هناك حقيقة مطلقة يعرفها الرساليون، كما يعرفها غير الرساليين. حقيقة مطلقة وقديمة بقدم تاريخ الحركات الانسانية الهادفة.
انّ كل الرسالات، الأحزاب، الحركات، الجبهات، تحتاج إلى قيادة، وطليعة، وجماهير. قيادة مؤسّسة، وطليعة واعية، ووسط شعبي جماهيري مؤيد ومساند.
وغير الرساليين كالرساليين يدركون ضرورة اهتمام القيادة ـ أي قيادة كانت ـ بخلق الفئة الطليعة. ضرورة التركيز على أصحاب اللياقات والكفاءات واحتضانهم بغية جعلهم الطليعة الواعية التي تستوعب أهداف ومفاهيم الرسالة جيداً. وتساهم في التخطيط لها.
وبقدر ما يكون مهماً توسيع نطاق الوسط الشعبي المؤيد والمؤمن بالرسالة، يكون مهماً انتقاء الطليعة من ذلك الوسط وتصعيد مستوى استيعابها للرسالة، وتنمية استعدادها للعمل والتضحية من أجل الرسالة. هذه حقيقة مطلقة واحدة
وهناك حقيقة ثانية:
انّ اهتمامات الرسالة ـ أي رسالة كانت ـ تتحجم وتتحدد ـ تبعاً لحجم أهدافها ومداها الزماني والمكاني. فالرسالات الاقليمية والمحليّة لا تتجاوز في اهتماماتها وطموحاتها دائرة الاقليم والمحلّة، كما أن الرسالات المرحلية والمؤقَّتة هي الأخرى تطوي نفسها على مرحلتها، وتفكر في حدود ما تتسع له أبعاد تلك المرحلة. وكلَّما تجاوزت الرسالة الحدود الزمانية والمكانية وامتدت في طموحاتها لخارج دائرة الاقليم أو المرحلة كانت اهتماماتها ومحطّات أنظارها وحدود مسؤوليتها أكبر بالطبع ومتجاوزة لدائرة الاقليم والمرحلة أيضاً.
فهي تنظر لحاضرها كما تنظر لمستقبلها، وهي تنظر لمنطقتها كما تنظر للمناطق الأخرى وبالأحرى تكون مرحلتها هي الحاضر والمستقبل، ومنطقتها هي كل المناطق التي يمتد إليها طموح الرسالة وان تجاوزت المحلّة والاقليم.
وأيضاً غير الرساليين كالرسالييين يدركون هذه الحقيقة، مع الاختلاف في العمق. والإسلام رسالة من تلك الرسالات ـ يفكر بعقليتها ـ ويخضع لقوانينها، يفكر بعقلية رسالية مبدئية ويخضع لقوانين ومسؤوليات الحركة الرسالية المبدئية والإسلام رسالة إنسانية مطلقة، لا إقليمية ولا مرحليّة.
رسالة للانسان حيث وُجد الانسان، في إمتداد الزمان، وفي إمتداد المكان.
رسالة يتّحد حاضرها بمستقبلها فيكون زمانها الزمان كلّه ويكون جيلها الأجيال كلها، رسالة يتحد أُفقها ليدخل فيه ابن العرب وابن العجم، ابن الريف والمدينة، ابن آدم هو الحد المكاني والزماني لهذه الرسالة.
هذا على مستوى الطموحات، فما هو حجم الاهتمامات؟
رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم)خاتم الأنبياء هو قائد تلك الرسالة، فأين الطليعة؟ وأين الشعب؟
الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم)إذن لابدّ أن يفكر في حاضر تلك الرسالة ومستقبلها، في اُولى مراحلها وفي ثاني مراحلها، فالزمان كله لها، والأرض كلها ساحتها. والقائد إذن لابدّ أن يفكر في الخط الثاني الذي يقف بعد خط القيادة وهو الطليعة التي تحمي حاضر الرسالة، وتضمن مستقبلها.
فهو... مهما امتد به العمر واتسعت له القدرة، لا يعيش عمر الرسالة كله، ولا يغمر أرض الرسالة كلها.
