وقد وجد العباسيون الكفاءة والاخلاص عند بعض رجال الشيعة فاستوزروهم، وجعلونهم أصحاب إدارة ومقام سامي، فتصدر من قبلهم الاوامر والكتب، فقد استوزر مؤسس الدولة العباسية أبو العباس السفاح : أبا سلمى الخلال الكوفي الشيعي، وهو من دعاة أهل البيت(عليهم السلام) .
واستوزر المنصور الدوانيقي : محمد بن الاشعث الخزاعي . واستوزر المهدي : أبا عبد الله يعقوب بن داود . واستوزر الرشيد : علي بن يقطين، وجعفر بن الاشعث الخزاعي . واستوزر المأمون : الفضل بن سهل ذا الرياستين، وأخاه الحسن بن سهل . واستوزر المعتز والمهدي : أبا الفضل جعفر بن محمد الاسكافي . واستوزر المقتدي : أبا شجاع ظهير الدين محمد بن الحسين الهمداني .
واستوزر المستظهر : أبا المعالي هبة الدين بن محمد بن المطلب .
واستوزر الناصر والظاهر والمستنصر : مؤيد الدين محمد بن عبد الكريم القمي المقدادي .
واستوزر المستعصم : أبا طالب محمد بن أحمد العلقمي .
أقول : لهذه الوزارات الاثر الكبير في إدامة خط أهل البيت(عليهم السلام) . ولو استعرضنا الايام التي مرت على الشيعة في بغداد لوجدناها بين مد وجزر، إلا أن فترة الغيبة الصغرى وما بعدها كانت فترة خصبة لان يمتد التشيع إلى أطراف عديدة من بغداد المنصور .
ربما كان السبب واضحا - وقد عرفت بعض الشئ - إذ كان رواة أحاديث أهل البيت الثقات قد سكنوا بغداد، وبنوا فيها الدور والمساجد، وعقدوا حلقات الدرس، وتداولوا القرآن . وما نزل فيه بحق أهل البيت(عليهم السلام)، وتدارسوا الحديث، حتى برز من بينهم فقهاء كبار للشيعة، ومحدثون، وعلماء في التفسير والنحو والادب .
ثم من الاسباب المهمة تواجد النواب الاربعة([538]) في بغداد، وهذا كان له خطر كبير وأمر ذو بال في تاريخ التشيع في بغداد، وانتشار المذهب فيها، ولا يخفى أن للامام الغائب المنتظر عجل الله تعالى فرجه وكلاء كثيرين غير السفراء الاربعة، كانوا يقطنون في بغداد، وقم، والكوفة، وغيرها من مناطق العراق وإيران، إلا أن السفراء منزلتهم أعلى، وهم النواب وأساتذة الفقه والدرس، عنهم تأخذ الشيعة، وهم الطريق الى الامام وبابه .
الفصل الثاني : من بلدان الشيعة
جاء في كتاب الأعيان للسيد الأمين، وتاريخ الشيعة للشيخ المظفر :
العراق : قال الشيخ المظفر : إن جنوب العراق شيعة، ولئن وجد الخليط في بعض بلاده فلا يكون إلا أفرادا قلائل، ويشمل الجنوب الكوت، والعمارة، والغراف، وما سواها من بلاد دجلة، وأيضا يشمل السماوة والديوانية والناصرية، وما سواها من بلاد الفرات . أما البلاد الشمالية فسكانها على العموم من أهل السنة إلا أن الشيعة فيها ليسوا بالقليل .
أما البلاد الوسطى كالحلة فهي شيعة خالصة سوى أفراد معدودين في نفس القصبة، ولواء بغداد أكثريته من الشيعة، ومثله لواء ديالى، بعكس لواء الدليم، ومع هذا فالشيعة فيه غير قليل، وعليه فالعراق اليوم سبعة من ألويته شيعة، وفيها شعوب من غيرهم، وخمسة سنة، وفيها خليط من الشيعة، ولواءان مختلطان يغلب عليهما التشيع، هذا ما يعرفه المستقرئ لبلاد العراق([539]) .
