عربي
Saturday 23rd of November 2024
0
نفر 0

وضوء النبي (ص) «القسم الاول»

 وضوء النبي (ص) «القسم الاول»

نزلت آية الوضوء من سورة المائدة، وأدّي النبيّ وضوءه في ضوء هَدْيها عدّة مرّات في اليوم، وعلي مدي أكثر من عقدين، وشاهد المسلمون كيفية وضوء النبيّ (صلّي اللّه عليه و آله) .

غير أنّ الغريب في الأمر أن يقع الاختلاف في الوضوء الذي استقرّ عليه المسلمون، وذلك في عهد خلافة عثمان لقول أبي مالك الدمشقي: «حدثت أن عثمان بن عفان اختلف في خلافته في الوضوء»1 .

وتبنّي الخليفة عثمان وجنوده وضوءاً منسوباً الي فعل الرسول الأعظم، فيما ادّعي الفريق الآخر ثباته علي الوضوء الذي جاء به الرسول الأكرم منذ اُمر بإقامة الصلاة، واستنصر كلّ فريق بالقرآن والسنّة لإثبات مدّعاه، وفيما يلي تحرير محلّ النزاع في بيان صفة وضوء النبيّ (صلّي اللّه عليه و آله) .

وضوء الشیعة الامامیة

الوضوء عند الشيعة غسلتان ومسحتان:

الغسل الأوّل: غسل الوجه من قصاص شعر الرأس الي الذقن.

الغسل الثاني: غسل اليد اليمني ثم اليسري من المرفق الي أطراف الأصابع، بحيث يبدأ من المرفق ويُنتهي الي أطراف الأصابع.

و من ثمّ:

المسح الأوّل: مسح الرأس، بأن يمسح مقدّم الرأس بأصابعه أو كفه.

المسح الثاني: مسح ظاهر القدمين، بأن يمسح بأصابعه أو كف اليد مبتدءاً من رؤوس اصابع القدم الي قبتها.

وضوء أهل السنة

من الأُمور التي يختلف فيها أهل السنة عن الشيعة الإمامية في الوضوء، أنهم في غسل اليد اليمني و اليسري، يبدأون الغسل من الأصابع وينتهون بالمرافق، والأمر الآخر أنهم يغسلون الأرجل بدلاً من مسحها.

وعليه يجدر في هذه الدراسة المقتضبة، بحث نقطتين:

الأُولي: هل يجدر في غسل اليدين البدء بأطراف الأصابع و الإنتهاء بالمرافق كما يفعل أهل السنّة؟ أو لابدّ من القيام بعكس ذلك بأن يبدأ بالمرافق ويُنتهي بأطراف الاصابع؟

الثاني: ما يجب بعد مسح الرأس، هل هو غسل الأرجل أو مسحها؟ و ما هو المستفاد من الكتاب و السنة في هذه المسائل؟

آیة الوضوء

قال تعالي:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَي الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَي الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَي الْكَعْبَينِ...)2 .

أمَا بالسنة الي النقطة الأولي من البحث أي: هل يجوز في غسل اليدين البدء بأطراف الأصابع كما عليه أهل السنة، أو لابدّ من البدء بالمرافق كما هو عليه الشيعة؟ الذي يُفهم من عبارة (فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَي الْمَرَافِق) في الآية الشريفة، أنه لابد من غسل اليدين الي المرافق، أي أن الغسل محَدّد بالمرافق، فلا يكفي الغسل دونها ولا حاجة الي الغسل فوقها3.

وعليه فإن أقصي ما تبيَنه الآية الشريفة بيان حدَ الغسل، دون التطرق الي كيفيته وهل يجب ان يكون البدء من أطراف الأصابع أم لابد من البدء بالمرافق، خاصة إذا قلنا أن لفظ (إلي) بمعني (مع) وفسرّنا الآية علي النحو الآتي: (فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَي الْمَرَافِقِ) إذ تستعمل (إلي) أحياناً بمعني (مع)، كما في قوله تعالي: (وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَهُمْ إِلَي أَمْوَالِكُمْ)4، وعليه فالإستدلال بهذه الآية علي وجوب البدء في غسل اليدين من الأصابع باطل، إذ ليس في الآية تصريح بذلك ولا ظهور، بل لا توجد حتي إشارة علي ذلك.

