الإجماع أداة كاشفة عن وجود دليل متين وقويم كآية من كتاب الله عز وجل أو حديث شريف ينطق بالحكم المجمع عليه ، وإن اعتبره فريق منهم دليلا قائما بنفسه تماما كالكتاب والسنة ، وهو بهذا المعنى يستحيل في حقه الخطأ ويكون معصوما كعصمة الكتاب والسنة المطهرة ، وأن من رد عليه هو كمن رد قول الله عز وجل وسنة رسوله الكريم صلى الله عليه وآله وسلم .
ومع هذا فلم يختلف اثنان من المسلمين في أن أهم مصادر التشريع في الإسلام هما : القرآن الكريم ، والسنة المطهرة القطعية ، وأنه لا يوجد مصدر تشريعي آخر يبلغ شأنهما في الحجية .
والحق ، أن ما تقدم من أدلة التقية يغني عما سواه ، خصوصا مع اتفاق المفسرين والمحدثين على عدم وجود الناسخ لتلك الأدلة ، مع انعدام الشك في ما دلت عليه من جواز التقية عند الخوف الشخصي أو النوعي ، ولهذا لم يناقش أحد منهم في ذلك ، وعليه سيكون الحديث عن الإجماع على مشروعية التقية حديثا زائدا عند من لا يراه دليلا مستقلا وقائما بنفسه .
ولهذا سنكتفي بقول من يراه دليلا مستقلا كالكتاب والسنة ، إذ سيكون ذلك أبلغ في دحض حجة كون التقية نفاقا كما يزعم بعض أتباع القول باستقلالية الإجماع الذي ادعاه غير واحد من علماء العامة كما يفهم من أقوالهم وإليك نموذجا منها :
1- قال أبو بكر الجصاص الحنفي ( ت / 370 ه ) : ( ومن امتنع من المباح كان قاتلا نفسه متلفا لها عند جميع أهل العلم )(1).
2- ابن العربي المالكي ( ت / 543 ه ) ذكر في كلامه عن حديث الرفع - كما مر - اتفاق العلماء على صحة معناه ، وأنهم حملوا فروع الشريعة عليه وهذا يكشف عن إجماعهم على أن ما استكره عليه الإنسان فهو له ، وهذا هو معنى التقية (2)
3- عبد الرحمن المقدسي الحنبلي ( ت / 624 ه ) قال : ( أجمع العلماء على إباحة الأكل من الميتة للمضطر وكذلك سائر المحرمات التي لا تزيل العقل )(3)
والإكراه داخل في المفهوم العام للضرورة كما سبق التأكيد عليه ، كما أن الاضطرار إلى أكل الميتة كما قد يكون بسبب المخمصة ، فقد يكون بسبب الإكراه من ظالم أيضا .
4- القرطبي المالكي ( ت / 671 ه ) قال : ( أجمع أهل العلم على أن من أكره على الكفر حتى خشي على نفسه القتل أنه لا إثم عليه إن كفر وقلبه مطمئن بالإيمان ) (4)
5- ابن كثير الشافعي ( ت / 774 ه ) قال : ( اتفق العلماء على أن المكره على الكفر يجوز له أن يوالي أيضا لمهجته ، ويجوز له أن يأبى ) (5)
6- ابن حجر العسقلاني الشافعي ( ت / 852 ه ) قال : ( قال ابن بطال - تبعا لابن المنذر - : أجمعوا على أن من أكره على الكفر حتى خشي على نفسه القتل فكفر وقلبه مطمئن بالإيمان ، أنه لا يحكم عليه بالكفر ) (6)
7- الشوكاني ( ت / 1250 ه ) قال : ( أجمع أهل العلم على أن من أكره على الكفر حتى خشي على نفسه القتل ، إنه لا إثم عليه إن كفر وقلبه مطمئن بالإيمان ، ولا تبين منه زوجته ، ولا يحكم عليه بحكم الكفر ) (7)
8- جمال الدين القاسمي الشامي ( ت / 1332 ه ) قال : ومن هذه الآية : ( إلا أن تتقوا منهم تقاة ) استنبط الأئمة مشروعية التقية عند الخوف ، وقد نقل الإجماع على جوازها عند ذلك الإمام مرتضى اليماني ) (8)
وأما عن الدليل العقلي ، فالواقع إنه لم يكن للعقل البشري صلاحية الاستقلال بالحكم عند جميع المسلمين بما في ذلك المعتزلة ، إذ لم يثبت عنهم اعتبار العقل حاكما في المقام وتقديمه على حكم الشرع (9)
والصحيح من الأقوال : إنه الطريق الموصل إلى العلم القطعي ، والسبيل إلى معرفة حجية القرآن ودلائل الأخبار (10)
فالعقول وإن كان لها قابلية الادراك ، إلا أن إدراكها يتناول الكليات ولا يتعدى إلى الجزيئات والفروع التي تحتاج إلى نص خاص بها ، وهذا لا يمنع من أن يدرك العقل السليم خصائص كثيرة في تفسير النصوص بشرط أن لا يكون خاضعا لتأثيرات أخرى تصده عن الوصول إلى الواقع ، كما لو ناقش في الأوليات والبديهيات ولم يفرق بين قبح الظلم وحسن العدل مثلا .
