1 ـ قوله تعالى: (قل لا أسالکم علیه أجراً إلا المودة فی القربى)(1).
هذه هی آیة المودة التی أکدت أغلب کتب التفسیر وکثیر من مصادر الحدیث والسیرة والتاریخ نزولها فی قربى النبی صلى الله علیه وآله وسلم: علی والزهراء والحسن والحسین وذریتهم الطاهرین علیهم السلام.
روى السیوطی وغیره فی تفسیر هذه الآیة بالاسناد إلى ابن عباس، قال: لما نزلت هذه الآیة (قُل لا أسألُکُم عَلیه أجراً إلاّ المودَّةَ فی القُربى) قالوا: یارسول الله، من قرابتک هؤلاء الذین وجّبت علینا مودتهم ؟
قال صلى الله علیه وآله وسلم: «علی وفاطمة وولداهما» (2).
وهذه الآیة تدلّ على وجوب المودة لاَهل البیت الذین نصّ الحدیث على تحدیدهم، وقد استدلّ الفخر الرازی على ذلک بثلاثة وجوه، فبعد أن روى الحدیث عن الزمخشری قال: فثبت أن هؤلاء الاَربعة أقارب النبی صلى الله علیه وآله وسلم، واذا ثبت هذا وجب أن یکونوا مخصوصین بمزیدٍ من التعظیم ، ویدلّ علیه وجوه:
الاَول: قوله تعالى: (إلاّ المودَّةَ فی القُربَى).
الثانی: لاشک أنّ النبی صلى الله علیه وآله وسلم یحبّ فاطمة علیها السلام، قال صلى الله علیه وآله وسلم: «فاطمة بضعة منی، یؤذینی ما یؤذیها» وثبت بالنقل المتواتر عن رسول الله صلى الله علیه وآله وسلم أنه کان یحبّ علیاً والحسن والحسین، واذا ثبت ذلک وجب على کلّ الاَمة مثله، لقوله تعالى:(واتَّبعُوهُ لَعلَّکُم تَهتَدُونَ) (3)، ولقوله: (فَلیَحذَرِ الَّذینَ یُخالِفُونَ عَن أمرِهِ) (4).
الثالث:إنّ الدعاء للآل منصب عظیم، ولذلک جُعل هذا الدعاء خاتمة التشهّد فی الصلاة، وهوقوله: «اللهم صلِّ على محمد وآل محمد وهذا التعظیم لم یوجد فی حق غیرالآل، فکلّ ذلک یدل على أن حب محمد وآل محمد واجب.
وقال الشافعی:
یا راکباً قف بالمُحصّب من منى * واهتف بساکن خِیفها والناهضِ
سَحَراً إذا فاض الحجیجُ إلى منى * فیضاً کما نَظم الفراتِ الفائضِ
إن کان رفضاً حبّ آل محمدٍ * فلیشهد الثقلان أنی رافضی (5)
وأشار الشافعی إلى نزول آیة المودة فی أهل البیت علیهم السلام بقوله:
یا أهل بیت رسول الله حبکم فرضٌ من الله فی القرآن أنزله (6)
ما روی عن أئمة أهل البیت علیهم السلام فی هذه الآیة:
احتجّ أئمة الهدى المعصومون علیهم السلام بهذه الآیة على فرض مودتهم ووجوب محبتهم وحقّهم على کلِّ مسلم، فقد روى زادان عن الاِمام أمیر المؤمنین علی علیه السلام، أنّه قال: «فینا فی آل حم آیة، لا یحفظ مودتنا إلاّ کل مؤمن» ثم قرأ: (قُلْ لا أسألکُم عَلیهِ أجراً إلاّ الموَدَّةَ فی القُربَى) (7).
وإلى هذا أشار الکمیت الاَسدی بقوله:
وجدنا لکم فی آل حم آیة * تأولها منّا تقی ومعرب (8)
وروی عن الاِمام زین العابدین علیه السلام أنّه قال: خطب الحسن بن علی علیه السلام الناس حین قتل علی علیه السلام فحمد الله وأثنى علیه، ثم قال: «... وأنا من أهل البیت الذی افترض الله مودتهم على کل مسلم، فقال تبارک وتعالى: (قُلْ لا أسألکُم عَلیهِ أجراً إلاّ الموَدَّةَ فی القُربَى ومَن یَقتَرِف حَسَنَةً نَّزِد لهُ فِیها حُسناً) فاقتراف الحسنة مودتنا أهل البیت» (9).
