أجمع رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم الخروج إلى الحجّ في سنة عشْرٍ من مُهاجره ، وأذّن في الناس بذلك ، فقدم المدينة خلق كثير يأتمّون به في حِجّته تلك التي يُقال عليها حجّة الوداع ، وحجّة الإسلام ، وحجّة البلاغ ، وحجّة الكمال ، وحجّة التمام ، ولم يحجّ غيرها منذُ هاجر إلى أن توفّاه اللَّه ، فخرج صلى الله عليه وآله وسلم من المدينة مغتسلاً متدهِّناً مترجِّلاًمتجرِّداً في ثوبينِ صُحاريّين : إزارٍ ، ورداء ، وذلك يوم السبت لخمسِ ليالٍ أو ستٍّ بقينَ من ذي القِعْدة ، وأخرج معه نساءه كلّهنّ في الهوادج ، وسار معه أهل بيته وعامّةالمهاجرين والأنصار ، ومن شاء اللَّه من قبائل العرب وأفناء الناس .
وعند خروجه صلى الله عليه وآله وسلم أصاب الناس بالمدينة جُدَريٌّ - بضم الجيم وفتح الدال وبفتحهما - أو حصبة منعت كثيراً من الناس من الحجّ معه صلى الله عليه وآله وسلم ، ومع ذلك كان معه جموعٌ لا يعلمها إلّا اللَّه تعالى ، وقد يقال : خرج معه تسعون ألفاً ، ويقال : مائة ألفٍ وأربعةَ عشرَ ألفاً ، وقيل : مائة ألفٍ وعشرونَ ألفاً ، وقيل : مائة ألفٍ وأربعة وعشرون ألفاً ، ويقال : أكثر من ذلك ، وهذه عدّةُ من خرج معه ، وأمّا الذين حجّوا معه فأكثرمن ذلك ، كالمقيمين بمكّة ، والذين أتوا من اليمن مع عليٍّ أميرالمؤمنين وأبي موسى .
أصبح صلى الله عليه وآله وسلم يومَ الأحد بيَلَمْلَمَ ، ثمّ راح فتعشّى بشرف السيّالة ، وصلّى هناك المغرب والعشاء ، ثمّ صلّى الصبح بعِرْقِ الظُّبْية ، ثمّ نزل الروْحاء ، ثمّ سار من الروحاء فصلّى العصر بالمنصرف ، وصلّى المغرب والعشاء بالمتعشّى وتعشّى به ، وصلّى الصبح بالأثاية ، وأصبح يوم الثلاثاء بالعَرْج واحتجم بلَحْيِ جَمَلٍ - وهوعقبة الجُحْفة - ونزل السُّقْياء يوم الأربعاء ، وأصبح بالأبواء ، وصلّى هناك ، ثمّ راح من الأبواء ونزل يوم الجمعة الجُحْفة ، ومنها إلى قُدَيْد وسَبَتَ فيه ، وكان يومَ الأحد بعُسْفان ، ثمّ سار ، فلمّا كان بالغَميم اعترض المشاة ، فصُفّوا صفوفاً ،
فَشكَوا إليه المشي ، فقال : استعينوا بالنسَلان - مشيٌ سريعٌ دون العدو - ففعلوافوجدوا لذلك راحة ، وكان يوم الإثنين بمَرِّ الظهْران ، فلم يبرَحْ حتى أمسى ، وغرُبت له الشمس بسَرِف فلم يصلِّ المغرب حتى دخل مكة ، ولمّا انتهى إلى الثنِيَّتين بات بينهما ، فدخل مكّة نهار الثلاثاء .
فلمّا قضى مناسكه ، وانصرف راجعاً إلى المدينة ومعه من كان من الجموع المذكورات ، وصل إلى غدير خُمّ من الجُحْفة التي تتشعّب فيها طرق المدنيِّين والمصريِّين والعراقيِّين ، وذلك يوم الخميس الثامن عشر من ذي الحجّة نزل إليه جبرئيل الأمين عن اللَّه بقوله : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) الآية . وأمره أن يقيم عليّاً عَلَماً للناس ، ويبلِّغهم ما نزل فيه من الولاية وفرض الطاعة على كلّ أحد ، وكان أوائل القوم قريباً من الجُحْفة ، فأمر رسول اللَّه أن يردّ من تقدّم منهم ، ويحبس من تأخّر عنهم في ذلك المكان ، ونهى عن سَمُراتٍ خمْسٍ متقاربات دَوْحاتٍ عظام أن لا يَنزل تحتهنَّ أحد ، حتى إذا أخذ القوم منازلهم ، فقُمَّ ما تحتهنَّ ،حتى إذا نودي بالصلاة - صلاة الظهر - عمد إليهنّ ، فصلّى بالناس تحتهنّ ، وكان يوماً هاجراً يضع الرجل بعض ردائه على رأسه ، وبعضه تحت قدميه ، من شدّة الرمضاء ،وظُلِّل لرسول اللَّه بثوبٍ على شجرةِ سَمُرةٍ من الشمس ، فلمّا انصرف صلى الله عليه وآله وسلم من صلاته ، قام خطيباً وسط القوم على أقتاب الإبل ، وأسمع الجميع ، رافعاً عقيرته ،
فقال :
« ألحمد للَّهِ ونستعينه ونؤمن به ، ونتوكّل عليه ، ونعوذ باللَّه من شرور أنفسنا ،ومن سيّئات أعمالنا ، الذي لا هادي لمن أضلّ ، ولا مُضلّ لمن هدى ، وأشهد أن لا إله إلّا اللَّه ، وأنَّ محمداً عبده ورسوله .
