زاویة من زوایا البلاد الاسلامیة ، انهم لا یقومون بتنصیرهم او تهویدهم ، و انما هم یفسدونهم و یجعلونهم بلا دین ، و لا ابالیین.. و هذا یکفي بالنسبة للمستعمرین...

« لقد ظهرت في مدینتنا طهران مراکز رعایة السوء الکنسیة و الصهیونیة و البهائیة لکي یضلوا الناس و یبعدونهم عن الاحکام و التعالیم الاسلامیة».

یبدو ان هذه الثقافات قد ترکت اثرها علی الکثیر من رجال الدین الذین اقتنعوا بان الاسلام لیس دین سیاسة و حکم ، و ان واجباتهم محدودة في تبیان الاحکام الشرعیة ، و لیس لها شأن في الحیاة الاجتماعیة ، لقد اثارت هذه الظاهرة الامام مثلما اثاره تفشي الظلم و الفساد و الاستبداد: « ان هذه الآثار ملحوظة بشکل واضح ، اذ نجد ان البعض من في الحوزات یتهامسون بأننا عاجزون عن القیام بمثل هذه الامور ما لنا و لهذه الامور ؟ نحن علینا ان ندعو و نجیب علی الاستفتاءات فقط ! هذه الافکار من آثار تلقینات الاجانب».

هذه الطبقة کانت العقبة الاکبر في طریق توعیة الناس و بث روح الثورة و التحرر في نظر الامام ، لذلک کان یدعو قبل کل شيء الی مکافحتها و فضحها، فهم بین متظاهر بالقداسة ، بین وعاظ سلاطین! « ان نشر الاسلام و بیان مفاهیمه و توضیح معالمه یحتاج الی اصلاح الحوزات العلمیة... و اصلاح افکار جماعة المتظاهرین بالقداسة ، الذین یعیقون عملیة الاصلاح في الحوزات و المجتمع، و نزع عمائم معممي البلاط و طردهم من الحوزات».

بالاضافة الی ضیاع معالم الدین ، و انتشار الفساد ،و تحکم الاجنبي في مصالح البلاد ، هناک الظلم المستشري نتیجة الاستبداد و الطبقیة الجائرة: « بالاضافة الی ذلک فان المستعمرین قد فرضواـ من خلال عملائهم السیاسیین الذین سلطوهم علی الناس ـ انظمة اقتصادیة ظالمة قسمت الشعب الی فئتین : ظالم و مظلوم. فصار یقف من هذا الجانب مئات الملایین من المسلمین الجیاع و المحرومین من الطبابة و العلم، بینما یقف الی تلک الجهة عدد قلیل نسبیاً من الاثریاء و اصحاب التأثیر سیاسیاً من المترفین و الفاسدین... و صار الشعب الجائع المحروم یسعی باستمرار لانقاذ الشعب المظلوم و المحروم... نحن مکلفون بأن ندعم المظلومین و ان نکون اعداء الظالمین ».

علماء الاسلام مکلفون بمحاربة استغلال واحتکار الظالمین...».

هذه الظواهر المتعددة کانت کفیلة بأن تحفز الرجل الفذ علی النهوض و القیام ، و استنفار الجماهیر و استنهاضها... و قد کانت بوادر هذه الروح عند الامام ظاهرة منذ ایام شبابه ، في الوقت الذي لم یقف احد من رجال الزعامة الدینیة في تلک الفترة في واجهة التصدي و المعارضة ، غیر آیة الله الکاشاني ، الذي یقیم في طهران ،و قد توفي سنة 1962م. و فیها کانت بدایة ظهور قیادة الامام الخمیني للمواجهة ، و لما کان حائزاً علی امتیازات القائد الفذ ، من شجاعة ، و وضوح رؤیة ، و ثبات ، وسعة افق، فقد استطاع ان یوسع دائرة المواجهة لتتخذ شکل المشروع التغییري الکامل الذي یستهدف ازالة الحکم الطاغوتي و تقدیم البدیل الاسلامي، وقد قام بالفعل بوضع اطروحته البدیلة و التنظیر لها علی مدی سنوات ، فلما کان الانتصار حلیفه لم یواجه حرجاً في تشکیل النظام الاسلامي البدیل ، بل اخذت نظریته في « ولایة الفقیه» طریقها الی التطبیق في ارض الواقع.