الوضوء في أحادیث أهل السنة

ليس هناك في روايات أهل السنة التي تروي كيفية وضوء النبيّ (صلّي اللّه عليه و آله) ما يدل علي أنّ النبيّ (صلّي اللّه عليه و آله) كان يبدأ في غسل يديه الشريفتين من أطراف الأصابع إلي المرافق.

ومن الروايات المشهورة والمنقولة في صحاح أهل السنة رواية وضوء عثمان علي النحو الآتي:

(إنّ عثمان بن عفان دعا بوضوء فتوضّأ فغسل كفيّه ثلاث مرات ثم مضمض واستنشق ثم غسل وجهه ثلاث مرات، ثم غسل يده اليمني إلي المرافق ثلاث مرات، ثم غسل يده اليسري مثل ذلك، ثم مسح رأسه، ثم غسل رجله اليمني إلي الكعبين ثلاث مرات، ثم غسل اليسري مثل ذلك، ثم قال: رأيت رسول اللّه (صلّي اللّه عليه و آله) توضّأ نحو و ضوئي هذا... )5

ومعلومٌ أنّ هذا النوع من التعبير القائل: (غسَل عثمان يده اليمني واليسري إلي المرافق، وقال: توضأ النبيّ (صلّي اللّه عليه و آله) نحو وضوئي هذا) لا يدل علي أكثر من أن النبيّ (صلّي اللّه عليه و آله) قد غسل هذا المقدار، دون أن يكون إبتداء ذلك من أطراف الأصابع إلي الأعلي، وهكذا الأمر بالنسبة إلي الروايات الاُخري التي لها ذات التعبير.

مضافاً إلي أنّه حينما يقال: إغسل يديك إلي المرافق، سيفهم الإنسان بمقتضي طبعه أن الغسل يكون من الأعلي إلي الأسفل بحيث تجري غسالة الماء إلي أطراف الأصابع، لا أن يبدأ بغسل أطراف الأصابع ثم ترفع إلي الأعلي ليجري الماء بنحو معكوس من فوق اليد، لتعود الغسالة وتجري من أطراف الأصابع، أو تنزل من المرافق لتبلل الثياب، أو تنسكب علي الأرض.

ومن خلال أدني إلتفات إلي الكيفية السائدة في الأغسال بين العرف العام، يتضح أنّ الآية عندما أمرت بغسل اليدين إلي المرافق، لم تكن هناك حاجة إلي بيان أن الغسل لابد أن يكون من الأعلي إلي الأسفل، لأن الناس يفعلون ذلك وفقاً لمقتضي طبيعتهم.

وعليه إذا توضأ شخصٌ علي النحو الذي يقتضيه طبعه، يكون قد عمل بالآية الشريفة، وهو أوفق بالإحتياط، وإذا كان الأمر خلاف ذلك، كان يجب بيانه، في حين أن روايات أهل السنة التي تبيّن كيفية وضوء النبيّ (صلّي اللّه عليه و آله) ساكتة عن ذلك.

الوضوء في أحادیث الشیعة الإمامیة

نعم ذكرت صورة وضوء النبيّ (صلّي اللّه عليه و آله) في الأحاديث الواردة في مصادر الشيعة الإمامية والمنقولة عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، وقد صرِّح فيها بالبدء بالمرافق كما هو المتعارف والمعمول في غسل الأيدي، وسنذكر واحدة منها علي سبيل المثال:

(عن زرارة: قال أبو جعفر (عليه السلام): ألا أحكي لكم وضوء رسول اللّه (صلّي اللّه عليه و آله) فقلنا بلي، فدعا بقعبٍ6 فيه شيً من ماء، فوضعه بين يديه، ثم حسر عن ذراعيه ثم غمس فيه كفه اليمني، ثم قال: هكذا إذا كانت الكفّ طاهرة، ثمّ غرف فملأها ماءاً، فوضعها علي جبهته، ثم قال: بسم اللّه ، وسدله علي أطراف لحيته، ثم أمرَّ يده علي وجهه، وظاهر جبهته، مرّة واحدة، ثم غمس يده اليسري، فغرف بها ملأها، ثمّ غرف بيمينه ملأها، فوضعه علي مرفقه اليسري فأمرّ كفّه علي ساعده حتي جري الماء علي أطراف أصابعه، ومسح مقدّم رأسه وظهر قدميه ببلّة يساره وبقية بلّة يمناه)7 .