وأخرج ابن جریر عن أبی الدیلم، أنّه قال: لمّا جیء بعلی بن الحسین علیه السلام أسیراً، فأُقیم على درج دمشق، قام رجلٌ من أهل الشام، فقال: الحمد لله الذی قتلکم وأستأصلکم وقطع قرنی الفتنة.
فقال له علی بن الحسین علیه السلام: «أقرأت القرآن ؟ قال: نعم. قال: أقرأت آل حم، قال: قرأت القرآن ولم أقرأ آل حم. قال: ما قرأت: (قُل لا أسألکُم عَلیهِ أجراً إلاّ المودَّةَ فی القُربَى) ؟ قال: وانکم لاَنتم هم ؟ قال: نعم»(10).
وروى اسماعیل بن عبدالخالق عن أبی عبدالله علیه السلام ـ فی حدیث ـ قال: سمعته علیه السلام یقول لاَبی جعفر الاَحول: «ما یقول أهل البصرة فی هذه الآیة (قُلْ لا أسألکُم عَلیهِ أجراً إلاّ الموَدَّةَ فی القُربَى) ؟ فقال: جعلت فداک، انهم یقولون: إنّها لاَقارب رسول الله صلى الله علیه وآله وسلم. فقال: کذبوا إنّما نزلت فینا خاصة، فی أهل البیت، فی علی وفاطمة والحسن والحسین أصحاب الکساء» (11).
تأویلات أُخرى فی الآیة:
مما تقدم یتبین أن آیة المودة واضحة وصریحة فی وجوب محبة أهل البیت علیهم السلام، وهو المعنى المتبادر من الآیة کما ذکره العلماء کالکرمانی (12)، والعینی (13) وغیرهما، فضلاً عن الاَحادیث المفسّرة للآیة الواردة عن أهل البیت علیهم السلام وعن جمعٍ من الصحابة والتابعین وأئمة الحدیث (14).
ورغم أن الآیة واضحة الدلالة وضوح الشمس فی رائعة النهار إلاّ أن البعض حاول إزالة الحقّ عن موضعه متأولاً کلام الله بما تشتهی نفسه مبتدعاً بعض الاَقوال التی لا تستند إلى دلیل علمی أو هی قائمة على دلیل واهٍ لا یصلح حجة ولا ینهض برهاناً وافیاً فی بیان المراد من الآیة الکریمة، وفیما یلی أهم هذه الاَقوال:
القول الاَول:
قیل إن الخطاب لقریش والاَجر المسؤول هو مودتهم للنبی صلى الله علیه وآله وسلم لقرابته منهم، وذلک لاَنهم کانوا یکذّبونه ویبغضونه لتعرضه لآلهتهم على ما فی بعض الاَخبار، فأُمِر صلى الله علیه وآله وسلم أن یسألهم فی حال عدم إیمانهم المودّة، لمکان قرابته منهم، وأن لا یؤذوه ولا یبغضوه.
ومستند هذا القول هو روایة عن طاووس قال: (سأل رجل ابن عباس عن قول الله عزَّ وجل: (قُل لا أسألکم عَلیهِ أجراً إلاّ الموَدَّةَ فی القُربَى) فقال سعید بن جبیر: قربى محمد صلى الله علیه وآله وسلم، قال ابن عباس: عجّلت، وإن رسول الله صلى الله علیه وآله وسلم لم یکن بطن من بطون قریش إلاّ ولرسول الله صلى الله علیه وآله وسلم فیهم قرابة فنزلت : (قُلْ لا أسألکُم عَلیهِ أجراً إلاّ الموَدَّةَ فی القُربَى) إلاّ أن تصلوا قرابة مابینی وبینکم من القرابة) (15).
وفی هذا القول أمور، منها:
1 ـ إنّ نظرة أولیة لسند هذه الروایة تسقطها من الاعتبار، ففی سندها شعبة بن الحجاج وهو معروف بالوضع والکذب، وفیه یحیى بن عبّاد الضبعی وهو من الضعفاء، کما صرح بذلک ابن حجر عن الساجی (16).
ولم یعقّب الذهبی على کلام الساجی فی تضعیفه (17). وفیه محمد بن جعفر (18) وقد ذکره ابن حجر مع من تکلم فیه، وذکر قول ابن أبی حاتم: (..لایحتج به) (19).