و لقد کان الامام مواکباً للحرکة الثوریة التي کان یوجهها آیة الله الکاشاني منذ سنة 1941 کما یظهر صریحاً في مقاطع کثیرة من کتابة « کشف الاسرار » ، و من وجوده المیداني ، حتی ان آیة الله الکاشاني کان یقول قبل وفاته : « السید الخمیني هو الرجل الوحید الذي یؤمل ان یهتم من بعدي بآمال الشعب الایراني و تطلعاته».


2ـ المعرفة التاریخیة:

التاریخ مدرسة ، هذا ما عرضه القرآن الکریم ، عندما جعل تجارب الامم عبراً قیمة تقوم مسیرة الانسان و المجتمع.. و حین جعل سیر الانبیاء حجة ، و سیرة النبي الاکرم (ص) التي هي شطر السنة ، مصدراً من مصادر التشریع، فقد جعل من التاریخ واحداً من مصادر المعرفة ، التي تدخل في البناء العقدي للانسان ،وفي صیاغة قوانین حیاته الاجتماعیة .

بهذا المستوی من الوعي التاریخي تعامل الامام مع التاریخ ، فدخلت المعرفة التاریخیة في ترکیب البناء النظري لنهضة الامام الخمیني ، و في البرنامج العملي لها. و النقاط التالیة تعطینا صورة حیة لهذه الرؤیة :

أـ ففي البدء جعل الامام نهضته حلقة من حلقات الصراع التاریخي بین المستضعفین و المستکبرین ، الصراع الذي کان الانبیاء و اتباعهم یمثلون علی امتداد التاریخ احد طرفیه ، فیما یقف في الطرف المقابل الطواغیت و المترفتون ، الذین یمثلون الاستکبار في کل حقب التاریخ : « و قد انعم الله علینا بمجیء الانبیاء ، لیهدوننا الی طریق الله الذي یوجب ایصال العالم بأسره الی السعادة او الیعش براحة و أمان في جو من التربیة الصحیحة ، و یعیدوا الناس الی مسار التوحید الالهي ... و الذین یدعون الی غیره و یوجهون الناس الی خلاف مسیرهم الطبیعي و مسیر فطرتهم هم الضالون ،و هم الطواغیت».

في مسیرة التاریخ الطویلة في الصراع بین الحق و الباطل ، بین الحریة و الاستبداد : « یا مسلمي العالم و یا مستضعفي الارض، هیا الی النظام الذي جاء من قبل الله تعالی لتقدّمکم و تکاملکم ،و سعادتکم في الدنیا و الآخرة ... و لازالة الظلم ... و حقن الدماء ... و نصرة المظلومین في العالم... و لا جل حریة و استقلال اقطارکم ، ذلک هو النظام الالهي المسمی بالنظام الاسلامي» . وهو النهج الذي سار علیه الائمة : « کان للائمة (ع) و لاتباعهم مواجهات مستمرة مع الحکومات الجائرة و سلطات الباطل و هذا الامر واضح في سیرتهم و نمط حیاتهم».

ب ـ و بهذا المعنی ایضاً یجعل الامام حرکته حلقة في سلسلة من الحرکات المعاصرة و اللاحقة ؛ لان هذا الصراع صراع قائم ، بوجود النزعة الاستبدادیة و الحکومات الطاغوتیة في کل بقعة من بقاع الارض، یقول الامام « ان هذه الثورة قد قامت بالدرجة الاولی من اجل العالم الاسلامي، و بالدرجة الثانیة من اجل المحرومین و المستضعفین الذین یسعون من اجل تحریرهم ... و بهذا المعنی فان الثورة الاسلامیة الایرانیة لیست فریدة و مقتصرة علی نفسها ، بل هي بدایة ثورات تماثلها في الهویة و المیزات».