وهناك روايات أخري بهذا المضمون، فراجع مظانّها في كتاب (وسائل الشيعة)، الجزء الأوّل، إبتداءً من الصفحة 272 فما بعد.

هل الصحیح غسل الرجلین أو مسحهما ؟

النقطة الثانية في البحث: هل يجب غسل الأرجلين أم مسحهما؟

وسنتعرض أولاً إلي الأقوال في هذه المسألة:

نقل (إبن قدامة) وهو من كبار فقهاء أهل السنة، في كتابه (المغني) وهو من الكتب الفقهية المعتبرة عند أهل السنة، نقل الأقوال في كتابه هذا علي النحو الآتي:

(غسل الأرجل واجب في قول أكثر أهل العلم، وقال عبد الرحمن بن أبي ليلي: أجمع أصحاب رسول اللّه علي غسل القدمين، وروي عن عليّ (عليه السلام) أنه مسح علي قدميه ثمّ دخل المسجد فخلع نعليه ثم صلي) .

وحكي عن أبن عباس أنه قال: ما أجد في كتاب اللّه إلا غسلتين ومسحتين.

وروي عن أنس بن مالك أنه ذُكر له قول الحجاج: (إغسلوا القدمين ظاهرهما وباطنهما) فقال أنس: كذب الحجاج، وتلا هذه الآية: (فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَي الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَي الْكَعْبَينِ)، أي أنه لابد لموافقة هذه الآية من مسح القدمين لا غسلهما، وحكي عن الشعبي إنه قال: الوضوء مغسولان وممسوحان، فالممسوحان يسقطان في التيمم (يعني الوضوء يحتوي علي مسح الرأس والرجلين، ولا يوجد ذلك في التيمم).

ثمَّ نقل قول ابن جرير الطبري في التخيير بين الغسل والمسح8.

فأوّلاً: عدّ إبن قدامة غسل الأرجل رأياً لأكثر أهل العلم.

ثانياً: أقرّ بأن القول بغسل الأرجل ليس إجماعياً بين الصحابة والتابعين، فهناك من يقول بمسحها.

ثالثاً: نقل أن علياً (عليه السلام) كان يمسح القدمين.

ونسب الفخر الرازي في تفسيره نقلاً عن القفّال القول بوجوب مسح الأرجل إلي الإمام أبي جعفر محمد بن عليّ الباقر (عليهم السلام) وقال: إنه مذهب الشيعة الإمامية9.

وقال إبن حزم في المحلّي: (وممن قال بمسح الأرجل جماعة منهم عليّ بن أبي طالب وابن عباس والحسن والشعبي وغيرهم، وهو قول الطبري، وهناك روايات في ذلك10.

مسح أو غسل الأرجل في الوضوء من القرآن

قال تعالي: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَي الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَي الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَي الْكَعْبَينِ...) .

نلاحظ أن الآية الشريفة بعد أن أمرت بغسل الأيدي إلي المرافق، قالت: (وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَي الْكَعْبَينِ)، حيث أمرت أولاً بمسح الرأس، ثم ذكرت كلمة «أرجلكم»معطوفة بالواو.

وهناك قراءتان في كلمة الأرجل، أحداهما بالخفض (وهي قراءة ابن كثير وحمزة وأبي عمرو وعاصم برواية أبي بكر عنه)، والأُخري قراءة النصب (وهي قراءة نافع وإبن عامر وعاصم برواية حفص عنه)

ويتم توضيح رأي الشيعة وأهل السنة في الإستفادة من هذهِ الآية من خلال هاتين القراءتين، ليقف القارئ علي ما يراه من ظاهر هذه الآية.

رأي الشیعة في استفادة مسح الارجل من القرآن

يقول الشيعة الإمامية: هناك جملتان في قوله تعالي: (فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَي الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَي الْكَعْبَينِ)، وقد بيّنت الجملة الأولي الحكم بغسل الوجه واليدين، كما بيّنت الجمله الثانية الحكم بمسح الرأس والرجلين، وهي جملة مستقلّة لا ربط لها بالجملة السابقة سوي عطف جملة «وامسحوا» علي جملة «فاغسلوا»، ولو قرئت كلمة «أرجلكم» بالجر فهي معطوفة علي كلمة «رؤوسكم» وكما أن «برؤوسكم» تتعلق بـ «إمسحوا» فإنّ «أرجلكم» معطوفة علي «رؤوسكم» فيجري فيها حكم المسح أيضاً.