وفیه محمد بن بشار وهو أیضاً ممن تکلم فیه علماء الجرح والتعدیل، وذکروا أنه ضعیف (20).
ومما تقدم یتبیّن أن سند الروایة یدل على أنها ساقطة من الاعتبار ولا تکون محلاً للاحتجاج.
2 ـ إنّ هذه الروایة معارضة لما تواتر من الاَحادیث الصحیحة عن النبی صلى الله علیه وآله وسلم، وقد ذکرنا بعضها آنفاً، ومعارضة لحدیث آخر صحیح عن ابن عباس (21)، وآخر لسعید بن جبیر، یصرّحان بأن المراد من القربى فی الآیة هم: (الاِمام علی، والزهراء، والحسن، والحسین علیهم السلام) (22).
3 ـ إنّ الآیة مدنیة لا مکیة کما جاء فی سبب نزولها، وإنّ الخطاب فیها لکافة المسلمین لا لخصوص قریش.
القول الثانی:
معنى القربى فی آیة المودة التقرب إلى الله، والمودة فی القربى هی التودد إلیه تعالى بالطاعة والتقرب، فالمعنى: لا أسألکم علیه أجراً إلاّ أن تودّوه وتحبوه تعالى بالتقرب إلیه.
ومستند هذا القول روایة منسوبة إلى ابن عباس عن النبی صلى الله علیه وآله وسلم أنّه قال: «قُلْ لا أسألکم علیه أجراً على ما جئتکم به من البینات والهدى إلاّ أن تتقربوا إلى الله بطاعته» (23).
وفی هذا القول عدة أمور، منها:
1 ـ إنّ الروایة التی یستند إلیها هذا القول ضعیفة السند کما صرّح بذلک ابن حجر (24).
2 ـ لم یرد فی لغة العرب استعمال لفظ القربى بمعنى التقرب.
3 ـ إنّ التقرب إلى الله سبحانه هو محتوى ومضمون الرسالة نفسها، فکیف یطلب النبی صلى الله علیه وآله وسلم التقرب إلى الله تعالى لاَجل التقرب إلى الله تعالى، وهذا أمر لا یعقل ولا یرتضیه الذوق السلیم لاَنّه یؤدی إلى أن یکون الاَجر والمأجور علیه واحد.
على أن فی هذه الآیة قولین آخرین هما أبعد مما ذکرناه، فلا یُعبأ بهما، ومن مجمل ما تقدم یتبین أن المراد بالمودة فی القربى، مودة قرابة النبی صلى الله علیه وآله وسلم وهم عترته من أهل بیته علیهم السلام، وقد تکاثرت الروایات من طرق العامّة والشیعة فی تفسیر الآیة بهذا المعنى على ما بیناه فی أول الفصل، ویؤیده الاَخبار المتواترة من طرق الفریقین على وجوب موالاة أهل البیت علیهم السلام ومحبتهم.
وقال الزمخشری بعد اختیاره لهذا الوجه: فان قلت: هلاّ قیل: إلاّ مودة القربى، أو إلاّ المودة للقربى ؟ وما معنى قوله: إلاّ المودة فی القربى ؟
قلت: جعلوا مکاناً للمودة ومقراً لها، کقولک: لی فی آل فلان مودة، ولی فیهم هوى وحبّ شدید، ترید أحبهم وهم مکان حبی ومحله.
قال: ولیست (فی) بصلة للمودة کاللام، إذا قلت: إلاّ المودة للقربى، إنّما هی متعلقة بمحذوف تعلق الظرف به فی قولک: المال فی الکیس، وتقدیره: إلاّ المودة ثابتة فی القربى ومتمکنة فیها (25).
إنّ التأمل فی هذا التأکید على ثبوت المودة فی القربى وتمکنها فیهم وکونهم جعلوا مکاناً للمودة ومقراً لها، والتأمل فی الروایات المتواترة الواردة من طرق الفریقین عن النبی صلى الله علیه وآله وسلم المتضمنة لارجاع الناس فی فهم کتاب الله بما فیه من أصول معارف الدین وفروعها وبیان حقائقه إلى أهل البیت کحدیث الثقلین وحدیث السفینة وغیرهما، لا یدع ریباً فی أن إیجاب مودتهم علیهم السلام على کل مسلم وجعلها أجراً للرسالة، إنّما کان وسیلة لاِرجاع الناس إلیهم، لما لهم من المکانة العلمیة ولبیان دورهم الرسالی والریادی فی حیاة الاُمّة.