 

ج ـ في الدفاع عن فکرة « الحکومة الاسلامیة» یستمد الامام ادلته من التاریخ ، الی جانب ادلته العقلیة ثم النقلیة. فهو یستفتح البرهان علی لزوم اقامة الحکومة الاسلامیة بالسیرة العملیة للرسول الاکرم(ص) ، قائلاً: « نحن نعتقد بالولایة ، بلزوم تعیین النبي(ص) لخلیفة ، و انه قد عین ذلک ، فهل تعیین الخلیفة هو لاجل بیان الاحکام؟.

و یتابع قائلاً: « لم یکن الامر مقتصراً في زمن الرسول(ص) علی مجرد بیان القانون و ابلاغه، بل کان یقوم (ص) بتنفیذه أیضاً... لقد کان رسول الله (ص) المنفّذ و المطبق للقانون ، فقد قام بتطبیق القوانین الجزائیة مثلاً : قطع ید السارق ، و اقام الحد، و رجم . و الخلیفة معین لهذه الامور أیضاً».

و قال أیضاً: « ان سنة الرسول الاکرم (ص) و نهجه دلیل علی لزوم تشکیل الحکومة ، و ذلک :

أولاً: لانه هو (ص) قام بتشکیل حکومة ، والتاریخ یشهد بذلک ، و قام بتطبیق القوانین و تثبیت انظمة الاسلام ، و ادارة المجتمع...

 

و ثانیا: عین حاکماً بعده بأمر من الله تعالی...».

و بعد سیرة الرسول(ص) یستند الی تاریخ المسلمین ، فیقول : « لم یتردد احد من المسلمین في لزوم الحکومة بعد رحلة الرسول الاکرم(ص)، فلم یقل احد لا حاجة لنا بالحکومة ، إذ لم یسمع کلام کهذا من احد علی الاطلاق ، بل کان الجمیع متفقین علی ضرورة تشکیل الحکومة، و انما کان الاختلاف حول من یتولی هذا الامر و یکون رئیسا للدولة ، فحسب. لذا شکلت الحکومة بعد رحیل الرسول الاکرم (ص) في زمن الذین تصدوا للخلافة بعده ، و في زمن امیر المؤمنین (ع) ، و کان هناک نظام حکومي تجري من خلاله عملیة الادارة و التنفیذ».

 

دـ تجارب الاخرین ، قدماء و معاصرین ، تدخل هي الاخری في الرصید الفکري التاریخي لهذه النهضة ، في تخطیطها ، « یجب ان نتقدم من خلال العمل الاعلامي ، ففي جمیع انحاء العالم کان الامر کذلک علی الدوام، إذ یلتقي عدة اشخاص و یفکرون في الامر ، ثم یقومون بعد ذلک بالعمل الدعائي، فیزدادون شیئاً فشیئاً، الی ان ینتهي الامر بأن یصیروا قوة نافذة في حکومة کبیرة ، او یحاربونها ، و من ثم یسقطونها...

لقد قضوا علی محمد علي میرزا ، و أقاموا حکومة المشروطة ، و لم یکن منذ البدایة ثمة جیش و قوة، و انما تقدموا من خلال العمل الدعائي ، و ادانوا المتسلطین و المتفرعنین ، و قاموا بتوعیة الشعب ، و افهموا الناس ان هذا التفرعن امر مرفوض .. و اخذت دائرة العمل الدعائي بالاتساع شیئاً فشیئاً حتی شملت جمیع طبقات الشعب، و تحول الشعب الی قوة فاعلة ، و من ثم حققوا النتیجة المطلوبة».

و في التنظیر لجهاد طویل الامد، یقول :« فهذا هدف یحتاج الی وقت طویل ، عقلاء العالم یقومون بوضع حجر في مکان ما ، لکي یقیموا علیه بناءً بعد مئتي سنة من ذ لک الوقت ، و من ثم یحققوا النتیجة المرجوة ... الکثیر من النهضات الکبری بدأت بهذا الشکل ، فسوکارتو رئیس جمهوریة اندونیسیا السابق کان یحمل تلک الافکار في السجن ، و وضع الخطط و البرامج و من ثم نفذها فیما بعد.

هکذا تحتل المعرفة التاریخیة موقعها الحقیقي في فکر النهضة في برامجها العملیة . و هذا واحد من اسباب التکامل و النضج في المشروع الذي قدمته هذه النهضة.