أمّا بعدُ : أيُّها الناس قد نبّأني اللطيف الخبير : أنّه لم يُعمَّر نبيٌّ إلّا مثلَ نصفِ عمرالذي قبلَه . وإنّي أُوشِك أن أُدعى فأُجيب ، وإنّي مسؤول ، وأنتم مسؤولون ، فماذا أنتم قائلون ؟
قالوا : نشهدُ أنّك قد بلّغتَ ونصحتَ وجهدتَ ، فجزاكَ اللَّه خيراً .
قال : ألستم تشهدون أن لا إله إلّا اللَّه ، وأنَّ محمداً عبدهُ ورسوله ، وأنَّ جنّته حقّ وناره حقّ ، وأنَّ الموت حقّ ، وأنَّ الساعة آتية لا ريبَ فيها وأنَّ اللَّه يبعثُ من في القبور ؟
قالوا : بلى نشهد بذلك . قال : أللّهمّ اشهد ، ثمّ قال : أيّها الناس ألا تسمعون ؟قالوا : نعم .
قال : فإنّي فَرَط على الحوض ، وأنتم واردون عليّ الحوض ، وإنَّ عُرضه ما بين صنعاءَ وبُصرى ، فيه أقداح عدد النجوم من فضّة ، فانظروا كيف تخلِفوني في الثقَلَينِ .
فنادى منادٍ : وما الثقَلان يا رسول اللَّه ؟
قال : الثقَل الأكبر كتاب اللَّه طرفٌ بيد اللَّه عزّ وجلّ وطرفٌ بأيديكم ، فتمسّكوابه لا تضلّوا ، والآخر الأصغر عترتي ، وإنَّ اللطيف الخبير نبّأني أنّهما لن يتفرّقا حتى يردا عليّ الحوض ، فسألت ذلك لهما ربّي ، فلا تَقدموهما فتهلكوا ، ولا تقصروا عنهمافتهلكوا .
ثمّ أخذ بيد عليّ فرفعها حتى رُؤي بياض آباطهما وعرفه القوم أجمعون ، فقال :أيّها الناس من أولى الناس بالمؤمنين من أنفسهم ؟ . قالوا : اللَّه ورسوله أعلم .
قال : إنَّ اللَّه مولاي ، وأنا مولى المؤمنين ، وأنا أولى بهم من أنفسهم فمن كنت مولاه فعليّ مولاه ، يقولها ثلاثَ مرّات - وفي لفظ أحمد إمام الحنابلة : أربع مرّات - ثمّ قال : أللّهمّ والِ من والاه ، وعادِ من عاداه ، وأحِبَّ من أحبّه ، وأبغِضْ من أبغضه وانصُرْ من نصره ، واخذُلْ من خذله ، وأَدرِ الحقَّ معه حيث دار ، ألا فليبلّغ الشاهدُالغائب . ثمّ لم يتفرّقوا حتى نزل أمين وحي اللَّه بقوله : ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتي ) الآية . فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم : اللَّه أكبر على إكمال الدين ، وإتمام النعمة ،ورضا الربّ برسالتي ، والولاية لعليٍّ من بعدي » .
ثمّ طَفِق القوم يهنِّئون أمير المؤمنين - صلوات اللَّه عليه - وممّن هنّأه - في مُقدّم الصحابة - الشيخان : أبو بكر وعمر كلٌّ يقول : بَخٍ بخٍ لك يا ابن أبي طالب أصبحتَ وأمسيتَ مولايَ ومولى كلّ مؤمن ومؤمنة . وقال ابن عبّاس : وجبت - واللَّهِ - في أعناق القوم .
فقال حسّان : ائذنْ لي يا رسول اللَّه أن أقول في عليٍّ أبياتاً تسمعهُنّ . فقال :« قُلْ على بركة اللَّه » .
فقام حسّان ، فقال : يا معشر مشيخة قريش أتبعها قولي بشهادةٍ من رسول اللَّه في الولاية ماضية ، ثمّ قال :
يُناديهِمُ يومَ الغديرِ نبيُّهمْ بخُمٍّ فأسمِعْ بالرسولِ مُناديا هذا مجمل القول في واقعة الغدير .
source : www.tebyan.net