وعلي قراءة النصب، تكون معطوفة علي محل «برؤوسكم» وهو النصب علي نزع الخافض، وهو شائع ومعروف بين علماء النحو، والدليل علي ذلك تصريح علماء النحو، فقد ذكر إبن هشام في كتاب «مغني اللبيب»11 ثلاثة أنحاءٍ للعطف، وجعل العطف علي المحل واحدة منها، وذكر المثال الآتي: «ليس زيد بقائم ولا قاعداً» فعطف قاعداً علي محلّ قائم وهو النصب لكونه خبراً لليس.

وعليه يكون المعني واحداً علي القراءتين، فسواءً كان لفظ «أرجلكم» منصوباً أو مجروراً لا يختلف المعني، وهو: «إمسحوا رؤوسكم وامسحوا أرجلكم إلي الكعبين».

رأي أهل السنة في استفادة غسل الأرجل من الآیة

حمل كثير من أهل السنة الآية علي أنّ كلمة «أرجلكم» إذا كانت منصوبة فهي معطوفة علي «وجوهكم وأيديكم» .

وللتدقيق أكثر لابد من الإلتفات إلي الآية حيث تقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَي الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَي الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَي الْكَعْبَينِ) فإن كانت كلمة «أرجلكم» معطوفة علي «وجوهكم» فعندها سيجري حكم غسل الوجه علي الأرجل فتغسل أيضاً.

وهنا نترك الحكم لفهم القارئ وارتكازه، فإذا قرأت «أرجلكم» بالنصب، فهل الظاهر عطفها علي محل «رؤوسكم» المجاورة لها ليكون حكم الأرجل هوالمسح، أو لابد من تجاهل جملة «وامسحوا برؤوسكم» ليحصل الترابط بين كلمة «وأرجلكم» وعبارة «فاغسلوا وجوهكم وأيديكم»؟ لا شكّ أن هذا المعني الثاني خلاف الظاهر، ولا يساعد عليه الإرتكاز العرفي في فهم المعني الظاهري من اللفظ.

فلو أخذنا مثلاً جملة: (أكرمت زيداً وعمراً وأزريت بخالدٍ وبكراً) هل هناك من يحتمل أن بكراً معطوف علي خالد، ويدخل في حكم الإزراء، وعليه يكون عطف «أرجلكم» علي «وجوهكم وأيديكم» خلافاً للظاهر، ولا يمكن حمل كلام اللّه تعالي ـ وهو في قمّة الفصاحة والبلاغة ـ علي هذا المحمل البعيد وغير الظاهر، وأنه كما قال إبن حزم12: إن هذا النوع من العطف يؤدي إلي الإشكال والشبهة والضلال، وليس بياناً للحكم.

خلاصة القول: إننا علي قراءة النصب في «أرجلكم» إذا لم نقل بعطفها علي «رؤوسكم» سنرتكب ثلاث مخالفات للأصل هي كالآتي:

1 ـ عندما تعطف جملة علي جملة، فالأصل إن الجملة الأُولي قد اكتملت من الناحية اللفظية والمعنوية، وإن الجملة الثانية تعطف علي الأُولي.

2 ـ أن لا يقع فصلٌ بين المعطوف والمعطوف عليه بجملة اعتراضية.

3 ـ إذا أمكن إرجاع المعطوف إلي الجملة الأخيرة كما أوضحنا ذلك، لا يصار إلي إرجاعه إلي الجملة المتقدمة عليها، وكما جاء في التفسير الكبير للفخر الرازي13: «إذا أمكن جعل (وامسحوا) عامل النصب في «أرجلكم» وأمكن أن يكون العامل هو (فاغسلوا) سيجتمع عاملان علي معمول واحد، وفي مثل هذه الحالة يكون إعمال الأقرب أولي» وعليه يكون إعمال الأبعد خلافاً للأصل ، وخلافاً للظاهر.

توجیه قراءة الخفض عند أهل السنة

من التوجيهات التي ذكرها أهل السنة لقراءة الخفض أنهم ألغوا العطف، وذهبوا إلي جرها لمجاورة كلمة (برؤوسكم) ولنستعرض الآية الشريفة مرّة أخري: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَي الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَي الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَي الْكَعْبَينِ) .