3ـ المعطی التاریخي الفکري (التراث):

اشکالیة العلاقة بالتراث الاسلامي ما تزال قائمة ، لم تحسم بعد... و لیس مصدر النزاع المهم فیها هو تحدید المراد بالتراث ، فقد نتفق جمیعاً علی ان التراث الاسلامي یمثل النتاج الفکري لعلماء المسلمین منذ عصر الصحابة، لیخرج منه المصدر المعصوم ، القرآن و السنة الثابتة ... فهو مصدر فوق التاریخ و معادلاته الزمکانیة. امام التفسیر و علوم الحدیث و الدرایة و الکلام و الفقه و الاصول ، فهذه کلها نتاجات فکریة کانت آخذة بالاتساع و التطور طوال عهود الازدهار الفکري الاسلامي، هذه الحقیقة انما تعني من ناحیة اخری» تاریخیة الفکر » فالعامل التاریخي یترک اثره لا محالة ، بل هو المقیاس في مستوی التطور و التراکم الذي لا خلاف في اصل وجوده، فالمنحی الذي نرسمه للتطور الفکري في اي واحد من تلک العلوم انما یمثل العالم التاریخي فیه. بعد ذلک تشبعت بنا السبل في طبیعة تعاطینا للتراث و حوارنا معه بحسب اتجاهاتنا الایدیولوجیة: سلفیة ، او قومیة ، او مادیة ، او متغربة ( استشراقیة، و لیبرالیة). کل واحدة من هذه الاتجاهات ستملي علی اصحابها اطار التعامل مع التراث و طبیعته..

فالتراث الذي ینسب ا لیه السلفي یمثل دائماً نهایة الفکر التي لا یمکن تجاوزها الا بالبدع ! و التراث عند القومي هو کل ما یبرز الخصائص القومیة لدیه، و التراث الاسلامي کله مختزل عنده في هذه الدائرة الضیقة ، فالقومیون غیر العرب مثلاً یتفقون مع المتغربین، مثلاً في نسبة الکثیر من التشریعات الاسلامیة، حتی الثابتة منها في المصدر المعصوم الی طبائع العرب و تاریخهم!.

اما المادیون فلیس لهم هم في قراءة التراث الا البحث عما یمکن لهم تصنیفه ضمن دائرة الصراع الطبقي او الصراع بین المادیة و المثالیة . و ما صعب علیهم تفسیره بهذه الطریقة أقحموه في قوالبها اقحاما قسریا.

اما الاستشراقیون و اللیبرالیون الذین اخذوا من الفکر الغربي مناهجه، فقد وقعوا بالضرورة فیما وقع فیه الغربیون في احکامهم علی الاسلام.

فکل هذه القراءات محکومة برؤیة قبلیة ، مذهبیة ، فبدلاً من ان تذهب الی تطبیق المنهج العلمي في قراءة التراث و تقویمه ، ذهبت الی تحییز التراث للبرهنة علی الایدیولوجیة المعتمدة سلفاً...

فالاشکالیة مازالت قائمة علی النحو ، و المنهج العلمي الذي ینبغي اعتماده في قراءة التراث لم تتضح معالمه بعد.. و اکثر من هذا فان المفکرین الذین انبروا لهذه الظاهرة لم یفلتوا ایضاً من شباکها، فاما عطلوا العامل التاریخي بالکلیة، و اما نظروا الیه من زاویة مذهبیة صرفة ، تاریخیة هي الاخری ، دون ان یشعروا ، فالجابري، مثلا و هو یحاکم هذه القرارات کلها، یجعل التراث الاندلسي ـ المغاربي، فوق مستوی النقد ، و کأنه فوق التاریخ ، دون النظر المعمق في تاریخیته ، و هي لیست بأقل وضوحاً مما هي علیه في الفکر المعتزلي او الاشعري علی سبیل المثال..

نغادر هذا التمهید الموجز ، وفیه متسع لکلام طویل ، لمتابعة بعض المؤشرات الکاشفة عن وجهة نظر الامام الخمیني و تعاطیه العملي للتراث...