إيران : وهي أسبق البلاد الإسلامية - غير العربية - إلى التشيع، فقد دخلها المذهب في عصر الحجاج سنة 83هـ وعملت على نشره وإعزازه بشتى الوسائل، وشيدت حضرات الأئمة وطلت قبابها بالذهب الابريز، وملأت خزائنها بالثمين والنفيس من المعادن والجواهر .
التشيع في خراسان
بدأ التشيع بخراسان بهذا الشكل، ثم قوي واتسع نطاقه زمن إمارة طاهر بن الحسين الخزاعي على همدان وخراسان عام 205 هـ ، وهو قائد المأمون، والذي فتح بغداد بعد مقتل الامين عرف التشيع في خراسان في عهد الامام الرضا(عليه السلام)ـ كما تقدم ـ وقد نزل في خراسان جماعة من السادة الطالبيين والعلويين، على أن أهل خراسان ـ بل جميع مدن إيران ـ كانت تجهل منزلة ومكانة أهل البيت(عليهم السلام)والامام الرضا(عليه السلام) بالذات عدا الخواص من الناس، بل أن الهاشميين الذين كانوا في خراسان هم كذلك جهلوا حق الامام(عليه السلام)، قال الصدوق في كتابة عيون أخبار الرضا(عليه السلام): كان أبا الحسن الرضا(عليه السلام) يتكلم بهذا الكلام عند المأمون في التوحيد، قال : أيوب العلوي : إن المأمون لما أراد أن يستعمل الرضا(عليه السلام) جمع بني هاشم، فقال لهم : إني اريد أن استعمل الرضا على هذا الامر من بعدي، فحسده بنو هاشم، وقالوا : أتولي رجلا جاهلا ليس له بصر بتدبير الخلافة، فابعث إليه رجلا يأتنا، فنرى من جهله ما تستدل به عليه، فبعث إليه فأتاه، فقال له بنو هاشم : يا أبا الحسن، إصعد المنبر وانصب لنا علما نعبد الله عليه ... الحديث([540]).
نستفيد من الحديث عدة امور، منها :
أولاً: أن في خراسان كانت بيوت واسر هاشمية تقطنها قبل مجئ الامام الرضا ونزوله فيها .
ثانياً: أن الجهل المطبق على الناس في بلاد فارس استمر زمنا طويلا، عدا أماكن معدودة ; كقم .
ثالثاً: أن المناظرات التي كانت تعقد بأمر المأمون وسعت من دائرة التشيع، كما أنها أتاحت الفرصة للآخرين أن يفهموا حقيقة الائمة المعصومين ومنزلتهم وكراماتهم، وهذا ما كان يجهله الناس، بل حتى بعض الهاشميين الذين حملهم الحسد أن يطلبوا من المأمون لأن يتكلم الرضا(عليه السلام) في باب التوحيد، فعسى أن تزل به القدم ويسقط عند نظر المأمون .
وقد افتضح المأمون في جلسات ومناظرات عديدة، وبان فشله وما يكيده للامام، ومن جهة اخرى يتألق نجم الامام، ويعلوا شأنه، وتذهب بأخباره وكراماته الركبان حتى ذاع صيته في الآفاق، مما كان سببا في تخوف المأمون على ملكه وخلافته إلى أن دبر قتله، ومات الامام(عليه السلام)مسموما بيد الغدر والخيانة، ومن ذلك الحين أصبح مرقد الامام الرضا وخراسان بشكل عام مهوى ومهبط الشيعة، وتوالت الازمان وذرية آل البيت تتجه إلى هذا الحرم الآمن، وتتخذه قاعدة لبث التشيع بين صفوف الناس والنواحي المجاورة لمشهد الامام الرضا(عليه السلام) .
أما طوس ; فهي تعد جزءا من خراسان، ولها تاريخ قديم، وأما حدودها فهي تشمل مساحة واسعة من الاراضي والمدن والنواحي، وابن حوقل يذكر أنها تشمل : نيسابور، ومرو، وهرات، وبلخ .