ويقوم هذا التوجيه علي أساس أن «أرجلكم» التي قرئت مجرورة، ليست مجرورة لعاملٍ لفظي؛ لعدم وجوده في البين بعد عطفها علي «وجوهكم وأيديكم» وعليه ينبغي أن تكون منصوبة، ولكنها جرَّت لعامل معنوي وهو قربها ومجاورتها لكلمة «برؤوسكم»، كما في التعبير القائل: «جحر ضبٍّ خربٍ»، حيث جرّ لفظ «خرب» لمجاورة «ضبٍّ» مع أن حقها الرفع علي التبعية لأنها صفة كلمة «جحر» وعلي ذلك حملت قراءة جرير بجر «أرجلكم» في هذه الآية.

ونحن نري أن هناك من علماء أهل السنة من ذهب مذهب علماء الشيعة في ردّ هذا التوجيه وأجاب عنه14.

وطبقاً لما ذكره هؤلاء العلماء لا يكون التوجيه المتقدم صحيحاً، وذلك:

أوّلاً: إن الجرّ بالمجاورة لم يرد في الكلام الفصيح، فهو إستعمال شاذ ومخالف للقاعدة، وعليه يجب عدم حمل كلام اللّه عليه.

ثانياً: إنما يجوز الجرّ بالمجاورة عند أمن اللبس، بأن تكون هناك قرينة قطعية علي المراد من الكلام، كما في المثال المتقدم، فالخرب إنما هو صفة للجحر ولا يمكن أن يكون صفة للضب أبداً، فإذا لم تكن هناك قرينة علي الجرّ بالمجاورة (كما هو الحال في هذهِ الآية الشريفة)، لا يكون هذا النوع من الإعراب إلا تضليلاً للفهم وإبعاد الذهن عن المراد.

ثالثاً: أنْ لا يُفصل بين المتجاورين بحرف عطف، ومع وجود حرف العطف لا يتحقق الجرُّ بالمجاورة.

رابعاً: إنّ ما ذكر من الجرّ بالمجاورة في قولهم: «جحر ضبٍّ خربٍ» إنما كان لتوجيه هذا الإستعمال، ويحتمل أن يكون استعمالاً خاطئاً أصلاً، أو أن هناك سبباً آخر كملاحظة الحال والمحل، ولم يكن الجر للمجاورة، إذ من الواضح أن مجاورة أحد العوامل لا يعدّ جارّاً، كما جاء في كتاب (إعراب القرآن)15المنسوب للنحّاس، حيث قال: أنه إستعمال خاطئ لا ينبغي القياس عليه.

وقال إبن هشام في كتاب (مغني اللبيب)16: «والذي عليه المحققون إن خفض الجوار يكون في النعت قليلاً كما مثلنا17 وفي التوكيد نادراً. ولا يكون18 بالنسق لأن العاطف يمنع عن التجاور».

ومن خلال هذا البيان يتضح أنه بناءً علي قراءة الجر يكون التوجيه المذكور لإستفادة غسل الأرجل في الوضوء مستلزماً لعدة مخالفات للأصل والظاهر، إذ ترد نفس المخالفات الواردة في قراءة النصب، وذلك لأن كلمة «أرجلكم» إذ قرئت بالجر للمجاورة، ستتعلق بجملة «فاغسلوا» وسترد نفس الإشكالات، مضافاً إلي الإشكالات الواردة علي الجرّ بالمجاورة.

وذهب بعض المحققين والمفسرين من أهل السنة إلي أن دلالة الآية علي المسح ظاهرة ولا إشكال فيها، وذهبوا إلي وجوب غسل الأرجل من طرق أخري وفيما يأتي سنناقش كلمات بعضهم.

مناقشة الفخر الرازي

بعد أن بيَّن الفخر الرازي في تفسيره الكبير إستدلال القائلين بوجوب المسح بناءً علي قراءة النصب والجرّ وقبله وارتضاه، قام بالإجابة عنه بجواب واحد فقط ورآه متيناً حيث قال:

«إن الأخبار الكثيرة وردت بإيجاب الغسل، والغسل مشتمل علي المسح، ولا ينعكس، فكان الغسل أقرب إلي الإحتياط، فيجب المصير إليه»19 .

ورأي من خلال هذا الكلام إمكان الجمع بين دلالة الآية علي وجوب المسح، ودلالة الأخبار علي لزوم الغسل، وذهب إلي أن الغسل أقرب إلي الإحتياط.