كما لا يمنع أيضا من أن يستقل ببعض الأحكام ، إذ لو عزل العقل عن الحكم لهدم أساس الشريعة ، غير أنه لا يتعرض للتفاصيل والأشياء الخارجية ولا يتخذ منها موضوعات لأحكامه ، وإنما يحكم بأمور كلية عامة كما مر . فهو مثلا لا يحكم بوجوب الصوم والصلاة ، وإنما يحكم بإطاعة الشارع المقدس وامتثال أوامره التي منها الأمر بالصوم والصلاة .
وهو لا يتعرض للبيع والإجارة والزواج والطلاق ، بل يقر كل ما يصلح الجميع ويحفظ النظام العام . وهو لا يحلل هذا أو يحرم ذاك ، وإنما يحكم بقبح العقاب بلا بيان ، وبوجوب دفع الضرر عن النفس ، وبحرمة إدخاله على الغير .
فالعقل له القدرة في أن يحكم بهذه الكليات العامة وما إليها حكما مستقلا ، حتى وإن لم يرد فيها نص شرعي ، ونحن نكتشفها ونطبقها على مواردها دون أية واسطة . وأما ما جاء في لسان الشارع من الأحكام في الموارد التي استقل العقل بها فمحمول على الإرشاد والتأكيد لحكم العقل ، لا على التأسيس والتجديد ، ومن هذه الموارد :
1- حكم العقل بالاحتياط : كما لو كان لديك إناءان : أحدهما طاهر ، والآخر نجس ، ولم تستطع التمييز بينهما ، أو تيقنت أنه قد فاتك فرض العشاء أو المغرب ولم تميز أحدهما . ففي مثل هذا الحال يحكم العقل بوجوب الاحتياط باجتناب الإنائين في المثال الأول ، وبأداء الصلاتين في المثال الثاني . ولهذا اشتهر عن الفقهاء قولهم : ( العلم باشتغال الذمة يستدعي العلم بفراغها ) .
2- حكم العقل البراءة : كما لو كانت هناك قضية لدى الفقيه لا يعرف حكمها هل هو الفعل أو الترك ؟ بعد أن استفرغ ما في وسعه للبحث عنها في جميع أدلة الأحكام ، ومع هذا لم يجد شيئا في خصوص تلك القضية .
فهنا يلجأ الفقيه إلى العقل الذي يحكم في مثل هذه الحالة التي لم يصل بها بيان من الشارع بقبح العقاب بلا بيان ، وبناء على هذه القاعدة العقلية يحكم الفقيه بجواز الأمرين : الفعل والترك .
ومن هنا يتضح أن الفرق بين الاحتياط والبراءة العقليين ، هو أن مورد الاحتياط هو الشك في المكلف به بعد العلم بوجود التكليف ، ومورد البراءة هو الشك في أصل وجود التكليف .
حكم العقل بدفع الضرر : قسم الفقهاء الضرر على قسمين ، وهما : الضرر الدنيوي كالمتعلق بالنفس والعرض والمال ، والضرر الأخروي كالعقاب على مخالفة الشارع .