وبخراسان وما وراء النهر كور دون هذه في الصغر، فمنها : قوهستان، وطوس([541])، والسمعاني يقول : طوس ناحية بخراسان، فيها ألف قرية . وفي آثار البلاد وأخبار العباد أن طوس مدينة بخراسان، بقرب نيسابور . على أي، لما كانت طوس جزءا من ولاية خراسان قديما، فلا يخفى من أنها المدينة الاخرى التي احتضنت مجموعة من العلماء والفضلاء والسادة العلويين من ذرية علي وفاطمة(عليهما السلام)، وانتشر التشيع فيها ضمن دعاة العباسيين الذين كانوا يدعون لآل البيت(عليهم السلام) ظاهرا وإن كان في الخفاء يسعون لانفسهم، إلا أن هذا الزيغ والباطل قد انكشف حتى لعوام الناس .
الأفغان
كانت جزءا من مملكة إيران في عهد الصفويين، وهي الآن من البلدان المستقلة المحايدة، قال السيد الأمين في الأعيان :
انتشر التشيع في الأفغان في عهد الملوك الصفوية، وعينوا مدرسين ومشايخ إسلام في مدنها الهامة، مثل هرات وكابل وقندهار وغيرها، وكان الشيخ حسين ابن عبد الصمد العاملي والد الشيخ البهائي معينا شيخ الإسلام في هرات، والآن لا يخلو بلد من بلاد الأفغان من الشيعة، ولكن عددهم غير معلوم على التحقيق إلا أن فيهم كثرة لا يستهان بها تقدر بنحو 400 ألف . وفيهم جماعة من أهل العلم يتعلمون في مدرسة النجف الأشرف .
ونسبة الشيعة في أفغانستان أكثر من 30 % يسكنون في كابل ومزار شريف وأواسط البلاد .
أذربيجان
دولة كبيرة ومن مدنها تبريز وخوي وسلماس وأرمية وأردبيل ومرثد، وفي كتاب مراصد الاطلاع أن فيها قلاعا كثيرة، وخيرات واسعة، قال صاحب الأعيان: وأهلها اليوم كلهم شيعة ما عدا بعض أهل أرمية، والظاهر أن تشيعهم من عهد الصفويين، وهي داخلة اليوم في مملكة إيران .
الآستانة : كانت عاصمة العثمانيين الذين انقرض سلطانهم بعد الحرب العالمية الأولى، قال السيد الأمين : فيها عدد كثير من الشيعة هاجروا إليها من إيران، ومن ترك أذربيجان، وهم أهل تجارة وكد وعمل وثروة وتمسك بالدين، يقيمون العزاء لسيد الشهداء، ولا سيما في عشر المحرم، ويعملون الشبيه، ثم يخرجون في الشوارع، وكانت الدولة العثمانية تمنحهم الحرية التامة، وتحافظ عليهم، أما اليوم فيقتصرون على إقامة العزاء فقط .
البحرين والاحساء والقطيف وقطر
إن تشيع أهل البحرين وقصباتها مثل القطيف والاحساء شائع منذ عهد الصحابة، والسر أن النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بعث واليا عليها إبان بن سعيد بن العاص الأموي، وكان إبان من الموالين لعلي(عليه السلام) والمتخلفين عن بيعة أبي بكر، ثم صار عاملا عليها عمر بن أبي سلمة، وأمه أم سلمة زوجة رسول الله، وفي عهد أمير المؤمنين ولى عليها معبد بن العباس بن عبد المطلب، فغرس هؤلاء الولاة التشيع في أهل البحرين، وأول جمعة أقيمت في الإسلام بعد المدينة كانت في البحرين ([542]) .
وقال الشيخ المظفر في (تاريخ الشيعة): حاول عبد الملك أن يحمل أهل البحرين على مفارقة التشيع فأبوا، وأراد أن يستعمل القوة فخاف بأسهم، فصالحهم على نزع السلاح، وأن يرفع عنهم الخراج لقاء ذلك، وداموا على التشيع لا يخشون سلطة حاكم، ولا يرهبون من التصريح به سطوة ظالم، وكان فيها كثير من العلماء والأفاضل والشعراء . أما القطيف فهي شيعة خالصة، وأما الاحساء فالشيعة يشاطرون غيرهم، كما أن في قطر كثير من الشيعة([543]) ولا يزال من هذه البلاد في النجف الأشرف مهاجرون، لتحصيل علم أهل البيت(عليهم السلام)، وفيها اليوم جماعة من أهل الفضل، وكانت هذه البلاد ممتحنة بسلطة آل عثمان، ولما انتزعها منهم ابن سعود كانت محنتهم أشد.