وهذا الكلام من الفخر الرازي غير صحيح، وذلك:

أوّلاً: لأن الغسل والمسح مفهومان متباينان، وإنما يمكن الإحتياط بين أمرين إذا لم يكن هناك تباين بينهما، وكان بينهما قدر متيقّن.

ثانياً: نجد أن الآية الشريفة قد عطفت مسح الرأس والأرجل علي غسل الوجه والأيدي، والعطف يقتضي التغاير، ولو فرضنا إمكان الجمع بين الغسل والمسح، فإن الآية الشريفة التي لها ظهور قوي بازائهما مجتمعين، تدل علي أن المراد مسحٌ لا غسلَ فيه.

مناقشة القرطبي

بعد أن نقل القرطبي في تفسيره كلام الطبري القائل بالتخيير، ذكر أن النحّاس يري أن الجمع بين الغسل والمسح أفضل الأقوال، ونقل عن ابن عطية أن جماعة من الذين قرأوا «وأرجلكم» بالكسر، ذهبوا إلي أن مسح الأرجل عبارة عن غسلها ثم قال:

«قلت: وهو الصحيح، فإن لفظ المسح مشترك يطلق بمعني المسح ويطلق بمعني الغسل. قال الهروي: أخبرنا الأزهري.. عن أبي زيد الأنصاري قال: المسح في كلام العرب يكون غسلاً ويكون مسحاً، ومنه يقال للرجل إذا توضأ فغسل أعضاءه قد تمسّح ... فإذا ثبت بالنقل عن العرب أن المسح يكون بمعني الغسل فترجح قول من قال إن المراد بقراءة الخفض الغسل»19.

أوّلاً: كما تقدّم أن قلنا أن المسح والغسل مفهومان متباينان، وما نُقل عن أبي زيد الأنصاري لا يثبت أن الغسل قد يستفاد من لفظ المسح علي الحقيقة، إذ ما ورد عن أبي زيد أنه روي إستعمال المسح في الغسل والإستعمال أعم من الحقيقة.

وما استشهد به من أن الرجل إذا توضأ فغسل أعضاءه يقال عنه أنه قد تمسح لا يصلح شاهداً علي ذلك، فإن الذي يتوضأ يمسح في العادة علي أعضاء وضوئه، وعليه قد يكون إطلاق «التمسّح» بهذا الإعتبار، أو باعتبار إزالة القذارة المعنويّة والذنوب.

ثانياً: لو سلمنا أن المسح يعني الغسل، إلا أن هذا إنما يكون إذا لم تذكر كلمة المسح مع الغسل في كلام واحد، وفي الآية الشريفة وردت كلمتا الغسل والمسح في كلام واحد متّصل، وهذا يشكّل قرينة واضحة علي أن المسح يختلف عن الغسل، كما هو الحال في كلمة الفقير والمسكين، فإنهما يستعملان في معنيً واحد ولكنّ هذا في حالة الأفتراق، وأما إذا استعملا في كلام واحد، كما في قوله تعالي:(اِءنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ...)20 فسيكون هناك إختلاف بينهما21.

ثالثاً: إستعملت الآية الشريفة كلمة «إمسحوا» مرة واحدة فقط، وقد تعلقت أولاً بكلمة «برؤوسكم»، ومن ثمّ تعلقت بـ «وأرجلكم» وفيما يتعلق بـ «رؤوسكم» لا شكّ في أن المراد هو المسح وليس الغسل، فكيف يكون المراد منها فيما يتعلق بـ «أرجلكم» هو الغسل؟!

مناقشة السیوطي

يري السيوطي في كتاب (الإتقان)22 أن من الموارد التي يتعين علي الناظر في القرآن الإلتزام بها هي تجنّب الأمور البعيدة والوجوه الضعيفة والكلمات الشاذة، وعدم حمل القرآن الكريم عليها وعدّ منها الجرّ بالمجاورة الذي حملت عليه كلمة «أرجلكم» في الآية الشريفة، ثم قال:

«لأن الجرّ علي الجوار ضعيف شاذ لم يرد منه إلا أحرفٍ يسيرة والصواب أنه معطوف علي برؤوسكم، إلا أن المراد به مسح الخف».

وهذا الكلام الأخير من السيوطي غير صحيح أيضاً، وذلك:

أوّلاً: لأن المسح علي الخفين ليس مسحاً علي الأرجل، وقد أمرت الآية بمسح الرأس والأرجل، ولو كانت الأرجل قد استعملت بمعني الخفّ، فهو إستعمال مجازي وعلي خلاف الأصل، إذ الأصل هو الإستعمال علي نحو الحقيقة.