شبهات وردود
بعد أن ثبت أن الآیة تخص أهل بیت العصمة علیهم السلام المتمثلین بالاِمام علی والبتول فاطمة وذریتهما من الاَئمة المعصومین علیهم السلام، أُثیرت حولها شبهات من قبل المخالفین والمبغضین لاَهل البیت علیهم السلام، لیصرفوها عن وجهها الصحیح، وفیما یلی نعرض هذه الشبهات مع الرد علیها:
الاُولى: سورة الشورى مکیة:
مضمون هذه الشبهة هو نفی کون الآیة ثابتة فی أهل بیت النبوة علیهم السلام والروایات المؤکدة والمؤیدة لها، وذلک من خلال ادعاء أن سورة الشورى مکیة، ولم یتزوج الاِمام علی من الزهراء علیهما السلام، ولم یکن هناک الحسن والحسین علیهما السلام، حتى تکون الآیة نازلة فی حقهم:
أولاً: إنّ الاَخبار والاحادیث الواردة عن النبی صلى الله علیه وآله وسلم والاَئمة الطاهرین علیهم السلام وتصریح الاصحاب والتابعین والعلماء على أن الآیة ثابتة بحق أهل البیت علیهم السلام کافٍ فی ردِّ الشبهة وإبطالها.
ثانیاً: إنّ ظاهرة وجود آیات مدنیة فی سور مکیة، أو وجود آیات مکیة فی سور مدنیة، کثیرة جداً فی القرآن الکریم، ولا یمکن لاَحد إنکارها أو التشکیک فیها، ومن أمثلة ذلک:
1 ـ سورة الرعد فانها مکیة إلاّ قوله تعالى: (ولا یَزال الَّذینَ کَفَرُوا...)(26).
2 ـ سورة الاسراء فإنّها مکیة إلاّ قوله تعالى: (وإن کَادُوا لیَستَفزُونَکَ... واجعَل لی مِن لَدُنک سُلطاناً نَصِیراً) (27).
3 ـ سورة المدّثر فإنّها مکیة غیر آیة من آخرها (28).
4 ـ سورة المطففین فإنّها مکیة إلاّ الآیة الاُولى (29).
هذا بالنسبة إلى وجود آیات مدنیة فی سور مکیة.
ومن الآیات المکیة التی جاءت فی سور مدنیة:
1 ـ سورة المجادلة فإنّها مدنیة إلاّ العشر الاَول (30).
2 ـ سورة البلد فإنّها مدنیة إلاّ من الآیة الاُولى إلى الآیة الرابعة (31).
وغیرها کثیر.
ثالثاً: صرّح الکثیر من العلماء والمفسرین على أن آیة المودة مع ثلاث آیات بعدها قد نزلت بالمدینة المنورة.
قال الشوکانی فی ذلک: (وروى ابن عباس وقتادة أنها ـ سورة الشورى ـ مکیة إلاّ أربع آیات منها أُنزلت بالمدینة: (قُل لا أسألکُم...)(32).
وقال الالوسی فی معرض الجواب: (هی مکیة إلاّ أربع آیات، من قوله تعالى: (قُلْ لا أسألکُم...) إلى أربع آیات، وقال مقاتل فیها مدنی) (33).
کما أجاب القرطبی بقوله: (قال ابن عباس وقتادة: إلاّ أربع آیات منها أُنزلت بالمدینة (قُل لا أسألکُم...) إلى آخرها) (34)، کذلک ذکر النیسابوری والخازن فی تفسیرهما (35).
الثانیة: الآیة لا تتناسب مع مقام النبوة ومنافیة لبعض الآیات:
مضمون هذه الشبهة: إنّ طلب الاَجر على الرسالة والهدایة من قبل النبی صلى الله علیه وآله وسلم، لا یتناسب مع مقام النبوة السامی؛ لاَنّ النبی صلى الله علیه وآله وسلم متفانٍ فی الله سبحانه، وان کل الذی عاناه من العذاب والمشقة والهجرة وسوء المعاملة والحصار والمحاربة حتى من عشیرته وقومه، والذی تحمله بصبر وإیمان منقطع النظیر، کان فی عین الله وفی سبیله لا یبتغی منه إلاّ مرضاة الله سبحانه وتعالى، وأنّه لا یطلب أی شیء على ذلک، فلایناسبه صلى الله علیه وآله وسلم أن یطلب أجراً على الرسالة فی مودة قرباه.