إنّما الطليعة هي المذخورة للامتداد بالرسالة إلى الجيل اللاحق ثمّ الأجيال التالية. والأمة كلّها وبمجموعها لا يمكن أن تكون هي الطليعة وهي الخط الثاني بعد القيادة أو هي القيادة الثانية، الأمة ـ وان اشتركت في الإسلام ـ لكنها تجمع أنماطاً مختلفة في النفسيات والطموحات والارتباطات والعقليات;
والقائد يجب أن يوفّر للأمّة الحدّ الأدنى من الوعي الرسالي، لكنه غير قادر على أن يجعلها كلها بمستوى الطليعة، لماذا غير قادر...؟
لأن الفواصل بين إنسان الجاهلية وإنسان الإسلام كبيرة جداً، واجتياز هذه المسافة لا يمكن أن يحدث بطفرة وإنّما يحتاج إلى زمن أطول وممارسة أكثر.
الفواصل بين الجاهلية والإسلام هي الفواصل بين منتهى الضحالة ومنتهى السمو، بين أعمق الانخفاضات وأعلى القمم. بين الانسان الانساني وبين الانسان المادي، الاقليمي، المصلحي، المراوغ الأناني.
وهؤلاء المسلمون الذين أسلموا قبل الفتح أو بعده والذين دخلوا الإسلام عن رغبة أو عن إكراه وبدوافع شخصية، وأهداف ضيقة أو دوافع رسالية وأهداف رحبة.
هؤلاء.. معظمهم قضوا أنصاف أعمارهم في الجاهلية، حيث الضحالة والعفونة والأوئبة في الأفكار والأهداف والنفسيات، وحيث النظرة الضيقة المنحدرة والهدف الرخيص المريض.
أنصاف الأعمار أو أكثر من أنصاف الأعمار ـ وأحياناً أقل ـ قضيت في هذه المستنقعات وسبحت فيها وجاء الإسلام ثورة في كلّ الأصعدة والآفاق، ثورة في الفكر والنفس والخلق، ثورة في النظرة والطريقة، النظرة إلى الكون والحياة والانسان، وطريقة السلوك والتعامل في الحياة.
وانتقل هؤلاء ـ بعد تشبّع وامتلاء إلى الأعناق بالتفكير والسلوك الجاهلي ـ إلى الإسلام حيث النقاء والنزاهة والرحابة ـ وحيث الاُفق الانساني المنفتح والهدف العالي العظيم لقد نطقوا بالشهادة واعترفوا بالشعار (أشهد أن لا اله الاّ الله وأن محمداً رسول الله) وكان مفروضاً أن تجري معهم عملية مسح وغرس، مسح لكل القيم والترسبات والتعقيدات الجاهلية، ردم الانخفاضات والثغرات والانحدارات، ثم عملية غرس مقارنة أو متأخرة عن ذاك المسح، غرس للقيم، والخُلق، والمُثل، والتصورات الانسانية الإسلامية.
وما تحتاجه عملية الغرس ليس بأقل مما تحتاجه عملية المسح من جهود وزمن.
انّ الارتواء التام بالسائل الجاهلي يحتاج إلى تجفيف تام، وهو لا يكون الاّ في مدّة بطول مدّة الارتواء وأكثر منها. وبعد التجفيف لابدّ من إرواء جديد بالسائل الإسلامي النقي.
ماذا يقدر رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم)؟ وهو لا يملك بعد تكوين الأمة والمجتمع الاّ عشر سنوات، عشر سنوات فقط. تعامل فيها مع المسلمين كأمة ومجتمع، منذ انتصارات الهجرة إلى الوفاة، منذ وضع الحجر الأساسي في المدينة وإلى الارتحال عن الدنيا.
وهي عشر سنوات مملوؤة بالمعارك، وهموم المعارك، ومشاكل ما قبل وما بعد المعارك، عند الانتصار وعند الهزيمة، عند الاعداد للحرب وعند الرجوع من الحرب.
أكثر من ثمانين غزوة ومعركة خاضها المسلمون خلال هذه الفترة، وبالتقسيط، فأن ثمان معارك تحدث في كلّ سنة ثمان معارك بكل ما فيها وما لها وما عليها، إعداد وتعبئة واستشارة وتوجيه، وإقدام وإحجام، وإنتصار وهزيمة، وموت وحياة، وأفراح وحسرات، ودموع وضحكات كلها في سنة واحدة.