والواقع ، إن وجوب دفع الضرر لا ينكره إلا الجاهل الغبي ، لأنه من أحكام الفطرة التي فطرت عليها النفوس ، ومن ينكر ذلك فهو أقل رتبة من الحيوانات التي تعرف ذلك بفطرتها ، ألا ترى أنها تنفر من الضرر وتسعى إلى النفع بفطرتها دون توسط حكم العقل بالحسن والقبح ؟
إن هذه القاعدة قاعدة التحسين والتقبيح العقليين اعتنى بها المتكلمون كثيرا ، وأما علماء الأصول فهم وإن لم يخصصوا لها بابا مستقلا ، إلا أنهم تكلموا عنها استطرادا في مباحث الظن والاحتياط والبراءة ، وتتلخص أقوالهم بأن الضرر إما أن يكون دنيويا ، أو أخرويا ، وكل منهما إما أن يكون معلوم الوقوع أو مظنونا أو محتملا .
أما الضرر المعلوم ، فإن العقل يحكم بوجوب دفعه مهما كان نوعه . وأما المظنون والمحتمل ، فإن كان أخرويا ، وكان ناشئا عن العلم بوجود التكليف والشك في المكلف به ، فهو واجب الدفع ، لأنه يعود إلى وجوب الإطاعة فيدخل في باب الاحتياط .
وإن كان الخوف من الضرر الأخروي ناشئا من الشك في أصل وجود التكليف ، فالعقل لا يحكم بوجوب الدفع ، لوجود المؤمن العقلي وهو قاعدة ( قبح العقاب بلا بيان ) أي : إن عدم البيان أمان من العقاب ، كما في قوله تعالى : ( وما كنامعذبين حتى نبعث رسولا )(11) زيادة على حديث الرفع المشهور كما تقدم ، وحديث السعة في الكافي عن أمير المؤمنين عليه السلام ، أنه قال : . . هم في سعة حتى يعلموا (12) وقول الإمام الصادق عليه السلام :
كل شئ مطلق حتى يرد فيه نهي (13 ) ، وقوله عليه السلام : كل شئ مطلق حتى يرد فيه نص (14 ) ، وهذا يعني دخوله في باب البراءة .
أما الضرر الدنيوي المظنون والمحتمل ، فإن العقل يحكم بوجوب دفعه ولا فرق بينه وبين الضرر المعلوم من هذه الجهة ، لأن الإقدام على ما لا يؤمن معه الضرر قبيح عقلا .
فأي منا مثلا إذا تردد عنده سائل موجود في إناء بين كونه سما أو ماء ولا يحكم عقله بوجوب اجتناب ذلك السائل ؟ والخلاصة : إن الضرر الدنيوي يحكم العقل بوجوب الابتعاد عنه معلوما كان أو مظنونا أو محتملا (15)
وواضح أن الاستدلال بالعقل على مشروعية التقية ، إنما هو من جهة حرص العاقل على حفظ نفسه من التلف ، بل ومن كل ما يهدد كيانه بالخطر ، أو يعرض شرفه إلى الانتهاك ، أو أمواله إلى الضياع .
والتقية ما هي إلا وسيلة وقائية لحفظ هذه الأمور وصيانتها عندما يستوجب الأمر ذلك ، على أن لا يؤدي استخدامها إلى فساد في الدين أو المجتمع كما لو أبيحت في الدماء مثلا .
المصادر :
1- أحكام القرآن / الجصاص 1 : 127
2- أحكام القرآن / ابن العربي 3 : 1179
3- العدة في شرح العمدة / عبد الرحمن المقدسي : 464
4- الجامع لأحكام القرآن / القرطبي 10 : 180
5- تفسير القرآن العظيم / ابن كثير 2 : 609
6- فتح الباري / ابن حجر العسقلاني 12 : 264
7- فتح القدير / الشوكاني 3 : 197
8- محاسن التأويل / القاسمي 4 : 197 ، كتاب واقع التقية / السيد ثامر هاشم العميدي : 93 - 96 ، ط 1
9- راجع مباحث الحكم عند الأصوليين / محمد سلام مدكور 1 : 162
10- التذكرة بأصول الفقه / الشيخ المفيد : 28 ، المجلد التاسع ، ط 2 ، دار المفيد ، بيروت / 1414 ه . وقد نقله عنه الكراجكي في كنز الفوائد 2 : 15 ، دار الأضواء ، بيروت / 1405 ه
11- سورة الإسراء : 17 / 15
12- فروع الكافي 6 : 297 / 2 باب 48
13- من لا يحضره الفقيه 1 : 208 / 937 باب 45
14- عوالي الآلي 2 : 44 / 111 .
15- الشيخ محمد جواد مغنية : 250 - 253 ، ط 2 ، دار ومكتبة الهلال ، بيروت / 1993 م
source : .www.rasekhoon.net