وقالوا إنّ الآیة تناقض بعض الآیات القرآنیة التی تنفی طلب الاَجر، مثل قوله تعالى: (... قُلْ ما أسألُکُم عَلَیهِ مِن أجرٍ وَمَا أنَا مِنَ المُتَکَلّفِینَ) (36).
وقوله تعالى: (قُلْ ما سألتُکُم مِن أجرٍ فَهُو لَکُم إن أجرِیَ إلاّ عَلى اللهِ وهُو على کُلِّ شَیءٍ شَهیدٌ) (37).
وقوله تعالى: (قُلْ ما أسألکُم عَلَیهِ مِن أجرٍ إلاّ مَن شَاءَ أن یَتَّخِذَ إلى ربِّهِ سَبِیلاً) (38).
وقوله تعالى: (قُلْ لا أسألُکُم علیهِ أجراً إن هُوَ إلاّ ذِکرى للعَالَمِینَ) (39).
الجواب: إنّ المتتبع لسیرة النبی صلى الله علیه وآله وسلم وبالاَخص فی بدایة الدعوة الاِسلامیة یجد أن النبی الاَکرم صلى الله علیه وآله وسلم قد وقف بکل صلابة وإیمان راسخ فی محاربة العصبیة القبلیة والحمیة الجاهلیة التی کانت سائدة فی المجتمع الجاهلی آنذاک، وقد وضع الاِسلام مقابل ذلک میزاناً آخر للاَفضلیة وهو التقوى والعمل الصالح، قال تعالى: (إنّ أکرَمَکُم عِندَ اللهِ أتقَاکُم) (40).
وعلى هذا الاَساس حارب رسول الله صلى الله علیه وآله وسلم کل من حارب الاِسلام ووقف عقبة أمام نشره ولو کان أقرب الناس إلیه فی القرابة مثل عمه وعشیرته، فتراه لعن عمّه أبا لهب وتبرأ منه: (تَبَّت یَدَا أبی لَهبٍ وَتَبَّ * ماأغنَى عَنهُ مَالُهُ وما کَسَبَ...) (41)، ومن جانب آخر قرّب إلیه من آمن به وصدّق بنبوّته ولو کان لا یمس إلیه بصلة أو قرابة، بل حتى لو کان عبداً حبشیاً أو مولىً، کما قال صلى الله علیه وآله وسلم فی حق سلمان الفارسی: «سلمان منّا أهل البیت» (42). فالنبی صلى الله علیه وآله وسلم عندما یطلب المودة لاَقربائه ویجعلها أجراً على رسالته، لا یعنی بذلک جمیع أقربائه؛ لاَنّ ذلک ینافی صریح القرآن الکریم، إذ کیف یطلب رسول الله صلى الله علیه وآله وسلم مودة من لعنه الله فی محکم کتابه مثل أبی لهب، وإنّما یطلب المودة لمجموعة خاصة وأفراد معینین من أقربائه، والذین بهم یتم حفظ الرسالة الاِسلامیة والنبوة المحمدیة، ومنهم یؤخذ الدین الصحیح، وبهم النجاة من الاختلاف والانحراف، وهم الاَئمة المعصومون علیهم السلام من أهل البیت.
فالنبی صلى الله علیه وآله وسلم إذن یطلب الاَجر الذی هو بالحقیقة عائد إلى المسلمین، لا إلى النبی صلى الله علیه وآله وسلم ولا إلى أهل بیته علیهم السلام؛ لاَنّهم لم یکونوا بحاجة إلى هذه المودة ، إلاّ بالقدر الذی یفید سائر الاُمّة فی الحفاظ على مبادىَ الدین وکتاب الله المبین وسیرة سید المرسلین صلى الله علیه وآله وسلم.
وبهذا یتضح أنه لیس ثمة منافاة بین الآیة وبین الآیات التی تنفی طلب الاَجر، فالاَجر فی الآیات هو أجر حقیقی، وهذا ما لا یطلبه رسول الله صلى الله علیه وآله وسلم وإنّما عمله خالص لله تعالى، أما الاَجر فی الآیة فهو لفظی؛ لاَنّه یرجع بکلِّ برکاته ومعطیاته على المسلمین، وهو صریح قوله تعالى: (قُلْ ما سألتُکُم من أجر فَهُو لَکُم...).