ثانياً: إن ذكر كلمة «أرجلكم» بإزاء «رؤوسكم» قرينة علي أن المراد هو الأرجل وليس الخفّ.

ثالثاً: إن هذا التقييد يستلزم خروج أكثر الأفراد من مورد الآية، إذ لو كان المراد هو المسح علي الخف كان معني ذلك أن الآية قد بينّت حكم المسح علي الرجل إذا كانت في الخف.

مناقشة الزمخشري

ذهب الزمخشري في تفسيره بناءً علي قراءة «أرجلكم» بالجر، إلي عطفها علي «برؤوسكم»، وقال:

«قلت الأرجل من بين الأعضاء الثلاثة المغسولة، تغسل بصبّ الماء عليها فكانت مظنة للإسراف المذموم المنهي عنه، فعطفت علي الثالث الممسوح، لا لتمسح ولكن لينبّه علي وجوب الإقتصاد في صبّ الماء عليها»23 .

أوّلاً: لم يذهب القائلون بمسح الأرجل إلي مسحها من دون تحديد، وعليه لا مانع إن دخلت (وأرجلكم) في حكم المسح، أن يكون حدّها (إلي الكعبين).

ثانياً: لم تستعمل الآية الشريفة كلمة (إمسحوا) إلا مرة واحدة، فكيف يكون المراد منها فيما يتعلق بالرأس المسح علي نحو الحقيقة، وفيما يتعلق بالأرجل المجاز.

ثالثاً: ذكر المسح بإزاء الغسل في الآية الشريفة يدل بوضوح علي أنّ حكم الرأس والأرجل هو المسح وليس الغسل.

رابعاً: ما هي خصوصية غسل الأرجل التي تميّزها من غسل الوجوه والأيدي فيعبّر عنها بالمسح للحيلولة دون الإسراف خلافاً للوجه والأيدي، فهل يجوز الإسراف فيهما؟! بل بالنظر إلي أن الأرجل في معرض الإتساخ والإصابة بالقذر يوجب التأكيد علي زيادة غسلهما، لا أن يكون غسلهما أقرب إلي المسح الواجب. والحقيقة إن هذهِ التوجيهات التي فيها من الكلفة البعيدة عن الفهم العقلائي والإرتكاز العرفي، وما الي ذلك، لم تكن إلا لأنهم ذهبوا إلي أن غسل الأرجل هو الحكم القطعي، فأدّي بهؤلاء المفسرين المختصّين في فهم أسرار الكلام ودقائقه إلي الإبتعاد عن المعني الظاهر من الآية، وما تريد الآية بيانه.

وعليه لابدّ من البحث في الروايات التي تبيّن حكم الأرجل في الوضوء.

مسح الأرجل في روایات الشیعة الإمامیة

إن روايات الشيعة الإمامية الواردة عن الأئمة المعصومين (عليهم السلام) والتي يحكي الكثير منها صورة وضوء النبيّ (صلّي اللّه عليه و آله)تدل علي مسح الأرجل دلالة واضحة.

ومنها تلك الرواية الواردة في غسل الأيدي التي نقل فيها مسح الأرجل من قبل النبيّ الأكرم (صلّي اللّه عليه و آله) وفي رواية زرارة وبكير سئل الإمام الباقر (عليه السلام) عن وضوء النبيّ الأكرم (صلّي اللّه عليه و آله)، فأخذ الإمام (عليه السلام) يحكي لهم صورة وضوء النبيّ (صلّي اللّه عليه و آله) حتي قال: «ثمّ مسح رأسه وقدميه ببلل كفه، لم يحدث لهما ماءً جديداً»24.

وهناك الكثير من روايات الشيعة في هذا المجال، فراجع وسائل الشيعة الجزء الأوّل في الصفحة 272 فما بعد، وهي صريحة بإفادة المعني الذي أفادته الآية الكريمة.

أحادیث أهل السنة في حکم الأرجل في الوضوء

إن الأحاديث المذكورة في المصادر الحديثية لدي أهل السنة في بيان حكم الأرجل في الوضوء كثيرة، والتي يستدل بها علي وجوب غسل الأرجل علي ثلاث مجموعات:

1- الأحاديث التي تحكي صورة وضوء النبيّ (صلّي اللّه عليه و آله)، والتي ذكرت أن النبيّ (صلّي اللّه عليه و آله) كان يغسل قدميه.