لقد كان ذلك من رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم)بمثابة المعجزة، كيف حقق ذلك؟ وأي جهد بذله في ذلك؟ وما هو حجم المعاناة؟
بالزخم الروحي والرسالي استطاع ذلك، وبالتعبئة والشحن المستمر صنع ذلك، لكن الزمن نفسه لا يستوعب جهداً يستغرق زمناً أطول، وإن عشر سنوات لا يمكن أن تكون مئة سنة، ولا رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم)قادر على تمديد الزمن، والرسالة التي بيده ضخمة ضخمة، وعشر سنوات كالتي شرحنا لا تتسع الاّ لنسج خيوطها الاولى، والاّ لرسم صورة تخطيطية عنها، ولا أكثر من ذلك، فلا الرسول قادر ولا أتباعه، ولا الزمن يقبل. كان على النبي (صلی الله عليه وآله وسلم)أن يعبئ الأمة بالوعي الرسالي، والحماسي الرسالي، أمّا أن يجعلها الطليعة فلم يكن في مقدوره ولا كان.
من حقي أن استشهد على ما أقول، فأذكر يوم اختلف المهاجرون والأنصار على تقسيم الغنائم، واتهموا النبي (صلی الله عليه وآله وسلم)بأنه قد مال إلى قومه حين وزَّع الغنائم على المهاجرين فثارت ثائرة الأنصار. كما أذكر انهزام المسلمين في معركة اُحُد وزعزعة ثقتهم بالرسالة حينما نادى المنادي (قتل محمد!).
ذاك على مستوى المفاهيم، والتصورات، وأصل العقيدة حيث سرى إليها الشك.
وعلى مستوى التشريع كان النقص في الفهم والاستيعاب مماثلا.
اختلفوا في كيفية التشهد في الصلاة إلى ثمانية أقوال.
واختلفوا في كيفية الوضوء.
واختلفوا في عدد التكبيرات في صلاة الميت.
واختلفوا هنا وهناك، في أحكام الميراث، والقصاص، والحدود، والعقود، والزكاة، والصيام والأموال والأراضي وغيرها.
أليس عجيباً، هذه الصلاة التي مارسوها كل يوم، وخمسة مرات في اليوم، والوضوء الذي مارسوه كذلك، وإذا هم فيه وفيها مختلفون، فكيف في الباقي.
انّ ذلك ينبؤنا عن حقيقة ويؤكد لنا حقيقة.
ينبؤنا عن مستوى إتكال المسلمين على الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم)في قضايا الشريعة، وعدم الرغبة في استيعابها احتياطاً وتحفظاً للمستقبل.
ويؤكد لنا أن الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم)لم يجد قدرة على تلقين الأمة، والوسط العام بفاصيل وبنود وأحكام الشريعة; حيث لم تكن الأمة جادّة في معرفة ذلك. فيما كان قادراً على بناء الطليعة التي تستوعب الرسالة، وتقف بعده في الخط لتشرح للأمة تفاصيل رسالتها.
إذن كان على الرسول بناء الطليعة، وربط الأمة بها، والتهيئة لزعامتها بعده، وهذه مهام ثلاثة نحاول أن نقف عندها.
المهمة الأولى: بناء الطليعة:
الشي الذي يجب توفيره وتحقيقه في الطليعة هو: استيعاب الرسالة نظرياً وتجسيدها سلوكياً، وأن تبلغ في الوعي والاخلاص بمستوى يؤهلها لمحمل أعباء الرسالة، وتزعّم تجربتها بعد الرسول.
إنّ المهمة التي تقع على عاتق الطليعة هي أن تخطو بالرسالة الخطوة الثانية والثالثة والرابعة، وهكذا الخطوة الأولى كانت للرسول (صلی الله عليه وآله وسلم)، وهي بناء المجتمع الإسلامي، ورسم الأسس الأولى له. وعلى الطليعة تقع مسؤولية تعميق الرسالة في
داخل هذا المجتمع والعمل على توسيعه وكسر الأسوار المحيطة به.
وباختيار الفئة الطليعة، وتأهيلها لقيادة التجربة، وتحقيق الخطوة الثانية يكون الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم)قد أدى كل مهمته، ويكون قد بلّغ رسالته أكمل التبليغ، ومن هذه الزاوية بذل الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم)جهداً كبيراً في إعداد الطليعة بمستوى مهماتها المستقبلية. والحقيقة انه بمقدار ما كانت المهمات صعبة وخطرة، كان إعداد الطليعة بحاجة إلى جهد أكبر، ومعاناة أكثر من قبل.
النضج الذاتي:
وكانت ظاهرة (النضج الذاتي) هي الخاصية التي إشتهر بها الطليعة، ويبدو أن تلك الظاهرة كانت شرطاً من شروط الوصول إلى المستوى الطلائعي.