وقد تأکد ممّا قدمناه أنّ آیة المودة والنصوص المفسرة لها کافیة فی إثبات وجوب حبّ أهل البیت علیهم السلام على کل مسلم، ولتأصیل هذا المبدأ وتعمیق دلالاته نورد بعض الآیات الاَخرى المفسّرة بهذا المعنى.
2 ـ قوله تعالى: (إنَّ الَّذینَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَیَجعلُ لَهُمُ الرَّحمنُ ودَّاً) (43).
فقد ورد عن جابر بن عبدالله قوله: قال رسول الله صلى الله علیه وآله وسلم لعلی بن أبی طالب علیه السلام: «یا علی قُل: ربِّ اقذف لی المودة فی قلوب المؤمنین، رب اجعل لی عندک عهداً، رب اجعل لی عندک وداً»، فأنزل الله تعالى: (إنَّ الَّذینَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَیَجعلُ لَهُمُ الرَّحمنُ ودَّاً) فلا تلقى مؤمناً ولامؤمنة إلاّ وفی قلبه ود لاَهل البیت علیهم السلام (44).
وروی الحدیث عن سعید بن جبیر عن ابن عباس (45). وعن أبی سعید الخدری (46)، والبراء بن عازب (47)، ومحمد بن الحنفیة (48).
3 ـ قوله تعالى: (مَن جَاءَ بِالحَسنَةِ فَلَهُ خَیرٌ مِّنهَا...) (49).
عن الاِمام أبی جعفر الباقر علیه السلام قال: «دخل أبو عبدالله الجدلی على أمیر المؤمنین فقال له: یا أبا عبدالله ألا أخبرک بقوله تعالى: (من جاء بالحسنة فله خیرٌ منها..) ؟ قال: بلى جعلت فداک. قال علیه السلام: الحسنة حبنا أهل البیت والسیئة بغضنا، ثم قرأ الآیة» (50).
ونفس الحدیث ورد على لسان أبی عبدالله الجدلی (51).
4 ـ قوله تعالى: (الَّذینَ آمنُوا وتَطمئنُّ قُلُوبُهم بِذِکرِ اللهِ ألا بِذِکرِ اللهِ تطمئنُّ القُلُوبُ) (52).
عن الاِمام أمیر المؤمنین علیه السلام: «أنّ رسول الله صلى الله علیه وآله وسلم لما نزلت هذه الآیة قال صلى الله علیه وآله وسلم: ذاک من أحب الله ورسوله وأحب أهل بیتی صادقاً غیر کاذب، وأحب المؤمنین شاهداً وغائباً، ألا بذکر الله یتحابّون» (53).
هذا وقد وردت آیات کثیرة مفسرة فی تأکید هذا المعنى بطرق صحیحة عن أهل البیت علیهم السلام أعرضنا عن ذکرها ایثاراً للاختصار.
المصادر :
1- سورة الشورى: 21 / 23.
2- الدر المنثور / السیوطی 6: 7، / فضائل الصحابة / أحمد بن حنبل 2: 669 / 1141. /المستدرک على الصحیحین 3: 172. /شواهد التنزیل / الحسکانی 2: 130 من عدّة طرق. /الصواعق المحرقة / ابن حجر: 170. /تفسیر الرازی 27: 166. /مجمع الزوائد / الهیثمی 9: 168. /الکشاف / الزمخشری 4: 219. /ذخائر العقبى / المحب الطبری: 25. وإسعاف الراغبین / الصبان: 113/.
3- سورة الاعراف: 7 / 158.
4- سورة النور: 24 / 63.
5- تفسیر الرازی: 27 / 166.
6- الصواعق المحرقة / ابن حجر: 148 ـ 175. وشرح المواهب / الزرقانی 7: 7. والاتحاف بحب الاشراف / الشبراوی: 83، المطبعة الاَدبیة ـ مصر. واسعاف الراغبین/ الصبان: 119.
7- مجمع الزوائد 9: 146. وتاریخ اصبهان 2: 165. وکنز العمال 2: 290 / 4030 أخرجه عن ابن مردویه وابن عساکر. والصواعق المحرقة: 170. وشواهد التنزیل 2: 205 / 838. ومجمع البیان 9: 43.
8- من قصیدة الکمیت البائیة من الهاشمیات.
9- المستدرک على الصحیحین 3: 172. ومجمع الزوائد 9: 146. والصواعق المحرقة: 170. والفصول المهمة / ابن الصباغ المالکی: 166. وذخائر العقبى: 138. وشرح ابن أبی الحدید 16: 30.