في النظرة الکلیة ربما وجد البعض ما یبرر له نسبة الامام الخمیني الی « السلفیة » في التعامل مع التراث، فهو ینتسب الی تراث عریق یتعامل معه کمصدر اصیل في شتی المعارف. و قد یجد هذا التفسیر مبرراته خصوصاً مع توجیهات الامام الثوریة أیام استنهاضه الناس للثورة ، إذ کان یؤکد بان الفقه الاسلامي قد استوعب حلول جمیع المشاکل التي تواجه الانسان و المجتمع ، من خلال عرضه روایات تؤکد انه ما من شيء یحتاج الیه الناس الا وقد جاء فیه کتاب او سنة ، و هو یری ان هذ ا « لا شک فیه».

و هنا ثلاث قضایا:

الاولی: ان الامام هنا کان في معرض الدفاع عن الاسلام ازاء المستعمرین و عملائهم الذین یصورون الدین مجموعة من الطقوس و التعالیم الاخلاقیة.. فهو یرید این یثبت لهم خلاف ذلک ، یرید ان یثبت لهم سعة الاسلام و شموله لشتی دوائر الحیاة الاجتماعیة. ثم ان الکلام هنا في حدود الکلیات و الضوابط العامة.

 

و الثانیة : ان الامام مؤمن بأن الاجتهاد باب مفتوح، و من الضروري أن یکون لکل عصر مجتهدوه. و هذا المبدأ یعني أن الزمن الجدید سیأتي بفقه جدید یتجاوز التراث الفقهي في غیر المسائل الثابتة في الشرع. و بطبیعة الحال فلیس کل الفقهاء القائلین بهذا المبدأ الستطاعوا ان یتصوروا حقیقة تاریخیة النتاج الفکري، الفقهي و الاصولي ، بالرغم من ان دروسهم التقلیدیة تعبر عن هذا المعنی.


و الثالثة : قد نلمس في هذه المرحلة بالذات ، مرحلة الثورة ، محاکمات جریئة مارسها الامام مع تراث فقهي متراکم في قضایا حساسة ،کما في قضیة الخمس ، و التقیة ، ان لم تکن قضیة الحکومة الاسلامیة نفسها مثالاً علی ذلک إذ رأی سائر فقهاء الشیعة انفسهم في معزل عنها.

اما تجربة الدولة فقد اعطت هذا الموضوع بعداً اکبر ،و اصبحت فیه النظرة لیس الی جزئیات السائل الفقهیة، بل الی مفهوم الاجتهاد المتعارف نفسه و دائرته ، نظرة اکثر عمقاً و اوسع أفقاً.. فاصبح الزمان و المکان عاملین اساسیین في مصیر الاجتهاد نفسه:« فالزمان و المکان عنصران اساسیان مصیریان في الاجتهاد . فظاهر القضیة التي کان لها حکم معین في السابق قد ینطبق علی قضیة اخری،و لکن هذه القضیة الثانیة ذات نفس الظاهر قد تستلزم حکماً جدیداً ، لوقوعها في ظل المعادلات الحاکمة علی سیاسات نظام ما و اقتصاده و نظمه الاجتماعیة ، اي ان المعرفة الدقیقة للعلاقات الاقتصادیة و الاجتماعیة و السیاسیة تجعل نفس موضوع القضیة الاولی الذي ینطبق في الظاهر علی موضوع القضیة الثانیة یستلزم حتما حکما جدیداً..

فالمجتهد ینبغي أن یکون محیطاً بالقضایا المعاصرة .. و لا تستسیغ الجماهیر و الشباب و حتی العامة ان یقول مرجعها الدیني: لیس لي رأي في القضایا السیاسیة.

و قبل هذا التاریخ یضع الامام الخمیني قضیة الزمان و المکان و اثرها في الاجتهاد و الاستنباط امام مجلس حمایة الدستور في الجمهوریة الاسلامیة ، فیقول:

« ان واحدة من القضایا المهمة للغایة التي تقتضیها طبیعة العالم المعاصر المتخم بالاضطرابات هي ملاحظة دور الخصائص الزمانیة و المکانیة في الاجتهاد و نوعیة القرارت المتخذة.