2- الأحاديث التي روت أمر النبيّ (صلّي اللّه عليه و آله) بغسل الأرجل في الوضوء.

3- الأحاديث التي روي فيها تهديد الأعقاب بالنار، والتي يستدلّ بها علي وجوب غسل الأرجل وعدم مسحها.

أما الأحاديث التي تحكي صورة وضوء النبيّ (صلّي اللّه عليه و آله) فنكتفي منها بذكر حديثين:

1- «عن حمران مولي عثمان بن عفان أنه رأي عثمان دعا بوضوءٍ فافرغ علي يديه من إنائه فغسلهما ثلاث مرات. ثمّ غسل وجهه ثلاثاً، ويديه إلي المرفقين ثلاثاً، ثمّ مسح برأسه، ثم غسل كلّ رجل ثلاث مرات، ثم قال: رأيت النبيّ (صلّي اللّه عليه و آله) يتوضأ نحو وضوئي هذا»25.

2- عن عبد اللّه بن زيد قال: أتي رسول اللّه (صلّي اللّه عليه و آله) فأخرجنا له ماءً في تورٍ من صفر فتوضأ فغسل وجهه ثلاثاً ويديه مرتين مرتين ومسح برأسهِ وغسل رجليه26.

ومن المجموعة الثانية نذكر حديثاً واحداً:

«عن جابر بن عبد اللّه قال: امرنا رسول اللّه (صلّي اللّه عليه و آله) إذا توضأنا للصلاة أن نغسل أرجلنا»27.

ومن المجموعة الثالثة نذكر حديثاً واحداً أيضاً:

«عن عبد اللّه بن عمرو قال: تخلف النبيّ (صلّي اللّه عليه و آله) عنا في سفرة سافرناها فأدركنا وقد أرهقنا العصر، فجعلنا نتوضأ ونمسح علي أرجلنا، فنادي بأعلي صوته: ويل للأعقاب من النار مرتين أو ثلاثاً»28 .

لا يخفي أن هذا النوع من الروايات التي فيها تهديد للأعقاب بالنار ليس فيها دلالة علي وجوب غسل الأرجل بوصفه جزءاً من الوضوء، بل ربما كان المراد منها منع بعض الأشخاص من الدخول في الصلاة بأرجلٍ متنجّسة، ومما يؤيّد هذا الإحتمال القرينة الموجودة في نفس هذهِ الرواية، وهي أن الراوي لم ينسب المسح لنفسه فقط، وإنما نسبه إلي جماعة من الصحابة، فيتضح أن الصحابة كانوا يمسحون أرجلهم، فلو كان النبيّ (صلّي اللّه عليه و آله) يريد أن يردعهم عن ذلك وأن يأمرهم بغسل أرجلهم، كان عليه أن يأتي ببيان صريح بذلك كأن يقول لهم: «لا تمسحوا علي أرجلكم ولكن إغسلوها»، في حين أنه لم يقل ذلك، واكتفي بتهديد الأعقاب بالعذاب بالنار فقط، وهذا ليس صريحاً في الردع عن المسح علي الأرجل.

وأما الأحاديث الاُخري التي تروي أن النبيّ (صلّي اللّه عليه و آله) كان يغسل قدميه في الوضوء أو تلك التي تروي أمر النبيّ (صلّي اللّه عليه و آله) بغسل الأرجل، ففيها:

أوّلاً: إنها مخالفة للآية الشريفة، ولا يمكن عدّ مثل هذهِ الأحاديث من سنة النبيّ (صلّي اللّه عليه و آله) .

ثانياً: إنها معارضة بالأحاديث التي تحكي المسح عن رسول اللّه (صلّي اللّه عليه و آله)، ولا بأسَ باستعراض بعض تلك الأحاديث:

 


source : www.abna.ir
0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

أين دفن النبي(صلى الله عليه وآله وسلّم) في بيت ...
النبي (صلى الله عليه وآله) في روايات أهل بيته ...
غزوة الخندق
دعوة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إلى الله ...
تأسيس رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) الدولة ...
مؤاخاة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بين ...
من معالم سيرة الرسول (صلى الله عليه وآله) ...
ماهو المراد من ذوي القربي
وضوء النبي (ص) «القسم الاول»
السيرة النبوية

 
user comment