10- تفسیر الطبری 25: 16. والبحر المحیط / أبو حیان 7: 516. والصواعق المحرقة: 170. وشرح المواهب 7: 20. وروح المعانی / الآلوسی 25: 31، دار إحیاء التراث العربی ـ بیروت.
11- الکافی 8: 79 / 66. وقرب الاسناد / أبو العباس الحمیری: 128 / 450.
12- الکواکب الدراری فی شرح صحیح البخاری / الکرمانی 18: 80، دار الفکر ـ بیروت ط1.
13- عمدة القاری فی شرح صحیح البخاری / العینی 19: 157، دار الفکر ـ بیروت.
14- تشیید المراجعات وتفنید المکابرات / السید المیلانی 1: 236 ـ 239. والغدیر/ العلاّمة الاَمینی 3: 172.
15- مسند أحمد 1: 229 و 286. وصحیح البخاری 6: 231 / 314 کتاب التفسیر. والمطالب العالیة/ ابن حجر 3: 368.
16- مقدمة فتح الباری / ابن حجر العسقلانی: 452، دار إحیاء التراث العربی ـ بیروت ط2.
17- میزان الاعتدال 4: 387.
18- محمد بن جعفر فی روایة البخاری.
19- الجرح والتعدیل 7: 222. وراجع: مقدمة فتح الباری: 437.
20- مقدمة فتح الباری: 437. ومیزان الاعتدال 3: 490.
21- البحر المحیط 7: 516. وذخائر العقبى: 35. ومناقب ابن المغازلی: 192 / 263، دار الاضواء ـ بیروت.
22- ینابیع المودة 1: 215 ـ 216 / 1 و 2 و 3.
23- تفسیر الرازی 27: 165. وفتح الباری / ابن حجر العسقلانی 8: 458، دار احیاء التراث العربی ـ بیروت ط2.
24- فتح الباری بشرح صحیح البخاری 8: 458.
25- الکشاف 4: 219.
26- تفسیر القرطبی 9: 287. وتفسیر الرازی 18: 230.
27- تفسیر القرطبی 10: 203. وتفسیر الرازی 20: 145. والسراج المنیر 2: 261.
28- تفسیر الخازن 4: 343، دار المعرفة ـ بیروت.
29- تفسیر الطبری 30: 58.
30- تفسیر أبی السعود 8: 215 فی الهامش، دار إحیاء التراث العربی ـ بیروت. والسراج المنیر 4: 210.
31- الاتقان 1: 17.
32- فتح القدیر 4: 671 ـ 672.
33- روح المعانی / الالوسی 25: 10.
34- تفسیر القرطبی 16: 1.
35- تفسیر الخازن 4: 49.
36- سورة ص: 38 / 86.
37- سورة سبأ: 34 / 47.
38- سورة الفرقان: 25 / 57.
39- سورة الانعام: 6 / 90.
40- سورة الحجرات: 49 / 13.
41- سورة المسد: 111 / 1 ـ 2.
42- أُسد الغابة 2: 421. ومسند أبی یعلى 6: 177 / 6739، دار المأمون للتراث ـ دمشق ط1.
43- سورة مریم: 19 / 96.
44- شواهد التنزیل 1: 464 / 489. وغایة المرام: 373 باب 73.
45- مجمع الزوائد 9: 125. وخصائص الوحی المبین: 108 فصل 7. والدر المنثور 4: 287.
46- شواهد التنزیل 1: 474 / 504.
47- فرائد السمطین 1: 8 باب 14. ومناقب ابن المغازلی: 327 / 374. وکشف الغمة 1: 314.
48- الریاض النضرة / المحب الطبری 2: 125، دار الکتب ـ بیروت. والصواعق المحرقة: 172. ونور
49- سورة القصص: 28 / 84.
50- کشف الغمة 1: 321 و324. وتفسیر البرهان / الحسینی البحرانی 3: 212، وینابیع المودة 1: 292 / 5. وفرائد السمطین 2: 297 ـ 299. وأرجح المطالب: 84. ومناقب ابن المغازلی: 138.
51- فرائد السمطین 2: 297. وتفسیر الکشف والبیان / الثعلبی فی تفسیر الآیة.
52- سورة الرعد: 13 / 28.
53- کنز العمال 1: 250. والدر المنثور 4: 58.
source : .www.rasekhoon.net