لماذا النضج الذاتي؟
النضج الذاتي يعني التفوق الذاتي والقبلي على خُلُق الجاهلية، وعدم الاستنقاع فيه. كما ويعني الشعور بانخفاض وانحراف الفهم الجاهلي كله وضرورة التحول عنه وانقاذ الانسانية من مآسيه.
رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم)نفسه كان يحمل قمة هذا النضح، قبل أن يُبعث وقَبل أن يكون رسولا.
وهو بهذا النضج القبلي والنقاء المسبق، استطاع أن يلتحم مع رسالته فيما بعد ويصوغ وجدانه وأخلاقه وفهمه وسلوكه فيها.
انه بمقدار الابتعاد قبلا عن الخُلُق والفهم الجاهلي يكون الاقتراب من مفاهيم الإسلام وقيمه ميسوراً.
وبالعكس كلما كان التشبّع بالقيم الجاهلية اكبر، كان الالتحام مع مفاهيم الإسلام وتمثلها أصعب. ومن هنا كان النضج الذاتي شرطاً في اختيار الطليعة. انهم بذلك يكونوا أقرب إلى مفاهيم الرسالة وتجسيد قيمها، وانضج في استيعابها ووعيها، والمهمة التي يُعدَّ لها الطليعة تتطلب كل ذلك، تتطلب إنصهاراً تاماً بالقيم ووعياً كاملا للطموحات وشعوراً متفاقماً بالمسؤولية يمكّنهم من مواصلة خط
التجربة الإسلامية. وفي كل أفراد الطليعة كان النضج الذاتي المسبق موجوداً كما كان موجوداً عند الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم)نفسه، على اختلاف في درجة العمق والوضوح.
من هم الطليعة؟
لسنا نحن الذين نعيّن الطليعة، إنّما الرسول هو الذي عيَّنهم واختارهم، ودورنا أن نكتشف هؤلاء الشخصيات. إن دراسة علاقة الرسول بأصحابه هي التي تهدينا لمعرفة الطليعة منهم.
وفي هذا الضوء يمكن اعتبار (علي وسلمان وأبي ذر وعمار) هم الطليعة المختارة والمعدّة لمواصلة خط التجربة الإسلامية، وربما أمكن أن نلحق بهم حذيفة بن اليمان والمقداد.
ان خاصية النضج الذاتي واضحة في هؤلاء، الأمر الذي يفسر لنا سرّ اختيارهم من قبل الرسول وإعدادهم شخصياً. كما يفسّر لنا عمق وجودهم في الإسلام والتحامهم مع الرسالة، فهماً وسلوكاً وخلقاً.
طبيعي انني لا اُريد هنا الترجمة لهؤلاء، ودراسة أطوار حياتهم ـ قبل الإسلام وفي الإسلام مع رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم)وبعده ـ إنّما اُلفتُ النظر إلى خاصية النضج الذاتي فيهم.
أمّا علي (علیه السلام) فاعتقد انّ الحديث عنه تكرار في القول وزيادة فيما لا مزيد عليه، فهو وحده بين المسلمين جميعاً الذي لم يتلطخ بأدران الجاهلية، ولم يتدنس بقيمها ومفاهيمها.
المؤرخون يذكرون أن سلمان الفارسي عَبَد الله وأخلص له قبل الإسلام، وأنه قضى عمراً طويلا باحثاً عن النبي الجديد، الذي اُنبئ بقرب ظهوره، وهو بهذه الغاية تحمَّل كل المعاناة، ولم يمنعه حتّى الأسر من أن يواصل بحثه الجاد عن النبي الجديد.
انّ الشعور من الأعماق، بفساد واقع ما قبل الرسالة، وضرورة التحوّل عنه، إلى قيم جديدة ومفاهيم جديدة، وطريقة ا جتماع جديدة، هذا الشعور هو الذي لا يترك لسلمان قراراً، ويدعوه لأن يغامر ويجازف بحياته وحريته. فهو رسالي قبل الرسالة، وهو عميق، وداعي، ومتبصر، قبل أن يسمع دعوة النبي (صلی الله علیه وآله وسلم)، وحتّى قبل أن يبعث رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم).