و من خلال هذین العاملین یجیب الامام علی اشکالیة معالجة الاسلام لکل قضایا الحیاة المطروحة سابقاً، فالامام یقر بهذا « لکن المهم المعرفة الصحیحة للحکم و المجتمع التي اساسها یستطیع النظام الاسلامي ان یخطط لصالح المسلمین ، فوحده الرؤیة و العمل ضروریة ، و من هنا فان الاجتهاد المصطلح علیه في الحوزات غیر کاف».

و هکذا یأخذ الزمان و المکان دورهما الطبیعي في النتاج الفقهي وغیره ، و یصبح الوعي بدورهما الطبیعي شرطاً اساساً في الاجتهاد.

« فحتی الفرد الذي یکون أعلم في العلوم المعهودة في الحوزات العلمیة و لا یستطیع تشخیص مصلحة المجتمع ، او لا یستطیع تشخیص الافراد الصالحین و المفیدین من الافراد غیر الصالحین ، و بشکل اعم یکون فاقداً للرؤیة الصحیحة و اتخاذ القرار في القضایا الاجتماعیة و السیاسیة، فمثل هذا الفرد لا یعتبر مجتهداً في قضایا المجتمع و الدولة ، و لا یستطیع الامساک بزمام المجتمع».

« یجب ان نسعی لتحقیق و تجسید الفقه العملي للاسلام ، و ما لم یکن لعلماء الاسلام حضورهم الفاعل في جمیع القضایا و المشاکل فلن یستطیعوا ادراک حقیقة عدم کفایة الاجتهاد الاصطلاحي».

و في الکلمة الاخیرة عبارة واضحة عن وجود التیار السلفي « و المحافظ ، الذي لم یستوعب بعد عوامل الزمان و المکان و دورهما في الفقه و الفکر ، الذین یریدون ان یجعلوا من فقه السلف الذي هو اجابات معاصرة لایامها و مشکلاتها ، یریدون ان یجعلوا منها اجابات نهائیة لاسئلة العصر الحدیث و کل العصور.

 

المعطی الفلسفي للتاریخ

في اطار تفسیر التاریخ و ارجاع احداثه الکبیرة الی عناصرها المحرکة ، کیف یمکنت ان نفسر نهضة الامام الخمیني؟

الاتجاهات التقلیدیة في تفسیر التاریخ ، اي منها سیضم هذه النهضة أنموذجاً یبرهن علی صحة رؤیته؟

ثمة نظریات في الموضوع تقسم بالعموم في بعض جوانبها ، بحیث یمکن تطبیقها مع سائر احداث التاریخ البشري دون الاصطدام بتناقض واضح.. فمثالیة (هیجل )علی سبیل المثال ، القائمة علی الصراع بین الاطروحة و الطباق ، من اجل نتاج حضاري اکثر تکاملاً ، في مسار تصاعدي نحو المطلق، هذه النظریة لا تصطدم في اطارها العام مع اي حدث تاریخي خلاق یأخذ بعملیة خطوة الی الامام.. لکن الامر لیس کذلک مع النقائض فالانتکاسات التاریخیة ، تمثل من زاویة اخری انتکاسات في هذه النظریة نفسها.. و حتی مع الشق الاول بفرض انطباقه علی الحرکات التقدمیة الخلاقة فاما صاحب هذه النظریة « هیجل » فقد وضعها بنفسه علی المذبح ، مذبح الثورة الفرنسیة ، حین اعلن عن نهایة دیالکتیکیة التالیة في الانموذج الفرنسي الذي جعل منه الحالة الاکمل لتجلیات المطلق في الواقع؛ الامر الذي دعاه الی ان یری من کل حرکة لاحقة انحطاطاً و تدهوراً و رجوعاً بالتاریخ الی الوراء.

انه من العبث القول بنهایة التاریخ، فیما الحیاة في حرکة ، و عناصر صناعة الحدث التاریخي لا تموت ، هذا الاخفاق الذي ارتکبه یرتکبه الیوم اصحاب المقولة ذاتها« نهایة التاریخ» الذین قرأوا صراع الحضارات من خلال وجهة النظر الامریکیة و التخطیط الامریکي للمستقبل ، فجعلوا النهایة التي بلغها واقع صراع الحضارات ، بحسب رؤیتهم الخاصة ، انما هي نهایة عصر الایدیولوجیات ، و استقرار النظام العالمي الجدید الذي تنفرد امریکا بتوجیهه و رسم حدوده و معالمه.
و کما وجه التاریخ اجاباته القاسیة علی نظریة « هیجل» ، فهو یجیب علی هذه النظریة المماثلة ، فهذه الثورة الاسلامیة هي انموذج معاصر للثورة الایدیولوجیة الدینیة التي قامت علی اعتاب نهایة الحرب الباردة بین المعسکرین.

و یتخذ العموم نطاقه الاوسع عند آرنولد توینبي ، في « التحدي و الاستجابة» فکل احداث التاریخ التقدیمة هي استجابات خلّاقة لتحدیات بیئیة ، او بشریة ، اولاها.

و فیما وراء هذا العموم یکون التعامل مع نظریات العامل الواحد او العوامل المحددة اکثر دقة، فالحدث التاریخي الهام هو بالنسبة لنظریات کهذه بمثابة التجربة التي ستشهد بصدقها او تحکم علیها بالخطأ و البطلان.

و اذا استثنینا الجبریة اللاهوتیة التي لیس لها صلة بالواقع و متغیراته ، یبقی من نظریات العامل الواحد نظریة المادیة التاریخیة ، التي جعلت حرکة التاریخ رهناً بالصراع الطبقي الذي هو بمنزلة افراز حتمي لعلاقات الانتاج في المجتمع ، في أي مرحلة من مراحل التاریخ، حتی یصل التاریخ عندهم ایضاً الی « نهایته» في المجتمع الشیوعي العالمي.

و الحق ان الذي شهده التاریخ لیس الاقتراب من نهایة الصراع الطبقي عند مشارف الشیوعیة ، ولکن « المادیة التاریخیة » نفسها هي التي ذاقت مرارة النهایة تحت مطارق حرکة التاریخ التي تجري ضمن معادلات الواقع البشري التي لا تجامل احداً.

و في نطاق هذه الثورة التي قادها الامام الخمیني ، هل الفلاحون هم الذین کانوا یقودون الصراع ضد الاقطاعیین ، ام کان في الوسط صراع تقوده الفکرة الدینیة في معظم حلقاته هو الذي یهیمن علی الارض و یوجه الاحداث؟

و هل کان حزب « تودة » الشیوعي الایراني ینظم الفلاحین نحو صراع مع الاقطاعیین لینقل نظام علاقات الانتاج الی نظام رأسمالي ، یأخذ هو الاخر بید التاریخ نحو الاشتراکیة ، وفق الحتمیة التاریخیة؟

ان تاریخ الثورة التي عاصرها هذا الحزب الشیوعي یشهد ان معادلاتها کانت تجري بنحو آخر، فالفکرة الدینیة الداعیة الی الاستقلال و الحریة و العدالة الاجتماعیة و احیاء معالم الدین ، کانت في مقدمة عناصر هذا الحدث التاریخي الکبیر. فالمسخ الثقافي الذي کانت تتعرض له البلاد ، و الساعي الی طمس الهویة الاسلامیة کان ابرز المحفزات علی الثورة ، تصطف من ورائه المحفزات الاخری، من قبیل : النفوذ الاجنبي ، و الاستبداد، و التمایز الطبقي ، بکل ما تحمله هذه الظواهر من آثار سلبیة علی المجتمع.

و ابسط قراءة لتاریخ الثورة ، و اعمقها یتفقان علی ذلک .. نورد هنا مثالین فقط لهما الاثر البلیغ في تحدید هویة الثورة ، و هما:

الحدث السیاسي الاول في حیاة قائد الثورة الامام الخمیني ، وقد تمثل في تصدیه الشجاع لعملیة احتلال قوات السافاک لغرف الطلبة في المدرسة الفیضیة ، و کان عمر الامام آنذاک 18 سنة.

ثم الحدث الاول الذي مثل فیه الامام دوره القیادي في التصدي لحکومة الشاه بعد رحیل آیة الله البروجردي و آیة الله الکاشاني سنة 1962. و قد تمثل في تصدیه للقانون الذي اصدره رئیس الوزراء اسد الله علم عام 1963 م بخصوص « مجالس الولایات» . و الذي الغی فیه تفرد القران الکریم کموضوع للقسم الدستوري، کما الغی شرطي الاسلام و عدم الانحراف العقیدي في العضویة.