حقاً كثيرهم الذين قاسوا مرارات الوضع اللاانساني وعانوا مآسي القيم والمفاهيم المنخفضة المريضة لكن من كان منهم يملك الارادة، والتصميم؟
من كان منهم يتسع في تصوراته وطموحاته ويتجاوز الطوق الجاهلي؟
اكثر الذين شعروا بالآلام، والمآسي، كانوا كالنعامة، تدفن رأسها في التراب حين تشعر بالخطر، وهؤلاء كانوا يشعرون بالنقمة لأنهم مظلومون، ومضطهدون، ومسحوقون شخصياً، ولا يتسع اُفق تفكيرهم لأكثر من هذا، لتفنيد الأسس المفهوميّة للوضع القائم، ولا ينهض لهم طموح في الخروج عليه.
أما الأبطال التاريخيون فهم الذين يشعرون بالألم، ويطمحون لتغيير أساسي، هم يشعرون بالألم وربما ليسوا مألومين شخصياً، وإنّما يحملون ألم الطبقات المضطهدة والمنكوبة، وهم يشعرون بالألم ويتحملون المآسي، لكن بلا انهيار، وبلا تنازل، وإنّما تصميم على الانقضاض والتغيير والنسف للمبادئ المنحرفة كلها.
وهكذا فان سلمان ـ على ما يحدّثنا عنه المؤرخون ـ لم يكن بوضع تعيس عائلياً بل كان يعيش في عائلة مرفّهة، لكنه كان بطلا تأريخياً، كان يحمل في صدره هموم المظلومين المحرومين، هموم الواقع الأسود الأسود، انظروا لقد تنقل بين فارس ودمشق والموصل ونصيين وعمورية، ثم مكّة حيث التقى برسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم)وأسلم على يده. أليس هو رسالي قبل الرسالة؟
أمّا أبوذر فهو من نفس الطراز الرائع، طراز الرجل الرسالي الانساني الطموح.
أيضاً أجمع المؤرخون على أنه عَبَد الله مخلصاً قبل الإسلام، وهو كما كان سلمان، لم يعبد الله كما يعبده اليهود، وكما يعبده النصارى يومذاك، لقد عبد الله مخلصاً مخلصاً. بعيداً عن كل التعقيدات والتحريفات والضلالات. هو يحدّث: " صلّيت ـ يا ابن أخي ـ قبل أن القى رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم)ثلاث سنين وحين سأله: أين تتوجه؟ قال: أتوجه حيث يوجهني الله ".
وكما كان سلمان كان أبوذر شغوفاً في معرفة أمر الرسول الجديد. لأنه يحمل الأهداف الرسالية، ويعي ضرورة الثورة والتغيير.
اُنظروا: " بايع النبي (صلی الله عليه وآله وسلم)على أن لا تأخذه في الله لومة لائم، وعلى الحق وان كان مرّاً ".
أليس هذا دليل النضج الذاتي؟ وميزة البطل الرسالي؟
ولقد كان عمّار بنفس هذه المزايا والطموحات تألم، ووعي، وتصميم. وهذا هو النضج الذاتي قبل الرسالة.
لقد كان يترصَّد هو وأبوه أمر النبي الجديد الذي شاع أنه سيظهر لكنه لم يكن يترصَّد كما يترصَّد الأحبار والرهبان. كان يترصد لأجل الإنتماء، لأجل الإنضمام إلى الحركة الاصلاحية، إلى الرسالة الجديدة وكان يحدِّث أباه ويحدّثه أبوه بأخطاء الكيان الجاهلي التعيس، وكان يحدّث أباه كما يحدّث نفسه بالانتفاضة، بالنهضة، بالحركة الهادفة الاصلاحية، ومع أُناس من هذا القبيل تكون دعوة الرسالة مسموعة، ومقبولة بأسرع ما يكون القبول.
فهؤلاء أصحاب النضج الذاتي كلهم سابقون إلى الإسلام.
كان عمّار من الثمانية الذين أسلموا أوّلا بأول ـ وكان أبوذر رابع أربعة أو خامسة خمسة في الإسلام، وكان سلمان من السابقين ـ كما يذكر المؤرخون ـ أما علي فهو أول المسلمين بالطبع.
والذي يُلفت نظرك في هؤلاء الطليعة أنهم سابقون للإسلام رغم انهم بعيدون عن مكة، وإنما قصدوها للإسلام. أية عظمة لمثل هذا الدخول في الإسلام والاعتناق لمبادئه!!
ربما يكون غير هؤلاء من السابقين أيضاً، لكنهم كانوا يعيشون مع النبي، وأسلموا بدعوة من النبي، أمّا هؤلاء فهم دعوا أنفسهم للإسلام، أليس عظيماً؟!
المصدر : اُسد الغابة في معرفة الصحابة.
source : .www.rasekhoon.net