هذا الاعلان الجدید هو الذي فجر اول مواجهة علنیة یتزعمها الامام الخمیني ضد الحکومة ، و الذي استغله الامام في حملة واسعة من اجل الاحیاء الدیني شملت معظم ارجاء البلاد. و هو بعد ان عبأ علماء الدین الکبار و اقنعهم بالکتابة الی الشاه و الی رئیس الوزراء في التحذیر من مغبة هذا القرار کتب بنفسه رسالة شدید اللهجة الی رئیس الوزراء ، ثم کتب الی الشاه کتابا مماثلا، و مما جاء فیه : « لقد کشف السید عَلَم للجمیع انتهاکه لقوانین الاسلام و الدستور، لقد تصور السید علم انه سیتمکن من الغاء القرآن رسمیّا من خلال الاستعاضة عنه بأي کتاب سماوي آخر في عملیة القسم و الحلف.. ان هذا الشخص یمارس کل هذا الانتهاک لقوانین الاسلام تحت شعار الالتزامات الدولیة ، ان التحجیج بالالتزامات الدولیة في انتهاک القرآن الکریم و الاسلام و الدستور و محاربة الشعب لهو ذنب کبیر».

و لم یکن الجهاد الدیني للامام و نهضته موضع جدل ، نحو الطابع الوحید الذي طبع حرکة الصراع هذه . عندما تابع المفکر الشهید المطهري عناصر هذه الثورة خاص بالارقام الواقعیة الی ان « الثورة الاسلامیة في ایران لا تنتمي الی فئة ، او طبقة خاصة من الشعب الایراني ، لا للعمال ، و لا للفلاحین ، و لا للمجاهدین ، و لا للجامعیین، و لا للموظفین ، و لا للبرجوازیین . فقد اشترک في الثورة الغني و الفقیر ، و الرجل و المرأة ، و الحضري و القروي ، الطالب الجامعي و عالم الدین ، العامل الفنّي الکاسب و الفلاح ، والامي و المتعلم ، کلهم اشترکوا مع بعضهم البعض».

عندما شخص هذه الظاهرة لم یفته ان یبادر علی الفور الی تنفید النظریة المارکسیة في تفسیر التاریخ امام آخر تجربة تغییریة کبیرة ، قائلا: « ان هذه الثورة هي واحدة من مئات الوقائع التجریبیة التاریخیة التي تکشف عن بطلان تفاسیر انصار نظریة المادیة التاریخیة الذین یعتبرون الاقتصاد اساس المجتمع و الحیاة ، و یتصورون بأن کل حرکة اجتماعیة انما هي انعکاس للتناقضات الطبقیة».

ثم ینتقل الی التعریف بهویة النهضة من خلال عناصرها الفاعلة فیقول: « هذه النهضة تعتبرمن فصیلة نهضات الانبیاء ، أن انها قامت علی اساس الشعور الالهي ، او « الیهة الشعور» و نجد جذور هذا الشعور و الوعي في أعماق النظرة البشریة ، نابعاً من الضمیر الباطني للانسان».

و هکذا تحتل هذه النهضة الکبیرة موقعها التاریخي الممتاز ، في سیاق الحرکات الدینیة و حرکات التحرر العالمیة ، ممثلة تجربة معاصرة شاهدة علی دور « المحتوی الداخلي» للانسان في صناعة التاریخ، مؤکدة ان للتاریخ صیرورته ، و ان لکل حرکة عوامل تلعب دوراً اساسیاً في انتصارها او اخفاقها.

 


source : www.alimamali.com
0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

بقيت إلا الرأس
خيبر
حرب صافوراء مع وصي موسي (علیه السلام)
هل كتب الشيعة تكفر عامة الصحابة كافة ؟
مناظرة الإمام الجواد(ع) مع ابن اكثم
خطبة الإمام السجاد ( عليه السلام ) في الكوفة
الابتعاد عن التشيع .
المذهب الحنبلي
الأدلّة على إسلام أبي طالب؟
الله سبحانه وتعالى و إحياء قتيل بني إسرائيل

 
user comment